الفصل الأول

بيئة متغيرة

أتذكَّر بوضوحٍ شديدٍ واحدةً من أولى التجارب العلمية التي قمتُ بها، وذلك حين كنتُ في مرحلة الروضة. فمن خلال مشاهدة شتلة فول بسيطةٍ وهي تنمو، تعرفتُ على ما تتمتَّع به النباتات من قدرةٍ مذهلةٍ في التكيُّف مع بيئتها، وما زالت تلك القدرة تدهشني حتى الآن بالرغم من مرور عقود. كانت التجربة من تنظيم معلِّمة الروضة، التي طلبت من كلٍّ منا أن يزرع شتلة فول على حافة نافذة في المنزل. كان المطلوب منا أن نضع بعض قطع القطن المبلل أو بعض التراب المبلل في قاع كوب بلاستيكي، ونُضيف إليه بضعًا من حبات الفول، ونراقبها يوميًّا. نظرت إلى حبات الفول ذات يوم، وتوصَّلت إلى اكتشاف مثير. لاحظت أنَّ شقًّا قد ظهر في إحداها، وخرج من هذا الشق جذر صغير للغاية. وفي الأيام التي تلَت، بدأت الساق تظهر من الطرف الآخر لحبة الفول، وبدأت الأوراق الصغيرة تظهر وتنبسط. راح نبات الفول ينشد ضوء الشمس في نافذتنا، واستمر في النمو.

بعد عدة أسابيع، طلبَت المعلِّمة منا جميعًا أن نحضر شتلاتنا للقيام بنشاط العرض والسرد. وقد دهِشتُ حين رأيت أنَّ النباتات ليسَت متطابقةً تمامًا؛ فكان بعضها قصيرًا وممتلئًا، وبعضها الآخر طويلًا وضعيفًا. أوضحَت المعلمة أنَّ هذه الاختلافات تتوقَّف على كمية الضوء التي تتدفَّق إلى نافذة كلٍّ منا. فإذا كانت حافة النافذة ظليلة، فسينمو النبات طويلًا في محاولةٍ للوصول إلى الضوء. كانت تلك هي المرة الأولى التي أتعرَّف فيها على إحدى السمات الجوهرية للنباتات، وهي أنها تتأقلم بصورةٍ رائعةٍ على مجموعةٍ كبيرةٍ من الظروف البيئية، وليس على مستويات الضوء فحسب.

•••

إنَّ النباتات تدرك مستويات الضوء، ومدى توافر المياه ومستويات الرطوبة ومدى وفرة المغذيات في التربة. وتستشعر التغيُّرات في هذه العوامل حين تدرس بيئتها وتقيِّم الاستجابات التي ينبغي عليها إصدارها. ووفقًا للمعلومات التي تجمعها، تتمكَّن النباتات من تغيير سلوكها وهيئتها وخصائصها الفسيولوجية، استجابةً للتغيرات التي تحدث في بيئتها.

يعرف معظمنا أنَّ شتلاتِ الفول، كغيرها من النباتات الخضراء، تستخدم الضوء في صنع الغذاء من خلال عملية البناء الضوئي. غير أنَّ قِلةً منا فقط هي مَن تعرف تلك التفاصيل الرائعة المتعلقة بكيفية استجابتها لتغيُّر ظروف الضوء. إنَّ الضوء يؤثِّر على النباتات منذ بداية دورة حياتها؛ إذ يحفِّز بعض البذور على الإنبات وهي لا تزال تحت الأرض.1 فبينما يتبع الجذر الجاذبية لينمو إلى الأسفل، ينمو البرعم إلى أعلى باتجاه الضوء. وأول ما يظهر من الأوراق، هي الأوراق الجنينية أو الفلقات. تُراكِم هذه الفلقات جزيئات صبغة الكلوروفيل التي «تحتجز» طاقة الضوء. تَظهر أوراق شتلة الفول للعين البشرية باللون الأخضر؛ لأنَّ الكلوروفيل يمتص الضوء الأحمر والأزرق، بينما يسمح بمرور أو انعكاس الجزء الأخضر من الطيف المرئي. ونتيجةً لهذا، ترى مستقبلات الضوء في عيوننا الأطوال الموجية التي لا تستخدمها صبغات البناء الضوئي التي تجمع الضوء.

ومع استمرار الشتلة في النمو والنضج، تمتد أوراقها باتجاه الشمس لجمع الفوتونات، وهي كميات من الطاقة الكهرومغناطيسية. وتحوِّل جزيئات الكلوروفيل الموجودة في الأوراق الطاقةَ الضوئية إلى طاقة كيميائية. بعد ذلك، تُستخدَم هذه الطاقة لتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى كربوهيدرات. ومن خلال عملية البناء الضوئي تلك — المتمثلة في جمع ضوء الشمس لتحفِّز تحوُّل الكربون غير العضوي الذي يأتي في صورة ثاني أكسيد الكربون، إلى كربون مثبتٍ يأتي في صورة سكريات — تتمكَّن النباتات من صُنْع غذائها.

إنَّ أوراق الفول الجديدة ليسَت بمستقبلاتٍ سالبة للضوء فحسب. بل إنها تقوم بتعديلاتٍ بناءً على كمية الضوء التي تستقبلها. فكيف تقيس الضوء إذن؟ اكتشف العلماء أنَّ النباتات تستطيع تحديد عدد الفوتونات التي تمتصُّها كل وحدةٍ من سطح الورقة لكل وحدةٍ من الزمن. ويؤثِّر معدل الفوتونات التي تسقط على سطح الورقة على العديد من العمليات التي يقوم بها النبات لأنه يتحكَّم في معدل تفاعلات البناء الضوئي؛ فالمزيد من الفوتونات يعني المزيد من الإلكترونات المحفزة، ما يعني تفاعلات أسرع.

توجد جزيئات الكلوروفيل الأساسية لحساب كثافة الفوتونات في أنظمةٍ معقَّدةٍ لجمع الضوء تُسمَّى ﺑ «الهوائيات»، تحتجز طاقة الضوء وتنقلها إلى «مراكز التفاعلات»، حيث تحدث التفاعلات الكيميائية. إنَّ كفاءة النباتات في جمع الطاقة وتحويلها واستخدامها، يمكن أن تضاهيَ كفاءةَ أي خليةٍ شمسيةٍ بكل سهولة. غير أنَّ شتلة الفول الموجودة في حديقتك تستطيع القيام بشيءٍ لا تستطيع أيُّ خليةٍ شمسيةٍ في الوقت الحالي القيام به؛ فهي تستطيع تعديل بِنَى جمْع الضوء الخاصة بها استجابةً لإشاراتٍ ديناميكيَّةٍ خارجيَّة، مثل خفوت الضوء في مقابل سطوعه، أو حدوث تغيُّرٍ في هيمنة الألوان المختلفة من الضوء.2

إنَّ التجارب التي أجراها مختبري وغيرُه من المختبرات على النباتات والبكتيريا الزرقاء، وهي نوعٌ من البكتيريا يقوم بعملية البناء الضوئي، تكشف عن قدرةٍ مذهلةٍ على تعديل نظام جمع الضوء ليتكيَّف مع ظروف الضوء المختلفة. فإذا كان الضوء خافتًا جدًّا، يمكن أن تكون مستويات البناء الضوئي منخفضةً للغاية بما لا يسمح بتوفير احتياجات النبات من الطاقة. غير أنَّ التعرُّض لقدرٍ كبيرٍ جدًّا من الضوء قد يكون مضرًّا أيضًا. فعندما يتجاوز الضوء المتوفِّر مستوى القدرة على امتصاص الضوء، يمكن للطاقة الفائضة أن تولِّد نواتج ثانويةً سامَّة. إنَّ ما يرغب النبات في فعله هو زيادة امتصاص الضوء إلى أقصى درجة ممكنة، مع الحد من الضرر في الوقت ذاته. ويحقِّق النبات ذلك من خلال «ضبط» نظام جمع الضوء الخاص به، بما يتلاءم مع ظروف الضوء الخارجية.

تضبط النباتات والبكتيريا التي تقوم بعملية البناء الضوئي هوائياتها بطرق عديدة. فهي تستطيع موالفة البروتينات الخاصة بجمع الضوء الموجودة في الهوائيات مع الأطوال الموجية المتوفرة من الضوء. يمكنها أيضًا تعديل حجم مجمِّعات حصاد الضوء؛ إذ تصبح هذه المجمِّعات أكبر في ظروف الضوء الخافت لزيادة امتصاص الضوء، بينما تُصبح أصغرَ في ظروف الضوء الساطع لتقليل الضرر المحتمل. ويعكس ذلك توازنًا دقيقًا للحصول على ما يكفي من الطاقة الضوئية فقط دون إفراط. ومن خلال التعديلات المعقَّدة التي تُجريها النباتات على نظمِها لجمع الضوء، تحقِّق أقصى إنتاجٍ لها من الطاقة لدَعْم الأنشطة الأساسية.

وفي الوقت نفسه الذي تقوم فيه شتلة حديثة التبرعم بهذه التعديلات داخل خلاياها، فإنها تقوم أيضًا بتعديل ساقها وأوراقها في محاولةٍ لتعظيم امتصاص الضوء إلى أقصى حد. فالاختلاف في ارتفاع شتلات الفول التي أحضرتُها أنا وزملائي في الروضة إلى الصف، كان نتيجةَ تواصل منسَّق بين أنسجة الشتلات وأعضائها بناءً على كمية الضوء المتوفرة. ولموقع الساق أهمية حيوية لأنه يحدِّد موقع الأوراق، والأوراق هي التي تمتص الضوء اللازم لإنتاج الطاقة الكيميائية والسكريات. وحين تشعر الأوراق بأنها في موقعٍ ملائم لاستقبال كمية مناسبة من الضوء، ترسل إلى الساق إشارة كيميائية ﺑ «التوقُّف»، مما يثبط حدوث المزيد من الاستطالة. ما يحدث في هذه الحالة مضاد لما يُعرف بعملية الشحوب الظلامي، وينتج عنه نباتات تتسم بسيقانٍ قصيرةٍ وأوراقٍ جيدة النمو. أما إذا لم تتمكَّن الأوراق من جمْعِ ما يكفي من الطاقة بسبب سوء ظروف الضوء المتوفر، فإنها تُرسل إلى الساق إشارة «الاستمرار» لكي يستطيل بهدف الوصول بالأوراق إلى ضوءٍ أفضل. وفي هذه الحالة يحدث الشحوب الظلامي الذي ينتج شتلات تتسم بسيقانٍ طويلةٍ وأوراقٍ قليلة.3
تُعدُّ هذه الاستجابة المتناسقة بين السيقان والأوراق مثالًا قويًّا على الكيفية التي تتواصل بها أعضاء النبات معًا استجابة للإشارات البيئية المتغيرة. ويتزايد وعي علماء النبات بأنَّ المجسَّات التي تكتشف هذه الإشارات، بما فيها المستقبِلات الحساسة للضوء، تنظِّم هذا النوع من التفاعل.4 على سبيل المثال، أسفرت الاستقصاءات التي أجراها فريقي البحثي عن بعض الرؤى عن أدوار إشارات جينية محدَّدة تُستخدم للتواصل بين الأوراق والسيقان لتنظيم عملية منع الشحوب الظلامي، وكذا أدوار الإشارات الصادرة من البراعم والجذور في تنظيم نمو الجذور القائم على الضوء.5 يستخدم العلماء مصطلح «تكامل النمو» للتعبير عن فكرةِ أنَّ الوظائف المتكاملة لكائنٍ ما تعتمد على التنسيق بين نشاط كل جزء منفرد، وبين نموه ووظائفه.6 وهذا النوع من الاستجابة المتكاملة جوهري لشتلة الفول. فهي لا تستطيع أن تقتلع جذورها بنفسها وتنتقل إلى مكانٍ أفضل للهروب من الجفاف أو الظل؛ لذا تستجيب بدلًا من ذلك لمجموعة كاملة من إشارات التوقُّف والاستمرار، التي تحفِّز تغييرات فسيولوجية وبنيوية لتحسين وضعها. ومثل هذه المرونة في النمو ضرورية للغاية إذا كان للنبات أن يبقى على قيد الحياة في بيئة ديناميكية.
وفي الحالات الأكثر تطرفًا، يمكن لشتلة الفول أن تعيش بعض الوقت دون ضوء على الإطلاق. وقد وجد العلماء الذين لاحظوا نباتات تنمو في الظلام أنها تختلف اختلافًا هائلًا في الشكل والبنية والوظيفة عن تلك التي تنمو في الضوء. ويظل ذلك صحيحًا حتى حين تكون النباتات الموجودة في أنظمة مختلفة من الضوء متطابقة جينيًّا وتنمو في ظروف متطابقة من المياه ودرجة الحرارة ومستوى المغذيات. فالشتلات التي تنمو في الظلام تقلِّل من مقدار الطاقة الذي يذهب إلى الأعضاء التي لا تعمل بكامل قدرتها في الظلام، مثل الفلقات والجذور، وتبدأ بدلًا من ذلك في إطالة ساق الشتلة لتخرج النبات من الظلام.7 وفي حالة وجود ضوء كامل، تقلِّل الشتلات من مقدار الطاقة الذي تخصِّصه لإطالة الساق. فتوجِّه الطاقة إلى زيادة عدد أوراقها ونمو أنظمة جذرية موسَّعة. ويُعد ذلك مثالًا جيدًا على مرونة النمط الظاهري. فالشتلات تتكيَّف مع الظروف البيئية المختلفة من خلال تعديل شكلها، وكذلك العمليات الأيضية والحيوية الكيميائية التي تقوم بها.8
تُظهِر مرونة النمط الظاهري لدى النباتات استجابةً للعديد من الظروف البيئية، لا توافر الضوء فحسب. فيمكن للنباتات أن تستجيب أيضًا لبعض الضغوطات الأخرى مثل الجفاف، أو الاختلافات في درجات الحرارة، أو نقص المساحة والمغذيات.9 وللحفاظ على ناتج ثابت من البذور في مختلف الظروف، على سبيل المثال، يمكن لنبات الفول أن يعدِّل أيًّا من المكوِّنات العديدة لناتج النبات؛ كعدد القرون أو عدد البذور في القرن الواحد أو حجم البذور.10

يُعرف نوع مرونة النمط الظاهري الذي يُسفر عن أساليبَ تكيفيةٍ غير قابلةٍ للانعكاس باسم المرونة في النمو. وهذه التغيُّرات التي تحدث خلال نمو النبات أو تؤثِّر في العمليات الحيوية، غالبًا ما تكون ظاهرة. فيمكننا أن نلاحظ استطالة الجذور أو السيقان، أو توقُّف النبات عن إنتاج الأوراق، أو حدوث الإزهار في وقتٍ مختلفٍ عن المعتاد، أو صِغر حجم البذور.

على العكس من ذلك، تشير المرونة الفسيولوجية أو المرونة الكيميائية الحيوية، إلى الوسائل التكيُّفية القابلة للانعكاس، والتي تحدث بداخل الخلايا.11 ونظرًا لأنها لا تنتج تغيرات تسهل ملاحظتها، مثل انحناء الساق باتجاه الشمس أو تغيُّر لون الأوراق، فمن السهل تجاهل هذا النوع من المرونة. ولكنه على الدرجة نفسها من الأهمية؛ إذ يمكِّن النبات من ضبط مجمع حصد الضوء الخاص به للاستجابة للمستويات المختلفة من الضوء، أو تغيير نسبة إنزيمات البناء الضوئي المختلفة استجابةً لمستويات ثاني أكسيد الكربون لضمان استخدام طاقة الضوء على نحو منتج.12

يكمن السبب الأساسي خلف حاجة نبات الفول إلى تعديل شكله وعملياته الأيضية بما يتلاءم مع البيئة، في ميزانية النبات من الطاقة. فالشتلة تمتلك قدرًا محدَّدًا من الطاقة لا بد من استهلاكه للاستمرار في القيام بالأنشطة اليومية، لكن يمكن تقسيمه بطرقٍ مختلفة. أينبغي تخصيص جزء أكبر من الطاقة لبناء ورقة جديدة، أم لإطالة الساق؟ هل تطيل من الجذور أم تكوِّن براعم الأزهار؟ إنَّ هذه الأسئلة شديدةُ الشبه بتلك التي نطرحها عند وضع ميزانيتنا المالية الشهرية. فبعد سداد الإيجار، أحسبُ ما تبقَّى لديَّ من النقود لشراء الطعام. هل أقدِّم حساء المعكرونة، أم السوشي على الغداء مع الأصدقاء؟ إذا كنت أحتاج إلى شراء شيءٍ باهظ الثمن، كسيارة مثلًا، فقد يكون عليَّ تناول حساء المعكرونة لعدة شهور. وفي نهاية المطاف، إذا لم يكن لديَّ من المال ما يكفي للحصول على الأساسيات، فسيكون عليَّ العملُ لساعاتٍ إضافية، مثلما يحتاج النبات إلى إجراء تعديلات لامتصاص المزيد من الطاقة الضوئية. إنَّ قدرة النبات على تعديل ميزانيته من الطاقة لِتتلاءمَ مع البيئة المتغيرة بالغةُ الأهمية لبقائه.

تمتلك جميع الكائنات الحية ميزانيات محدَّدة من الطاقة، لكنها تديرها بطرقٍ مختلفة.13 فتتكيف الحيوانات من خلال تغيير سلوكها وتنظيم حركاتها. ففي المناخات المعتدلة، على سبيل المثال، تلجأ الدِّببة وغيرها من الحيوانات إلى البيات طوال فصل الشتاء لادخار الطاقة حين يكون الغذاء نادرًا.14 أما النباتات فتتكيف بطريقة مختلفة. فهي تستطيع تغيير شكلها، مثلما رأينا في نبات الفول، أو إجراء تغييرات كيميائية حيوية. ويرى بعض علماء بيولوجيا النبات أنَّ هذَين النمطَين من أنواع السلوك.15 من الاختلافات الأخرى بين النباتات والحيوانات أنَّ النباتات تعدِّل سلوكها وشكلَها استجابةً للبيئة في مراحل مختلفة من النمو.16 فقد تطيل الشتلة ساقها أو تكوِّن أوراقًا جديدة استجابةً لمقدار توافر الضوء، بينما قد يجد نبات بالغ أنه يحتاج إلى تغيير موقع أوراقه. يمكن تعديل موقع الأوراق من خلال تغيير ضغط الماء، أو ما يُعرف بضغط الانتفاخ، داخل الخلايا، أو من خلال جعل أجزاء مختلفة من عنق الورقة — أي ساقها — تنمو وفقًا لمعدلات مختلفة. ففي أيام الصيف الحارقة، على سبيل المثال، يمكن أن يرفع النبات أوراقه عن سطح التربة الذي يصل إلى درجة خطيرة من السخونة.17
ثمة اعتبارات أخرى مؤثِّرة حين يتعلَّق الأمر بشجرة بَلُّوط طويلة. ففي الغطاء الشجري بالأعلى، قد لا تتمكَّن بعض الأوراق من الحصول على ما يكفي من الضوء؛ إذ تظلِّلها أوراقٌ أخرى، أو ربما تستقبل أطوالًا موجية مختلفة من الضوء.18 ومن خلال ثني عنقها أو إطالته، يمكن لتلك الأوراق الانتقال إلى الفراغات المفتوحة؛ حيث تستطيع الحصول على مقدارٍ أكبر من الضوء أو نوعية أفضل من الضوء من حيث الجودة.19
حين نفكِّر في الظروف البيئية، غالبًا ما يردُ على أذهاننا الضوء والمياه والمغذيات وما إلى ذلك. غير أنَّ نباتات الفول وشجيرات الزنبق الموجودة في حديقتك تتبارى أيضًا مع عامل بيئي آخر، وهو الأرانب والغزلان التي تتغذَّى عليها. إنَّ البستانيين وعلماء البستنة على وعي تام بما يسميه علماء الأحياء بالمرونة المستحثة بواسطة الحيوانات، والتي تحدث حين يقضم حيوانٌ ما غصنًا أو ساقًا، وتظهر بعد ذلك أغصان جانبية جديدة. وفي بعض الأحيان نحفِّز النبات على هذه المرونة المستحثة بأنفسنا من خلال التقليم. فنحن نفضِّل الشجيرات ذات الشكل الممتلئ الذي يظهر حين تتفرع غصون جانبية، على الشجيرات الطويلة السقيمة ذات الغصون غير الكثيفة، والتي تنمو على طبيعتها في البرية.20 ولكنَّ ثمة احتمالًا بأن تكون الشجيرات قد طوَّرت هذه الاستجابة لسببٍ محدَّد، وهو أنَّ الشكل الأكثر كثافة يمكن أن يصعِّب على الحيوانات الوصول إلى الأزهار والثمار.

•••

إضافةً إلى المرونة البيو كيميائية والمرونة في النمو، يمكن للنباتات أيضًا أن تستجيب للبيئة من خلال وسائل علمِ ما فوق الجينات، أو التحلُّق المتوالي. لعلك تتذكَّر من المقدمة أنَّ التغيرات ما فوق الجينية هي التغيرات التي تؤثِّر في كيفية تنظيم الحمض النووي، وقد يكون بعضها قابلًا للتوريث. ويُعد التنشيط بالبرودة من العمليات التي تخضع للتنظيمِ ما فوق الجيني. تشير هذه العملية إلى تعزيز الإزهار بعد تعرُّض النبات إلى فترة طويلة من البرودة، ما يؤدي إلى عدم تفتُّح الأزهار حتى ينحسر الشتاء البارد ويبدأ الربيع. لقد اكتشف العلماء أنَّ درجات الحرارة الباردة تعدِّل التعبير الجيني في النباتات التي تتحلَّى بهذه السمة، ويظل هذا التعديل قائمًا شهورًا من خلال عدد كبير من الانقسامات الخلوية. إنَّ النبات قادر بشكلٍ فعَّال على أن «يتذكَّر» مروره بفصل الشتاء، وأنَّ التزهير صار آمنًا. غير أن هذه الذاكرة لا تستمر إلى الجيل التالي.21 وتوجد بعض الأدلة على أنَّ نباتات محدَّدة، مثل بلوط الوادي، يمكن أن تشهد بعض التغيرات ما فوق الجينية استجابةً للتغيُّر المناخي، وتُورث هذه التغيرات إلى الجيل التالي.22

•••

منذ بداية الكتاب وحتى الآن، ناقشنا الأوراق والسيقان والغصون، وجميعها يوجد فوق الأرض. غير أنَّ النباتات تستجيب للظروف البيئية تحت الأرض أيضًا؛ حيث توجد منافسة على الموارد المحدودة.23
إنَّ ظروف التربة أبعدُ ما تكون عن التجانس. فقد يختلف مستوى الحموضة من مكان إلى آخر، ويمكن للأوراق المتحللة أو جثث الحيوانات أن تشكِّل رقعة غنية بالمغذيات.24 يمكن لهذه الرقاع أن تنتج أيضًا بفعل استهلاك النباتات الأخرى أو جراثيم التربة لهذه الموارد، الأمر الذي يترتَّب عليه نضوبها.25 وبعيدًا عن الأنظار، تستطيع جذور النباتات الكشف عن عدم التساوي في توافر الماء، والمعادن، والمغذيات في التربة.
في حالة سوء ظروف التربة، يمكن للنباتات تخصيص قدرٍ أكبر من ميزانية طاقتها إلى نمو الجذور. فتتفرَّع الجذور وتنمو الشعيرات الجذرية، وهي جذور طويلة رفيعة تمتد إلى مناطقَ أبعد في الأسفل وجانبيًّا للبحث عن تربة غنية بالمغذيات وبها قدْرٌ كافٍ من المياه.26 أما في بقاع التربة الغنية بالمغذيات، فتستطيع النباتات زيادة الكتلة الحيوية لجذورها. فتنمو الجذور إلى الجانب وتزيد كثافتها للاستفادة من الظروف الجيدة. وإلى جانب الاستجابة للاختلافات المكانية، تستجيب النباتات للاختلافات الزمانية أيضًا. فيمكن للنباتات أن تزيد من الكتلة الحيوية لجذورها في حالة توفُّر مغذيات أكثر على المدى القصير.27
عادةً ما تكون الهرمونات هي المحفِّز والمعزِّز لهذه التغيُّرات في بنية الجذور ونموها. والهرمون الأساسي المستخدَم في هذه الحالة هو الأكسين، وهو الهرمون نفسه المسئول عن انحناء النبات باتجاه الضوء.28 وينتج عن هذه التعديلات في الجذور عواقب واسعة النطاق يصل تأثيرها إلى الأجزاء الموجودة فوق الأرض أيضًا. فحين تكون المغذيات محدودة، تحوِّل النباتات طاقتها عن إنتاج البراعم الجديدة، وتوجِّهها بدلًا من ذلك إلى نمو الجذور وبروتينات النقل التي تشترك في عملية استهلاك المغذيات.29 أما حين تكون المغذيات وفيرة وتتلقى الجذور كميات جيدة من مركَّب النترات الأساسي، الذي يُستخدم في إنتاج البروتينات وغيرها من المركَّبات الخلوية المهمة، يتغيَّر توازن الهرمونات ويعزِّز تفرُّع المزيد من البراعم.30
في المرة التالية التي تكون فيها في حديقتك أو تكون في تمشية في الغابات، فكِّر للحظة في كلِّ ما يجري تحت الأرض. إنَّ قدرة نبات الفول وشجرة البلوط على التحكُّم في تحفيز الجذور ونموها وكثافتها، ضرورية للغاية لدعم نمو النبات وتكاثره.31

•••

تتمتع النباتات، مثلما رأينا، بقدرة استثنائية على استشعار ظروف بيئتها والاستجابة لها. ويمكن للبشر أن يتعلَّموا من النباتات بعض الدروس المفيدة التي قد تساعدنا على الازدهار أفرادًا ومجتمعات. فمثلما تحدِّد شتلة الفول المقدار المحدَّد الذي تحصل عليه من الضوء، ونوعية المغذيات التي تمتصها جذورها، يجب علينا أن نكون شديدي الوعي بمحيطنا، وعلينا أن نهدف إلى التأمُّل فيما نُدركه وفي أفضل استجابةٍ ممكنةٍ عليه. ألدينا ما يكفي من الغذاء والمأوى؟ هل نحصل من عائلاتنا وأصدقائنا وأماكن عملنا على ما يكفي من الدعم العاطفي والمالي واللوجستي؟ علينا أن نطرح هذه الأسئلة على المدى القصير والطويل أيضًا. فبالرغم من أنه قد يكون لدينا خططٌ طويلة الأمد لدعم احتياجاتنا الأساسية، ربما تتعرَّض خططنا لاضطرابات أو تغييرات مفاجئة تستلزم منا استجابة فورية.

ومن أعظم الدروس التي تعلَّمتها في هذا الصدد، أهمية التأمُّل الذاتي القصدي، وهو المكافئ لاستغراق بعض الوقت لإدراك ظروف بيئتي. ليس غريبًا عليَّ ولا على غيري من البشر أن نكون في حالةٍ مستمرةٍ من الانشغال، وليس لدينا سوى القليل من الوقت للتأمل الذاتي، والقليل من الوقت لتقييم ما إذا كانت تصرفاتنا الحالية لا تزال متسقة على نحوٍ هادف مع بيئتنا الحالية، أم لا. إنَّ أهمية إعطاء الأولوية لوقت التأمُّل كي أدرك ظروفي وأبقى في اتساقٍ مع بيئتي، والموارد والدعم المتاحَين، ومن ثمَّ الاستجابة بناءً على هذا، هو ما صرت أفهمه بعد ذلك بأنه احتياج إلى «المعالجة والاستجابة».32 وهي وظيفة مماثلة للاستجابة البيئية لدى النباتات.

فبناء على ظروفه في وقت محدَّد، قد يقرِّر نبات الفول زيادة طوله أو تمديد جذوره، وذلك بتخصيص قدرٍ أكبر من ميزانية طاقته لهذه البنية أو تلك. وبهذه الطريقة نفسها نحتاج، نحن البشرَ، إلى وضع خطة استراتيجية لتحديد مقدار الطاقة الذي نخصصه إلى نشاط من الأنشطة، مع تحديد الأماكن التي يمكن أن نبحث فيها داخل مجتمعنا عن مواردَ أكبرَ وفقًا للظروف الحالية. ربما ندرك أننا نحتاج إلى مصادرَ إضافيةٍ لدعم أنفسنا وتوفير احتياجاتنا الأساسية، وقد نحتاج في هذه الحالة إلى طلب زيادة في الراتب، أو الانتقال من مسكننا، أو الالتحاق بدورة تدريبية والتخلي عن تناول الطعام خارج المنزل.

إنَّ ضوء الشمس والمغذيات ليست بالظروف الثابتة، وكذلك هي ظروف حياتنا. فحين يطرأ تغيير على وضعٍ ما، من المهم أن نكون مدركين لذلك وأن نستجيب له على النحو الملائم. ولنا في شتلة الفول المتواضعة مثال ممتاز على كيفية التأقلم مرارًا وتكرارًا مع الظروف الخارجية.

«إنَّ الأشجار والنباتات تُبدي الاحترام بعضها لبعض بالتناغم الذي تحيا به.»

ماسارو إيموتو
«الرسائل الخفية في الماء»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤