الفصل الثالث

في نوادر حاتم الطائي

حاتم في صغره

كان حاتم من شعراء العرب وكان جوادًا يشبه شعره جوده ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عُرف منزله، وكان مظفرًا إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب، وإذا سُئل وهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق وكان يقسم بالله أن لا يقتل وحيد أمه، وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية ينحر في كل يوم عشرًا من الإبل فيطعم الناس ويجتمعون إليه، فكان ممن يأتيه من الشعراء الحطيئة وبشر بن أبي خازم، فذكروا أن أم حاتم أُتيت وهي حبلى بالمنام فقيل لها: أغلام سمح يقال له حاتم أحب إليك أم عشرة غلمة كالناس، ليوث ساعة الباس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس، فقالت: حاتم، فولدت حاتمًا، فلما ترعرع جعل يخرج أمامه فإن وجد من يأكل معه أكل، وإن لم يجد طرحه، فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال له: الحق بالإبل، فخرج إليها، ووهب له جارية وفرسًا وفلوَّها، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدًا، فبينما هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق فأتاهم، فقالوا: يا فتى هل من قرى، فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل، وكان الذين بصر بهم ابن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لا بد متكلفًا لنا شيئًا، فقال حاتم: قد عرفت ولكن رأيت وجوهًا مختلفة وألوانًا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى إلى قومه، فقالوا فيه أشعارًا امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فكان لكم الفضل عليّ وأنا أعاهد الله فأضرب عراقيب إبلي عن آخرها وتقدموا إليها فتقتسموها، ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيرًا ومضوا على سفرهم إلى النعمان، وإن أبا حاتم سمع بما فعل، فأتاه فقال له: أين الإبل؟ فقال: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة لجيد الدهر وكرمًا لا يزال الرجل يحمله ببيت شعر أثنى به علينا عوضًا عن إبلك، فلما سمع أبوه ذلك قال: والله لا أساكنك أبدًا فخرج أبوه بأهله وتركه هائمًا ومعه جاريته وفرسه وفلوّها، فقال يذكر تحول أبيه عنه:

وإنِّي لعف الفقر مشترك الغنى
وتارك شكل لا يوافقه شكلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة
لنفسي وأستفتي بما كان من فضلي
وما ضرني أن سار سعد بأهله
وأفردني في الدار ليس معي أهلي
سيكفي ابتناي المجد سعد بن حشرج
وأحمل عنكم كل ما حلَّ من أزلي
ولي مع بذل المال في المجد صولة
إذا الحرب أبدت عن نواجذها العضل
وما من لئيم عاله الدهر مرة
فيذكرها إلا استحال إلى البخل

كرم حاتم

أغار قوم على طيئ فركب حاتم فرسه وأخذ رمحه ونادى في جيشه وأهل عشيرته، ولقي القوم فهزمهم وتبعهم فقال له كبيرهم: يا حاتم هبني رمحك فرمى به إليه، فقيل لحاتم: عرضت نفسك للهلاك ولو عطف عليك لقتلك، فقال: قد علمت ذلك ولكن ما جواب من يقول: هب لي؟

مفاخرة بين حاتم وسعد بن حارثة

خرج الحكم بن أبي العاصي ومعه عطر يريد الحيرة، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة، وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لام بن عمر ريع الطريق طعمة لهم، وذلك لأن بنت سعد بن حارثة بن لام كانت عند النعمان وكانوا صهاره، فمرَّ الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد الله فسأله الجوار في أرض طيئ حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره ثم أمر حاتم بجزور فنحرت وطبخت، فأكلوا ومع حاتم سلمان بن حارثة بن سعد بن الحشرج وهو ابن عمه، فلما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبه ذلك، فمر حاتم بسعد بن حارثة بن لام وليس مع حاتم من بني أبيه غير سلمان وحاتم على راحلته وفرسه تقاد، فأتاه بنو لام فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله، فقالوا: من هؤلاء معك يا حاتم؟ قال: هؤلاء جيراني، قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا، قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته، فقالوا: لست هذاك، وأرادوا أن يفضحوه كما فُضح عامر بن جوين قبله، فوثبوا إليه فتناول سعد بن حارثة بن لام حاتمًا، فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا، فقال حاتم في ذلك:

وددت وبيت الله لو أن أنفه
هواء فما متَّ المخاط عن العظم
ولكنما لاقاه سيف ابن عمه
فآب ومرَّ السيف منه على الخطم

فقالوا لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنُماجِدك ونضع الرهن، ففعلوا ووضعوا تسعة أفراس رهنًا على يد رجل من كلب يقال له امرؤ القيس بن عدي ووضع حاتم فرسه، ثم خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة، وسمع ذلك إياس بن قبيصة الطائي فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر ويقويهم بماله وسلطانه المصهر الذي بينهم وبينه، فجمع إياس رهطه من بني حية وقال: يا بني حية إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مماجدته، فقال رجل من بني حية: عندي مائة ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة أحصنة على كل حصان منهم فارس مدجج لا يُرى منه إلَّا عيناه، وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك كلاءً كثيرًا فعليَّ كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة، ثم قام إياس فقال: عليَّ مثل جميع ما أعطيتم كلكم، كل ذلك وحاتم لا يعلم شيئًا مما فعلوا، وذهب حاتم إلى مالك بن جبار ابن عم له بالحيرة كان كثير المال، فقال: يا ابن العم أعنِّي على مفاخرتي ثم أنشد:

يا مال إحدى خطوب الدهر قد طرقت
يا مال ما أنتم عنها بزحزاح
يا مال جاءت حياض الموت واردة
من بين عمر فخضناه وضحضاح

فقال له مالك: ما كنت لأخرب نفسي ولا عيالي وأعطيك مالي، فانصرف عنه، وأتى ابن عم له يقال له وهم بن عمرو، وكان حاتم يومئذ مُعادٍ له لا يكلمه، فقالت له امرأته: أيْ وهْم هذا، والله أبو سفانة حاتم قد طلع، فقال: ما لنا ولحاتم أثبتي النظر، فقالت: ها هو، قال: ويحِك هو لا يكلمني فما جاء به إلي؟ فنزل حاتم فسلم عليه، فرد سلامه وحياه ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم، قال: خاطرت على حسبك وحسبي، قال: في الرحب والسعة هذا مالي — وكانت عدته يومئذ تسعمائة بعير — فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد، فقالت امرأته: يا حاتم أنت تخرجنا عن مالنا وتفضح صاحبنا، تعني زوجها، فقال: اذهبى عني فوالله ما كان الذي غمك ليردني عما قصدت، وقال حاتم:

ألا أبلغا وهم بن عمرو رسالةً
فإنك أنت المرء بالخير أجدرُ
رأيتك أوفى الناس منا قرابةً
وغيرك منهم كنت أحبو وأنصرُ
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا
بموت فكن يا وهم من يتأخرُ

ثم قال إياس بن قبيصة: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه، فقال: أنعم صباحًا أبيت اللعن، فقال النعمان: وحياك إلهك، فقال: إياس أتمد أختانك بالمال والخيل وتجعل بني ثعل في قعر الكنانة، أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين ولن يشعروا أن بني حية بالبلد، فإن شئت والله ناجزناك حتى يطفح الوادي دمًا، فليحضروا مماجدهم — مفاخرتهم — غدًا بجمع العرب، فعرب النعمان الغضب في وجهه وكلامه فقال له: يا أحلمنا لا تغضب فإني سأكفيك، وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه: انظروا ابن عمكم حاتمًا فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه وما أطيق بني حية، فخرج بنو لام إلى حاتم فقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا، قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم ويقلب مجادكم، فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم وقالوا: قبحها الله وأبعدها فإنما هي مقارف، فعمد إليها حاتم فعقرها وأطعمها الناس وسقاهم الخمر وقال حاتم في ذلك:

أبلغ بني لام بأن خيولهم
عقرى وإن مجادهم لم يمجد
ها إنما مطرت سماؤكم دمًا
ورفعت رأسك مثل رأس الأصيد
ليكون جيراني أكالى بينكم
نجلًا لكنديٍّ وسبي مزبد
وابن النجود إذا غدا متلاظمًا
وابن العذور ذي العجان الأبرد
ولثابت عيني جدا متماوت
وللفظ أوسيُّ عوى لمقلد
أبلغ بني ثعل بأني لم أكن
أبدًا لأفعلها طوال المسند
لا جئتهم فلًا وأترك صحبتي
نهبًا ولم تغدر بقائمة يدي

ملك الروم وحاتم الطائي

من أعجب ما حكي عن حاتم الطائي أن أحد قياصرة الروم بلغته أخبار حاتم فاستغرب ذلك، وكان قد بلغه أن لحاتم فرسًا من كرام الخيل عزيزة عنده، فأرسل إليه بعض حجابه يطلب منه الفرس هديةً إليه وهو يريد أن يمتحن سماحته بذلك، فلما دخل الحاجب ديار طيئ سأل عن أبيات حاتم حتى دخل عليه، فاستقبله ورحب به وهو لا يعلم أنه حاجب الملك، وكانت المواشي حينئذ في المراعي فلم يجد إليها سبيلًا لقرى ضيفه فنحر الفرس وأضرم النار، ثم دخل إلى ضيفه يحادثه فأعلمه أنه رسول قيصر، وقد حضر يستميح الفرس، فساء ذلك حاتمًا وقال: هلَّا أعملتني قبل الآن فإني قد نحرتها لك إذ لم أجد جزورًا غيرها بين يدي، فعجب الرسول من سخائه وقال: والله لقد رأينا منك أكثر مما سمعنا.

حاتم وامرأته ماوية

قيل: إن حاتمًا الطائي لما كان متزوجًا بماوية بنت عفير كانت تلومه كثيرًا على إتلاف المال فلا يلتفت إلى قولها ولا يكترث به، وكان لها ابن عم يقال له مالك فقال لها يومًا: ما تصنعين بحاتم؟ فوالله لئن وجد مالًا ليتلفنه وإن لم يجد ليتكلفن، ولئن مات ليتركن أولاده عالة على قومك، فقالت ماوية: صدقت إنه كذلك. وكنَّ يطلقن الرجال في الجاهلية، وذلك أن يقمن ضمن بيت من شعر فإن كان باب البيت من قبل المشرق حولته إلى المغرب وإن كان من قبل المغرب حولته إلى المشرق، وإن كان من قبل اليمن حولته إلى الشام وإن كان من قبل الشام حولته إلى اليمن، فإذا رأى الرجل ذلك علم أنها طلقته فلم يأتها، ثم قال لها ابن عمها طلقي حاتمًا وأنا أتزوجك فإني خير لك منه وأكثر مالًا وأقل تبذيرًا، فلم يزل بها حتى طلقته فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال حاتم لولده: يا عدي أترى ما فعلت أمك؟ فقال: قد رأيت ذلك، فأخذ ابنه وهبط بطن وادٍ فنزل فيه فجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون وكانت عدتهم خمسين فارسًا فضاقت بهم ماوية ذرعًا وقالت لجاريتها: اذهبي إلى ابن عمي وقولي له: إن أضيافًا لحاتم قد نزلوا بنا وهم خمسون رجلًا فأرسل لنا بشيء نقريهم ولبن نسقيهم، وقالت لها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بلحيته على زوره ولطم رأسه فأقبلي ودعيه، فلما أتته وجدته متوسدًا وطبًّا من لبن، فأيقظته وأبلغته الرسالة وقالت له: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكان حاتم، فلطم رأسه بيده وضرب بلحيته وقال أقرئيها السلام وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتمًا لأجله وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم، فرجعت الجارية، فأخبرتها بما رأت وما قال لها، فقالت لها: اذهبي إلى حاتم وقولي له: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة ولم يعلموا مكانك فأرسل إلينا بناقة نقريهم ولبن نسقيهم، فأتت الجارية حاتمًا فصاحت به، فقال: لبيك ماذا تريدين؟ فأخبرته بما جاءت بسببه، فقال لها: حبًّا وكرامة، ثم قام إلى الإبل فأطلق اثنتين من عقالهما وصاح بهما حتى أتيا الخباء ثم ضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح: هذا الذي طلقتك بسببه تترك أولادنا وليس لهم شيء، فقال لها: ويحك يا ماوية، الذي خلقهم وخلق العالم بأسره متكفل بأرزاقهم.

جود حاتم الطائي

قالت نوار امرأة حاتم: أصابتنا سنة اقشعرَّت لها الأرض واغبرَّ أفق السماء، وضرب الجوع أطنابه حتى بتنا بالهلاك، فبقينا الليل على هذا الحال والموت يتهددنا ويتهدد أولادنا عبد الله وعديًّا وسنانة، فقام حاتم إلى الولدين، وقمت أنا إلى الابنة وما سكتوا إلَّا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني بالحديث فعرفت ما يريد فتناومت، فلما اسود الدجى إذا بصوت قد سمع ويد حركت الباب، فقال: من هذا؟ قالت: جارتك فلانة أتيتك من عند صبية يتعاوون كالذئاب فما وجدت سندًا سواك يا أبا عدي، فقال: عليَّ بهم فقد أشبعك الله وإياهم، فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي وراءها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها، فقام إلى فرسه فنحره، ثم كشط عن جلده ودفع المدية إلى المرأة وقال لها: شأنك، فاجتمعنا على اللحم نشوي ونأكل، ثم جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتًا بيتًا فيقول: هبوا أيها القوم عليكم بالنار، فاجتمعوا والتفع في ثوبه متنحيًا ينظر إلينا بدون أن يذوق طعامًا هو أحوج إليه منَّا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول:

مهلًا نوار أقلي اللوم والعذلا
ولا تقولي لشيءٍ فات ما فعلَا
ولا تقولي لمالٍ كنت مهلكه
مهلًا وإن كنت أعطي الإنس والجبلَا
يرى البخيل سبيل المال واحدةً
إن الجواد يرى في ماله سبلَا

ولحاتم الطائي وقد استنشدته ماوية:

أماويَّ قد طال التجنب والهجر
وقد غدرتني من طلابكم العذرُ
أماوي إن المال غادٍ ورائحٌ
ويبقى من المال الأحاديث والذكرُ
أماوي إني لا أقول لسائلٍ
إذا جاء يومًا حل في مالنا نذرُ
أماوي إما مانع فمبينٌ
وإما عطاءٌ لا ينهنهه الزجرُ
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت نفسٌ وضاق بها الصدرُ

ومنها:

أماوي إن يصبح حداي بقفرةٍ
من الأرض لا ماء هناك ولا خمرُ
ترى أن ما أهلكت لم يكُ ضرَّني
وأن يدي مما بخلت به صفرُ
أماوي إني ربَّ واحد أمه
أحيرت فلا قتلٌ عليه ولا أسرُ
وقد علم الأقوام لو أن حاتمًا
أراد ثراء المال كان له وفرُ
وإني لا آلو بمال صنيعةً
فأوله زادٌ وآخره ذخرُ
يفك به العاني ويؤكل طيبًا
وما إن تعريه القداح ولا الخمرُ
ولا أظلم ابن العم إن كان إخوتي
شهودًا وقد أودى بإخوته الدهرُ
عنينا زمانًا بالتصعلك والغنى
كما الدهر في أيامه العسرُ واليسرُ
كسبنا صروف الدهر لينًا وغلظةً
وكلًا سقاناه بكأسهما الدهرُ
فما زادنا بغيًا على ذي قرابةٍ
غنانا ولا أدى بإحساننا الفقرُ
فقدمًا عصيت العاذلات وسلطت
على مصطفى مالي أناملي العشرُ
وما ضر جارًا يا ابنة العم فاعلمي
يجاورني ألَّا يكون له سترُ
بعيني عن جارات قولي غفلةٌ
وفي السمع مني عن حديثهم وقرُ

وقال أحدهم في حاتم:

وحاتم طيئٍ إن طوى الموت جسمه
فنشر اسمه في الجود عاش مخلدًا

وقال آخر:

لما سألتك شيئًا
بدلت رشدًا بغيٍّ
ممن تعلمت هذا
إلا تجود بشيٍّ
أما مررت بعبدٍ
لعبد حاتم طيٍّ

وصادفت ابن الكلبي حاتمًا فأنشده:

وعاذلة هبت بليل تلومني
وقد غاب عبوق الثريا فغردَّا
تلوم على إعطائي المال ضلة
إذا ضلَّ بالمال البخيل وصردا
تقول ألا أمسك عليك فإنني
أرى المال عند الممسكين معبدا
ذريني وشأني إن مالك وافر
وكل امرئ جارٍ على ما تعودا
أعاذل لا آلوك إلا خليقتي
فلا تجعلي فوقي لسانك مبردا
ذريني يكن مالي لعرضي جنة
يقي المال عرضي قبل أن يتبددا
أريني جوادًا مات هزلًا لعلني
أرى ما ترين أو بخيلًا مخلدا
وإلَّا فكُفِّي بعض قولك واجعلي
إلى رأى من تلحين رأيك مسندا
ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني
وعزِّ القرى أقرى السديف المرهدا
أُسوّد سادات العشيرة عارفًا
ومن دون قومي في الشدائد مذودا
وأُلفي لأعراض العشيرة حافظًا
وحقهم حتى أكون المسوَّدا
يقولون لي أهلكت مالك فاقتصد
وما كنت لولا تقولون سيدا
كلوا الآن من رزق الإله وأيسروا
فإن على الرحمن رزقكم غدا
سأذخر من مالي دلاصًا وسابحًا
وأسمر خطيًا وعضبًا مهندا
وذلك يكفيني من المال كله
مصونا إذا ما كان عندي متلدا

وأنشده أيضًا:

ألا سبيلٌ إلى مالٍ يعارضني
كما يعارض ماء الأبطح الجاري
ألا أعان على جودي بميسرة
فلا يرد لدى كفِّي أقتاري

وأنشده أيضًا:

أما والذي لا يعلم الغيب غيره
ويحيي العظام البيض وهي رميم
لقد كنت أطوي البطن والزاد يشتهى
مخافة يومًا أن يقال لئيم
وما كان بي ما كان والليل ملبسٌ
رواق له فوق الأكام بهيم
ألفُّ مجلسي الزاد من دون صحبتي
وقد آب نجمٌ واستقل نجوم

وأنشده أيضًا:

وقائلة أهلكت بالجود مالنا
ونفسك حتى ضرَّ نفسك جودها
فقلت دعيني إنما تلك عادتي
لكلِّ كريم عادة يستعيدها

وأنشد حاتم يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله:

أيا ابنة عبد الله وابنة مالكٍ
ويا ابنة ذي البردين والفرس الوردي
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
أكيلًا فإني لست آكله وحدي
أخا طارقًا أو جار بيت فإنني
أخاف مذمَّات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما زال ثاويًا
وما فيَّ إلا تلك من شيمة العبد

يزيد بن حاتم وربيعة الرأي

قيل: إن ربيعة الرأي قدم مصر فأتى يزيد السلمي فلم يعطه شيئًا، ثم عطف على يزيد بن حاتم فشغل عنه لأمر ضروري فخرج وهو يقول:

أراني ولا كفران لله راجعًا
بخفي حنين من نوال ابن حاتم

فلما فرغ ابن حاتم من ضرورته سأل عنه فقيل له: إنه خرج وهو يقول كذا، وأنشد البيت فأرسل من يجد في طلبه فأتي به فقال: كيف قلت؟ فأنشد البيت، فقال يزيد: شغلنا عنك وعجلت علينا ثم أمر بخفيه فخلعا من رجله وملئا مالًا وقال: ارجع بهما بدلًا من خفي حنين.

مديح حاتم بعد الوفاة

خرج إليه رجل من الشعراء يمدحه فلما بلغ مصر وجده قد مات فقال فيه:

لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي
وأخلفني منها الذي كنت آملُ
فما كل ما يخشى الفتى بمصيبة
ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل
وما كان بيني لو لقيتك سالمًا
وبين الغنى إلا ليالٍ قلائل

حاتم الطائي بعد الوفاة

يحكى عن حاتم الطائي أنه لما مات دُفن في رأس جبل وعملوا على قبره حوضين من حجرين ورسوم بنات محلولات الشعور من حجر، وكان تحت ذلك الجبل نهر جارٍ، فإذا نزلت الوفود يسمعون الصراخ في الليل من العشاء إلى الصباح، فإذا أصبحوا لم يجدوا أحدًا غير البنات المصورة من الحجر.

فلما نزل ذو الكراع ملك حمير بذلك الوادي خارجًا عن عشيرته بات تلك الليلة هناك، وتقرب من ذلك الموضع، فسمع الصراخ فقال: ما هذا العويل الذي فوق هذا الجبل؟ فقالوا له: إن هذا قبر حاتم الطائي وإن عليه حوضين من حجر ورسوم بنات من حجر محلولات الشعور، وكل ليلة يسمع النازلون في هذا المكان هذا العويل والصراخ، فقال ذو الكراع ملك حمير يهزأ بحاتم الطائي: يا حاتم نحن الليلة ضيوفك ونحن خماص، قال: فغلب عليه النوم، ثم استيقظ وهو مرعوب وقال: يا عرب الحقوني وأدركوا راحلتي، فلما جاءوا وجدوا الناقة تضطرب فذبحوها وشووا لحمها وأكلوا، ثم سألوه عن سبب ذلك فقال: غفلت عيني فرأيت في منامي حاتم الطائي وقد جاءني بسيف وقال: جئتنا ولم يكن عندنا شيء، وضرب ناقتي بالسيف، فلو لم تحصلوها وتنحروها لماتت، فلما أصبح الصباح ركب ذو الكراع راحلة واحد من أصحابه وأردفه خلفه، فلما كانوا وسط النهار رأوا راكبًا على راحلة وفي يده راحلة أخرى، فقالوا له من أنت؟ فقال أنا عدي ابن حاتم الطائي، ثم قال أين ذو الكراع أمير حمير؟ فقالوا له: هذا هو، فقال: اركب هذه الناقة عوضًا عن راحلتك فإن ناقتك قد ذبحها أبي لك، قال ومن أخبرك، قال: أتاني الليلة في المنام وقال لي: يا عدي إن ذا الكراع ملك حمير استضافني فنحرت له ناقته فأدركه بناقة يركبها، فإني لم يكن عندي شيء، فأخذها ذو الكراع وتعجب من كرم حاتم حيًّا وميتًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤