الفصل الخامس

مجتمع متنوِّع

كثيرًا ما أزور حقلًا ممتلئًا بالزهور البرية في الصيف. بعضها صغير للغاية حتى إنه لا يكاد يُرى، بينما يصل طول بعضها إلى قَدم، ويصل بعضها إلى ضعف ذلك الطول، وهو يحفل بأزهار من جميع الألوان. يأسرني تنوُّع الأشكال والألوان التي يتألف منها المجتمع. فبينما أحدِّق في هذا المنظر، أفكر كيف أنَّ جميع هذه الأنواع المختلفة قادرة على التعايش المشترك. وبالرغم من الدهشة التي تملؤني من التنوُّع الموجود في هذا المكان، فإنَّ الكثيرين من الناس يمرون به سيرًا على الأقدام أو بالدراجات أو السيارات، من دون أن يلاحظوا هذا النظام البيئي المزدهر؛ فهم يفتقرون إلى الوعي بالنباتات. إنني أتعجب كيف لهم أن يمروا بهذا المكان من دون أن يتوقفوا ولو لحظة واحدة كي يتأملوا النباتات الكثيرة المتنوعة الموجودة في الحقل، والتفاعلات المعقَّدة التي تجري فيما بينها فوق الأرض وتحتها.

وجد العلماء الذين يدرسون التنوُّع الحيوي في مجتمعات النباتات أنَّ السبب في قدرة الكثير من الأنواع على التعايش معًا يُعزى جزئيًّا إلى ظاهرة تُدعى تكامل الموقع البيئي. فكل نوع من الأنواع يشغل موقعًا بيئيًّا مختلفًا بعض الشيء؛ أي يشغل موقعًا في المجتمع يتحدَّد بناءً على تاريخ حياته واستخدامه للموارد وتفاعلاته مع الأنواع الأخرى. ونظرًا لأنَّ كل نوع من الأنواع، بل حتى كل متغير جيني داخل النوع الواحد، له احتياجات مختلفة، فإنَّ ذلك يؤدي إلى أقصى استخدام للموارد في مجتمعٍ ما أو نظام بيئي محدَّد.1 لا تقتصر فائدة التنوُّع على أفراد النباتات فحسب؛ بل إنَّ القدرات والسلوكيات المميزة التي تتسم بها الأنواع المختلفة تقدِّم فائدة جمعية أيضًا. فعادةً ما تكون الأنظمة البيئية التي تتسم بقدر أكبر من التنوُّع الحيوي أكثر إنتاجية؛ أي إنها تنتج كتلة حيوية أكبر؛ أي المزيد من الأوراق والسيقان والثمار وغير ذلك من أجزاء النباتات.
في الوقت الحالي، تتسم الزراعة التجارية بوجود مساحات شاسعة تُزرع بنوع واحد من النباتات، ومنها الذرة وفول الصويا والقمح. وبالرغم من أنَّ هذه الطريقة تجعل الزراعة والحصاد أسهل، فإنها ليست الطريقة الوحيدة لزراعة المحاصيل. فطالما استخدم المزارعون في الثقافات الأصلية بجميع أنحاء العالم أسلوبًا يُعرَف باسم الزراعة البينية، والذي يتضمَّن زراعة محصولَين أو أكثر معًا. ومثلما هو الحال في الأنظمة البيئية الطبيعية، اتضح أنَّ الإنتاجية تزداد عند زراعة محاصيل معينةٍ معًا بأسلوب الزراعة التعددية، مقارنة بأسلوب الزراعة الأحادية.2 تزيد الزراعة البينية من إنتاجية النباتات الفردية عن طريق عمليةٍ تُعرف باسم التيسير بين الأنواع. فكل نوع من الأنواع يساهم بشيء يعزِّز نمو الأنواع الأخرى أو تكاثرها أو صمودها.3 فنظرًا لأنَّ أفراد كل نوع تستخدم استراتيجيات مختلفة للحصول على الموارد، فإنها تستطيع تقسيم الموارد بدلًا من التنافس عليها.
ولعل من أفضل الأمثلة على الزراعة البينية مثالًا مقدسًا في الزراعة يُسمَّى ﺑ «الأخوات الثلاث». يتضمَّن هذا الأسلوب زراعة الذرة والفاصولياء والقرع معًا، وقد مارَسَه العديد من شعوب الأمريكيين الأصليين فترات طويلة.4 ومع بالغ الاحترام لهدية «الأخوات الثلاث» وغيره من المعارف البيئية التقليدية الأخرى، دون نية في تبني هذه المعارف، أستكشف في هذا الفصل ما يمكن أن نكتسبه من حكمةٍ عند التفكير في هذه الممارسة والتأمُّل العميق فيها.

•••

ما السبب في هذا الانتشار الواسع لنظام الأخوات الثلاث؟ إنَّ زراعة الذرة والفاصولياء والقرع معًا، تُمكِّن الزارع من الحصول على نقاط قوَّتها التكميلية. فالذرة توفِّر الدعم الرأسي للفاصولياء. وتوفِّر الفاصولياء النيتروجين في صورةٍ يسهل الحصول عليها والتي تعمل كسمادٍ لجميع المحاصيل. أما القرع الذي يكون قريبًا من الأرض، فيثبط نمو الحشائش ويحافظ على رطوبة التربة للشريكَيْن الآخرَين. والواقع أنَّ النباتات التي تُزرع في مزارع تعدُّدية بأسلوب الأخوات الثلاث، تنتج محصولًا أكبر مما كان سينتجه كلٌّ منها إذا زُرِع بمفرده في مزرعة أحادية.5 إنَّ هذه الممارسة الزراعية التي تستخدمها الشعوب الأصلية تجسِّد النتائج الإيجابية للعلاقات التبادلية التي يعزِّزها التنوُّع. فمن الممكن أن يكون أداء الأفراد في البيئات المتنوعة أفضلَ مما قد يكون عليه حين يُحاولون العمل بمعزلٍ عن الأفراد أو مع أولئك الذين يشبهونهم فحسب. فهم يكونون أفضل معًا، وكذلك نحن أيضًا. وقد كتبت روبين وول كيمرَر، وهي باحثةٌ في علم بيئة النبات وعضوةٌ مُسجلةٌ في قبيلة بوتاواتومي المعترَف بها فيدراليًّا، تقول: «إنَّ دروس التبادل مكتوبةٌ بوضوحٍ في حديقةٍ مزروعةٍ بأسلوب الأخوات الثلاث.»6
ومثلما هي الحال في جميع العلاقات الرائعة، يتخذ التوقيت أهميةً بالغةً في الاستفادة من القدرة التآزرية لنظام الأخوات الثلاث.7 فالدراسات التي أُجريَت على الزراعة البينية للكسافا مع موز الجنة، تؤيِّد الدرس المُستقى من نظام الأخوات الثلاث، والمتمثل في أنَّ التسلسل الذي يُزرَع به كل نوعٍ من الأنواع ويستقر هو عاملٌ أساسيٌّ في تحديد الإنتاجية النهائية للمحاصيل التي تُزرع معًا.8
ففي نظام الأخوات الثلاث، تنبثق الذرة أولًا؛ إذ تمتص البذور الرطوبة في التربة التي تُعزِّز الإنبات. تنمو جذور شتلات الذرة، وتبدأ في تطوير الأوراق وتمديدها، وتؤسس بناءً ضوئيًّا قويًّا يسمح بالانتقال إلى طور الاستقلال. وبدلًا من استهلاك الغذاء المخزَّن في البذور، ستصبح الشتلات قادرةً الآن على إنتاج غذائها عبر البناء الضوئي. ستكون الأخت التالية التي تظهر هي الفاصولياء. إنَّ بذرة الفاصولياء التي تنبت وتنبثق بمفردها تنمو بالقرب من الأرض وتكون عرضة للغاية للضرر والإجهاد الناتجَيْن عن عوامل حية وغير حية أيضًا، مثل الافتراس أو الضوء المنخفض. أما حين تنمو الفاصولياء بجوار نبات الذرة، فإنها تستمدُّ الدعم من أختها نبتة الذرة وترتقي حرفيًّا ومجازيًّا. فارتفاعها عن الأرض يعزِّز النمو. فحين يلتف ساق الفاصولياء على ساق الذرة، فإنَّ ذلك يزيد من تعرُّضه لضوء الشمس لدفع عملية البناء الضوئي. ومثلما سنرى في القسم التالي، تلعب جذور الفاصولياء أيضًا دورًا مهمًّا في توفير النيتروجين. أما الأخت الثالثة، وهي القرع، فإنها آخر ما ينبت. ينشر نبات القرع أوراقًا عريضةً قريبةً من سطح التربة طَلبًا للمساحات المفتوحة في الغطاء الشجري، التي ينفذ ضوء الشمس خلالها. والمزيد من الضوء، يعني المزيد من البناء الضوئي، وإنتاج المزيد من السكريات المعزِّزة للحياة. وهذه الأوراق المنخفضة المفترشة للأرض، تغطِّي الأنظمة الجذرية للأختَيْن الأخريَيْن وتحميها، كما أنها تحُول دون نمو الحشائش واستقرارها وتحمي التربة من الجفاف، ولأنها شائكةٌ فهي تردع آكلات العشب المستقبلية لجميع الأخوات الثلاث.9 إنَّ توقيتَ نموِّ الأخوات الثلاث واستقرارَها بمثابة رقصةٍ بديعة التصميم. فهذا الثلاثيُّ يجسِّد، على حد تعبير كيمرَر، «معرفة العلاقة»، ولرقصته دلالاتٌ تمتدُّ إلى ما هو أبعد كثيرًا عن وجودِها وازدهارِها.10

•••

حين نلاحظ حديقةً مزروعةً بأسلوب الأخوات الثلاث، يمكننا أن نرى بسهولة كيف أنَّ النباتات الثلاث توزِّع أوراقَها في المكان كي تتفادى التنافُس بعضها مع بعض.11 غير أنَّ قِلةً من الملاحظين فقط هم مَن قد يستطيعون تمييزَ العوامل الأخرى الكائنة تحت الأرض التي تدعم هذا النظام البيئي. فكثيرًا ما تشكِّل الجذور علاقاتٍ مع الكائنات الدقيقة الأخرى الموجودة في التربة، وتؤثِّر هذه العلاقاتُ بدورها في اللياقة العامَّة للنباتات، بدايةً من استقرارها، حتى نموها وإزهارها.12 وليس نظام الأخوات الثلاث استثناءً من هذا.
تحت الأرض، تدعم الأخوات الثلاث بعضها بعضًا تمامًا مثلما تفعل فوق الأرض. فجذور نباتات الذرة ضحلة بعض الشيء؛ إذ تشغل الجزء العلوي من التربة، بينما تمر الجذور الوتدية العميقة لنباتات الفاصولياء تحتها. ويمد نبات القرع جذوره في الأماكن التي لا تشغلها جذور الأختَين التي استقرَّت قبل جذوره. يستطيع نبات القرع إنشاء جذورٍ إضافيةٍ في أي مكانٍ يلتقي فيه الساق بالتربة، وتُعرَف هذه الجذور بالجذور العَرَضية. وهذه الجذور، التي يمكن وضعها في أي أماكن خالية في الموقع البيئي، تكمِّل نمو نبات القرع وصموده.13 وهذه الجذور العرضية، إلى جانب الشعيرات الجذرية للأختَين الأخريَين، تستطيع توزيع نفسها عبر الأجزاء المتاحة من التربة، ممَّا يسمح للنباتات بالبحث عن الموارد وإقامة علاقاتٍ مع النباتات الأخرى.14 وهذا التعاوُن الذي يجري تحت الأرض يُشكِّل أهميةً لعلاقة الأخوات لا تقلُّ عن أهمية التعاون الذي يجري فوق السطح. وهكذا تُثبت التفاعلات التبادلية للنباتات في الزراعة المشتركة مجددًا، على حد وصف كيمرَر، أنَّ «جميع الهدايا تُضاعَف في العلاقة.»15
إضافةً إلى امتصاص الرطوبة والمغذيات من التربة، تُقيم جذور النباتات علاقاتٍ تكافلية مع البكتيريا والفطريات. فالبكتيريا تثبِّت النيتروجين في التربة في صورةٍ تستطيع النباتات استخدامها. وتكوِّن الفطريات الجذريات الفطرية التي تحسِّن امتصاص الماء والحصول على النيتروجين والفوسفات. ولا تحدث هذه التفاعلات من جانبٍ واحد؛ إذ يحصل النبات على المزيد من الرطوبة والمخصبات، بينما تحصل الفطريات من النبات على هدايا تتمثَّل في السكريات.16
في حالة الأخوات الثلاث، تُوفِّر الأخت الثانية، وهي الفاصولياء، سماد النيتروجين نتيجةً لاستيطان نوعٍ محدَّدٍ من البكتيريا المثبِّتة للنيتروجين فيها.17 وبالرغم من أنَّ الجذريات الفطرية غالبًا ما لا تحوز تركيزًا كبيرًا في الأبحاث المتعلقة بنظام الأخوات الثلاث، فإنها تؤدِّي فيه دورًا مهمًّا، تمامًا مثلما تفعل في البيئات الطبيعية. وللجذريات الفطرية أهميةٌ خاصَّةٌ في بناء المجتمع والتواصل؛ إذ يستطيع فطرٌ واحدٌ أن يصلَ بين العديد من النباتات تحت الأرض، ممَّا يُؤدِّي إلى تكوين صلاتٍ وشبكاتٍ فيما بينها. فالجذريات الفطرية لا تحصل على الكربون من النباتات التي تستوطنها فحسب، بل تُسهِّل أيضًا مشاركة الكربون بين أفراد النباتات التي تصل فيما بينها.18 وينتج عن هذا النوع من التفاعُل شبكاتٌ لمشاركة الموارد بين أفرادٍ متمايزةٍ من النباتات يربطها مجتمعٌ واحد؛ مما يمثِّل اقتصادًا من نوعٍ ما.

•••

وبالرغم من أنَّ نباتاتِ الأخواتِ الثلاث تعمل معًا في تناغُم، فليسَت جميع التفاعلات في بيئةٍ متنوعةٍ تكون حميدةً بالقدر ذاته. ولهذا؛ فمن المهم أيضًا للنباتات أن ترصد البيئة وتستجيب وفقًا لما ترصده. فمثلما رأينا في الفصل الثاني، لا بد للنباتات أن تدرك ما إذا كانت التفاعلات المحتملة من المرجَّح أن تكون خطرة أم نافعة؛ أي ما إذا كانت الكائنات الأخرى التي ستتعامل معها أصدقاء أم أعداء. تستطيع النباتات تمييز البكتيريا الضارة؛ أي المسبِّبة للأمراض، من خلال جزيئاتٍ محدَّدةٍ توجد في الجدران الخلوية للبكتيريا. فقد حُفِظَت بعضُ هذه الجزيئات بدرجةٍ كبيرةٍ من خلال التطوُّر؛ لذا فإنَّ العديد من مسبِّبات الأمراض المختلفة تحتوي على الجزيئات نفسها. ويمكن لمستقبِلات النباتات أن تكشف هذه الشظايا الجزيئية لمسبِّبات الأمراض؛ مما يمثِّل إشارةً قويةً بوجود خطرٍ وشيك.19 ونظرًا لأنَّ هذه الجزيئات تنطلق حين تتفاعَل البكتيريا مع سطح النبات أو مع التربة، تُرسَل إشارة وجود معتدٍ محتمَل إلى النباتات المجاورة أيضًا. ونحن نرى هذه القدرة على إرسال إشارة الخطر في بعض الحيوانات أيضًا. فحين تتعرَّض الأسماك لهجومٍ من المفترسات، على سبيل المثال، تطلق الأسماك موادَّ كيميائية يمكن لمجموعةٍ أخرى من الأسماك القريبة أن تشمَّها. وحين تكون تلك الأسماك المجاورة من الأقارب، تطلق الأسماك التي تتعرض للهجوم مزيدًا من هذه المواد الكيميائية.20

تستجيب النباتات لمثل هذه التهديدات بآلياتٍ دفاعيةٍ تعمل موضعيًّا وعن بُعد أيضًا. لعلك تتذكَّر أنَّ النبات حين يتعرض لهجومٍ من أحد مسبِّبات الأمراض، ينتج مركَّبات عضوية متطايرة تنتقل عبر النبات نفسه أو عن طريق الهواء، إلى نباتات أخرى محذِّرة إياها من الخطر.

إنَّ هذا النوع من السلوك هو الذي يسمح للنباتات بالبقاء والازدهار في ظروفٍ ديناميكية. ليست المفترسات وحدها التي تتغير فحسب، وإنما تتغير أيضًا خواص التربة مثل توافر المغذيات ومحتوى الرطوبة ومستوى حامضية التربة وتركيب مجتمعات النباتات، مع مرور الوقت. فيمكن لمستوى الضوء أو المغذيات في التربة أن يتغيَّر حين تصبح النباتات أكثر تكتلًا ويزداد طول بعضها. إنَّ الظروف البيئية متغايرةُ الخواصِّ يمكن أن تعزِّز من مرونة المجتمع البيئي وتزيد تنوُّع الأنظمة البيئية.21

•••

يوضِّح لنا نظام الأخوات الثلاث أنَّ التبادل في البيئات المتنوعة يؤدي إلى نموٍّ مثمر. علاوةً على ذلك، فهو يوضح أيضًا ما ينتج عن تفاعلات المجتمع من آثار نافعة ويبرز حكمة النهج المستند إلى النظام البيئي في تعزيز التواصل ودعم النجاح. يُعد نظام الأخوات الثلاث أيضًا مثالًا على قوة الشراكة، والعلاقات التبادلية، وتقسيم الموقع البيئي، وتدوير المغذيات أو الموارد.22 إنَّ دروس نظام الأخوات الثلاث قابلة للتطبيق بالقدْر نفسه على المناقشات التي تُدار بشأن القيم الجماعية.23
غير أن الدرس الأعظم والأكثر بقاءً هو فَهْم أنَّ كل فردٍ في مجتمعٍ ما يجلب معه مهاراتٍ معينةً وله القدرة على تقديم مساهماتٍ فريدة. علينا أن ننمي وعي الأفراد بشأن إسهاماتنا المميزة، ونعزِّز التآزر فيما بينها، ونرعى مجتمعًا يرحِّب بهذه الهبات ويدرك كيف أنها تساعد المجتمع ككل وتعمل على الارتقاء به.24
إنَّ الشعوب الأصلية التي طوَّرت المعرفة بشأن نظام الأخوات الثلاث في زراعة المحاصيل أدركت فوائد زراعة الذرة والفاصولياء والقرع معًا، وذلك قبل فترة طويلة من إدراك العلماء للعلاقات التبادلية وتسمية الآليات والعمليات التي تكمن خلفها. فلتتخيَّل كل المعارف الأخرى التي كانت مجموعات السكان الأصليين بشأن العالم الطبيعي، ولا تزال، تمتلكها. ربما حان الوقت لرَأْب الصدع بين أساس المعرفة لدى الشعوب الأصلية والأساس العلمي للمعرفة.25 إنَّ الجمع بين هذَين النوعَين من المعرفة بهذه الطريقة يعكس العالم الطبيعي. فهاتان الأختان تقدِّمان دروسًا مستلهَمة من المعرفة بالنباتات وتتجاوزها أيضًا. ففي النهاية، وكما توضح كيمرر، «تطالبنا العلوم بالتعلُّم «بشأن» الكائنات. وتطالبنا المعرفة التقليدية بالتعلم «منها».»26
إنَّ طبيعة العلاقات التبادلية في حديقة الأخوات الثلاث يمكن أن تقدِّم لنا الإرشاد بشأن الطريقة التي نقيم بها، نحن البشرَ، التفاعلات في مختلف المجالات، بما في ذلك المجال الشخصي والمهني والتعليمي. فكثيرًا ما نرى هذه الجوانب من وجودنا تتنافس بعضها مع بعض فيما يتعلَّق بالوقت والطاقة والموارد، وغير ذلك من العوامل.27 ونظرًا لأنَّ ما نبذله من وقت وطاقة في جوانب مختلفة يكون مدفوعًا بصفة عامة بالمكافآت والالتزامات المنظورة، فإننا نميل إلى رؤية الانخراط في أحد المجالات باعتباره يقتطع وقتًا وطاقة ثمينَين من الانخراط في المجالات الأخرى؛ مما يتركنا في حالة دائمة من التنقل بين المطالب المتنافسة.
وبدلًا من النظر إلى هذه المجالات باعتبارها متنافسة بعضها مع بعض، علينا التفكير في أنَّ تكامل المجالات أو التغذية البينية التبادلية لها، يمكن أن تجلب فوائد على الصعيدَين الشخصي والمهني على حدٍّ سواء، مثلما يمكن أن تعمل زراعة محاصيل مختلفة معًا على تعزيز الإنتاجية.28 بصفتي أستاذة في الجامعة، غالبًا ما أشعر بالتمزُّق بين مسئولياتي في التدريس، والإرشاد، وإجراء الأبحاث، والمشاركة في الأنشطة الخدمية. وحينما بدأت أرى التشابك بين جميع هذه الالتزامات، وبدأت في تطوير أنشطة تآزرية مثل استخدام الاكتشافات الجديدة من أبحاثي كمواد أساسية في محاضراتي، صرت أكنُّ تقديرًا شخصيًّا لأهمية تنمية التبادل. فلا شك أنَّ «التوازن» بين الحياة الشخصية والعمل من شأنه أن يفرز أولويات مختلفة ويقدِّم فرصًا إضافيةً لو نظرنا إلى المجالات المختلفة باعتبارها جوانب تبادلية من المسئولية أو الفرصة، لا جوانب تتنافس على الوقت أو الطاقة أو الموارد.
وكما هي الحال مع الذرة في حديقة الأخوات الثلاث، فإنَّ المجال الأول هو الأساس الذي يدعم نمو مجال آخر. وبعد ترسيخ أساس أولي قوي، يمكننا أن نسعى لتعزيز نمو مجالٍ ثانٍ يرتبط باهتمامنا الأساسي الذي يدعمه، في علاقة اعتمادية تبادلية. وأخيرًا، نضيف مجالًا ثالثًا مهمًّا لكنه أقل من حيث الأولوية. وبعد إرساء المعيار الأساسي الذي نرغب في تقييم نجاحنا في حياتنا أو عملنا وفقًا له، يمكننا تحديد الأنشطة التكميلية التي تتكامل مع مجالَينا الأول والثاني — أو «الأختَين» الأولى والثانية — أو ترتقي بهما، وذلك بطرقٍ من شأنها أن تسفر عن خلق شراكة. في حياتي المهنية، تتحدَّد المجالات الثلاثة وفقًا لمعايير المراجعة والترقية، وهذه المجالات هي البحث والتدريس والخدمة. أما في حياتي الشخصية، فثمة مجالان أساسيان محدَّدان، وهما تربية الأبناء وحياة العمل، أما المجال الثالث، وهو الاعتناء بالنفس، فهو خيار شخصي. وكالذرة والفاصولياء والقرع في حديقة الأخوات الثلاث، «لا تتنافس هذه المجالات بل تتعاون.»29 فالقيام بجولات مشي طويلة مع ابني في الصيف، تُعَد طريقة من الطرق التي أدمج بها بين مجالي التربية والاعتناء بالنفس في إطار تعاوني. إنَّ نظام الأخوات الثلاث يوفِّر إطارًا ثريًّا لاستلهام التكامل بين المجالات الشخصية والمهنية.
علاوةً على ذلك، يقدِّم لنا نظام الأخوات الثلاث دروسًا عن «صلاحية الآخرين من [الكائنات الحية] لاتخاذهم معلمين لنا، واعتبارهم من حاملي المعرفة، واتخاذهم مرشدين»، على حد تعبير كيمرَر.30 إنَّ هذه الدروس أساسية لتحقيق الكفاءة العابرة للثقافات، وتعزيزها وتنفيذها. فالطريقة المثلى لتيسير السبل أمام الأفراد ذوي الخلفيات الثقافية المتنوعة لتحقيق النجاح ودعم نجاحهم هي إدراك قيمة الهبات التي يقدِّمها كلٌّ منهم. وعلينا أن نطبِّق هذا الدرس في الكثير من النطاقات: في مجتمعاتنا ومدارسنا وأماكن عملنا.31 وهذا الدرس يزداد أهمية إذ تستمر الطبيعة السكانية للولايات المتحدة في التغير، ويزداد التنوُّع في مجتمعات المتعلِّمين والعمال بسرعة كبيرة.32 ومن ثمَّ؛ فإنَّ قدرتنا على إدراك المنافع التبادلية للتنوع وتقبلها، أمر في غاية الأهمية.

إذا استطعنا أن نفتح أعيننا على هذه الدروس التي تقدِّمها لنا الأخوات الثلاث، بل النباتات جميعها في حقيقة الأمر، فسنجد أنَّ ثمة وفرة فائضة من الحكمة في انتظار وعينا بها وتطبيقها.

«إنني أختار … أن أحيا حتى يذهبَ ما يأتيني بذرةً إلى من يليني زهرةً، وحتى يذهب ما يأتيني زهرةً وقد صار ثمرةً.»

داونا ماركوفا
«لن أموت في حياة لم تُعَش»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤