خاتمة
حين كان ابني طفلًا صغيرًا، زرعنا شجرةً خاصةً «به» كي يتسنَّى له أن يشاهدها وهي تنمو، ويتعرف على مراحل نموها الفصلية والسنوية بالتوازي مع مراحل النمو التي يمر بها. اخترنا له شجرة تنوب أبيض وهي دائمة الخضرة. وبالرغم من أن الشجرة لا تنفض عنها أوراقًا ملوَّنة في فصل الخريف، فقد كانت تتغير دائمًا من جوانب كانت أسرتنا تتأملها. ففي السنة الأولى كانت تنمو بعيدًا عن الوسط بعض الشيء وباتجاه الشرق؛ لذا ربطنا حولها خيطًا بكل حرص وثبتناه بعصًا باتجاه الغرب مع شدِّه برفق لتشجيعها على النمو على نحوٍ أكثر استقامة. وبالرغم من أنَّ ابني الصغير لم يفهم ذلك تمامًا؛ فقد أخبرناه بأنَّ هذا النوع من التوجيه اللطيف غالبًا ما يكون لازمًا في فترة الشباب. وفي حالة الأشجار، يكون هذا الإجراء أكثر فاعلية على الإطلاق في مرحلة الشتلات؛ إذ تكون الجذوع لا تزال مرنة.
وعلى مدار السنوات، بينما نحن نراقب شجرته ونعتني بها، شرحتُ أنَّ النفَس الذي يخرج منه؛ أي ثاني أكسيد الكربون، يكون بمثابة هدية لها. أوضحتُ له أنَّ الشجرة ستستهلك هذه المادة وتحوِّلها إلى سكريات تستطيع أن تبني بها الأوراق، وحتى الخشب؛ كي يبقى على الدوام جزءًا لا يتجزأ من شجرته. نَمَت الشجرة حتى مرحلة «المراهقة»، وظللنا نرعاها بحب ونوفِّر لها أيَّ موارد ورعاية إضافية كانت تحتاج إليها. بدأ نموها السنوي يزداد مع ازدياد نمو ابني الذي ظهر كاحلاه فجأة من حافة السراويل التي كانت ملائمة لحجمه تمامًا قبل شهر. كانت شجرته لا تزال تنمو إلى مرحلة الرشد، بينما كان هو قد وصل إلى سن البلوغ القانوني. كان هو راعيها، وكانت هي معلِّمته على مدارِ ما يقرب من عَقدين من الزمان، لكننا نعرف أنه لا يزال هناك المزيد من الأشياء التي يمكن أن تعلِّمها الشجرة له ولنا.
لقد قدَّمت الفصول السابقة بعضًا من الدروس العديدة التي يمكن تعلُّمها من النباتات التي تشكِّل جزءًا أساسيًّا من العالم الطبيعي، وإن كان يُغفَل في كثير من الأحيان. والقطبية، يمكن أن تنمو النباتات في أي نوع من البيئات تقريبًا، من المناخات الاستوائية والمدارية اللطيفة للغاية، إلى البيئات التي تبدو أقل تفضيلًا، مثل الصحاري والمناطق الألبية. وهذا التنوُّع في الموائل الطبيعية بمثابة شاهد على قدرات النباتات المذهلة على إدراكِ ما يدور حولها، والتكيُّف عليه، والتغيير من نفسها ومن البيئات التي توجد فيها.
يمتدُّ هذا النوع من الشعور والاستجابة والتكيُّف على مدار دورة حياة النبات، سواء أكان ذلك لتعزيز إمكانية جمع الضوء وتحويله إلى سكريات، أم لتمديد الجذور للبحث عن المغذيات. إنَّ النباتات تتمتَّع بقدراتٍ فعالةٍ على تعديل بيئتها لدعم نموها ونمو غيرها من الكائنات التي تتشارك معها في المكان والزمان نفسيهما والأجيال التالية أيضًا.
تُحدِّد النباتاتُ متى يكون أفضل مصدرٍ لإنفاق الطاقة هو التنافس أو التعاون أو إنهاء دورة الحياة (مثلما يحدث في حالة تسريع الإزهار حين تعيش في بيئةٍ ظليلةٍ لفترةٍ طويلة). وتعرف النباتات حين لا تمتلك البيئة المواردَ اللازمة لدعم الاستيطان الطويل الأجل والنمو الناجح، وتعرف أيضًا كيف تحوِّلها من خلال سلوكياتها الخاصة أو من خلال التعاون أو التبادل مع كائناتٍ أخرى. فالنباتات الرائدة، التي تزدهر في البيئات المضطربة، يمكنها أن تحوِّل نظامًا بيئيًّا حتى تسمح لنباتاتٍ أخرى بالاستقرار فيه. إنها تعمل بنجاحٍ على إدارة التغيير وتعزيز الظروف التي تفيد الموجة الثانية من النباتات.
لا تنبثق الدروس من سلوكيات النباتات فحسب، بل من علاقتنا معها أيضًا. فحين نعمل، نحن البشر، كرُعاةٍ للنباتات، نتبنَّى منظورًا قائمًا على النمو. فبينما كنت أنا وأسرتي نعتني بشجرة التنوب، كنا نراقبها عن كثب لنتلقى الإشارات ونطرح الأسئلة بشأن الموارد التي تحتاج إليها كي تزدهر. فنحن في انسجام مع إشاراتها كي نستطيع أن نقرِّر ما إذا كانت البيئة تحدُّ من ازدهارها أم لا.
•••
إنَّ النباتات تقدِّم لنا دروسًا بشأن كيفية بناء حياة عفية مدفوعة بالإحساس. فهي تستخدم أدوات الاستشعار لديها لمتابعةِ ما يجري في البيئة حولها عن كثب؛ ومن ثمَّ استخدام هذه المعلومات لاتخاذ قراراتٍ حكيمةٍ بشأن كيفية تنظيم ميزانيتها من الطاقة والحصول على الموارد والتفاعل على نحوٍ إيجابيٍّ مع جيرانها. ونحن نستطيع تطبيق هذه الدروس على حياتنا، وعلى ممارساتنا للقيادة والإشراف، وعلى علاقاتنا التبادلية بصفتنا جزءًا من مجتمعٍ أكبر. فلتتخيل أنَّ هذه الدروسَ المستقاةَ من النباتات تقدِّم لنا طريقةً بديلةً للنظر إلى العالم ووجودنا فيه، وأنها تقدِّم لبعضنا طريقةً شديدة الاختلاف في الإرشاد والتدريب والقيادة.
تمتلك النباتات الكثير من أدوات الاستشعار التي تُمكِّنها من مراقبةِ ما يجري حولها وتقييم توافر الموارد. ومن ثمَّ تستطيع ضَبْط نموِّها وتطوُّرها بما يتلاءم مع البيئة الخارجية، وذلك من خلال مرونةِ النمط الظاهري التي تمكِّنها من تعديل استجاباتها. تتخذ النباتات قراراتٍ استراتيجية بشأن كيفية تخصيص مواردها، ويمكنها أيضًا أن تُبادر بسلوكياتٍ يمكنها تغيير البيئة من خلال تغيير مستوى توافُر الموارد أو زيادتها.
تقيِّم النباتات الظروف التي ينبغي عليها أن تتحلى فيها بالسلوك التنافسي، وتلك التي يكون فيها الالتزام بالتعاون هو التصرُّف الأكثر حكمة. ولاتخاذ هذا النوع من القرارات، فإنها توازِن تكلفة الطاقة مقابل الفائدة التي تحصل عليها من تحسين النمو والقدرة على البقاء. على سبيل المثال، بالرغم من أنَّ النبات يسعى عمومًا إلى أن يُصبح أطول من جاره القابع بالقرب منه لتحسين قدرته في الحصول على ضوء الشمس، إذا كان هذا النبات المجاور له أطول كثيرًا بالفعل، ومن المحتمل أن يضيع النوع الذي ينتمي إليه، فسيكبح النبات من غريزته التنافسية. معنى هذا أنَّ النباتات لا تتنافس إلا حين تكون المنافسة ضروريةً لتحسين قدرتها على دعم نموِّها وتكاثرها وتتمتَّع باحتمالية جيدة للنجاح. وفور أن تجلب المنافسة النتائج اللازمة، تتوقَّف النباتات عن المنافسة وتحوِّل طاقتها إلى العيش. فالنباتات تتنافس من أجل البقاء لا نشوة النصر.
سيستفيد البشر إذا فهموا أنَّ السعي وراء المنافسة لا يكون نبيلًا إلا إذا كانت هذه المنافسة لازمة للبقاء والازدهار. علاوةً على ذلك، فمن أعظم الدروس التي يمكن أن نتعلَّمها من النباتات هي قوة العمل المشترك. علينا أن نتخلَّى عن اعتمادِنا المفرط على نماذج النجاح الفرداني، وأن نفهم بدلًا من ذلك أنَّ استجاباتنا للبيئة، سواء أكانت مكتبًا أم جامعة أم مجتمعًا سكنيًّا، عادةً ما تتحسَّن عند إصدارها على نحوٍ جماعي وتعاوني.
إنَّ النباتات التي تعيش في مجتمعاتٍ تتضمَّن أنواعًا عديدةً مختلفةً غالبًا ما تزدهر على نحوٍ أفضل من تلك التي تنمو في مجتمعات أقل تنوعًا، وتكون أكثر إنتاجية منها. فكل نوعٍ من الأنواع يشغل موقعًا بيئيًّا محدَّدًا يتميَّز بشكلٍ ونمطٍ وجوديٍّ خاص، وبالتعاون معًا، يمكن لهذه الأنواع أن تستفيدَ من الضوء والمغذيات والموارد الأخرى على نحوٍ أكثر كفاءة.
لتعزيز التنوُّع والإنصاف، سيكون من الحكمة أن يتذكَّر القادة الدروسَ المستقاة من الزراعة التعددية؛ أي زراعة أنواع مختلفة من النباتات معًا. إنَّ نظام الأخوات الثلاث يوضِّح لنا كيف يستفيد المجتمع حين يتبادل الأفراد تقديم قدراتهم الفريدة ومواطن قوَّتهم وسلوكياتهم. فالبشر يعتمدون بعضهم على بعض بطرقٍ غالبًا ما نتجاهلها. فإذا أردنا تحقيق نتائج أكثر إنصافًا، فسوف نحسن صنعًا إذا أدركنا أنَّ الجميع يستفيدون حين نصقل مواهب الأشخاص المتنوعة ونعزز التآزر والتعاون فيما بينهم.
وبالرغم من وجود بعض المخاطر بلا شك عند تبنِّي طرق بديلة للنجاح، فسوف ندرك، إذا تأملنا الدروس التي تقدِّمها لنا النباتات، أنَّ المخاطر قد تكون أكبر عند تجاهل هذه الطرق. إنَّ النباتات التي تعجز عن تحقيق هدفها الفطري، كأن يعجز نبات حولي مثلًا عن الإزهار في موسمه الوحيد في الوجود، يخاطر بضياع فرصته في التكاثر وترك نسل للأجيال المستقبلية. وصحيح أنَّ فردًا واحدًا هو الذي يعاني ضياع هذه الفرصة في مثل هذه الحالة، لكن غيره من النباتات التي تسكن المجتمع نفسه، قد يسوء حالها أيضًا لعدم حصولها على مساهمة هذا النبات في المجتمع.
إنَّ هوسنا بالاحتفاء بالمسارات المُجرَّبة والصحيحة ربما يكلفنا كثيرًا حين نرفض المجازفة برؤية «الزهور» الفريدة التي يمكن لكل فرد أن يقدِّمها. فمجتمعاتنا تُثرى بالابتكار وأنماط التفكير الجديدة والمساهمات الفريدة. بالرغم من ذلك، فإنَّ الترحيب بمثل هذه العروض المقدمة يستلزم انفتاحًا على الإبداع والاختراع والنُّهوج الريادية، لا سيما في البيئات المهنية. علينا ألا نتوقَّف عند تشجيع مثل هذه الريادة، بل علينا أن نقدِّرها ونكافئ عليها.
سوف نحسن صنعًا خلال تفاعلاتنا مع الآخرين إذا تأملنا في كيفية اعتنائنا بالنباتات. في معظم الأحيان نبدأ بتوقُّع أنَّ النبات لديه القدرة على النمو والازدهار. وحين نلاحظ أنَّ النبات لا ينمو جيدًا، نطرح الأسئلة بشأن صحة البيئة (هل يحصل النبات على ما يكفي من الضوء، أم على قدرٍ مبالغ منه؟) أو بشأن قدراتنا كرعاة (ما الخطأ الذي أفعله؟). فنحن لا نعتقد على الفور أنَّ النبات لديه عيوب.
من المؤسف أننا حين نستجيب لشخصٍ يواجه صعوبةً ما، غالبًا ما نبدأ بطرح الأسئلة بشأن الفرد والسبب في عدم تواؤمه مع هذه البيئة. فمثل هذه الاستجابة تستند إلى افتراض أنَّ العيب يكمن في الشخص لا البيئة، وذلك في تناقضٍ صارخ مع الحقيقة التي نعرفها من النباتات. يمكن للنباتات التي تتطابق في كل شيء عدا البيئة الخارجية أن تحقِّق نتائج شديدة الاختلاف بناءً على هذه البيئة، مثل ما إذا كانت تنمو في الظلام أو الضوء. ولكي نقيِّم قدرة شخصٍ ما على النجاح، يجب أن نقيِّم كلًّا من التأثيرات الإيجابية والسلبية في بيئته. وحينها، سنصبح على وعي أكبر بالتعديلات أو التغييرات اللازمة لمساعدة مَن يواجهون صعوبات.
•••
يمكننا أيضًا أن نستفيد جيدًا من الدروس التي نتعلَّمها من النباتات عند تخطيط التغيرات البيئية الطويلة الأمد، كما يحدث عند التفكير في الأدوار القيادية. ربما نكون بحاجة إلى رواد ليكونوا هم الطليعة في طابور متصاعد من وكلاء التغيير. إنَّ هؤلاء الأفراد الرياديين يوفِّرون المجال ويُحسِّنون الوصول إلى الموارد من أجل الموجات التالية من الرواد الذين يتمتعون بمواطن قوة مختلفة في القيادة. ولكننا في غالب الأحيان نستخدم نهج المقاس الواحد في القيادة بدلًا من أن نفهم أنَّ وجود قادة يتسمون بنقاط قوة محدَّدة أمرٌ لازم في مختلف الأوقات، لا سيما حين يحين وقت التغيير الثقافي. ومن التحديات التي نواجهها أننا غالبًا ما نعطي الأولوية للوجود الطويل المدى على النتائج الطويلة المدى. فقد يكون وجود القادة الرواد في المؤسسات قصير الأجل. ولكن إذا نجحوا في فتح المجالات وترسيخ عمليات جديدة وتحسين الوصول إلى الموارد، فسوف يمهِّد ذلك الطريق إلى ظهور قادة ربما يكونون أقل ابتكارًا بدرجة طفيفة، لكنهم يتولون القيادة فترة أطول. وهؤلاء القادة الطويلو الأمد، والذين يأتون في الموجة التالية من سكان النظام البيئي والموجات التي تليها، يمكنهم حينئذٍ البدء في العمل القيِّم المتمثِّل في وضع نُظُم توفِّر موارد مستقرة ومتجددة لدعم المجتمع.
يُعد هذا النوع من التخطيط الاستباقي للتعاقب مهمًّا للغاية، لا سيما في أوقات الوفرة حين يبدو كل شيء على ما يرام. إنَّ التخطيط يحين مبكرًا ويحدث كثيرًا. وتحقِّق النباتات هذا من خلال تتبُّع مستوى نجاحها على المستوى الفردي والمجتمعي، مع مراقبة ما يلزم من الطاقة لتحقيق الأهداف المهمة، مثل التكاثر. وبهذا، تتَّبع النباتات خطة تسمح لها بالتجدُّد وتخصيص الطاقة على نحوٍ استراتيجي.
يحتاج البشر أيضًا إلى العمل في اللحظة الراهنة والتخطيط مسبقًا للتعاقب. ويستلزم التخطيط الاستراتيجي من القادة أن يؤدوا دورهم القيادي على النحو الملائم في الوقت الراهن، مع توقُّع الاحتياجات المستقبلية والمراحل الانتقالية في القيادة. فينبغي على القادة أن يتصرفوا بسرعة وهمَّة، وذلك بتحديد خلفائهم قبل أن يحين وقت الحاجة إليهم كي يتسنَّى لهم الاستعداد للانتقال. من المؤسف أنَّ القادة غالبًا ما يُعيَّنون أو يُرَقون للحفاظ على الوضع الراهن. وإلى أن نبدأ في تعزيز القيادة المدفوعة بالحس، لن نرى الأفراد أو المجتمعات تبلغ كامل إمكاناتها.
•••
لقد تعلمت من النباتات كثيرًا من الدروس على مدار العقود العديدة الماضية. وأنا في غاية الامتنان لذلك. وأتوق أيضًا إلى وقتٍ يعيش فيه الجميع حياةً مدفوعةً بالإحساس. وها هي ذي النباتات توضِّح لنا كيفية فعل ذلك. كلُّ ما علينا فعله أن ننتبه فحسب.
توقَّف برهةً وانظر فيما حولك. لا بد أنَّ ثمة نباتًا ما على مرمى البصر. وبناءً على الوقت من العام أو موقعك في العالم، ربما ترى بذرة تنبت، أو أزهارًا تتفتح، أو أوراق الخريف ذات الألوان الزاهية على خلفية السماء. إنَّ جميع هذه السلوكيات — الإنبات وتفتح الأزهار وتغيُّر الألوان — توضِّح لنا أنَّ النباتات في تناغم مع نفسها ومع بيئاتها؛ إذ تتأقلم وتدعم غيرها من أماكنها الثابتة رغم ديناميكيتها في العالم.