خاتمة

البستنة

حين كان ابني طفلًا صغيرًا، زرعنا شجرةً خاصةً «به» كي يتسنَّى له أن يشاهدها وهي تنمو، ويتعرف على مراحل نموها الفصلية والسنوية بالتوازي مع مراحل النمو التي يمر بها. اخترنا له شجرة تنوب أبيض وهي دائمة الخضرة. وبالرغم من أن الشجرة لا تنفض عنها أوراقًا ملوَّنة في فصل الخريف، فقد كانت تتغير دائمًا من جوانب كانت أسرتنا تتأملها. ففي السنة الأولى كانت تنمو بعيدًا عن الوسط بعض الشيء وباتجاه الشرق؛ لذا ربطنا حولها خيطًا بكل حرص وثبتناه بعصًا باتجاه الغرب مع شدِّه برفق لتشجيعها على النمو على نحوٍ أكثر استقامة. وبالرغم من أنَّ ابني الصغير لم يفهم ذلك تمامًا؛ فقد أخبرناه بأنَّ هذا النوع من التوجيه اللطيف غالبًا ما يكون لازمًا في فترة الشباب. وفي حالة الأشجار، يكون هذا الإجراء أكثر فاعلية على الإطلاق في مرحلة الشتلات؛ إذ تكون الجذوع لا تزال مرنة.

وعلى مدار السنوات، بينما نحن نراقب شجرته ونعتني بها، شرحتُ أنَّ النفَس الذي يخرج منه؛ أي ثاني أكسيد الكربون، يكون بمثابة هدية لها. أوضحتُ له أنَّ الشجرة ستستهلك هذه المادة وتحوِّلها إلى سكريات تستطيع أن تبني بها الأوراق، وحتى الخشب؛ كي يبقى على الدوام جزءًا لا يتجزأ من شجرته. نَمَت الشجرة حتى مرحلة «المراهقة»، وظللنا نرعاها بحب ونوفِّر لها أيَّ موارد ورعاية إضافية كانت تحتاج إليها. بدأ نموها السنوي يزداد مع ازدياد نمو ابني الذي ظهر كاحلاه فجأة من حافة السراويل التي كانت ملائمة لحجمه تمامًا قبل شهر. كانت شجرته لا تزال تنمو إلى مرحلة الرشد، بينما كان هو قد وصل إلى سن البلوغ القانوني. كان هو راعيها، وكانت هي معلِّمته على مدارِ ما يقرب من عَقدين من الزمان، لكننا نعرف أنه لا يزال هناك المزيد من الأشياء التي يمكن أن تعلِّمها الشجرة له ولنا.

لقد قدَّمت الفصول السابقة بعضًا من الدروس العديدة التي يمكن تعلُّمها من النباتات التي تشكِّل جزءًا أساسيًّا من العالم الطبيعي، وإن كان يُغفَل في كثير من الأحيان. والقطبية، يمكن أن تنمو النباتات في أي نوع من البيئات تقريبًا، من المناخات الاستوائية والمدارية اللطيفة للغاية، إلى البيئات التي تبدو أقل تفضيلًا، مثل الصحاري والمناطق الألبية. وهذا التنوُّع في الموائل الطبيعية بمثابة شاهد على قدرات النباتات المذهلة على إدراكِ ما يدور حولها، والتكيُّف عليه، والتغيير من نفسها ومن البيئات التي توجد فيها.

تذكَّر أنه من بداية حياة النبات، لا تتعامل الفسيلة مع ما تجده في مكان محدَّد فحسب. فلا بد أن تتعلم الفسيلة كيفية التأقلم في الموقع البيئي أو البيئة التي تنمو فيها. من الناحية البيئية، يمثل الموقع البيئي العلاقة بين الكائن الحي وبين موئله، بما في ذلك الكائنات الحية الأخرى التي توجد فيه. غير أن الموقع البيئي ليس ثابتًا؛ فمن خلال عمليةٍ تُسمَّى «بناء الموقع البيئي»، يمكن للكائنات الحية تعديل مواقعها البيئية ومواقع غيرها من خلال النشاطات والخيارات التي تقوم بها.1 وهذه العملية المتمثلة في تغيير بيئةٍ ما لنفعٍ ذاتيٍّ بصفةٍ أساسيةٍ أو لمنفعة الآخرين — أو للإضرار بهم في بعض الأحيان — هو سلوك تحويلي للنبات.
تستمر النباتات في التعلُّم والتأقلم خلال دورة حياتها، ولا تفتأ تعقد مفاضلات تتعلَّق بميزانية الطاقة. فمكافحة الضرر الناتج عن إحدى آكلات العشب، على سبيل المثال، يمكن أن يقلِّل الطاقة المتاحة لأنشطةٍ أخرى مثل مدِّ الأوراق أو بناء فروع جديدة. ولا بد للنبات أن يقرِّر ما إذا كان سيخصِّص الموارد للنمو أم لطرد أعدائه. فنجد أنَّ أوراق الطماطم التي تتعرَّض لهجوم الدودة ذات القرون تستخدم الطاقة في إنتاج مركَّبات تثبِّط نمو الدودة ذات القرون وتكاثرها، لكنها لا تمتلك بعد ذلك سوى طاقةٍ محدودةٍ تخصِّصها للنمو والتكاثر. يمكن أيضًا تعديل وضبط استجابات النبات وفقًا للإشارات المرتبطة بوضع الطاقة. فإذا قلَّل النبات من قدرة البناء الضوئي بسبب ظروف انخفاض الضوء، فقد يواجه خطرًا أكبر بالافتراس لأنه لا يمتلك طاقةً كافيةً يخصِّصها للدفاع.2 إنَّ الدراسات من هذا النوع هي التي عرفنا منها أنَّ النباتات تصدِر استجاباتٍ معقَّدةً لتعرُّضها للعديد من الإشارات بصورةٍ متزامنةٍ أو متتالية.

يمتدُّ هذا النوع من الشعور والاستجابة والتكيُّف على مدار دورة حياة النبات، سواء أكان ذلك لتعزيز إمكانية جمع الضوء وتحويله إلى سكريات، أم لتمديد الجذور للبحث عن المغذيات. إنَّ النباتات تتمتَّع بقدراتٍ فعالةٍ على تعديل بيئتها لدعم نموها ونمو غيرها من الكائنات التي تتشارك معها في المكان والزمان نفسيهما والأجيال التالية أيضًا.

تُحدِّد النباتاتُ متى يكون أفضل مصدرٍ لإنفاق الطاقة هو التنافس أو التعاون أو إنهاء دورة الحياة (مثلما يحدث في حالة تسريع الإزهار حين تعيش في بيئةٍ ظليلةٍ لفترةٍ طويلة). وتعرف النباتات حين لا تمتلك البيئة المواردَ اللازمة لدعم الاستيطان الطويل الأجل والنمو الناجح، وتعرف أيضًا كيف تحوِّلها من خلال سلوكياتها الخاصة أو من خلال التعاون أو التبادل مع كائناتٍ أخرى. فالنباتات الرائدة، التي تزدهر في البيئات المضطربة، يمكنها أن تحوِّل نظامًا بيئيًّا حتى تسمح لنباتاتٍ أخرى بالاستقرار فيه. إنها تعمل بنجاحٍ على إدارة التغيير وتعزيز الظروف التي تفيد الموجة الثانية من النباتات.

لا تنبثق الدروس من سلوكيات النباتات فحسب، بل من علاقتنا معها أيضًا. فحين نعمل، نحن البشر، كرُعاةٍ للنباتات، نتبنَّى منظورًا قائمًا على النمو. فبينما كنت أنا وأسرتي نعتني بشجرة التنوب، كنا نراقبها عن كثب لنتلقى الإشارات ونطرح الأسئلة بشأن الموارد التي تحتاج إليها كي تزدهر. فنحن في انسجام مع إشاراتها كي نستطيع أن نقرِّر ما إذا كانت البيئة تحدُّ من ازدهارها أم لا.

•••

إنَّ النباتات تقدِّم لنا دروسًا بشأن كيفية بناء حياة عفية مدفوعة بالإحساس. فهي تستخدم أدوات الاستشعار لديها لمتابعةِ ما يجري في البيئة حولها عن كثب؛ ومن ثمَّ استخدام هذه المعلومات لاتخاذ قراراتٍ حكيمةٍ بشأن كيفية تنظيم ميزانيتها من الطاقة والحصول على الموارد والتفاعل على نحوٍ إيجابيٍّ مع جيرانها. ونحن نستطيع تطبيق هذه الدروس على حياتنا، وعلى ممارساتنا للقيادة والإشراف، وعلى علاقاتنا التبادلية بصفتنا جزءًا من مجتمعٍ أكبر. فلتتخيل أنَّ هذه الدروسَ المستقاةَ من النباتات تقدِّم لنا طريقةً بديلةً للنظر إلى العالم ووجودنا فيه، وأنها تقدِّم لبعضنا طريقةً شديدة الاختلاف في الإرشاد والتدريب والقيادة.

إنَّ العديد من الأفراد، ومنهم المرشدون والقادة، يتخذون تفاعلهم مع الآخرين طريقة لتيسير تعريف الذات مقابل العمل انطلاقًا من التمثيل الشخصي؛ فهم يبحثون «عن» التأييد، لا «انطلاقًا من» التأييد.3 فغالبًا ما يسعى هؤلاء الأفراد لإجابة الأسئلة المهمة عن هُويَّتهم، وعن المكان الذي ينبغي أن يكونوا فيه، وعن الأهداف والرؤى التي ينبغي عليهم السعي وراءها. إنهم يحاولون اكتسابَ شعورٍ بالغاية والحصول على تأييدٍ خارجي — أحدهما أو كليهما — في سياق الحياة، أو الإرشاد، أو القيادة، بدلًا من التفاعل انطلاقًا من الاقتناع بما يمتلكونه من إجاباتٍ بالفعل على أسئلة الهُويَّة والمكان والرؤى. إنَّهم يحتاجون إلى معرفة ماهيتهم وما يُقدِّمونه قبل أن يتمكَّنُوا من إرشاد الآخرين وتدريبهم وقيادتهم بنجاح.
عند التفاعل مع مجتمعٍ ما، غالبًا ما يتحلَّى المواطنون والمرشدون والقادة بمنظورٍ يركِّز على الذات وعلى التأييد الذاتي بدلًا من السعي إلى التفاعل على نحوٍ تبادليٍّ مع الآخرين. يتجلَّى الإرشاد والقيادة المرتكزان على الذات في صورةٍ أُسمِّيها التعلُّم بالطبع؛ أي تدريب شخصٍ آخر على اتباع السلوك الخاص بمدرِّبه، أو اتباع المعايير العامة لمجموعةٍ ما.4 في هذا النوع من التفاعل، يركِّز المرشدون والقادة على التأييد الخارجي، ويعزِّزون التطبُّع الثقافي؛ فهم يسعَوْن إلى نيل التأييد للخيارات التي اتخذوها، بما في ذلك المسارات التي اجتازوها والأهداف الشخصية التي سعَوْا وراءها.5 وبالرغم من أنَّ هذا النمط من الإرشاد والقيادة واسعُ الانتشار ويمكن أن يُحقِّق نجاحاتٍ ملحوظة، فإنَّ النطاق والتأثير الناتجَين عن التفاعُل بحثًا عن غايةٍ (بدلًا من الانطلاق من غايةٍ محددةٍ بالفعل) محدودان. إنه سعيٌ شخصيٌّ داخليٌّ عن الغاية في حقيقة الأمر، لا رؤية أوسع لها.
إنَّ وجود وجهات نظر وعمليات وأهدافٍ بديلةٍ أمرٌ ضروري. فعلينا أن نتخيَّل ترسيخ «رؤية للغاية» لما أُسمِّيه النمط المتكيف بيئيًّا في الحياة والإرشاد والقيادة، ونعمل على تحقيقها. وعلى غرار النباتات، ينبغي أن نتعلَّم من خبراتنا، ونُغيِّر من سلوكياتنا غير النافعة. وتبدأ هذه العملية بالتقييم الناقد للذات، والتأمُّل الذاتي، والالتزام بالعمل انطلاقًا من منظور معرفة الإجابات المتعلقة بالهُويَّة والمكان والرؤى. إذا فعلت ذلك، فحينها فقط ستتمكَّن من العيش والإرشاد والقيادة بفاعلية. وللتأمُّل الذاتي أهميةٌ محوريةٌ للعديد من الأسباب؛ فهو يمكِّنك من أن تُصبح واعيًا بمواطن قوَّتك وضعفك، إضافةً إلى توضيح أهدافِك وطموحاتِك الشخصية. ومن خلال هذه المعرفة، تُصبح في موضعٍ يُؤهِّلك لتحديد الموطن البيئي الملائم لاستخدام نقاط قوَّتك، وإيجاد فرصٍ ملائمةٍ لتنمية نقاط ضعفك. إنَّ المرشدين والقادة التقدُّميِّين هم مَن سيُعزِّزون ممارسةَ حماية الوقت للتأمُّل الذاتيِّ النشِط ويُطبِّقونها.6 ومن هذا المستوى من الوعي، ينشأ شعورٌ بالذات، شعورٌ بأنك تستطيع الانتقال إلى موقعٍ يوفِّر لك الموئل الملائم أو فرصة ﻟ «العمل» أو «النمو» أو تحقيق رؤيةٍ فرديةٍ للغاية؛ أي هدف محدد بوضوح.

تمتلك النباتات الكثير من أدوات الاستشعار التي تُمكِّنها من مراقبةِ ما يجري حولها وتقييم توافر الموارد. ومن ثمَّ تستطيع ضَبْط نموِّها وتطوُّرها بما يتلاءم مع البيئة الخارجية، وذلك من خلال مرونةِ النمط الظاهري التي تمكِّنها من تعديل استجاباتها. تتخذ النباتات قراراتٍ استراتيجية بشأن كيفية تخصيص مواردها، ويمكنها أيضًا أن تُبادر بسلوكياتٍ يمكنها تغيير البيئة من خلال تغيير مستوى توافُر الموارد أو زيادتها.

في المنظمات البشرية، يؤدِّي الأشخاص الذين يعملون بمثابة أجهزة استشعار فعالة؛ دورًا أساسيًّا في تحديد الجوانب التي تحتاج إلى تغيير، وتعزيز السلوكيات البناءة وتيسير القرارات الاستراتيجية. فهؤلاء الأفراد يستطيعون التعرُّف سريعًا على التغيرات في العوامل البيئية (مثل العوامل الاقتصادية أو التكنولوجية أو التنافسية)، أو التغيرات في العوامل الاجتماعية الثقافية (مثل المواقف الاجتماعية، أو العقيدة السياسية)، كما أنهم يستطيعون تحديد النقاط التي يمكن التدخُّل فيها ومساعدة الآخرين على تنفيذ هذه التدخلات.7

تقيِّم النباتات الظروف التي ينبغي عليها أن تتحلى فيها بالسلوك التنافسي، وتلك التي يكون فيها الالتزام بالتعاون هو التصرُّف الأكثر حكمة. ولاتخاذ هذا النوع من القرارات، فإنها توازِن تكلفة الطاقة مقابل الفائدة التي تحصل عليها من تحسين النمو والقدرة على البقاء. على سبيل المثال، بالرغم من أنَّ النبات يسعى عمومًا إلى أن يُصبح أطول من جاره القابع بالقرب منه لتحسين قدرته في الحصول على ضوء الشمس، إذا كان هذا النبات المجاور له أطول كثيرًا بالفعل، ومن المحتمل أن يضيع النوع الذي ينتمي إليه، فسيكبح النبات من غريزته التنافسية. معنى هذا أنَّ النباتات لا تتنافس إلا حين تكون المنافسة ضروريةً لتحسين قدرتها على دعم نموِّها وتكاثرها وتتمتَّع باحتمالية جيدة للنجاح. وفور أن تجلب المنافسة النتائج اللازمة، تتوقَّف النباتات عن المنافسة وتحوِّل طاقتها إلى العيش. فالنباتات تتنافس من أجل البقاء لا نشوة النصر.

سيستفيد البشر إذا فهموا أنَّ السعي وراء المنافسة لا يكون نبيلًا إلا إذا كانت هذه المنافسة لازمة للبقاء والازدهار. علاوةً على ذلك، فمن أعظم الدروس التي يمكن أن نتعلَّمها من النباتات هي قوة العمل المشترك. علينا أن نتخلَّى عن اعتمادِنا المفرط على نماذج النجاح الفرداني، وأن نفهم بدلًا من ذلك أنَّ استجاباتنا للبيئة، سواء أكانت مكتبًا أم جامعة أم مجتمعًا سكنيًّا، عادةً ما تتحسَّن عند إصدارها على نحوٍ جماعي وتعاوني.

قبل البَدْء بالاستثمار في علاقةٍ تعاونية، تزن النباتات التكلفة مقابل الفائدة. فهي تقيِّم ما إذا كانت مشاركة تكلفة الاستجابة للإشارات البيئية وإدراك الاحتياجات سيؤتي بثماره فيما يتعلَّق بزيادة البقاء والتكاثر. ويتأثَّر القرار بشأن التنافس أو التعاون بوجود أقارب؛ فقد أوضح عدد من الدراسات أنَّ احتمالية التعاون تزداد حين تكون النباتات المجاورة مرتبطةٌ بقرابة وثيقة. إنَّ العديد من الكائنات الحية، بما فيها النباتات، تفهم أنَّ تقليل المنافسة أو زيادة التعاون في وجود الأقارب له آثار بارزة على بقاء النوع وازدهاره ككل. إنَّ تعريف القرابة لدى البشر محدَّد بعض الشيء. فإلى جانب أقاربنا البيولوجيين، ننزع إلى تضمين مَن نعاملهم على أنهم يتشاركون معنا القيم مثلما يتشاركها معنا أقاربنا الفعليون، وذلك بناءً على تعريفات مقيدة إلى حدٍّ ما مثل تشارك الإثنية أو العِرق أو النوع الاجتماعي أو الحالة الاجتماعية الاقتصادية. ويمس هذا المنظور مَن نرتبط معهم بصداقات وثيقة، ومَن نعيش معهم في الأحياء والمجتمع، ومَن نتفاعل معهم بانتظامٍ في السياقات الاجتماعية. إنَّ البشر يتفاعلون مع مَن ينتمون إلى خلفيات مشابهة على نحوٍ أراه شكلًا من أشكال القرابة، لكنَّ هذا المفهوم يُعرف على نطاق أوسع باسم الهوموفوليا أو الحب للمماثل.8 أعتقد أنَّ الوقت قد حان لإعادة النظر في فكرة القرابة. ينبغي أن يكون أحد الأهداف الأساسية لمَن هو في موقعٍ قياديٍّ أو إرشاديٍّ أن يعزِّز شعورًا بالقرابة بين جميع أفراد مجتمعه. فالقيام بهذا يُسهِّل القرارات الاستراتيجية بشأن تخصيص الطاقة التي تفيد الجميع لا أفرادًا محدَّدين. وتعميم هذا المفهوم على نطاقٍ أوسع سيفيدنا، نحن البشرَ، جيدًا وسيكون مفيدًا لصحة كوكبنا وبقائه أيضًا إذا وسَّعنا فهمنا للقرابة وتطبيقنا لها ليشمل جميع الناس حول العالم.

إنَّ النباتات التي تعيش في مجتمعاتٍ تتضمَّن أنواعًا عديدةً مختلفةً غالبًا ما تزدهر على نحوٍ أفضل من تلك التي تنمو في مجتمعات أقل تنوعًا، وتكون أكثر إنتاجية منها. فكل نوعٍ من الأنواع يشغل موقعًا بيئيًّا محدَّدًا يتميَّز بشكلٍ ونمطٍ وجوديٍّ خاص، وبالتعاون معًا، يمكن لهذه الأنواع أن تستفيدَ من الضوء والمغذيات والموارد الأخرى على نحوٍ أكثر كفاءة.

في البيئات البشرية، غالبًا ما نحتفي بمسارٍ واحدٍ للنجاح في دورٍ محدَّد، ونتردد في طرح أسئلةٍ على الأفراد بشأن طموحاتهم الخاصة ورؤيتهم للتقدُّم الشخصي أو المهني. عندما نبدأ في تقبُّل تنوع الأفراد الذين قد يأتون إلى هذه المواقع، ونتقبل الخبرات الفريدة والمواهب والمهارات التي يتمتَّع بها كل فرد، حينها فقط سنستشعر تمامًا تلك الثروة الفريدة من «الزهور»، التي يقدِّمها كل فردٍ عند تشجيعِه على الإزهار. وبالرغم من أنَّ لكلٍّ منَّا دورًا في إعلاءِ قيم المجتمعات المتنوعة وتعزيزها، فإنَّ المسئولية تبدأ بمَن يشغلون المناصب العليا. ومن أجل تيسير النُّهوج التي تتسم بالإنصاف، ينبغي على القادة والمرشدين تعزيز الكفاءة العابرة للثقافات، والممارسات الواعية بتنوُّع الثقافات.9 ولكي يتمكنوا من تحقيق هذا، عليهم أن يتمتعوا هم أنفسهم بمستوًى عالٍ من الكفاءة العابرة للثقافات.10 ولكن كيف نمضي في زيادة الفهم العابر للثقافات وتعزيز ثقافة شاملة للنجاح؟ من الواضح أنَّ البيئات التقدمية التي تخدم نطاقًا متنوعًا من الأفراد عادةً ما يكون أعضاء مجتمعها وقادتها يولون اهتمامًا خاصًّا للاعتناء بالبيئة؛ وهذا يتضمن تقييم المناخ وتعريف الحدود ووضع خطط للتحول. وتنطبق أهمية إدراك ورصد عملية خلق بيئات داعمة منصفة وصيانتها على كلٍّ من المؤسسات المجتمعية والشركات والمؤسسات الأكاديمية بالدرجة نفسها.11

لتعزيز التنوُّع والإنصاف، سيكون من الحكمة أن يتذكَّر القادة الدروسَ المستقاة من الزراعة التعددية؛ أي زراعة أنواع مختلفة من النباتات معًا. إنَّ نظام الأخوات الثلاث يوضِّح لنا كيف يستفيد المجتمع حين يتبادل الأفراد تقديم قدراتهم الفريدة ومواطن قوَّتهم وسلوكياتهم. فالبشر يعتمدون بعضهم على بعض بطرقٍ غالبًا ما نتجاهلها. فإذا أردنا تحقيق نتائج أكثر إنصافًا، فسوف نحسن صنعًا إذا أدركنا أنَّ الجميع يستفيدون حين نصقل مواهب الأشخاص المتنوعة ونعزز التآزر والتعاون فيما بينهم.

وبالرغم من وجود بعض المخاطر بلا شك عند تبنِّي طرق بديلة للنجاح، فسوف ندرك، إذا تأملنا الدروس التي تقدِّمها لنا النباتات، أنَّ المخاطر قد تكون أكبر عند تجاهل هذه الطرق. إنَّ النباتات التي تعجز عن تحقيق هدفها الفطري، كأن يعجز نبات حولي مثلًا عن الإزهار في موسمه الوحيد في الوجود، يخاطر بضياع فرصته في التكاثر وترك نسل للأجيال المستقبلية. وصحيح أنَّ فردًا واحدًا هو الذي يعاني ضياع هذه الفرصة في مثل هذه الحالة، لكن غيره من النباتات التي تسكن المجتمع نفسه، قد يسوء حالها أيضًا لعدم حصولها على مساهمة هذا النبات في المجتمع.

إنَّ هوسنا بالاحتفاء بالمسارات المُجرَّبة والصحيحة ربما يكلفنا كثيرًا حين نرفض المجازفة برؤية «الزهور» الفريدة التي يمكن لكل فرد أن يقدِّمها. فمجتمعاتنا تُثرى بالابتكار وأنماط التفكير الجديدة والمساهمات الفريدة. بالرغم من ذلك، فإنَّ الترحيب بمثل هذه العروض المقدمة يستلزم انفتاحًا على الإبداع والاختراع والنُّهوج الريادية، لا سيما في البيئات المهنية. علينا ألا نتوقَّف عند تشجيع مثل هذه الريادة، بل علينا أن نقدِّرها ونكافئ عليها.

إنَّ الرواد، سواء من البشر أو النباتات، لا بد أن يتمتعوا بالمرونة وبالقدرة على التحمل. فالنباتات لديها القدرة على التعافي من الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات والحرائق والأعاصير، وكذلك الكوارث التي يتسبَّب فيها الإنسان مثل كارثة الإشعاع في تشرنوبل. بالرغم من ذلك، علينا أن نتساءل حين نحتفي بالتحمل عما إذا كانت بُنى مجتمعاتنا وممارساتها ونسيجها نفسه، يستلزم مزيدًا من التحمل والمثابرة من الأقليات والمجموعات المهمشة مقارنة بالآخرين.12 من الضروري أن نفهم التاريخ البيئي للفرد والكيفية التي قد يؤثِّر بها على أدائه وإمكاناته للنمو والتحوُّل. إنَّ مؤسساتنا لها تاريخٌ طويلٌ من استبعاد الأشخاص المنتمين إلى مجموعات الأقليات والمجموعات المهمشة، مع تعزيز الأنشطة الموجهة إلى المهام بدلًا من تعزيز الأنشطة الموجهة إلى الإبداع. والحفاظ على التحمل والبقاء في ظل هذه الظروف يستلزم الكثير من الطاقة؛ ومن ثمَّ فإنَّ المرشدين والقادة مسئولون عن إزالة هذه الحواجز الهيكلية التي تؤدي إلى مثل هذه المطالب غير المتكافئة. فهذه الحواجز تؤثِّر، على نحوٍ متباين، في قدرة الأفراد على النجاح. وبالرغم من أنَّ التحمل صفة يجدر بنا جميعًا أن نسعى إلى التحلي بها، فلا بد أيضًا أن ننتبه جيدًا إلى إنصاف الأنظمة التي تشملنا، وأن ندقِّق بحرصٍ فيمَن ينبغي عليهم أن يتحلوا بالتحمل والقوة. إنَّ القادة الذين يرغبون في بناء بيئةٍ توفِّر الدعم لنطاقٍ كبيرٍ من الأفراد، سيُدركون بقوة الكيفية التي يتفاعل بها كل فرد مع تلك البيئة، وسيشجعون السلوكيات التحوُّلية التي تعزِّز التغيير حيث يلزم.

سوف نحسن صنعًا خلال تفاعلاتنا مع الآخرين إذا تأملنا في كيفية اعتنائنا بالنباتات. في معظم الأحيان نبدأ بتوقُّع أنَّ النبات لديه القدرة على النمو والازدهار. وحين نلاحظ أنَّ النبات لا ينمو جيدًا، نطرح الأسئلة بشأن صحة البيئة (هل يحصل النبات على ما يكفي من الضوء، أم على قدرٍ مبالغ منه؟) أو بشأن قدراتنا كرعاة (ما الخطأ الذي أفعله؟). فنحن لا نعتقد على الفور أنَّ النبات لديه عيوب.

من المؤسف أننا حين نستجيب لشخصٍ يواجه صعوبةً ما، غالبًا ما نبدأ بطرح الأسئلة بشأن الفرد والسبب في عدم تواؤمه مع هذه البيئة. فمثل هذه الاستجابة تستند إلى افتراض أنَّ العيب يكمن في الشخص لا البيئة، وذلك في تناقضٍ صارخ مع الحقيقة التي نعرفها من النباتات. يمكن للنباتات التي تتطابق في كل شيء عدا البيئة الخارجية أن تحقِّق نتائج شديدة الاختلاف بناءً على هذه البيئة، مثل ما إذا كانت تنمو في الظلام أو الضوء. ولكي نقيِّم قدرة شخصٍ ما على النجاح، يجب أن نقيِّم كلًّا من التأثيرات الإيجابية والسلبية في بيئته. وحينها، سنصبح على وعي أكبر بالتعديلات أو التغييرات اللازمة لمساعدة مَن يواجهون صعوبات.

•••

يمكننا أيضًا أن نستفيد جيدًا من الدروس التي نتعلَّمها من النباتات عند تخطيط التغيرات البيئية الطويلة الأمد، كما يحدث عند التفكير في الأدوار القيادية. ربما نكون بحاجة إلى رواد ليكونوا هم الطليعة في طابور متصاعد من وكلاء التغيير. إنَّ هؤلاء الأفراد الرياديين يوفِّرون المجال ويُحسِّنون الوصول إلى الموارد من أجل الموجات التالية من الرواد الذين يتمتعون بمواطن قوة مختلفة في القيادة. ولكننا في غالب الأحيان نستخدم نهج المقاس الواحد في القيادة بدلًا من أن نفهم أنَّ وجود قادة يتسمون بنقاط قوة محدَّدة أمرٌ لازم في مختلف الأوقات، لا سيما حين يحين وقت التغيير الثقافي. ومن التحديات التي نواجهها أننا غالبًا ما نعطي الأولوية للوجود الطويل المدى على النتائج الطويلة المدى. فقد يكون وجود القادة الرواد في المؤسسات قصير الأجل. ولكن إذا نجحوا في فتح المجالات وترسيخ عمليات جديدة وتحسين الوصول إلى الموارد، فسوف يمهِّد ذلك الطريق إلى ظهور قادة ربما يكونون أقل ابتكارًا بدرجة طفيفة، لكنهم يتولون القيادة فترة أطول. وهؤلاء القادة الطويلو الأمد، والذين يأتون في الموجة التالية من سكان النظام البيئي والموجات التي تليها، يمكنهم حينئذٍ البدء في العمل القيِّم المتمثِّل في وضع نُظُم توفِّر موارد مستقرة ومتجددة لدعم المجتمع.

يُعد هذا النوع من التخطيط الاستباقي للتعاقب مهمًّا للغاية، لا سيما في أوقات الوفرة حين يبدو كل شيء على ما يرام. إنَّ التخطيط يحين مبكرًا ويحدث كثيرًا. وتحقِّق النباتات هذا من خلال تتبُّع مستوى نجاحها على المستوى الفردي والمجتمعي، مع مراقبة ما يلزم من الطاقة لتحقيق الأهداف المهمة، مثل التكاثر. وبهذا، تتَّبع النباتات خطة تسمح لها بالتجدُّد وتخصيص الطاقة على نحوٍ استراتيجي.

يحتاج البشر أيضًا إلى العمل في اللحظة الراهنة والتخطيط مسبقًا للتعاقب. ويستلزم التخطيط الاستراتيجي من القادة أن يؤدوا دورهم القيادي على النحو الملائم في الوقت الراهن، مع توقُّع الاحتياجات المستقبلية والمراحل الانتقالية في القيادة. فينبغي على القادة أن يتصرفوا بسرعة وهمَّة، وذلك بتحديد خلفائهم قبل أن يحين وقت الحاجة إليهم كي يتسنَّى لهم الاستعداد للانتقال. من المؤسف أنَّ القادة غالبًا ما يُعيَّنون أو يُرَقون للحفاظ على الوضع الراهن. وإلى أن نبدأ في تعزيز القيادة المدفوعة بالحس، لن نرى الأفراد أو المجتمعات تبلغ كامل إمكاناتها.

ينبغي على القادة أن يؤدُّوا أدوار «أجهزة الاستشعار» في بيئاتهم، ليكونوا بمثابة مشرفين بيئيين؛ أي ينبغي عليهم أن يكونوا بمثابة البستانيين لا النواطير.13 في هذا النوع من القيادة التقدمية، يوضِّح القادة والمرشدون للآخرين كيفية إيجاد موقعهم البيئي، وكيفية تقييم تأثير البيئة على النمو والسلوك، وكيفية التعامل مع المنافسة والاستجابة لها، وكيفية تخصيص الطاقة إلى المساعي المهمة، وكيفية تحديد تأثير التاريخ البيئي على أعضاء المجتمع. وبدلًا من تدريس مهارات القيادة التكتيكية إلى خلفائهم، يجب على الحكماء من القادة أن يُدرِّسوا فلسفات القيادة ورؤيتها. إنَّ هذا النوع من الرؤية ضروريٌّ من أجل التكيُّف على الظروف المتغيرة، كما أنه يمكن أن يتيح للقادة رؤية أوجه التعاون والمزايا المحتملة في المجتمعات المتنوعة. تتناقض هذه الطريقة مع نهج النواطير التقليدي الذي يحدِّد فيه القادة مَن يتمكَّن من الوصول وفقًا لتصورات وافتراضات بشأن مَن يستطيع العمل والازدهار في سياقٍ محدَّد.14 أما هذا النوع المميز من القيادة، فهو مدفوع بالإحساس وتكيُّفي على المستوى البيئي؛ إذ يراعي الأفرادَ مع مراعاته للأنظمة البيئية التي يوجد فيها هؤلاء الأفراد في الوقت ذاته. إنني أسمي هذا النوع من القيادة بقيادةِ البستنة، وذلك تقديرًا لما نعرفه عن الظروف التي تحتاج إليها النباتات كي تزدهر بنجاح.

•••

لقد تعلمت من النباتات كثيرًا من الدروس على مدار العقود العديدة الماضية. وأنا في غاية الامتنان لذلك. وأتوق أيضًا إلى وقتٍ يعيش فيه الجميع حياةً مدفوعةً بالإحساس. وها هي ذي النباتات توضِّح لنا كيفية فعل ذلك. كلُّ ما علينا فعله أن ننتبه فحسب.

توقَّف برهةً وانظر فيما حولك. لا بد أنَّ ثمة نباتًا ما على مرمى البصر. وبناءً على الوقت من العام أو موقعك في العالم، ربما ترى بذرة تنبت، أو أزهارًا تتفتح، أو أوراق الخريف ذات الألوان الزاهية على خلفية السماء. إنَّ جميع هذه السلوكيات — الإنبات وتفتح الأزهار وتغيُّر الألوان — توضِّح لنا أنَّ النباتات في تناغم مع نفسها ومع بيئاتها؛ إذ تتأقلم وتدعم غيرها من أماكنها الثابتة رغم ديناميكيتها في العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤