الفصل الثاني

صديقٌ أم عدوٌّ

ينثر البستانيون البذورَ في الأرض وهم يتخيَّلون باحةً مليئة بالأزهار الملوَّنة أو حصادًا وفيرًا. إننا نرحِّب بانبثاق الشتلات من الأرض في فصل الربيع. ولكننا لا نُلقي في التربة بمجموعة من البذور عشوائيًّا هكذا. فالبستانيون المحنَّكون يفكِّرون مليًّا في نوع الزهور والخضراوات التي يزرعونها، وكيفية تجميعها في مجموعات. أما البستانيون الأكثر ذكاءً، فيختارون أنواعًا «ودودة» تنمو معًا على نحوٍ جيد، لضمان توفير بيئة صحية تعاونية، وغالبًا ما نمنح الشتلات نقطةَ انطلاق بإنباتها من البذور في الداخل. فنعمل بحرص على ضبط مستويات الضوء والرطوبة وجدول الري لرعاية شتلات الزينيا الصغيرة والفول والطماطم. وبعد أن ينتهي خطر الصقيع وننقل الشتلات إلى الخارج، يظل أمامنا المزيد من العمل. فلكي نحصل على حديقة صحية، نبدأ عملية الإزالة الانتقائية في الأسابيع التالية. فبعد تقييم للتوزيع المكاني للنباتات الصغيرة، نضحِّي برويةٍ وحرصٍ ببعض منها لكي تحصل بقية النباتات الأخرى على المساحة الكافية للنمو، ولا تتنافس معًا للحصول على ضوء الشمس والمغذيات. ونزيل الحشائش أيضًا؛ فنقتلع الأنواع غير المرغوب فيها مثل الهِنْدَباء البرية وعشبة الرجيد.

في البيئة الطبيعية، تحدث الإزالة الانتقائية دون يد البستاني؛ فبعض الشتلات لا تنمو، وبعضها تأكله الحيوانات الآكلة للعشب، وبعضها ينمو حتى البلوغ. وربما ترى تجمُّعًا كثيفًا من شتلات البلوط وتتخيَّل صراعًا قاسيًا من أجل البقاء. غير أنَّ ما يحدث أكبر من ذلك بكثير. تخفُّ حدة المنافسة بين الشتلات بفعل تقديرها لمقدارِ ما تنفقه من الطاقة، ومثلما يوجد تنافس يوجد تعاون أيضًا، يتم بطُرقٍ قد تدهشك. فنباتات الزينيا والطماطم والبلوط، تقيِّم باستمرارٍ ما إذا كان ما يجاورها من النباتات والحشرات والفطريات والبكتيريا أصدقاءَ لها أم أعداء، ثم تتخذ القرارات بشأن الطريقة المثلى لتركيز طاقتها للحصول على الموارد المطلوبة.

•••

وكما رأينا، تدرك النباتات ميزانيتها فيما يتعلَّق باستثمار الطاقة. ولهذا السبب تتجنَّب المنافسة أكثرَ من اللازم؛ فهي تتنافس مع جيرانها بمحاولة السعي للحصول على ضوء الشمس أو المغذيات مثلًا، إلى أن تلبِّي احتياجاتها فحسب. وتستخدم عددًا من الآليات المختلفة لتحديد متى ينبغي عليها بدء المنافسة ومتى ينبغي عليها الخروج منها — أي وضع حدٍّ لها — لكي تتفادى استخدام مصادر الطاقة الثمينة دون داعٍ.1 فإذا استمرت في التنافس على الموارد بعد الحصول على ما يكفيها، فستهدر في ذلك طاقةً قد تحتاج إليها في المستقبل. وبدلًا من التنافس، قد تختار النباتات التعاون، مما يتيح لها ادخار الطاقة من خلال تشارك تكاليف الاقتناء.

إنَّ اتخاذ القرار بشأن كيفية التفاعل يستلزم من نباتٍ ما، مثل شجرة البلوط اليافعة، أن يكون مدركًا لما يوجد حوله من الكائنات، سواء أكانت نباتات أم حيوانات أم كائنات دقيقة، وأن يعرف أيضًا ما إذا كان بإمكانه التواصل مع هذه الكائنات المجاورة لتقييم الاحتياجات المشتركة أو التكميلية، وما إذا كانت توجد آليات للعمل على نحوٍ تآزري للحصول على الموارد مع مشاركة التكلفة.

كيف تقيِّم شجرة البلوط الصغيرة ما إذا كان جارُها صديقًا أم عدوًّا، وما يمكنها فعله بشأن ذلك؟ يعتقد علماء النبات أنَّ العديد من الأنواع يستخدم ما يُعرف باسم نموذج الكشف — الحكم — القرار، وهو نموذج كان علماء السلوك الحيواني هم أول مَن وضعوه. ربما يبدو شيء بسيط كزيارة نحلة لإحدى الزهور فعلًا عشوائيًّا بالنسبة إلينا، لكنه يبدأ في واقع الأمر بكشف النحلة عن الزهرة. وبعد الكشف عن الزهرة، تأتي مرحلة الحكم الذي تقوم به النحلة للتمييز بين أنواع الزهور، ثم اتخاذ القرار بالزيارة في نهاية المطاف. وقد وجد العلماء بالفعل أنَّ النحل يتمتَّع بالقدرات الإدراكية التي تُمكِّنه من التمييز بين الإشارات البصرية، ولو كانت متشابهة جدًّا. فبناءً على المكافآت كالرحيق الحلو، مقارنةً بعدم وجود مكافآت على الإطلاق أو وجود عقوبة كارتشاف مادة مُرَّة، يستطيع النحل استخدام الإشارات البصرية للتمييز بين الزهور واتخاذ قرارات بشأن الانتقاء منها.2
تجري هذه العملية على النحو نفسه في النباتات. يستخدم النبات مستقبِلاته للكشف عن المعلومات التي قد تؤدي إلى إنتاج إشارةٍ ما، كإشارة كهربائية أو كالسيوم مؤقت أو تراكم الهرمونات، ثم يعالج النباتُ هذه المعلومات وغالبًا ما يقيِّمها من خلال الهرمونات المكتشَفة ليُصدِر تقديره، ثم يتخذ قراره بعد ذلك، مثل ما إذا كان سيغيِّر نمطه الظاهري من خلال تغيير تعبيره الجيني.3 لِنتناول مثالًا على ذلك، الدراسات التي أجراها العلماء على نبات رشاد أذن الفأر، وهو نبات صغير تنمو أوراقه في وردة صغيرة، تشبه الهِنْدَباء. حين ينمو الكثير من نباتات رشاد أذن الفأر بالقرب من بعضها، قد تُظلِّل بعض الأوراق على أوراق جيرانها. وقد وجد الباحثون أنَّ النباتات تستطيع اكتشاف وجود جيرانها بالقرب منها حين تتلامس أطراف الأوراق. يدرك النبات هذه الإشارة حتى قبل أن يلاحظَ ما يرتبط بتزاحم الأوراق من تغيراتٍ في طيف الضوء.4 وباستخدام هذه المعلومة بشأن جيرانه، يستطيع النبات اتخاذ قراره بشأن كيفية الحصول على مزيد من الضوء.
figure
تستخدم النباتات عمليةً لاتخاذ القرار تستند إلى قدرتها على اكتشاف الإشارات البيئية باستخدام المجسَّات (مثل مجسات الضوء والحرارة والرطوبة)، ومعالجة المعلومات التي تستقبلها وتخزين بعض منها (في صورة التغيرات ما فوق الجينية على سبيل المثال)، وإصدار استجابات تكيفية تتضمن التخطيط وتعديل النمو ودرء الخطر.
يستطيع العديد من النباتات أيضًا أن يكتشف وجود بعضه بعضًا عن طريق المركَّبات العضوية المتطايرة التي يطلقها في الهواء. تُعد هذه المركَّبات مركَّبات أيضية ثانوية لا تُستخدَم مباشرة في النمو أو التطور أو التكاثر، وإن كانت تستطيع تحفيز الهرمونات التي تحكم هذه العمليات أو التفاعل معها. وغالبًا ما يُنظَر إلى هذه المركَّبات باعتبارها شكلًا من أشكال اللغة.5 لقد كان علماء الأحياء يعتقدون فيما مضى أنَّ الحيوانات فقط هي التي تتمتع بقدرة التعرُّف على الذات والتعرُّف على الأقارب؛ أي القدرة على تحديدِ ما إذا كان نسيجٌ ما أو فردٌ آخرُ يتطابق جينيًّا مع الكائن المعني أو وثيق الصلة به. غير أنَّ التجارب أوضحت أنَّ النباتات تتمتع بالقدرة على تمييز الذات، وغير الذات، والأقارب.6 وغالبًا ما يتم هذا التمييز عن طريق المركَّبات العضوية المتطايرة التي تنتجها النباتات، سواء أكان ذلك بصفة روتينية أم استجابة لإشارة بيئية محدَّدة، مثل مضغ خنفساء لإحدى الأوراق. تمثِّل هذه المركَّبات وسيلةَ نقل من نبات لآخر، سواء أكانا من النوع نفسه أم من نوعين مختلفين، وحتى من نباتٍ ما إلى الأفراد في مجموعات أخرى مثل الحشرات والبكتيريا.7
لكي يتخذ النبات القرار بالمنافسة أو القرار بالتعاون، يقوم بعقد موازنة دقيقة بين تكاليف فرصة استثمار موارده في وظيفةٍ ما مقابل استثمارها في الأخرى.8 فمثلما نفعل حين نحدِّد الخيار الأفضل لأنفسنا — هل أبحث عن وظيفة في الوقت الحالي، أم أسعى إلى المزيد من التعليم أولًا؟ — تقرِّر النباتات اتخاذ مسار عملٍ ما حين تكون المنافع المتوقَّعة لهذا المسار أكثرَ من تكلفته. وسوف نرى أنَّ لهذه القدرة على الاستجابة للبيئة على نحوٍ ديناميكي، منافعَ قصيرةَ الأمد وطويلة الأمد أيضًا.

•••

على غرار جميع النباتات، تحتاج شجرة البلوط اليافعة إلى الضوء والمغذيات والرطوبة كي تنمو وتكبر وتتكاثر. غير أنَّ هذه الموارد قد تكون محدودة لا سيما في بيئةٍ مزدحمة. وحين تكون الموارد محدودة، فإنَّ الأفراد الذين يتمكَّنون من الحصول عليها بدرجة أفضل أو استخدامها على نحوٍ أكثرَ كفاءة، ستكون لديهم فرصة أفضل في البقاء، ويحظون بنسل أكبر. من المحتمل أن تكون النباتات قد طوَّرت هذه الاستجابات بسبب التباين المكاني الطبيعي في توافر الموارد في البيئة، أو بسبب استخدام الكائنات الحية الأخرى في حيِّز بيئيٍّ ما، مثل استخدام الكائنات التي تعيش في التربة كالجراثيم للمغذيات.9 إنَّ شجرة البلوط التي تتمتَّع بهذه القدرات، إضافةً إلى الآليات اللازمة لتفادي ضرر المفترِسات، سوف تستمر في تمرير المزيد من الجينات إلى الجيل التالي وستنتشر الاستراتيجية.
حين تكون النباتات في موقفٍ يستدعي المواجهة، فإنها في العادة تختار واحدةً من عدة استجابات: المواجهة والمنافسة، أو التعاون، أو التحمُّل، أو تجنُّب المواجهة بِرمَّتها. وعند الاستجابة للإشارات البيئية، تختار الاستجابة بالطريقة الأكثر اقتصادًا في الميزانية.10

من الأمثلة الكلاسيكية على المواجهة والمنافسة، التنافس على الضوء. فبسبب حاجة النباتات إلى ضوء الشمس، تكون شديدة الحساسية لوجود النباتات المجاورة، التي قد تحجُب عنها الأطوال الموجية الحمراء الغنية الموجودة في ضوء الشمس الكامل والتي تحفِّز عملية البناء الضوئي لأقصى درجة. أما الجيران المظلِّلة، فهي تحدُّ من إمكانيات البناء الضوئي وإنتاج الطاقة الكيميائية.

تستجيب النباتات لهذا السيناريو من خلال الانخراط في منافسةٍ تُعرَف باسم سلوك تجنُّب الظل.11 حين يُحجَب ضوء الشمس عن أوراق شتلة بلوط بسبب جيرانها، يُنشَّط إنتاج الهرمونات المعزِّزة للنمو أو تراكمها.12 تؤدي تلك الهرمونات إلى استطالة الساق (وهو نوع من المرونة في النمو)، وحينها يمكن لشجيرة البلوط المُظلَّلة أن «تفوز» بأن تصبح أطول من جيرانها. قد تنخرط الشتلة في منافسةٍ مع جيرانها على ضوء الشمس من خلال «التسابق» إلى فتحة في الغطاء الشجري أو منطقة أخرى تتعرَّض لضوء الشمس المباشر. بعض الاستراتيجيات الأخرى تتضمن إمالة الأوراق إلى أعلى، وتقليل التفرُّع مع تخصيص موارد أكثر إلى الساق الأساسية، وزيادة نمو الجذور.13 يستطيع الفائز في هذا السباق تجديد مخازن طاقته وزيادتها، والتي يمكنه استخدامها في زيادة كتلته الحيوية والدفاع عن نفسه ضد الخطر، أو التكاثر.14
في الفصل الأول، ذكرتُ إشارات التوقُّف والاستمرار التي تخبِر شتلة الفول متى ينبغي عليها التوقُّف عن الاستطالة، أو البدء فيها، بناءً على كمية الضوء التي تستقبلها. ثمَّة عملية مشابهة تحدث حين تفسِّر شتلة البلوط الإشارات البيئية لتحديد تهديد المنافسين وإصدار استجابة.15 فثمة مجموعة من البروتينات، تُسمى بالمستقبِلات الضوئية، تستطيع اكتشاف الضوء باختلاف أطواله الموجية.16 وهي لا تخبِر شتلة البلوط بمقدار الضوء الذي تستقبله فحسب، بل تخبرها بنوعيته أيضًا. حين تكشف المستقبِلات الضوئية عن نسبةٍ كبيرةٍ من الضوء يقع في منطقة أقصى الأحمر من الطيف، ترسل إلى النبات إشارة بالاستمرار، مما يحثُّ النبات على تغيير موقعه ليصلَ إلى مزيدٍ من الضوء المباشر. إنَّ الضوء الأحمر البعيد، الذي يقع على حد الأطوال الموجية المرئية للبشر، يُشير إلى نوع الضوء السيئ الجودة المعتاد في حالة الظل. أما إذا كشفت المستقبِلات الضوئية عن نسبةٍ كبيرةٍ من الضوء الأحمر المعتاد من ضوء الشمس، فإنها ترسل إلى النبات بإشارة للتوقُّف عن إطالة الساق؛ لأنها في بيئةٍ جيدة للسكنى. ومثل هذه الضوابط والتوازنات الموجودة في نظام التواصل تمكن الشتلة من الاستجابة على نحوٍ ملائم عن طريق تغيير نمطها الظاهري مع الاحتفاظ بالموارد لأنشطة أخرى ستزيد النمو والصمود والتكاثر.
ثمة طريقة أخرى تستخدمها النباتات للمنافسة على الضوء، وهي من خلال النمو الأفقي لا الرأسي. في هذه الاستراتيجية، لا تنمو النباتات إلى أعلى، بل إلى الجانب في الفجوات الأكثر انفتاحًا.17 ويُعدُّ النمو الجانبي للأوراق عمليةً أكثر تعقيدًا مما كان يُعتَقد في بادئ الأمر. فقد توصَّل الباحثون إلى الاكتشاف المذهل بأنَّ بعض النباتات قد تعدِّل من سلوكها التنافسي أو التعاوني بناءً على ما إذا كان جيرانها من الأقارب المقربين أم لا. إنَّ مثل هذا السلوك معروف جيدًا في الحيوانات ويُعتقَد أنه تطوَّر لأنَّ الأقارب يتشاركون في الجينات. فيتشارك طائر القيق الأزرق، على سبيل المثال، نصف جيناته تقريبًا مع إخوته، وبعض هذه الجينات يرتبط بزيادة الفرصة في البقاء؛ لذا فإنَّ الطائر حين يحمي أخاه أو أخته من أحد المفترِسات، فإنه يضمن بذلك أيضًا استمرار جيناته الخاصة المعزِّزة للبقاء.18
والآن اكتشف الباحثون شيئًا مشابهًا يحدث في النباتات. فقد وجدوا أنَّ النباتات يمكن أن تستخدم النمو الجانبي للأوراق في التعاون بدلًا من التنافس. فقد أوضحت الدراسات التي أُجريَت على عشب الجوهرة الصفراء، أنَّ الأفراد قادرةٌ على تمييز أقاربها الشديدة الصلة من خلال جذورها. وتنمو النباتات التي تُزرع بجوار إخوتها على نحوٍ مختلف عن تلك التي تنمو بجوار غرباء. ذلك أنَّ هذه النباتات تتعاون معًا بدلًا من التنافس على الضوء. فالنباتات التي تنمو بجوار قريبٍ لها تتفرَّع بدرجة أكبر وتصبح أكثر كثافة؛ ونتيجةً لهذا تقلِّل من تشابك الأوراق والتظليل على جيرانها من الأقارب.19 وأوضحت بعض التجارب الأخرى التي أُجريت على نبات رشاد أذن الفأر، انخفاض الاستجابة التنافسية في النباتات التي تجمع بينها وبين جيرانها صلة قرابة. ففي هذه الحالة، يمكن للنباتات تمييز أقاربها من خلال إشارات فوق الأرض لا إشارات تحت الأرض، ويتم ذلك عن طريق المستقبِلات الضوئية الكاشفة عن الضوء.20
لوحِظ مثل هذا السلوك في مجموعةٍ مختلفة من الأنواع الأخرى، ومنها الأشجار. في المرة التالية عندما تكون موجودًا في غابة، انظر إلى أعلى باتجاه السماء، أو إذا كنت في طائرة، فانظر إلى أسفل إلى أيكةٍ من الأعلى. ربما تلاحظ وجود فجوات بين قمم الأشجار المتجاورة. تُدعى هذه الظاهرة باسم «خجل القمم» أو «تباعد القمم»، وكان يُعتَقد في بادئ الأمر أنَّ السبب فيها هو التآكل بسبب القرب المادي.21 غير أنَّ دراساتٍ أحدثَ أوضحت أنها قد تكون نتيجةَ استجابةِ تجنُّب الظل الصادرة عن المستقبِلات الضوئية، أو السلوك التعاوني في بعض الحالات. فتباعُد القمم يشيع بين الأشجار التي تربط بينها صلةُ قرابة وثيقة، أكثر مما يشيع بين الأشجار التي لا تجمع بينها صلةُ قرابة وتنتمي إلى أنواع مختلفة.22 يبدو إذن أنَّ النباتات تتنافس للحصول على الضوء مع الأقارب أو مع النباتات القريبة منها، بوتيرة أقل من تلك التي تتنافس بها مع غير الأقارب. إنَّ التباعد الدقيق في الغطاء الشجري استجابةٌ نمائية تعاونية تحدُّ من المنافسة، وتُعَد مثالًا يوضِّح كيف أنَّ استجابات المرونة للمنافسة يمكن أن تؤثِّر في النظام البيئي والديناميكيات على مستوى المجتمع، ويمكن أن تحدِّد في نهاية المطاف، أي الأنواع سيستمر.23
إلى جانب التنافس والتعاون، أحيانًا ما تستجيب النباتات في الظروف التي يكون فيها الضوء محدودًا، بالتحمُّل. في هذه الحالة، لا تتسابق النباتات على الضوء من خلال النمو المعتمِد على الهرمونات، وإعادة توزيع الموارد مثلما تفعل حين تمارس تجنُّب الظل.24 بدلًا من ذلك، تقوم النباتات التي تتحمَّل الظل ببعض الإجراءات التكيُّفية التي تمكِّنها من إنتاج غذاءٍ كافٍ في ظروف الضوء المحدود. ويكون لهذه النباتات أوراقٌ أرقُّ وأكبرُ تحتوي على تركيزات أكبر من صبغات الكلوروفيل لامتصاص مزيد من الضوء الأحمر الذي لا يتوافر بكثرة في ظروف الضوء الخافت.25 وللتعويض عن ذلك، تُنفِق النباتات المتحملة للظل طاقةً أقلَّ في صنْع الصبغات التي تعمل بمثابة واقٍ من الشمس في الظروف المشمسة. ومن ثمَّ فإنَّ كلًّا من النباتات المتجنبة للظل والنباتات المتحملة له، يتبنَّى إجراءات تكيفية تتيح لها تحقيق المستوى الأمثل من امتصاص الضوء وكفاءته؛ فتستفيد النباتات المتجنبة للظل بأقصى ما يمكن من الظروف المشمسة، بينما تستفيد النباتات المتحملة للظل بأقصى ما يمكن من الظروف الظليلة.
بينما تنمو شتلة بلوط أو شتلة من عشب الجوهرة الصفراء، تشعر بالنباتات المجاورة وتقيِّم قربَها وحجمها وقرابتها، من خلال طرق متعددة فوق أرضية وتحت أرضية. وبناءً على ما تجده في بيئتها المحيطة، تتخذ القرار — في صورة جزيئات تُركَّب وتُستخدَم — إما بالانخراط في المنافسة، أو التعاون، أو التجنُّب، أو التحمُّل.26 والقدرة على تحديد التوقيت المناسب للمنافسة ومتى يجب أن تحجم عنها، ضرورية لعملية اتخاذ القرار بشأن طاقة النبات؛ إذ يتيح له استخدام موارده على النحو الأكثر فاعلية.27

•••

ربما يكون تغيير النبات لموقع أوراقه، وإطالة ساقه من أجل الوصول للضوء مرئيًّا للعين البشرية المراقِبة، لكنَّ ثمة معركة مثيرة تدور تحت الأرض أيضًا. فعلى غرار أوراق النباتات، تتنافس الجذور أيضًا على الحيِّز المادي والموارد.

ربما تظن أنَّ الجذور غير مثيرة للاهتمام، لكنها تأتي في مجموعة شديدة التنوُّع من الأحجام والأطوال والأشكال والتوزيعات، شأنها شأن الزهور والأوراق والسيقان. فجذور بعض النباتات تكون سطحية وشديدة التشابك؛ إذ يوجد فيها الكثير من التفرعات والوصلات التقاطعية، وبعضها الآخر طويل وعميق وتوجد بها جذور وتدية تسبُر الأغوار تحت الأرض. بعض خصائص الجذور ثابتة داخل النوع الواحد، بينما يمكن أن يستجيب بعضها للظروف البيئية.

ومثلما تتنافس الأوراق على الضوء فوق الأرض، تتبارى الجذور تحت الأرض أيضًا للحصول على المغذيات المتاحة.28 فعادةً ما تكون المغذيات غير موزَّعة بالتساوي في التربة. ولهذا السبب، فإنَّ النباتات التي تمتلك جذورًا يمكن أن تنمو باتجاه المغذيات، أو تتسم بكفاءة خاصة في الحصول على الموارد أو استخدامها، سيكون لديها ميزة تنافسية. توجد بعض المغذيات في صورةٍ لا تستطيع الجذور امتصاصها بسهولة؛ لذا فإنَّ النبات الناجح في التنافس، هو ذلك الذي يستطيع الحصول على هذه المغذيات. وتتمثَّل إحدى طرق الحصول على المغذيات في تحويلها إلى صورة قابلة للذوبان أو النقل. يفرز الجذر مركَّبات تزيد من قابلية ذوبان المغذيات، أو يقوم بربطها حتى يتمكَّن من امتصاصها (انظر الفصل الثالث للمزيد عن هذا الموضوع).29
ثمة طريقة أخرى يمكن للنبات استخدامها، وهي الاستعانة بكائنات دقيقة «صديقة» لتحويل هذه المغذيات إلى صورةٍ يستطيع امتصاصها. ولكن كيف يطلب النبات من كائن آخر أن يقوم بهذه المهمة؟ يفعل النبات ذلك في بعض الأحيان من خلال إفراز سوائل في التربة المحيطة بالجذر لتغيير مستوى حموضة التربة أو تركيب المغذيات الصغرى الموجودة فيها؛ ومن ثمَّ تجذب البكتيريا أو غيرها من الكائنات الدقيقة القادرة على التعاون لتحويل هذه المغذيات إلى صورة حيوية.30
حين تكون الموارد محدودة، بما في ذلك المغذيات والمياه والمساحة المتوفرة، قد تتنافس جذور النباتات. تستطيع الجذور الكشف عن وجود جذور أخرى أو حواجز مادية في التربة، والاستجابة وفقًا لذلك من خلال تثبيط نمو الجذور الجانبية والشعيرات الجذرية، مما قد يؤدي إلى الإقصاء التنافسي: أي عزل جذور النباتات أو فصلها، بحيث تحدُّ النباتات المجاورة من نموها لتفادي التشابك أو المنافسة.31 وتقل حدة المنافسة بين الجذور حين تكون الموارد وفيرة في التربة.
تعرَّف الباحثون على عملية تنافسية في الجذور شبيهة بما يحدث فوق الأرض، تتمثَّل في تعديل النباتات لاستجابات جذورها وفقًا لما إذا كانت النباتات الجيران المجاورة من الأقارب أو من الأغراب. وفي تجربة أُجريَت على أحد نباتات الكثبان الرملية، وهو نبات صاروخ البحر الذي ينمو في البحيرات العظمى، تبيَّن أنَّ كتلة جذور النباتات التي تنمو بالقرب من إخوتها كانت أقل من كتلة الجذور لدى النباتات التي تنمو بجوار أغراب. فنظرًا لأنَّ هذه النباتات لم تكن تحتاج إلى التنافس مع أقاربها، استطاعت تخصيص موارد أقل إلى جذورها.32

•••

لا تشكِّل النباتات علاقات تعاونية مع النباتات الأخرى فحسب، بل أيضًا مع مجموعات أخرى تتنوَّع بين الفطريات والبكتيريا والحشرات. فهي تطلق مركَّبات في الهواء لجذب الحشرات اللازمة للتلقيح، أو لطرد الحشرات المفترسة. وتحت الأرض، تساعد المواد التي تفرزها الجذور في العمليات التعاونية. فهذه الإفرازات تتيح للنباتات التأثير في نطاقها الجذري؛ أي المنطقة المحيطة بالجذور، وفي الكائنات التي تسكنها. ويمكن لهذه الإفرازات أن تجذب الكائنات الدقيقة التي تساعد النبات في الحصول على المغذيات، كما أنها تؤدي دورًا في تمييز الأقارب. فقد أوضحت التجارب أنَّ إفرازات الجذور تساعد بعض النباتات على تمييز إخوتها من الغرباء.33
تعمل المواد الكيميائية المتطايرة التي تطلقها النباتات في الهواء بمثابة إشارات. فحين تُقضَم ورقةٌ أو ساق بفعل إحدى آكلات العشب، يُطلِق النبات جزيئاتٍ تنتقل إلى بقية أعضائه وإلى النباتات المجاورة أيضًا عبر الهواء. تمثِّل هذه الجزيئات إشارة خطر! يبادر متلقي الإشارة بإصدار استجابة دفاع كيميائية وقائية، أو غير ذلك من سلوكيات الوقاية لدرء الضرر.34 تستخدم النباتات أيضًا الإشاراتِ المتطايرةَ في غير ذلك من التفاعلات بينها وبين النباتات الأخرى. فالنباتات الطفيلية، على سبيل المثال، تستطيع تمييز النبات المضيف من خلال المواد الكيميائية المتطايرة؛ إذ تستخدم على ما يبدو إشارات كيميائية مشابهة لتلك التي تستخدمها آكلات العشب لتحديد موقع النباتات والتمييز بينها.35 ويبدو أنَّ النباتات تنتج هذه الإشارات الجاذبة بصورة أساسية، ربما كمركَّبات أيضية ثانوية أو منتجات أيضية فرعية؛ غير أنَّ نشاط أكل العشب أو التلف هو ما يحفِّز إنتاجَ المواد الكيميائية المحمولة عبر الهواء، التي تُستخدم للتحذير من الخطر.
تدخل المركَّبات المتطايرة أيضًا في آلياتٍ وقائيَّةٍ غير مباشرة. فحين تتعرَّض أوراق نباتات الذرة لهجومٍ من فراشةٍ أو يرقة عث، على سبيل المثال، يُطلِق النبات مادةً كيميائيةً تجذب دبورًا طفيليًّا، يعتبر من المفترسات الطبيعية لليرقة. فتتغذَّى الدبابير التي جذبَتْها المادة الكيميائية على اليرقات وتمنعها من إتلاف نبات الذرة.36

إضافةً إلى التواصل مع النباتات الأخرى والمفترسات والملقِّحات المحتملة، تبني النباتات أيضًا علاقات تعاونية تكافلية مع كائنات أخرى. فالتكافل، وهو عبارة عن تفاعلات بين كائنَين غير متشابهَين تفيد كلًّا منهما، ضروريٌّ للغاية لنمو النباتات وبقائها. والعديد من جذور النباتات يعقد تفاعلات طويلة الأمد مع البكتيريا المثبِّتة للنيتروجين؛ فتحصل النباتات على النيتروجين في صورةٍ يمكنها استخدامها، وتحصل البكتيريا على السكريات من النبات.

ومن العلاقات التكافلية المهمة أيضًا، علاقة الجذريات الفطرية، وهي علاقات ترابطية بين نبات وفطر، يقوم الفطر فيها بتحسين امتصاص النبات للماء وحصوله على النيتروجين والفوسفات، بينما يوفِّر النبات الغذاء للفطر في صورة مركَّبات كربونية.37 تؤدي الجذريات الفطرية دورًا جوهريًّا في بناء المجتمع والتواصل. فالفطر الواحد يمكن أن يصل بين العديد من النباتات تحت الأرض، مما يؤدي إلى شبكات موسَّعة وإقامة مجتمعاتٍ من خلال جذور النباتات. وفي الوقت نفسه، يمكن لكل نباتٍ أن يُقيم مجموعةً فريدةً من العلاقات مع مجموعةٍ كاملةٍ مختلفةٍ من الفطريات. تؤسِّس الفطريات الجذرية شبكاتٍ لمشاركة الموارد من خلال السماح لجميع النباتات التي تتصل بها بمشاركة الكربوهيدرات.38 وتُعد ارتباطات الفطريات الجذرية مهمةً للغاية لبقاء النباتات وازدهارها؛ فقرابة التسعين بالمائة من النباتاتِ الوعائيَّةِ تَحْظى بنوعٍ من ارتباطات الفطريات الجذرية.39 إضافةً إلى ذلك، يمكن للنباتات التي تتصل جذورُها عبر الفطريات الجذرية أن تُرسل إشارات بعضها إلى بعض. فقد أوضحت التجارب التي أُجريَت على نباتات فول تتعرَّض لهجوم آفات المن، أنها أرسلت عبر الفطريات الجذرية إشاراتٍ إلى نباتات الفول الأخرى المتصلة بها، كي تحذِّر هذه الجِيرة المتصلة من وجود آفة المن التي قد تكون مدمِّرة.40
ومثلما هي الحال في جوانبَ أخرى من سلوكيات النبات، يبدو أنَّ الأقارب تحظى بمعاملة نفعية. فقد وجد الباحثون أنَّ نباتات عشبة الرجيد التي تنمو بجوار أقارب لها، تؤسِّس شبكات فطريات جذرية أوسع من تلك الي تؤسِّسها النباتات التي تنمو بجوار أغراب. والحق أنَّ مجتمعات الأقارب لدى النباتات تتسم بالمزيد من التفاعلات بين الفطريات والنباتات، والتي ترتبط بتوفير مزايا للنباتات، بما في ذلك الميزة التغذوية المتمثِّلة في احتواء الأوراق على محتوًى أكبر من النيتروجين.41
تنشئ جذور النباتات شبكاتِ الجذريات الفطرية بسرعةٍ حتى قبل أن يتمكَّن النبات من التوصُّل إلى حلول أطول أمدًا، مثل تشعُّب الجذور أو تنميتها.42 يمكن للنباتات أيضًا أن تقومَ بتعديل هذه الارتباطات للاستجابة للظروف البيئية المتغيرة. فحين تكون مستويات الضوء منخفضةً وتقل كفاءة البناء الضوئي، قد تتضاءل الارتباطات الجذرية الفطرية.43 فالنباتات التي تكون مستودعاتُ طاقتها محدودةً أو قدراتها ضعيفة بما لا يسمح بتجديد الطاقة، لا تستطيع الانخراط في سلوكياتٍ غير ضرورية مثل العلاقات التكافلية. ففي ظروف المحدودية البالغة للموارد، لا بد للنبات أن يُركِّز على الدعم الذاتي، فلا يستطيع الانخراط في مشاركة مركَّبات الكربون مع الفطريات مقابل الحصول على الفوسفور.
غالبًا ما تمتد العلاقات التكافلية التي تتَّسم بتبادل المنفعة، لتشمل أكثرَ من شريكَين فحسب، سواء أكانا نباتَين أم نباتًا وفطرًا. على سبيل المثال، اكتشف باحثون درسوا شجرةَ أكاسيا يقع موطنها الأصلي في المناطق الجافة في أفريقيا والشرق الأوسط؛ وجودَ جذريات فطرية وبكتيرية، وكلاهما يعيش في جذور الشجرة نفسها. ففي ظروف الملوحة العالية المسبِّبة للإجهاد، كانت شتلات الأكاسيا تنمو على نحوٍ أفضل كثيرًا حين طُعِّمت بكلا الكائنَين.44 ثمَّة نظامٌ تكافليٌّ ثلاثيٌّ شبيهٌ يجمع بين بكتيريا التربة والجذريات الفطرية؛ يعزِّز نمو فول المونج وغيره من المحاصيل.45 أحيانًا ما تكون هذه الشبكات التآزرية ظاهرة، لكنها مخفيةٌ عن الأعين في معظم الحالات. والتنوُّع في هذه الشبكات من شأنه دعم النمو المتكامل للنظام بأكمله، والحفاظ عليه، وفاعلية أدائه.

•••

لقد رأينا في هذا الفصل أنَّ العلاقات التي تُكوِّنها النباتات مع غيرها، سواء أكانت نباتات أخرى أم حشرات أم فطريات أم بكتيريا، يُمكن أن تكون تعاونيةً أو تنافسية؛ فربما يكون الجيران أصدقاء، وربما يكونون أعداء. غير أنَّ النباتات تتبنَّى في المواقف التنافسية عددًا من الطرق التي تُتيح لها تجنُّب إنفاق طاقةٍ مفرطةٍ في سلوكيات عدائية. وإذا كان الجيران أقرباءَ لها، فإنها غالبًا ما تكوِّن علاقات نفعية مع هذه النباتات المجاورة. إنَّ اختيار التعاون يمكن أن يجلب نجاحات، ويعزِّز الحياة ويطيلها.

ومن خلال دراسة كيفية تفاعل النباتات مع غيرها، يُمكننا أن ندرك أهمية تأسيس نظامٍ بيئيٍّ قائمٍ على الدعم والتزامُل والمشاركة. إنني أفكِّر في شبكة علاقاتي المهنية وكيف أنها صارت ثريةً للغاية، وليس ذلك من خلال التعامل مع الأشخاص القريبي الصلة بمجال تركيزي الدراسي بصفتي عالمةً في الكيمياء الحيوية فحسب، بل من خلال توسيع دائرتي لتشمل أشخاصًا يتمتَّعون بنقاط قوة في مجالات كنت أطمح إليها، ومنها الإرشاد والقيادة حين بدأت العمل في هذَين المجالَين. وقد اكتشفت أنا والمتعاونون معي في عملنا، أننا حين نحاول تطبيق هذا النموذج على العلاقات البشرية، فإننا نتصدَّى للمفهوم السائد الذي يركِّز على نماذج النجاح الفردي.46 فعلى سبيل المثال، ليس من النادر أن تجد أفرادًا من أصول مهمَّشة أو من الجيل الأول، يُمنعون من دخول الشبكات المحلية للمعرفة في الأوساط التعليمية أو المهنية، وهو ما قد يعوق احتمالية تحقيق النجاح.47 كثيرًا ما نصفُ هذا الوضع بعدم تمكُّن الأشخاص من معرفة القواعد غير الرسمية أو غير المكتوبة التي تنتقل شفاهةً ممَّن يعلمون بها. غير أننا نستطيع تعلُّم الكثير من العلاقات القائمة على الشبكات، التي تشكِّلها النباتات. فهي تقدِّم لنا أمثلةً يمكن أن نُطبِّقها على بناء علاقات تعاون شخصية ومهنية وتعليمية وتعزيزها (مثل الحدائق المجتمعية، وبرامج الإرشاد القائمة على المشاركة، والعمل المهني التعاوني)، وتقدِّم أيضًا دليلًا بارزًا على قوة المجتمعات المتنوعة. إنَّ تنمية العلاقات التكافلية والمجتمعات المترابطة التي تتسم بالدعم والقيم المشتركة أو التبادلية، والتي يكون كلُّ فردٍ من أفرادها منخرطًا في عمليةٍ تبادليةٍ يعطي خلالها شيئًا ما ويحصل على شيءٍ في مقابله، توفِّر فرصًا للنجاح الفردي ولبناء مجتمعٍ إنتاجيٍّ أكبر.

ومثلما تُعلِّمنا النباتات، فإنَّ الاستجابات للبيئة لا تلزم أن تكون فردية؛ بل يكون الأفضل في بعض الأحيان أن تصدر على نحوٍ تعاوني، سواء أكان ذلك في علاقات تتألَّف من اثنين أو ثلاثة، أم كجزء من شبكة واسعة النطاق. فأكثر الشبكات فعاليةً تؤسَّس وتستمر من خلال أنظمة تواصلٍ متينةٍ وتفاعلاتٍ متنوعةٍ مع المتعاونين والمنافسين المحتملين. ربما يستطيع البشر أن يتعلَّموا من النباتات تبنِّي تعريف أوسع للقرابة. إنَّ تعريفاتنا للقرابة لا تتوقَّف في معظم الأحيان عند هؤلاء الأفراد الذين هم إخوتنا جينيًّا؛ بل تمتد فعليًّا لتشمل الأفراد الذين نتشارك معهم خلفيةً ديموغرافيةً متشابهة، سواء أكانت عرقية أم إثنية أم اقتصادية اجتماعية. نحن نتجاوز بالفعل حدود العلاقات الجينية، ولكن ذلك لا يتم إلا على نحوٍ ضيق، حين يصبح هؤلاء الذين نضمِّنهم متساوين مع مَن نستبعدهم في القرابة الجينية بالنسبة إلينا.

ولكي نحسن نتائجنا، يمكننا الاستفادة من تضمين شراكات تتفرع لتتخطَّى انحيازاتِنا الحالية لمَن نضمِّنهم في نطاق قرابتنا بخلاف أقاربنا البيولوجيين. وهذا الجهد يستلزم العمل الشاق الذي يتمثَّل أولًا في إدراك التحيزات؛ ومن ثم مواجهتها. بالرغم من ذلك، إذا نجحنا في هذا الصدد، فإن توسيع شبكة مَن نعتبرهم من أقربائنا ونضمِّنهم فيها يمكن أن يُغيِّر بيئتنا الحالية على نحوٍ درامي، ويغير إمكانية النجاح والازدهار للجميع.

«ما من مخاطرة أدعى للخوف من تلك التي يقوم بها الجذر الأول. فالجذر المحظوظ سيجد الماء في النهاية، لكنَّ مهمته الأولى هي أن يجد مستقرًّا.»

هوب جارين
«فتاة المختبر»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤