الفصل الرابع

التحوُّل

في طريقي إلى العمل كل يوم، أمر بسيارتي على قطعة أرض مهجورة تعود لمصنع. وقد رأيتها تتغيَّر عامًا بعد عام. كانت قاحلةً في البداية، ثم أصبحت مغطاةً بالحشائش، أما الآن فتضمُّ مجتمعًا من النباتات المزهرة والشجيرات والأشجار اليافعة. وكان من المذهل تمامًا لي أن أرى تلك الأرضَ المقفرةَ وهي تتحوَّلُ إلى مجتمعٍ ناجحٍ مختلطٍ من النباتات. لقد كنت شاهدةً على ما قامت به النباتات من تحويل الأرض تدريجيًّا إلى نظامٍ بيئي ثري.

إنَّ هذا التحوُّل التدريجي الذي حدث في هذه الأرض الحضرية؛ شبيهٌ بما يحدث في البرِّية بعد وقوع كارثةٍ مثل ثوران بركاني أو فيضان. فبعد الثوران، تتدفَّق الحمم البركانية على جانب الجبل؛ فتحرق كلَّ ما في طريقها وتُدمِّره، وتغطِّي الأرض بطبقةٍ تتصلَّب حين تبرد. وينتج عن هذا تكوين موطنٍ بيئيٍّ جديدٍ: أرض شبه مجدبة، وخالية في معظمها من أي كائناتٍ حية. كان هذا هو المشهد الذي حلَّ على جبل سانت هيلين عام ١٩٨٠، حين حدث ثوران بركاني أعقبه انزلاقٌ أرضيٌّ بسبب انهيارٍ جزئي للجبل. خلَّف هذا الحدث دمارًا كاملًا وتجريفًا شديدًا للأرض في أعقابه. وفي النهاية، بدأت النباتاتُ في النمو من جديد. كان قد تبقَّى بعض البذور في التربة وتمكَّنَت من الإنبات. وأتى بعضُها الآخر إلى المنطقة؛ إذ حملتها الطيور أو تيارات الرياح. وتجدَّدَت بعض النباتات أيضًا من الجذور أو الغصون التي نجَتْ من الانفجار البركاني.1 بعد اضطرابٍ كهذا، يتحدَّد المعدل الذي تستقر به النباتات بناءً على كمية الرطوبة المتاحة، إضافةً إلى قدرة النباتات المستعمِرة على غَرْس جذورها والعيش على المغذيات المحدودة الموجودة في الرماد البركاني أو الحمم المتصلبة.2

لقد رأينا مدى قدرة النباتات على الازدهار مهما كانت ظروف البيئة التي توجد بها، نظرًا لقدراتها المذهلة على إدراك ما يجري حولها، والتكيُّف، وحتى التغيير من نفسها أو بيئتها لدعم نموها وبقائها على نحوٍ أفضل. وسنركِّز في هذا الفصل على قدرتها على تغيير بيئتها لإتاحة الموارد التي تحتاج إليها بمزيدٍ من السهولة.

•••

ليس الثوران البركاني إلا مثالًا واحدًا على الاضطرابات التي تغيِّر الأنظمة البيئية للنباتات. وثمة مثالٌ آخر على ذلك يتعلَّق بالحرائق. فبعد أن يشتعلَ حريقٌ على الأرض يؤدي إلى الإخلال بالنظام البيئي، قد تُترَك التربة قاحلة في معظمها وعرضة للتآكل، أو ربما تبقى بعض بقايا المادة العضوية أو النباتات.3 تعود النباتات في نهاية المطاف، وأحيانًا تعود بسرعة إلى حدٍّ ما. ثمة الكثير من العوامل التي تحدِّد أيَّ الأنواع يبقى أو يظهر من جديد بعد حريقٍ ما، من بينها شدة الحريق، وتكوين الأنواع التي كانت موجودة قبل الحريق، وتكوين بنك البذور. فإنبات بذور بعض الأنواع، مثل بذور العديد من أنواع أشجار الصنوبر والكافور والسيكويا والحور الرجراج والقضبان، يُحفَّز بالنار أو الدخان.4 وبعض النباتات الأخرى مثل العديد من أنواع الحشائش وبعض أنواع البلوط والكافور، يمكن أن يتجدَّد من الجذور بعد الحرائق.5
تمكَّنت النباتات أيضًا من إعادة ترسيخ نفسها في بيئاتٍ شديدة السمية، مثل تشرنوبل في أوكرانيا، التي شهدت وقوع كارثة الإشعاع النووي عام ١٩٨٦.6 فقد مات العديد من أشجار المخروطيات مثل الصنوبر الاسكتلندي بعد الحادث النووي نظرًا لشدة حساسيتها للإشعاع. غير أنَّ الأرض تجدَّدت بسرعةٍ نسبيًّا؛ إذ نَمَت أشجارٌ نفضية أكثر مقاومة للإشعاع من جديد.7 بالرغم من ذلك، لم تَمُت جميع أشجار المنطقة، وقدَّمت بذلك مادة ثمينة للدراسة. ولكي يتمكَّن العلماء من قياس تأثير كارثة الإشعاع على نمو الأشجار وتعافيها قبل الحادث وبعده، أخذوا عينات من لبِّها. قيَّم العلماء عينات اللب لفحص اتساع الحلقات، والذي يُعد مؤشرًا جيدًا على النمو القطري وكذلك جودة الخشب.8
تتكوَّن حلقات الأشجار من طبقة رقيقة من الخلايا تُسمى بخلايا الكامبيوم الوعائية، التي يتكوَّن منها النسيج الموصِّل للماء الذي يُعرف باسم النسيج الوعائي الخشبي أو الزايلم. يشكِّل نسيج الزايلم ما نسميه بالخشب.9 ويُمثِّل كلُّ حلقة من حلقات الشجرة عامًا من نمو الزايلم، ويمثل اتساعها معدل النمو السنوي النسبي له. ومن خلال مقارنة اتساع حلقات اللب الذي يمتد من الجزء الخارجي للشجرة إلى مركزها، نتوصَّل إلى بعض المعلومات عن الاختلافات في النمو من موسمٍ إلى موسم. ويمكن أيضًا دراسة خواصِّ الخشب، مثل المسامية، من خلال العينات اللبية.10 وقد اكتشف الباحثون الذين فحصوا العينات اللبية لأشجار تشرنوبل أنَّه كلما ارتفع معدل النشاط الإشعاعي الذي تعرضت له، زاد بطء معدل نموها. وقد بلغ هذا البطء أقصاه عقب الكارثة مباشرة، حين كان التعرُّض للإشعاع في أعلى مستوًى له. ظهر في الأشجار التي تعرَّضت للإشعاع أيضًا تأثيرات طويلة المدى على النمو وتركيب الخشب، استمرت حتى عشر سنوات بعد الحادث.11
إضافةً إلى ما أحدَثَه الإشعاع من ضررٍ مباشرٍ على الأشجار، فقد امتد تأثيره ليشمل أجزاءً أخرى من النظام البيئي تؤثِّر على رسوخ الأشجار ونموها وبقائها. فقد أدَّى، على سبيل المثال، إلى فقدان العديد من اللافقاريات والبكتيريا التي تعيش في التربة وتحلِّل نفايات الأوراق وغيرها من البقايا العضوية التي تتجمَّع على أرض الغابة. وتسبَّب هذا الخلل في العمليات الطبيعية لتجديد التربة والحفاظ على صحتها في حدوث تغيُّرات بالغة في النظام البيئي للتربة، وثبَّط نمو العديد من أنواع النباتات.12

ونظرًا لأنَّ النباتات مرنةٌ وتميل إلى التعافي من الكوارث أسرع مما تتعافى الحيوانات، فإنها ضروريةٌ لإعادة إحياء البيئات المتضرِّرة. فلماذا تتمتَّع النباتات بهذه القدرة التفضيلية على التعافي من الكوارث؟ يعود السبب في ذلك إلى حدٍّ كبير إلى قدرتها على توليد أعضاء وأنسجة جديدة على مدار دورة حياتها بأكملها، على عكس الحيوانات. ويعود الفضل في هذه القدرة إلى نشاط الأنسجة المولِّدة (المرستيمية)، وهي مناطق من الأنسجة غير المتمايزة توجد في الجذور والفسائل وتستطيع التمايز إلى أنسجة وأعضاء جديدة، استجابة لإشارات محددة. إذا لم تتلف الأنسجة المولِّدة خلال الكوارث، يمكن للنباتات التعافي وتحويل البيئة المدمَّرة أو القاحلة في نهاية المطاف. يمكنك رؤية هذه الظاهرة على نطاقٍ أصغر عند رؤية شجرةٍ صعقها البرق تُكوِّن غصونًا جديدةً تنمو من الندبة القديمة. وإضافةً إلى تجدُّد النباتات أو تبرعمها من جديد، يمكن للمناطق التي تعرَّضت للضرر أن تتعافى أيضًا من خلال إعادة البذر.

اكتشف العلماء الذين درسوا الغطاء النباتي الذي نما في أرجاء تشرنوبل استجابةً وقائية أخرى ساهمت في تقليل الآثار المدمِّرة الناتجة عن الإشعاع. يسبِّب الإشعاع تحوُّرات جينية ضارة في جميع الكائنات، لكنَّ النباتات التي تعرضت له على مدار سنوات عديدة، طوَّرت أساليبَ تكيفية ساعدت في استقرار جينوماتها.13 ليس ذلك سوى مثال قوي آخر على مدى مرونة النباتات وقدراتها على البقاء في البيئة مع احتمالية تغييرها أيضًا. إنَّ هذه القدرة على الصمود في وجه التحديات البيئية، إلى جانب القدرة على تحويل البيئة من خلال التحمُّل، والنمو والازدهار المستمرَّين، من السمات المهمة التي سيستفيد البشر من تبنيها.

•••

بعد أي بركان أو حريق أو غير ذلك من الكوارث، وبينما تعود النباتات والحيوانات والكائنات الدقيقة إلى بيئةٍ ما، يتغيَّر تكوين النظام البيئي وبنيته بطرق غالبًا ما يمكن التنبؤ بها. فعلى سبيل المثال، يمكن للحشائش أن تمهِّد الطريق للشجيرات، ثم للأشجار. ويستخدم علماء البيئة مصطلح «التعاقب» للإشارة إلى هذه التغيرات الطويلة المدى، وهم يقسِّمونه إلى نوعين مختلفين؛ التعاقب الأساسي والتعاقب الثانوي. يحدث التعاقب الأساسي على أرضٍ أو تكويناتٍ صخريةٍ جديدة؛ حيث لا توجد أيُّ تربة، كتدفقات الحمم المتصلبة أو على الجزر التي انبثقَت حديثًا من البحر. أما التعاقب الثانوي فيشير إلى تأسيس مجتمعٍ أو نظامٍ بيئيٍّ بعد حدوث اضطرابٍ أقل حدة، مثل حريق أو فيضان لم يُزل جميع النباتات والتربة.14
ومثلما قد نتوقَّع، يوجد الكثير من العوامل التي تؤثِّر في أي الأنواع ينبثق أولًا بعد حدوث الاضطراب، وكيفية تغيُّر تكوين الأنواع بمرور الوقت. من هذه العوامل توافر المغذيات والضوء، ويشمل ذلك كمَّ الضوء وخواصَّه الطيفية. ومن خلال إجراء تجارب تتضمَّن إضافة أنواعٍ مختلفةٍ من النباتات وإزالتها، وجد علماء الأحياء أنَّ أنماط التعاقبِ تتأثَّر بشدةٍ بالأنواع التي توجد في منطقةٍ ما، والتفاعلات التي تحدث بينها.15 من العوامل الأخرى التي تؤثِّر في التعاقب، التغيُّر المناخي ووجود الأنواع الاجتياحية؛ أي تلك التي لا تكون جزءًا أصيلًا من نظامٍ بيئيٍّ محدَّد، والتي تسبِّب شكلًا من أشكال الضرر البيئي أو الاقتصادي.16
مع حدوث التعاقب، تتغيَّر بنية المجتمع، وتتغير جوانب أخرى من النظام البيئي أيضًا، مثل خصائص التربة.17 وتؤثِّر قدرات أنواع النباتات المنفردة على التكيُّف على البيئة المحلية عبر عمليات الاستعمار والاستقرار والنمو والبقاء على النمط الكلي للتعاقب تأثيرًا كبيرًا.18
يوجد عددٌ من السمات الأساسية التي تُحدِّد أيًّا من أنواع النباتات سيزدهر عقب الاضطرابات المتكررة مثل الحرائق. تشمل هذه السمات طريقة البقاء في أثناء الاضطراب وآليات الاستقرار والوقت المستغرق للوصول إلى مراحل الحياة الحرجة (التكاثر والشيخوخة). يتعلَّق البقاء بما إذا كان النوع يتمتَّع بسماتٍ تُمكِّنه من العودة بعد الاضطراب؛ فربما تكون لديه بذورٌ تظل صالحة في التربة، أو ربما يتمكَّن من التبرعم من الجذور الناجية. أما طرق الاستقرار فتتعلَّق بالكيفية التي يتمكَّن بها النبات من النمو والازدهار بعد الاضطراب. قد يتمكَّن بعض النباتات من الاستقرار بسرعةٍ بينما يستقر بعضه متأخرًا، على حسب عوامل مثل القدرة على التنافس للحصول على الموارد. ويُعد الوقت الذي تستغرقه النباتات في الوصول إلى مراحل حرجة في الحياة مهمًّا للغاية أيضًا؛ فالوقت اللازم للنضج والتكاثر، على سبيل المثال، يؤثِّر في مدى سرعة نوع من الأنواع في إرساء الهيمنة.19
تختلف أنماط التعاقب بعضها عن بعضٍ اختلافًا كبيرًا، لكنَّ العلماء أشاروا إلى أنها جميعًا تتخذ ثلاثة مسارات محددة، وهي التيسير والتحمُّل والتثبيط. تصف هذه المسارات ما إذا كانَت الأنواع التي تستقرُّ مبكرًا في التعاقب، تُيسِّر استقرار الأنواع المتأخرة، أم تتحمَّله، أم تُثبِّطه. يشيع مسار التيسير بصورةٍ أكبر في التعاقب الأساسي، بينما يحدث مسار التحمُّل غالبًا في التعاقب الثانوي؛ حيث يُحتمل أن تكون التربة والمغذيات متوافرةً بسهولة. أما التثبيط فيحدث حين تقوم الأنواع المستقرة بتثبيط اجتياح الأنواع المنافسة. تستمر هذه الحالة التثبيطية حتى تشيخ الأنواع المستقرة أو تعاني ضررًا بالغًا، مما ينتج عنه في كلتا الحالتَين إتاحةُ موارد للأنواع الأخرى لاستعمار موطنٍ بيئيٍّ.20
بالرغم من أنَّ التنافس بين النباتات يؤدي دورًا مهمًّا في التعاقُب بالتأكيد، فللتفاعلات مع الكائنات الأخرى أدوارها المؤثِّرة أيضًا، ومنها رعي الحيوانات أو غير ذلك من صور الاقتيات على العشب، إضافةً إلى وجود مسبِّبات الأمراض.21 يمكن لآكلات العشب أن تحدَّ من نمو النبات وإنتاج البذور؛ ومن ثمَّ تحدُّ من إمكانية انتشار النبات واستمراره.22 ويمكنها أيضًا أن تؤثِّر في ديناميكيات النيتروجين والخواص الكيميائية للتربة، وتأثيرات التغذية الراجعة ذات الصلة على دورة حياة النباتات واستمرارها وعلى مجتمعات النباتات. فقد تؤدي آكلات العشب إلى تقليل تدوير المغذيات مثل النيتروجين في نظامٍ بيئيٍّ ما، وذلك من خلال تقليل الكتلة الحيوية للنباتات ذات الأنسجة الغنية بالنيتروجين، والتي تفضِّل آكلات العشب الاقتيات عليها.23 وبهذا، من الممكن أن تتسبَّب آكلات العشب في تراجع معدلات التعافي أو تغيير ديناميكيات الأنواع خلال التعاقب.

•••

في التعاقب الأساسي، تُسمَّى أولى النباتات التي تَظهر في بيئةٍ قاحلةٍ بالنباتات الرائدة. تتمكَّن هذه الأنواع من النمو بالرغم من التحديات البيئية الكبيرة. والنباتات الرائدة هي تلك النباتات التي قد تراها منبثقةً من شقٍّ في رصيف المشاة أو ممر للسيارات. يُمكن لهذه النباتات أيضًا أن تنبثقَ من الحمم البركانية المتصلِّبة. فهذه النباتات تتمتع بالقدرة على تتبُّع بقايا الرطوبة في أصغر الشقوق، مما يُتيح لها النمو على حافة جرفٍ أو أسفلت متداعٍ؛ حيث لا يوجد سوى بقايا نادرةٍ من الرطوبة. وبصفتها إحدى الاستراتيجيات في تاريخ الحياة، فإنَّ الفرصة المحدودة — التي قد لا تحدث سوى مرةٍ واحدةٍ في العمر— للحصول على الرطوبة أو ضوء الشمس الضروريِّ للغاية، يمكن أن تتغلَّب على المخاطر الأخرى التي ينطوي عليها النمو في مثل تلك الأماكن.

figure
يبدأ التعاقب الأساسي ببيئةٍ قاحلةٍ مرَّت باضطرابٍ قاسٍ مثل حريق أو فيضان أو ثوران بركاني. تظهر النباتات الرائدة أولًا؛ إذ إنها لا تحتاج إلا لقدرٍ محدود من الموارد، وتستطيع أن تنمو في تربة فقيرة. تحسِّن النباتات الرائدة من خواص التربة، ممَّا يسمح بالتأسيس لموجة ثانية من الأنواع التي تتطلب مستوًى أعلى من الموارد. ومع التحسينات المستمرة والتغييرات التي تحدث في النظام البيئي، تظهر الأشجار في نهاية المطاف، إلى جانب بعض النباتات الأخرى التي تستلزم تربة خصبة ويمكنها أن تنمو في الظل.
عادةً ما تكون متطلبات النباتات الرائدة من الموارد ضئيلة للغاية، كما أنها تجيد الاقتيات على النفايات. فيمكن لهذه الأنواع أن تنمو في أنواع مختلفة من التربة، وتستطيع أن تتعامل مع الانخفاض الشديد في مستوى المغذيات المتاحة. والواقع أنَّ العديد من النباتات الرائدة يستطيع زيادة مستوى المغذيات المتاحة، إما عن طريق إفراز المركَّبات التي تزيد من قابلية ذوبان مغذيات معينة مثل الحديد أو من خلال الانخراط في علاقات مع كائنات أخرى، مثل البكتيريا المثبتة للنيتروجين أو الفطريات التي تكوِّن الفطريات الجذرية.24 ينتج عن النباتات الرائدة العديد من الآثار التي تحسِّن الظروف للنباتات التي ستظهر لاحقًا؛ فهي تغيِّر مستوى حموضة التربة بما يجعلها أكثر ملائمة لنباتات أخرى، كما أنَّ وجودها يزيد من استقرار التربة ويقلل من تأثير الرياح الضارة.25
عندما تنمو النباتات الرائدة، فإنها تغيِّر البيئة بطرق تتيح توافر المزيد من الموارد، بما في ذلك إتاحة الوصول إلى تربة قد تكون كامنة تحت الأرصفة أو الطرق أو الحمم البركانية، أو تفكيك التربة الشديدة التكتُّل. يشكِّل كل فرد مناخًا مصغرًا جديدًا، وهو مناخ محلي قد يختلف عن مناخ النظام البيئي الأكبر. ويمكن لهذه المناخات المصغرة أن تدعم نمو النبات، إضافةً إلى مساهمتها في نجاح الأنواع المتأخرة الظهور، التي تحتاج إلى متطلبات أكثر من تلك التي تحتاج إليها النباتات القوية الاحتمال التي تظهر أولًا.26 تستطيع بعض النباتات الرائدة تكسير الصخور أو الحمم البركانية من خلال القوة الميكانيكية الناتجة عن نمو جذورها وتوسُّعها، أو بأن تفرز جذورها أحماضًا أو غير ذلك من المواد الكيميائية المسبِّبة للتآكل.27
عادةً ما تكون هذه النباتات مبكرة الظهور متكيفة على النمو في التربة الجافة مع التعرض للضوء الساطع.28 وبعد موتها وتحلُّلها، تساهم في تكوين التربة وإثرائها.29 ومن خلال هذه الطريقة وغيرها، عادةً ما تزداد المعادن والمغذيات في التربة بمرور الوقت، لكنَّ هذا التحوُّل يحدث ببطء خلال التعاقب الأساسي. فقد تستمر محدودية الموارد المتوفرة في تقييد نمو المجتمع النباتي وتطوره.30 وتتأثر وتيرة التعاقب أيضًا بخواص الأنواع التي تتبع النباتات الرائدة.
تحتاج النباتاتُ التي تظهر في الموجة الثانية من التعاقُب الأساسي إلى مستوًى أكبرَ بعض الشيء من المغذيات. ومع ذلك، يمكن لهذه النباتات أن تستمرَّ في النمو بصفةٍ عامةٍ في تربٍ لا تعتبر غنيةً بالمغذيات بوجهٍ خاص. وشأنها شأن النباتات الرائدة، غالبًا ما تكون هذه النباتاتُ بارعةً في الحصول على المغذيات النادرة، أو تتعاون مع كائناتٍ أخرى تدعم تحويل الموارد إلى صورٍ أسهلَ في الحصول عليها. ومع التحوُّل الذي تُحدثه هذه الأنشطة التي تقوم بها نباتات الموجة الثانية في البيئة بحيث تحتوي على موارد أكثر وفرة، ورقع من التربة يسهل الوصول إليها، تستطيع موجاتٌ أخرى من النباتات البدء في الازدهار، وهي تلك النباتات التي تتطلَّب وفرةً أكبر من المغذيات وتربة خصبة، أو تلك التي تستطيع النمو في بيئاتٍ ظليلةٍ أو بها قدرٌ محدودٌ من الضوء. إنَّ ما يترتَّب على ذلك من استقرار أنواع النباتات المختلفة ونجاحها، يؤدِّي في نهاية المطاف إلى نظامٍ بيئيٍّ أكثر تنوعًا، وإن كان التنوُّع قد يبلغ أَوْجَه في فترةٍ سابقةٍ من التعاقب؛ إذ تُصبح الأنواع المهيمنة مستقرة، وتستطيع أن تثبط دخول أنواعٍ إضافيةٍ إلى العملية بعد ذلك.31 من بينِ خواصِّ النباتات التي تؤثِّر في ترتيبِ التعاقُب في البيئات التي تعرَّضت للاضطراب، تلك الخواص المتعلقة باستقرار الشتلات، ذلك أنَّ قدرة الشتلة على الإنبات وغَرْس جذورها بنجاح يمكن أن تتنوع بناءً على التاريخ التطوري والظروف البيئية المحلية.32

•••

يُعدُّ الفيضان نوعًا من الاضطرابات يختلف عن الثوران البركاني. فبالرغم من أنَّ الفيضان قد يتسبَّب في حدوث اختلالٍ واسع النطاق للنظام البيئي، فإنه لا يدمِّره تمامًا. إنَّ فيضانًا ضخمًا، كذلك الذي يحدث خلال إعصارٍ ما، غالبًا ما يقتل العديد من النباتات الصغيرة مباشرة، ويرسِّب التربة أو الطمي مما يؤدي إلى دفن نباتات أخرى. عادةً ما تنجو النباتات الأكبر والأشجار، لكنها قد تعاني ضررًا ماديًّا خطيرًا. فبعد اختلال نظام بيئيٍّ ما بسبب فيضان أو رياح أو حريق أو غير ذلك من الاضطرابات التي تؤدي إلى حدوث ضرر بالغ، يحدث التعاقب الثانوي. ومن ثمَّ تستعمر المنطقة التي لم تُجرَّد تمامًا من جميع النباتات وغيرها من الكائنات الحية، وتُسكَن من جديد.

غالبًا ما تتمتَّع النباتاتُ الرائدةُ في التعاقب الثانوي بصفاتٍ مختلفةٍ بعض الشيء عن تلك التي تزدهر في التعاقب الأساسي؛ بسبب توافر المزيد من المغذيات وسهولة الوصول إلى التربة بدرجةٍ أكبر. ومن ثمَّ؛ فعادةً ما يكون التنافس خلال التعاقب الثانوي أقلَّ منه في التعاقب الأساسي.33 فمن مبادئ علم البيئة أنَّه لا يمكن لنوعَين أن يشغلا الموقعَ البيئيَّ نفسَه (أي لا يمكن لنوعَين أن يقوما بالدور البيئي نفسه) في الموقع نفسه؛ إذ إنَّ أحدهما سيتغلَّب في المنافسة على الآخر. تحدث العملية التي يحلُّ فيها أحد الأنواع محلَّ نوعٍ آخر في أثناء التعاقُب بمعدلاتٍ مختلفة، وتؤثِّر في التنوُّع النهائيُّ للأنواع في مجتمعٍ ما.
يمكن قياس تنوُّع الأنواع بعدة طرقٍ مختلفة. كثيرًا ما يُشير علماء البيئة إلى تنوُّع ألفا، الذي يُعرَّف بأنه عدد الأنواع الموجودة في منطقةٍ محلية، وإلى تنوُّع بيتا الذي يشير إلى التباين في تكوين الأنواع بين مناطق متعددةٍ بإقليمٍ ما.34 يتأثَّر التنوُّع في منطقةٍ محليةٍ بالعديد من العوامل، من بينها مدى قدرة انتقال الأنواع المختلفة بين المناطق بسهولةٍ.35 عادةً ما يزيد تنوُّع ألفا خلال فترة التعاقب، غير أنَّ الاستقرار البيئي قد يتحقَّق بمرور الوقت في بعض الأنظمة البيئية، ويمكن للتنوُّع أن يقل حينذاك.36
لقد تحدثنا حتى الآن عن عملياتٍ تحدث في البيئات الطبيعية. أما في المناطق الحضرية والأراضي الأخرى التي غيَّرها الإنسان، فيتَّبع التنوُّع نمطًا مختلفًا. فالتدخل البشري عاملٌ مهمٌّ في تغيير التنوُّع المحلي والتأثير في ديموغرافية النباتات. فنجد، على سبيل المثال، أنَّ الأراضيَ الفارغةَ التي لا تشهد سوى قدرٍ ضئيلٍ من التدخُّل البشري، تحتوي على عددٍ كبيرٍ من أنواع النباتات المختلفة، لكنَّ النباتات نفسها عمومًا توجد في كل قطعة أرض (أي أنَّ هذا يُمثِّل مستوًى كبيرًا من تنوُّع ألفا، ومستوًى منخفضًا من تنوُّع بيتا)؛ في المقابل، تحتوي الحدائق الموجودة في المناطق السكنية على عددٍ أقلَّ من الأنواع في كل حديقة، لكن هذه الأنواع تختلف من حديقةٍ إلى أخرى (مما يُمثِّل مستوًى منخفضًا من تنوُّع ألفا ومستوًى مرتفعًا من تنوُّع بيتا.)37

•••

تؤدي الجذور دورًا مهمًّا في التعاقب بسبب تأثيرها في استقرار النباتات وعلى خواصها التحويلية. فتحت الأرض، أسفل أقدامنا تمامًا، تتمتَّع الجذور بقدر من التحكم في خواص التربة؛ ومن ثمَّ تتحكم في خواص الأنظمة البيئية بأكملها. وتتحدَّد صحة النبات إلى حد كبير وفقًا لنشاط جذوره وأدائها لوظائفها. يمكننا الحكم على صحة النبات من خلال قدرته على تكوين الأزهار والثمار، لكنَّ الجذور هي التي توفِّر المغذيات اللازمة للتكاثر. فالنباتات تحصل على المغذيات من التربة، وحين تصبح المغذيات نادرة، كما رأينا في الفصل الثالث، تحصل النباتات عليها من خلال تغيير هيئة الجذور، ومن ذلك شكلها وطولها وتفرُّعها، أو من خلال إفراز مركَّبات تزيد من قابلية المغذيات للذوبان. ويمكن لهذه الإجراءات أن تغيِّر جودة التربة وتعزِّز التفاعلات التعاونية مع البكتيريا والفطريات.

تُعد الأجزاء المتعلقة بالجذور من بين الأجزاء الأكثر ديناميكية في الأنظمة البيئية الأرضية، ومن ذلك طبقة التربة التي تلتصق بشعيرات الجذور؛ أي الغمد الجذري، والتربة التي تحيط بالجذور؛ أي النطاق الجذري.38 والأنشطة المرتبطة بهذه العناصر من التربة هي التي تسيِّر العديد من جوانب استقرار النبات واستمراره وقدرته التحويلية. فالتركيب المادي للجذور وكذا المركَّبات التي تنتجها، تؤثِّر في إنتاج الغمد الجذري، وخواص النطاق الجذري ووظائفه. وسواء أكانت التربة متراصةً أم مفكَّكة، فقيرة بالمغذيات أم غنية بها، فإنَّ ذلك يؤثِّر مباشرة في استقرار البذور وطول عمر النبات.39 تغيِّر استجابات الجذور هذه من خصائص التربة مباشرةً، ويمكنها بالتبعية أن تؤثِّر على التركيب الفسيولوجي لجميع الكائنات المستوطنة للتربة وطبيعتها البيئية. وهذا السلوك تحويليٌّ بالفعل.
يمكن لخصائص الجذور المتعلقة بالمرونة؛ أي قدرتها على التغيُّر استجابةً للظروف البيئية، أن تكون إما بيوكيميائية، مثلما هو الحال في إنتاج المواد التي تفرزها، وإما فيزيائية، تتضمن إجراء تغيرات بنيوية. إنَّ جذور النباتات تطلق المذيبات والكربون ويمكن أن تظهر اختلافات بنيوية استجابة لإشارات من البيئة، مما يؤدي إلى حدوث تغيرات في النظام البيئي للتربة. فيمكن لبنية الجذور، على سبيل المثال، أن تؤثِّر في ديناميكيات الماء في التربة.40 فالتغيرات في بنية الجذور وكتلتها الحيوية تُحدِث تعديلًا في مسامية التربة؛ وذلك بتغيير تراصِّها على الأرجح، والذي يمكن بدوره أن يغيِّر من كيفية امتصاص الماء وتدفُّقه خلال التربة؛ مما يؤثِّر في نهاية المطاف على استجابات النبات مثل امتصاص الماء. يمكن التحكُّم في بعض هذه الاستجابات زمنيًّا، ومنها إفرازات الجذور، مما يُمكِّن النبات من التكيُّف بطرقٍ سريعةٍ وقابلةٍ للارتداد في الوقت ذاته.41 أما الاستجابات الأخرى، مثل التغيرات في بنية الجذور، فهي طويلة المدى وتنتج عنها تغيرات ثابتة في التربة وفي النظام البيئي بأكمله.
إنَّ قدرًا كبيرًا من ديناميكية النظام البيئي فيما يتعلَّق بوظائف الجذور، يرجع إلى إنتاج المواد التي تفرزها جذور النبات وتطلقها، إضافةً إلى الجراثيم المرتبطة بها.42 فيمكن لإفرازات الجذور أن تُغيِّر من قابلية المعادن والمغذيات في التربة للذوبان — أي الخواص الكيميائية للتربة — ويمكن حتى أن تزيل سُمية المواد الضارة مثل الألومنيوم.43 من المواد التي تفرزها الجذور ولها تأثير بارز على النطاق الجذري، الصمغُ النباتيُّ، وهو محلولٌ ذو طبيعةٍ هلاميةٍ يحتوي على السكريات والجليكول والشحوم الفوسفورية.44 من المحتمل أن يُساهِم الصمغ النباتي في تحمُّل بعض النباتات للجفاف. ذلك أنه يستطيع أن يزيد من قدرة الجذور على نقل الماء إلى النسيج الوعائي الخشبي، أو تغييرها بدرجةٍ كبيرة، ويُساهم أيضًا في تحسين قدرة النطاق الجذري على الاحتفاظ بالماء، إضافةً إلى تحسين امتصاص الماء مقارنةً بالتربة المحيطة التي تفتقر إلى الصمغ النباتي.45
تقوم النباتات أيضًا بتصنيع المركَّبات الدهنية وإفرازها، والتي يمكن أن تكون بمثابة عوامل للتنشيط السطحي (عوامل ترطيب أو تشتيت). تزيد هذه المركَّبات من قابلية الموارد للامتصاص بواسطة الجذور واستخدامها من قِبل النبات. فقد وجد أن عوامل التنشيط السطحي تزيد من قابلية المركَّبات النيتروجينية والفوسفورية للذوبان.46 كذلك يؤثِّر التغير في خواص التربة، بما في ذلك زيادة توفُّر الموارد، في التركيب الفسيولوجي للجراثيم والعمليات التي تقوم بها، مما يُغيِّر كذلك من الخواص البيو كيميائية والبيو فيزيائية للتربة، التي تدعم نمو النبات.
يُعد إنتاج الصمغ النباتي وعوامل التنشيط السطحي ووظائفها من الأمثلة القوية على الكيفية التي يمكن بها للمنتجات التي تفرزها النباتات أن تُغيِّر من المواطن البيئية في التربة. غير أنَّ النباتات ليسَت هي الكائنات الوحيدة التي تؤثِّر في تركيب مجتمعات النباتات، لا سيما تحت الأرض. فالفطريات تُنتج مركَّباتٍ مشابهةً تُسمَّى بمركَّبات الستيرول (وهي قريبة من الكوليسترول)، الطاردة للماء والتي تمنع الخيوط الفطرية من الجفاف؛ فتزيد من معدل الاحتفاظ بالماء في النطاق الجذري.47 تطلق هذه الكائنات أيضًا البروتينات السكرية الكارهة للماء، التي تغطي تجمعات التربة؛ مما يُحسِّن من قدرة التربة على امتصاص الماء.48 إنَّ مركَّبات الستيرول والبروتينات السكرية وغيرها من المنتجات الفطرية؛ تؤثِّر في الخواص البيو كيميائية الحيوية والبيو فيزيائية للتربة بالطريقة نفسها التي يؤثِّر بها الصمغ النباتي الذي تُنتجه الجذور.
لتكوين التربة والجراثيم التي تعيش فيها تأثيراتٌ بارزةٌ على التعاقُب البيئي والتحوُّل البيئي أيضًا.49 إنَّ هذه الأجزاء من الأنظمة البيئية، والتي لا يُرى معظمها، والتفاعلات الكثيرة المتنوعة التي تحدث بينها، تتغيَّر بمرور الوقت، وتترك تأثيراتٍ متماثلةً طويلة المدى على تكوين أنواع النباتات في مجتمعٍ ما، وعلى تطوُّر النظام البيئي أيضًا.50 كذلك يتغيَّر تكوين الفطريات في التربة مع استمرار التعاقب، كما تتغيَّر طبيعة الفطريات الجذرية ووظيفتها، مما يؤثِّر بدوره في تكوين مجتمع النباتات.51
إنَّ التفاعلات المعقدة التي تحدث بين الجذريات الفطرية وبين النباتات والتربة، وإن كانَت مخفيةً عن الأنظار، تسيِّر جوانب بالغة الأهمية من التعاقب وتغير الأنظمة البيئية.52 لعلك تتذكَّر أنَّ الجذرياتِ الفطريةَ هي علاقات تكافلية بين الفطريات وجذور النباتات تزيد من امتصاص الماء والمغذيات. ويؤثِّر نوع الجذريات الفطرية ووجودها، إلى جانب خصوبة التربة، في تحديد أيِّ النباتات سينمو في منطقة بعينها؛ لأنَّ تأثيرات الجذريات الفطرية على نمو النباتات يتوقَّف على جودة التربة بالنسبة لأنواعٍ معينة. فبعض النباتات لا ينمو على نحوٍ أفضل عند تكوين علاقةٍ مع الفطريات إلا حين تكون التربة سيئة، أما حين تكون في تربة خصبة، فلا يبدو أنها تستفيد كثيرًا من ارتباطات الجذريات الفطرية.53
تؤثِّر أنواع الفطريات الجذرية أيضًا على القدرات التنافسية للنباتات، ربما يكون ذلك من خلال المساهمة في امتصاص المغذيات والمعادن واستخدامها. فقد أوضح العلماء أنَّ الظروف البيئية التي تحدُّ من قدرة النبات على الحفاظ على مستوياتٍ مرتفعةٍ من البناء الضوئي، مثل التربة السيئة أو الظل، يمكن أن تحدَّ أيضًا من قدرته على تكوين الجذريات الفطرية.54 وستُعاني هذه النباتات عيبًا تنافسيًّا مقارنةً بتلك النباتات التي كوَّنت جذريات فطرية أكثر تطورًا، مما قد يؤثِّر في تكوين مجتمع النباتات وديناميكياته بمرور الوقت. ويمكن لتكوين أنواع النباتات بدوره أن يؤثِّر في مجتمعات الجذريات الفطرية في التربة.55 ومع حدوث تغيراتٍ في مجتمع الفطريات، قد يتغير نطاق النباتات الذي يمكن للتربة أن تدعمه أيضًا. إذن، فمن الممكن لهذه التغيرات أن تنتج أنواعًا من التربة يمكن ألَّا تدعم سوى نباتاتٍ محددةٍ تتسم فطرياتها الجذرية بشروطٍ معينةٍ تلائم الفطريات الموجودة في التربة.56 بعبارةٍ أخرى، يمكن لتأثير النباتات على بنية مجتمع الجذريات الفطرية وديناميكياته، أن يؤثِّر في تعاقب النباتات؛ ومن ثمَّ في تكوين مجتمعات النباتات الحالية والمستقبلية.

•••

ثمة مثالٌ آخر على السلوك التعاوني بين النباتات مع احتمالية تغيير البيئة، وهو ظاهرة تسمَّى السرب. يُعَد السرب من السلوكيات الاجتماعية التي تقوم على تفاعلٍ مشتركٍ بين أفرادٍ مختلفين، ويمكن أن يعمل بمثابة استراتيجية عارضة تتيح تشكيل أنماطٍ معقدة من خلال تفاعلات صغيرة.57 تحدث هذه الظاهرة حين يتحرك عددٌ من الأفراد معًا في الاتجاه العام نفسه، سواء أكان ذلك بطريقة إيجابية أم سلبية؛ فالأسراب الإيجابية تُولَد ذاتيًّا، ولا تتشكَّل بفعل قوًى خارجية.58 كلنا يعرف بعض الأمثلة اليومية لسلوك السرب، مثل أسراب الطيور وأسراب الأسماك، وأسراب الحشرات بالطبع. يشيع سلوك السرب في البكتيريا أيضًا. فقد اتضح أنَّ أسرابًا من البكتيريا تتحرَّك باتجاه تجمُّعاتٍ ثريةٍ بالمغذيات والمنافسة المحدودة على الموارد.59 تصف آدريَن ماري براون هذا السلوك على نحوٍ بليغٍ بقولها: «ثمة فنٌّ في تكوين الأسراب يتمثَّل في بقاء كل فردٍ منفصلًا عن غيره بما يكفي لعدم التزاحُم، مع بقاء الجميع مصطفِّين بما يكفي للحفاظ على اتجاهٍ مشترك، مع الحفاظ على الالتصاق بالدرجة الكافية لكي يتحرَّك الجميع باتجاه بعضهم بعضًا. (الاستجابة للقدر معًا.)»60 لا شك أنَّ هذا يطرح أمام البشر دروسًا واضحةً في أهمية إيجاد أفرادٍ يمكن للمرء أن يسعى معهم نحو تحقيق أهدافِه الشخصية، بالتعاون مع هؤلاء الذين يتحرَّكون في اتجاهٍ مشتركٍ ويسعَوْن نحو غايةٍ تتلاءم مع غايته.
لم يتوقَّع أحدٌ أن يوجد سلوك تكوين الأسراب في النباتات؛ إذ إنها لا تستطيع التحرك. غير أنَّ بعض أجزاء النباتات تتحرك بالفعل، وفي عام ٢٠١٢، أعلنت مجموعة من العلماء أنهم اكتشفوا أنَّ جذور النباتات النامية تنخرط في سلوك تكوين الأسراب النشط. وجد هؤلاء العلماء أنَّ جذور شتلات الذرة المتجاورة كانت جميعًا تنزع إلى النمو في الاتجاه نفسه، بالرغم من وجودها في وسط متجانس.61 ربما يكون الغرض من مثل هذا السلوك هو «تحقيق الاستفادة القصوى من التفاعل مع بيئتها».62 فمن المميزات المحتملة لتكوين الجذور للأسراب أنَّ مجموعةً من الجذور المتعاونة يمكن أن تطلق مركَّبات مثل حاملات الحديد لتحسين قابلية المغذيات للذوبان في التربة موضعيًّا.63 وتؤدي سلوكيات تكوين أسراب مثل هذه إلى التنظيم المكاني للطبيعة الكيميائية للتربة وتعزيز نمو النبات وقدرته على التحمُّل. وكما هي الحال في أسراب الطيور، يُعد تكوين الجذور للأسراب استراتيجية عارضة لمصير مشترك، لكنها تُساهم في تغيير البيئة حين تعمل الجذور معًا لإذابة المغذيات أو الانخراط في علاقات تكافلية مع كائناتٍ أخرى مثل البكتيريا أو الفطريات.64

•••

«أزهِر حيث تُزرع.» غالبًا ما تُستخدم هذه العبارة لتشجيع الأشخاص على أن يحيوا ويزدهروا في أي مكان يجدون فيه أنفسهم. وتكمن فكرة هذه العبارة في أنه ينبغي علينا أن نحاكي سلوك النباتات، التي يفترض الكثيرون أنها تستغل المكان الذي يزرعها فيه البستاني على النحو الأمثل. غير أنَّ هذا التشبيه مضلل في واقع الأمر. فمثلما رأينا في هذا الفصل، لا تؤدي النباتات وظائفها في نطاق بيئتها فحسب، بل تشارك فيها على نحوٍ فعَّال وتغيرها. فالنباتات تصدر استجابات مرنة متعلقة بالنمط الظاهري لتحسين نموها، وتتسم بنوعٍ من الوعي يمتد خارج حدود ذواتها، ويعكس معرفةً بالبيئة الخارجية، وهو ما يُسمى في بعض الأحيان «الإدراك الممتد».65 يمكن لهذا الإدراك أن يؤديَ إلى سلوكيات وتكيفات من شأنها أن تغيِّر البيئة، مما يحسِّن الظروف للفرد نفسه، وغيره من الكائنات التي تسكن البيئة أيضًا. في عملية التعاقب، تؤثِّر النباتات المبكرة الظهور في النظام البيئي بطرق تحدِّد الأنواع التي ستتمكَّن من النمو والازدهار في المرحلة التالية.

إنَّ تعزيز التغيير في البيئات البشرية يتطلَّب مهاراتٍ مشابهةً لتلك التي تظهرها النباتات خلال التعاقُب البيئي. ففي المؤسسات أو الأنظمة البيئية البشرية، يكون أوائل قادة التغيير الثقافي بمثابة الرُّواد. والواقع أنَّ تحديدَ ودعْمَ الأفراد الذين يمتلكون السمات اللازمة لتعزيز التغير نحو تشكيل نظام بيئي جديد وتطويره على نحوٍ تعاونيٍّ ومتتابع، أمرٌ ضروري. فالقادة الذين يتميَّزون بأنهم مستكشفون فاعلون، كالنباتات الرائدة، قادرون على الازدهار مع توجيه التغيير في ظل وجود موارد محدودة أو متنوعة. يستطيع هؤلاء القادة أيضًا إدراك أنه حتى حين تبدو البيئة مستقرة، فإنَّ جهود الرواد يمكن أن تشكِّل اتجاهاتٍ وابتكاراتٍ جديدة.

في أنماط التعاقب البشري، غالبًا ما تركِّز المنظمات على ديناميكيات المجموعة بدلًا من إدراك ما يمكن أن يكون للأفراد من تأثيرٍ في تنفيذ التغيُّر الثقافي المنشود وتقبُّله، لا سيما حين يكون هؤلاء الأفراد من عوامل التغيير الفاعلة. إنَّ تحقيق التغيُّر يستلزم قادةً وروادًا قادرين على التغلُّب على العقبات، مثلما قد تحتاج النباتات الرائدة في التعاقب الأساسي إلى الانبثاق من بين الحواجز أو غَرْس جذورها في أماكن صعبة. في كثيرٍ من الأحيان، يمكن لهؤلاء الروَّاد إحداثُ التغيير لدعم الأفكار والنمو والابتكار، وذلك بأقل الموارد أو أصغر الشبكات. ومن ثم تؤدي جهود هؤلاء الأفراد إلى مزيدٍ من التغيرات في النظام البيئي تدعم الموجة التالية من الأفراد، والتي تلزم لدفع التغير الثقافي والتحوُّل المؤسسي وتعزيزهما.

غالبًا ما تستلزم الأهداف التحويلية للرواد فترة أولية من الاختلال. فكما أنَّ بعض الحرائق لازمة لإدارة أنظمة بيئية محددة، قد تكون الاضطرابات المتعمدة لازمة في الأنظمة البيئية البشرية لتعطيل أنماطٍ مترسخةٍ أو الوضع الراهن، سواء في التفكير أو السلوك، وللتحرُّك الهادف نحو النتائج المقصودة من التغيير66 وبالرغم من أنَّ الاضطراب المتعمد غالبًا ما يكون ضروريًّا، فلا ينبغي أن نغفلَ حقيقة أنَّ فرص الاضطراب النافع يمكن أن تنشأ عن نوايا سيئة. ففي عام ٢٠١٦ على سبيل المثال، أدَّى انتخاب رئيس أمريكي كان يراه الكثير من الأمريكيين معاديًا للمرأة ومعاديًا للعلم، إلى حركة احتجاجٍ قومية، ومنها «مسيرة المرأة» و«مسيرة العلم» في عام ٢٠١٧.

يمكن للاضطرابات التي تحدث في البيئة أن تؤدي إلى تغيير تكوين الأفراد القادرين على البقاء والازدهار والصمود فيها. غير أننا ننزع إلى تجاهل الحاجة إلى تقديم الاضطراب أو الخلل المتعمد، تمامًا مثلما نفعل في حالة الأنظمة البيئية المتكيفة على الحرائق؛ فقد يلزم حدوث تغيراتٍ كبيرةٍ في تكوين الأفراد للتحرك نحو مستهدفات التغيير. غالبًا ما يدعي الأشخاصُ الرغبةَ في حدوث تغييراتٍ كبيرةٍ في بنى النظام البيئي سعيًا للإنصاف، لكنهم يتجاهلون الحاجة إلى حدوث «اضطراب» حقيقي للخروج من الوضع الراهن لتركيب المجتمع. فقد تحتاج مؤسسةٌ ما إلى إعادة تقييمِ ما تستخدمه من استراتيجيات التعيين وعمليات الفرز لتعزيز تحديد نطاقٍ أوسع من الأفراد وتعيينه. لا بد أن نفهم أنَّ التدخُّل والإخلال القصدي، قد يكونان ضروريَّيْن لدعم البيئات المقبلة على التعاقب اللازم لدعم التغيير الثقافي.

يمكننا تحقيق تغييرٍ منهجيٍّ من خلال طرقٍ عدةٍ على نحوٍ مشابهٍ للغاية لما تفعله النباتات. فالطرق الاستراتيجية لتدشين التغيير تبدأ بتأمُّل الموقف الحالي والوعي به؛ أي تحديد سمات البيئة المحيطة، وتحديد الموارد المتاحة، وتقييم احتياجاتنا. وعلى المستوى المجتمعي، يمكن لمجموعةٍ من الأفراد، أو الروَّاد، أن يكونوا بمثابة «مجسات» للجميع. تتمثَّل وظيفة مثل هؤلاء الأفراد في تقييم المناخ أو التغيرات السريعة في البيئة، والتي تستلزم استجابات أو ابتكارات. فالتدخلات القصدية في الأنظمة البيئية البشرية تهدف إلى دعم نظامٍ للتطور الطويل المدى للأنظمة البيئية يمكن أن يؤديَ إلى النتائج المرغوبة. علينا جميعًا أن نعرف أهمية الرواد، هؤلاء الذين يتمتعون بالسمات اللازمة لتدشين تغييرٍ ثقافيٍّ قوي في الزمان والمكان المناسبين، وعلينا أيضًا أن نؤيد الحاجة إلى وجود قادة لكي يعملوا بهذه الطريقة الريادية.

«لقد نشأ توازن الطبيعة عن التنوُّع، الذي يمكن اعتباره بالتبعية مخططًا أوليًّا للحقيقة السياسية والأخلاقية.»

بقلم أندريا وولف
في كتاب «اختراع الطبيعة»
(إعادة صياغة لكلمات ألكسندر فون همبولت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤