الفصل السادس

خطة للنجاح

أتذكَّر أمي حين كانت تراقب عن كثب أحد نباتاتها العزيزة يبلغ نهاية حياته في أصيصٍ محدَّد. وغالبًا ما كانت تعلِّق بأنَّ الوقت سيحين قريبًا لزراعته في أصيصٍ آخر أو تقسيمه إلى أجزاء. بعناية شديدة كانت تُخرِج النبات من أصيصه القديم، ثم تضعه في أصيص جديد أكبر، أو تفصل الفسائل وتزرعها من جديد. ذلك أنَّ عدم نقل النبات إلى مكان آخر يحتوي على وفرة أكبر من الموارد من شأنه أن يؤدي إلى ضموره أو موته أو إزهاره قبل أوانه في بعض الأحيان. ولمَّا كانت أمي هي راعية النباتات، فقد كانت تيسِّر هذه العملية بالانتباه الدقيق والتدخُّل؛ مما يساعد النبات على الازدهار في بيئته مع السماح بالانتقال إلى المرحلة التالية من دورة حياته بصورة طبيعية.

في الفصل الرابع، ناقشنا التعاقب البيئي في سياق التحوُّل. وقد رأينا أنَّ قدرة النبات على التنافس مع غيره أو التكيُّف مع مجتمع متغير تحدِّد طول المدة التي يستطيع أن يحياها في بيئة محددة.1 فإذا كانت البيئة غير قادرة على تعزيز بقاء النبات على المدى الطويل، فإنه سيضع خطة لإيقاف ارتباطه مع البيئة الحالية. تتمثل إحدى الاستراتيجيات التي يستخدمها النبات لتحقيق ذلك في الانتقال من طور النمو إلى طور الإزهار وتكوين مجموعة البذور، أملًا في أن تجد البذور ظروفًا أفضل.
يتبع كل نبات نمطه الطبيعي من النمو والتطور بناءً على تاريخه وبما يتلاءم مع بيئته الحالية ومجتمع الكائنات الأخرى الذي يتعايش معه. فلا بد للنبات الحولي أن يزهر وينتج بذوره خلال موسمه الأحادي، وإلا فسيفقد فرصته في إنتاج نسل، بينما يستطيع النبات المعمَّر تفويت موسمٍ ناجحٍ من الإزهار وإنتاج البذور؛ إذ ستكون لديه فرصٌ للتكاثر في سنواتٍ لاحقة.2 وبالرغم من أنَّ النباتات ذات الدورات الحياتية المختلفة قد توجد في البيئة نفسها، فإنَّ كلًّا منها يتسم بحصيلةٍ محددةٍ من السلوكيات تستند إلى التركيب الجيني (وإن كانت قابلةً للتوليف مع البيئة)، ولا بد للنبات أن يعدِّل إنفاقه من الطاقة وسلوكياته وفقًا لها.

لما كانت النباتات تمتلك كميةً محددةً من الطاقة، شأنها في ذلك شأن جميع الكائنات الأخرى، فمن الضروري للغاية لها أن تتخذ قرارات بناءً على عملية الرصد البيئي. فعلى النباتات أن تضع ميزانيتها للطاقة بحرصٍ شديد، لا سيما حين تكون الموارد محدودة؛ إذ إنَّ الطاقة التي تُستخدم لنشاطٍ ما، لا تعود متوفرة لغيره من الأنشطة.

بعد استخدام قدراتها الحسية لتقييم التغيرات في البيئة، تقرِّر النباتات الإجراءات التي ستتخذها من أجل البقاء والاستمرار في الإنتاجية. فإذا قرَّر النبات أنَّ استمرار البقاء مستحيل، فإنَّ ما يُقرِّره بصفةٍ أساسيةٍ هو التخطيط لدعم تقدُّم الجيل التالي.

إنَّ استجابات النباتات لبيئتها تكون مدفوعةً بالظروف التي قابلتها على مدار دورة حياتها. فيمكن للمراحل المبكِّرة من الحياة، مثل استقرار الشتلة، أن تؤثِّر في المراحل اللاحقة من الحياة، كما أنَّ الكيفية التي يستجيب بها النبات للإشارات البيئية في مراحل معينة من دورة حياته يمكن أن تؤثِّر في خصائصه. حتى النباتات الشديدة التشابه جينيًّا، قد تُظهِر مستويات مختلفة من مرونة النمط الظاهري تنتج عن استجابات جزيئية للإشارات البيئية. على سبيل المثال، درس العلماء نوعَين بيئيَّين — أي متغيرَين جينيَّين منفصلَين — لنباتٍ مزهرٍ صغير، هو نبات النجمية الطويلة الساق، الذي كان قد تكيَّف على مدار أجيالٍ عديدةٍ على بيئتَين متضادتَين، واستجاب على نحوٍ مختلفٍ للإشارات البيئية التي تنوَّعت بين الموئلَين المتغايرَين.3 درس الباحثون النوع البيئي الذي كان ينمو في البراري حيث النباتات الكثيفة والظل، والنوع البيئي الآخر الذي كان ينمو في مروج الألب حيث النباتات أكثر تباعدًا بعضها عن بعض، والمنافسة على الضوء أقل. وجد الباحثون أنَّ نوع البراري المتكيف على الظل يتسم بقدرةٍ تنافسيةٍ عاليةٍ على الاستطالة بسرعةٍ في وجود الظل. في المقابل، كانت النباتاتُ الألبية المتكيفة على الشمس تُظهِر استجابةً أقلَّ كثيرًا للظل؛ إذ كانت تستطيل بدرجةٍ أقل كثيرًا عند تعريضها تجريبيًّا إلى ضوءٍ محدود، وهي إشارةٌ لم تقابل هذه النباتات إلا نادرًا. يعود التفاوت الملحوظ في قدرات الاستجابة لتوافر الضوء إلى التفاعلات بين التكوين الجيني والاستجابات الجزيئية للإشارات البيئية والتاريخ البيئي.
إنَّ الموئلَ الطبيعيَّ للنبات، وتاريخ حياته، وقدرته الجزيئية على الاستجابة للموارد المتفاوتة في توافرها، كلها أيضًا من العوامل التي تؤثِّر في استجابات النبات خلال دورة حياته. يمكن ملاحظة تأثيراتِ التاريخِ البيئيِّ مبكرًا للغاية منذ خروج النبات الجنيني من البذرة. وتُعرف هذه المرحلة من نمو النبات، بالتحوُّل من البذرة إلى الشتلة، وهي مرحلةٌ حرجةٌ من مراحل النمو وتتأثر بكلٍّ من ديناميكيات البيئة التي غُرِس النبات فيها، والتاريخ البيئي للسلالة التي انبثق منها.4 خلال مرحلة التحوُّل من البذرة إلى الشتلة، يحدث تغيُّر مهم للغاية من الاعتماد على الطاقة المخزَّنة التي أودعها النبات الأم في النبات الجنيني، إلى الاعتماد على الذات في النمو، والذي يعتمد على الطاقة التي ينتجها النبات خلال عملية البناء الضوئي. وهذا التحوُّل غير يقيني. فلا بد للشتلة أن تضبط أيضها بدقة، مع الحرص على إنفاق طاقتها بعنايةٍ كي تتمكَّن من جمع كل المكوِّنات اللازمة لدعم البناء الضوئي قبل أن تنفد مخازن طاقتها الموروثة. ونظرًا لأنَّ الشتلات عرضةٌ بدرجةٍ كبيرةٍ للافتراس وغير ذلك من الأخطار، فإنَّ التحوُّل من البذرة إلى الشتلة مرحلة حرجة لاستقرار النوع يمكن أن تحدِّد تكوين جماعات النباتات.5 وبالرغم من أنَّ هذه الفترة الانتقالية تمثِّل جزءًا صغيرًا للغاية من إجمالي دورة حياة النبات، فإنها يمكن أن تدفع ديناميكيات المجتمعات الطبيعية، ولها آثارها فيما يتعلَّق بالحفاظ على تنوُّع النوع. من المؤكد أنَّ الأنماط العامة لتوقيت الإنبات تتحدَّد وفقًا لاستراتيجيات تاريخ تطوُّر الحياة. بالرغم من ذلك، يمكن للعوامل البيئية مثل توافر الضوء أو المياه أن تتدخَّل لتغيير توقيت إنبات العديد من البذور. ولهذا، فإنَّ التنظيم الدقيق لتوقيت هذا الانتقال وتقدُّمه يمنح النباتات طريقةً لإدارة تخطيط التعاقب في بيئاتٍ بعينها.6

•••

للبيئة تأثيرٌ بالغٌ على كيفية انتقال النباتات من إحدى مراحل دورة الحياة إلى أخرى، أو من جيلٍ إلى آخر. ففي ظل ظروفٍ بيئيةٍ محددة، على سبيل المثال، قد تُقرِّر النباتات أن تسرِّع من دورة حياتها، أو أن تنفض عنها أوراقها. إنَّ النباتات لا تتخذ قرارًا بإنهاء دورة حياةٍ أو التضحية بأعضاء ضروريةٍ للغاية منها بلا مبالاة. لكنها تدرك أنَّ التضحية بالإنتاجية على المدى القصير من أجل البقاء على المدى الطويل هو أحكم قرار تستطيع اتخاذه.

حين تستمر الأجواء الظليلة فترةً طويلة، تسرِّع بعض النباتات المتجنِّبة للظل من نموها عن طريق تقليل الوقت اللازم للإزهار. فمن نتائج قِصر فترة حياة النباتات الحولية أو قصر موسم النمو للنباتات المعمرة أنَّ الفترة المخصصة لتخزين الموارد تقصر أيضًا. وتنتج النباتات التي تختار هذا المسار عددًا أقل وأصغر حجمًا من البذور الناضجة.7 غير أن إنتاج بعض البذور ربما يكون أفضل من المخاطرة بالاستمرار في حالة خضرية غير تكاثرية، وعدم إنتاج أي بذور على الإطلاق إذا استمرَّت الظروف السيئة. وإضافةً إلى تقليل وقت الإزهار، عادةً ما تقلِّل هذه النباتات أيضًا من التفرُّع؛ مما ينتج عنه تقليل إجمالي الكتلة الحيوية للأوراق المتاحة لاستثمار الطاقة.
ثمة شكلٌ آخر للتخطيط للمستقبل، وهو شكلٌ نألفه جميعًا ونستمتع به للغاية، ألا وهو: الظهور السنوي لألوان الخريف. هذه هي الفترة التي تسقط فيها أوراق الأشجار النفضية والشجيرات استعدادًا للبيات الشتوي. ومن الأجزاء الأساسية في هذه العملية المنظمة الشديدة التناسق تقليلُ النباتات من إنتاج الكلوروفيل؛ الذي يستهلك الكثير من الطاقة، وتبدأ في تحليل مخازن الكلوروفيل الموجودة بالفعل. ويؤدي هذا إلى تعطيل عملية البناء الضوئي؛ مما يتيح للنبات الحفاظ على الطاقة التي ستلزم لصيانة أجهزة البناء الضوئي، وتفادي التكاليف الأيضية لدعم الكتلة الحيوية للأوراق خلال الشتاء. تقوم النباتات أيضًا بنقل المغذيات من الأوراق إلى الأجزاء الأخرى من النبات التي ستبقى خلال الطقس البارد.8
figure
النباتات التي تنمو في ظروفٍ أقل من المثالية، كأنْ تنمو في ظل كثيف على سبيل المثال (الجزء السفلي)، يمكن أن تواجه قيودًا على البناء الضوئي؛ ومن ثمَّ إنتاج الطاقة، مقارنةً بتلك التي تنمو في ظروف مثالية كأنْ توجد في ضوء الشمس الكامل (الجزء العلوي). فإذا استمرَّت هذه الظروف السيئة، فقد تسرِّع هذه النباتات من الإزهار لزيادة احتمالية إنتاجها للبذور قبل انتهاء دورة حياتها.
يؤدي فقدان الكلوروفيل إلى أن تصبح بعض الصبغات الأخرى في الأوراق أكثرَ وضوحًا للعين البشرية، مثل صبغات الكاروتين ذات الألوان الصفراء والبرتقالية الفاقعة والزاهية، وصبغات الأنتوسيانين الحمراء اللون.9 يحدث التغيُّر في تركيب الصبغة بالتنسيق مع توقيت سقوط الأوراق، باعتباره إحدى وظائف التخصيص الاستراتيجي للطاقة. وهذه العملية هي الأساس لخطةٍ مستقبليةٍ تستعدُّ النباتات من خلالها للوجود في حالةٍ أكثر سكونًا. فعن طريق التضحية بأوراقها، تستطيع الشجرة استخدام الطاقة الضئيلة التي تنتجها خلال فصول الشتاء للقيام بالأيض الأساسي والعمليات المرتبطة بحماية الأنسجة المولِّدة والبراعم، والتي ستُستخدم في الربيع للبدء في إنتاج أوراق جديدة. وبالرغم من أنَّ سقوط الأوراق يختلف من بعض النواحي عن تسريع الإزهار؛ إذ تُسقِط الأشجار النفضية أوراقها كل عام، يمكن تعديل التوقيت بدرجةٍ ما للاستجابة للتغيُّرات في الإشارات الفصلية.

•••

يمكن أن يحدث التخطيط للمستقبل على المستوى الفردي كما رأينا في الأمثلة السابقة، وقد يجري تنسيقه أيضًا على مستوى المجتمع. ومن أمثلة التخطيط للمستقبل على مستوى المجتمع، مشاركة الموارد بين النباتات الناضجة والنباتات الأصغر سنًّا، حين تكون الظروف غير مثاليةٍ كوجود نقصٍ في الموارد. فقد اكتشف الباحثون أنه في بعض الحالات، تقوم النباتات الأكبر سنًّا والتي تُسمى «النباتات الممرضة»، بمساعدة النباتات الأصغر سنًّا وحجمًا (من النوع نفسه أو من نوع مختلف عنها). وبالرغم من أنَّ النباتات اليافعة تتلقَّى المساعدة من النباتات الراعية، فإنَّ العلاقةَ تبادلية؛ ذلك أنَّ كلًّا من النباتات اليافعة والناضجة، ينمو ويتمكَّن من البقاء على نحوٍ أفضل عند التعاون معًا، مثلما يحدث مع الذرة والفاصولياء والقرع في نظام الأخوات الثلاث. فالنباتات اليافعة تستفيد من الظل الذي توفِّره النباتات الراعية، إضافةً إلى الحصول على المزيد من المياه والمغذيات، والذي ينتج عن تراكم نفايات الأوراق تحت النباتات الأكبر سنًّا. من المحتمل أيضًا أنَّ نفايات الأوراق هذه تساعد على تحسين خواص التربة من خلال تعديل طبيعتها الكيميائية ومستوى المغذيات وتعزيز العلاقات التكافلية مع البكتيريا والفطريات. تؤدي هذه التغييرات في التربة إلى تشكيل حلقة تغذية راجعة تدعم كلًّا من النباتات اليافعة والأكبر سنًّا. ومن المنافع الأخرى للنباتات الراعية أنها تنتج أزهارًا أكثر مما تنتجه النباتات في مثل سنها التي تنمو منعزلة؛ ويُحتمَل أن يكون السبب في هذا هو خصائص التربة المحسَّنة. ثم إنَّ زيادة الأزهار يمكن أن تجذب المزيد من الملقحات؛ مما يعزِّز تأثير وجود عدد أكبر من الأزهار على مجموعات البذور.

ينطبق الأمر نفسه في الغابات، حيث يمكن للأشجار الأكبر سنًّا دعم الأشجار الصغيرة عبر النقل النشط للسكريات من النبات البالغ إلى النباتات الصغرى، وذلك عن طريق شبكات الجذريات الفطرية التي تربط جذور النباتات لتلبية احتياجاتها الشديدة من الطاقة.10 وحين تموت الأشجار الكبرى، فإنها تعمل كمصدرٍ للمكوِّنات العضوية المعاد تدويرها، التي يمكن للأشجار الصغرى استخدامها من أجل النمو وزيادة لياقتها.
من الاستجابات المجتمعية الأخرى المتعلقة بالتخطيط للمستقبل ومشاركة الموارد، تلك الاستجابات المرتبطة بمجتمعات الجذريات الفطرية. فغالبًا ما ترتبط الفطرياتُ التي تكون الجذريات الفطرية بشبكة من النباتات المختلفة.11 تسمح الجذريات الفطرية للنبات بادِّخار الطاقة؛ لأنها تزيد من امتصاص الجذور للمياه والمغذيات؛ مما يمثِّل للنبات فائدةً أكبرَ كثيرًا من تلك السكريات التي يشاركها مع شريكه الفطري.12 إنَّ حقيقة أنَّ الجذريات الفطرية تربط بين نباتاتٍ متعددةٍ تسهِّل المشاركة في اتخاذِ القرارِ والحفاظِ على المجتمع؛ فالنباتات التي تتمتَّع بمخزوناتٍ إضافيةٍ من الطاقة يمكن أن تُشاركها مع أفراد مجتمعها المعرضة للضرر لدعم استمرار نموها وبقائها. ثمة تجربةٌ رائعةٌ أُجريَت في إحدى غابات سويسرا وثَّقت حد هذا التشارك. فقد تتبَّع الباحثون الكربون (في صورة ثاني أكسيد الكربون)، الذي مثَّلته شجرة تنوب طويلة ووجدوا أنَّ كميات كبيرة منه قد نُقِلَت إلى الأشجار المجاورة لها التي تنتمي إلى أنواعٍ مختلفةٍ عبر شبكةٍ من الجذريات الفطرية.13
من الطرق الأخرى التي تدعم بها النباتات بعضها بعضًا وتضمن بها النجاح المستقبلي، إرسال إشارات إلى جيرانها عند التعرُّض لهجوم. فمثلما رأينا في الفصل الثاني، حين تدافع النباتات عن نفسها من آكلات الأعشاب، يطلق العديد منها إشارات في صورة مركَّبات عضوية متطايرة. وتهدف هذه الإشارات إلى دَرْء الخطر عن النبات نفسه، إضافةً إلى تحذير الأقارب. (وقد طوَّرت بعض الحشرات وغيرها من آكلات العشب طرقًا للدفاع المضاد أيضًا. فتُطلق هذه المفترسات إشاراتها الخاصة التي تؤدي إلى تشويش التواصل بين النباتات، ممَّا يترك النباتات المجاورة في حالة ارتباكٍ تجعلها أكثرَ عرضةً لافتراس آكلات العشب.)14
إنَّ هذه الاستجابات المعقدة ذات الأساس المجتمعي، وتُنسَّق على مستوى النظام البيئي، عادةً ما تُفيد النباتاتِ جيدًا على المستويَيْن الفردي والمجتمعي. غير أن النباتاتِ غالبًا ما تُواجه صورًا متعددةً للإجهاد في الوقت نفسه، وعليها أن ترتب استجاباتها وفقًا للأولوية من أجل وضع ميزانيتها للطاقة. فإذا كان النبات يُعاني الإجهادَ الضوئي، على سبيل المثال، فقد يُرجِئ استجابته لمصادر الإجهاد الأخرى بصورة مؤقتة، كي يعطي الأولوية لتعديلِ قدرتِه على جَمْع المزيد من الضوء، أو حماية نفسه من فَرْط النشاط في حالة وجود فائض من الضوء.15 لاحظ العلماء أيضًا أنَّ النباتات التي تتعامَل مع إجهاد الأملاح، مثل تلك النباتات التي تنمو في التُّرب الملحية التي يزداد انتشارُها في جميع أرجاء العالم، تكون أقل قدرةً على إصدار استجابات تجنُّب الظل، أما النباتات التي تستجيب للظل منها، فغالبًا ما تُظهِر قدراتٍ أقل على الاستجابة لهجمات آكلات العشب.16

•••

في المجتمعات الطبيعية، تتمتَّع النباتات، مثلما رأينا، باستراتيجياتٍ لرعاية نفسها، والتفاعل مع غيرها من خلال وَضْع ميزانيةٍ للطاقة، أو تغيير دورة حياتها، أو مشاركة الموارد، أو إرسال إشاراتٍ بالخطر. أما حين نعتني، نحن البشرَ، بحدائقنا ونباتاتنا المنزلية ومحاصيلنا، فإننا نُقدِّم التدخُّلاتِ بوصفنا مقدمي الرعاية.

لقد حظينا جميعًا بنباتٍ نعتني به ولم يكن بخير حال. فما الذي نستطيع فِعْله إزاء نبات يعاني الإجهاد؟ كيف نساعد نباتًا منزليًّا لا ينمو جيدًا؟ لكي نتمكَّن من حل المشكلة، نركِّز بصفةٍ عامةٍ على ما يُنقِص البيئة أو ما يعيبها، أو نسأل بدلًا من ذلك عمَّا يعيب مقدِّم الرعاية. ونادرًا ما نتساءل عمَّا إذا كان النبات نفسه غير قادرٍ على النمو أو تحقيقِ النجاح.

لعل أكثر الاستجاباتِ شيوعًا لدى رُعاة النباتات تجاه النبات ذي الأداء الهزيل، هي القيام أولًا وقبل كل شيءٍ بإجراء تقييمٍ تفصيليٍّ لبيئة النبات. هل يحصل النبات على ما يكفي من الضوء، أم يحصل على فائضٍ منه؟ هل يحصل على الأنواع والكميات المناسبة من المغذيات؟ أيحصل النبات على قدرٍ أكثر أم أقل من اللازم من المياه؟ هل درجة الحرارة منخفضةٌ للغاية أم مرتفعةٌ للغاية؟ أتوجد علاماتٌ على تسبُّب الحشرات أو آكلات النباتات في ضررٍ يُهدِّد الحياة؟ أتوجد علاماتٌ أخرى على ضعف اللياقة أو الإجهاد؟ إنَّ هذا النوع من التحليل الشامل للمكوِّنات الحية وغير الحية في بيئة النبات يُشكِّل أهميةً بالغةً للنبات. عادةً ما يقوم مقدِّم الرعاية بعد ذلك ببعض التدخُّلات ويستمر في تقييم صحة النبات بعد تطبيقها، للتأكُّد من أنَّ المحاولاتِ المبذولةَ لتحسين الوضع ناجحةٌ بالفعل.

حين نقوم، نحن مقدِّمي الرعاية، باستكشاف البيئة الخارجية على نحوٍ شامل وموسَّع، ونكون قد حدَّدنا العيوب أو المتطلبات غير الملبَّاة، غالبًا ما نُدرك أنَّ النموَّ الناجحَ للنبات يستلزم موارد جديدةً أو تغيير موقع الموارد الموجودة بالفعل. إننا نُقيِّم ما إذا كان ينبغي توفير موارد أخرى موجودة بالفعل في مكانٍ آخر بالبيئة لدعم نمو النبات وتطوره، أم لا. فقد توجد المياه على سبيل المثال في صنبور، لكنها غير ذات نفعٍ إذا لم تصل إلى التربة التي ينمو فيها النبات. إن المعرفة الكاملة بالبيئة مع الوعي الكامل باحتياجات النبات الفردية، يُتِيحان لمقدمي الرعاية توصيلَ النباتاتِ بالموارد التي تحتاج إليها من أجل النجاح.

في بعض الحالات، يمكن أن يتوافر أحد الموارد بكميات كافية لكنه معيب من نواحٍ أخرى. فعلى سبيل المثال، قد يحتوي مياه الصنبور على شوائب تجعله دون المستوى. في هذه الحالة، يمكن للتنقية أن تحل المشكلة. وقد ينبغي أيضًا توفير شكل آخر من أشكال المياه مثل المياه المعبأة أو المرشحة، لدعم النمو القوي للنبات وبقائه.

لمساعدة النبات على الازدهار، لا بد أن يكون مقدم الرعاية قادرًا على معرفة احتياجاتِه الحاليةِ للنمو وكذلك احتياجاته التي تتطوَّر مع الوقت، ثم تحديد الموارد اللازمة وتوفيرها. إذا كان لدينا نباتان يتمتعان باحتمالية النمو نفسها، فإنَّ النبات الذي يحظى بالموارد الكافية سينمو على نحوٍ أفضل ويحظى بإنتاجية أكبر من ذلك النبات الذي لا يحصِّل ما يكفي من الموارد اللازمة.

figure
من الواضح أنَّ النبات الذاوي (على اليمين) يحتاج إلى المياه، وهو أمرٌ يمكن لمقدِّم الرعاية توفيره. يدعم مثل هذا التدخُّل إعادة الصحة إلى النبات المروي (على اليسار)، بينما يستمر النبات الذاوي الذي لا يحصل على المياه في المعاناة من الإجهاد وقد يموت.

كثيرًا ما نطلب، نحن مقدِّمي الرعاية، عون الخبراء حين يتَّضح أنَّ جهودنا غير فعالةٍ أو حين تنقصنا المعرفة بشأن ما يعوق نباتاتنا عن النمو. إننا نعزو الفشلَ إلى مواضع النقص والعجز فيما نُقدِّمه من رعايةٍ وعناية؛ ولهذا فإننا كثيرًا ما نبحث عن فرصٍ لتحسين نظام رعايتنا. فقد نطلب المساعدة من شخصٍ نعرف أنه يُجيد العناية بالنباتات. بمعنى أننا نسعى بهمةٍ ونشاطٍ لتلقِّي التدريب كي نتعلَّم أن نُصبح أفضلَ في تقديم الرعاية، ومن ذلك طلب النصيحة بشأن كيفية تحديد الموارد التي يحتاج النبات إليها أو كيفية تحسين قدراتنا في تقديم الرعاية.

إذا لم ينمُ النبات جيدًا، فقد يعزو مقدِّم الرعاية هذه النتيجة، كملاذ أخير، إلى فشلٍ في معرفة كيفية مساعدة النبات على الازدهار، وليس إلى فشل من جانب النبات نفسه. وبعد أن يستنفد مقدِّم الرعاية جميع التدخلات البيئية، ويكون قد تلقَّى التدريب أو طلب التدخُّل من أحد الخبراء؛ فقد يقرِّر في النهاية أنَّ النبات يفتقر إلى مواردَ لا يستطيع هو تحديدها، أو ربما أن النبات غيرُ قادرٍ على الازدهار في بيئةٍ معينةٍ أو في ظل رعايته. غير أن الغالب في مثل هذه الأمثلة أنه لا يوجد حكمٌ سلبيٌّ حقيقيٌّ على النبات في حد ذاته، بل قبول على مضض من قِبل مقدِّم الرعاية لفشله الشخصي في تعديل النقائص البيئية لدعم نمو النبات.

•••

ولتعزيز النمو الفردي والنجاح لدى الأفراد، علينا تطبيق نفس العقلية القائمة على الاستقصاء، الذي نستخدمه مع النباتات. لقد وجدت أننا حين نعتني بنباتٍ ما، عادة ما نركِّز على ما نستطيع فعله لمساعدة النباتات على الازدهار. فحين نقوم بإرشاد أحد الأشخاص أو تدريبه، غالبًا ما تكون ميولنا مختلفة في البداية. ذلك أننا كثيرًا ما نُسارع إلى التركيز على ما نفترضه من مواطن ضعفٍ وعيوبٍ لدى الفرد، بدلًا من السعي لتحديد العوامل البيئية التي قد تعوقه.

إنَّ النهج الشامل المستنِد إلى عقلية النمو هو طريقةٌ أكثرُ فعالية بكثيرٍ لتعزيز نمو الفرد ونجاحه. يعترف هذا النهج بأهمية التركيز الثنائي الجانب، والذي يراعي إسهامات كلٍّ من الفرد والبيئة. ولحسن الحظ أنَّ المرشدين والقادة في بعض بيئات التعلُّم ومواقع العمل المهنية وبرامج التوعية المجتمعية وبرامج الإرشاد، يبدءون في استكشاف تأثير العوامل البيئية على إمكانية النجاح أو النمو لدى الفرد، بدلًا من تطبيق المناظير القائمة على العيوب.

وبالرغم من هذا التقدُّم، فلا يزال أمامنا الكثيرُ من العمل. فمثلما نفعل عند الاعتناء بالنباتات، ينبغي علينا أن نبدأ تفاعلاتنا مع الآخرين بطرح أسئلةٍ منهجيةٍ عن تأثير البيئة. حين تعتني النباتات بنفسها، فإنها تشعر بالإشارات الواردة من البيئة الخارجية وتدركها. ويؤدِّي هذا الإدراك بعد ذلك إلى تعديلٍ في شبكة إصدار الإشارات لدى النبات، ما يؤدِّي في نهاية المطاف إلى نتيجة. بالرغم من ذلك، فإننا غالبًا ما نعكس هذه العملية مع البشر الآخرين. لقد اتَّضح لي من واقع عملي أننا حين نتصرَّف انطلاقًا من عقليةٍ قائمةٍ على العيوب، فإننا ننتقل من إدراكنا لوجود نتيجةٍ سيئةٍ إلى إصدار حكمٍ سلبيٍّ بشأن الفرد. من الممكن أن نُسارع لتحديد مواطن ضعف الفرد أو تقييمه بأنه غير قادرٍ على إحراز التقدُّم عند ظهور تحديات. وكثيرًا ما نلجأ إلى مثل هذه الاستجابات التي تنطوي على أحكام، بدلًا من طَرْح الأسئلة بشأن الفرد وبيئته.17
تتضح هذه النزعة على نحوٍ خاصٍّ حين يُواجِه الأفراد الذين ينتمون إلى الأقليات أو الفئات المهمشة أو المجموعات غير الممثلة تحدياتٍ في التكيُّف مع بيئات محددة أو النجاح فيها.18 فغالبًا ما يعرِّف النظام هؤلاء بأنهم «غير قادرين على النجاح.» يعجز هذا النهج القائم على العيوب عن تقييم تأثير العوامل البيئية في نتائج الأفراد على نحوٍ كافٍ. فأولئك الذين يوجَدون في موقعٍ يسمح لهم بإصدار الأحكام كثيرًا ما يفترضون أنَّ البيئة تخلو بصفة عامة من العوامل الحتمية التي تشكِّل حواجز للنجاح قد تقيِّد بالفعل من إمكانات الأفراد. علينا أن نستجيب لذلك مثلما نستجيب للنباتات ونتوقَّع أنَّ الأفراد قادرون على النمو. وعلينا بعد ذلك أن نستكشف الكثير من جوانب بيئتنا، مع تحليل مدى استجابتنا في إطار رعايتنا لهذه البيئة.
ولا ينبغي علينا، بالطبع، أن نفترض أنَّ النظام الذي نحاول أن نتقدَّم فيه نحن والآخرون معصوم من الخطأ أو أنَّ البيئة ملائمة. إنَّ الفهم الواعي لكيفية تأثير النظام في الفرد، سيثري ممارساتنا التفاعلية بدرجة كبيرة ويرتقي بها، من الدعم والإرشاد إلى القيادة. إضافةً إلى ذلك، فإنَّ فهْم تاريخ الدعم والإدماج في مؤسسةٍ ما أو الافتقار إليهما، يمكن أن يساهم في الحد من قابلية التعرض لمتلازمة المحتال. فثمة وعي متزايد بأنَّ هذه المتلازمة التي تنطوي على مشاعر الدونية بالرغم مما يبدو من نجاح، لا تنبع من عوامل داخلية تتعلق بالسمات الشخصية فحسب، بل تنبع من عوامل خارجية أيضًا كالمنافسة والعزلة والافتقار إلى الإرشاد.19
إنَّ المعرفة المعززة جيدًا بشأن الموارد المتاحة، مع الوعي الكامل باحتياجات الأفراد، يتيح لنا بذل جهود مستهدفة لتوصيل الأفراد بالموارد لمساعدتهم على النجاح. والحق أنَّ العمل في الإشراف البيئي واحد من أهم الأدوار التي يمكن أن نشغلها.20 ففي هذا الإشراف الفعال، سيدرك الداعمون ذوو العقلية القائمة على النمو حين تكون الموارد المتاحة غير كافية، ويسهِّلون توصيل الأفراد ببدائل مناسبة أو يساعدون في تغيير أحد الموارد القائمة (مثلما نفعل حين نستخدم مرشِّحات المياه لتنقية ماء الصنبور من الملوِّثات). وبإمكاننا تعزيز هذا التحوُّل في الموارد في مجتمعٍ ما من خلال تقديم التدريب لتحسين الإرشاد والدعم والقيادة. ويلعب قادة المجتمع دورًا أساسيًّا في تحديد التوقعات التي يخدمها أفراد المجتمع في مثل هذه الأدوار الداعمة؛ أي توفير بُنى للاستعداد من خلال الدعم والإرشاد وإرساء آليات المسئولية والمحاسبة ومكافأة الجهود وفقًا لذلك.
للداعمين والمرشدين والقادة أهمية كبيرة في مساعدة الأفراد على بلوغ كامل إمكانياتهم. فإذا كان لدينا شخصان يتمتعان بالكفاءة نفسها، فإنَّ الاحتمال الأرجح أن يكون النجاح من نصيب الشخص الذي يحصل على الموارد المناسبة أو الذي ينتمي إلى شبكة دعم أو شبكة تنموية ملائمة. ذلك أنَّ إمكانية تحقيق ناتج إيجابي تتوقَّف إلى حد كبير على وجود مقدمين للرعاية في شبكات قائمة يدركون أنَّ تجربتهم الشخصية وخبرتهم وحصولهم على الموارد يمكن أن يلبي الاحتياجات الفردية لأولئك الذين يدعمونهم، ويدفع أهدافهم. وتحقيق ذلك بفاعلية يستلزم ضمان استعداد الداعمين والزملاء لتقديم العناية الملائمة ثقافيًّا بناءً على أفضل الممارسات أو الابتكارات اللازمة. يمكن لقادة المجتمع وضع أهداف واضحة، مع توفير الوقت اللازم والحوافز للأفراد الذين يسعون إلى الارتقاء بمستوى رعايتهم للآخرين وخدمة المجتمعات.21
حين لا تتقدَّم العلاقات الداعمة على النحو الملائم، يمكن للداعمين والمرشدين والقادة أن يطلبوا المشورة من آخرين يتمتعون بالخبرة.22 فقد تؤدي النصيحة إلى التوصية بإجراءات معينة، أو المساعدة من خلال زيادة الوعي بالموارد أو تيسير إيصال مَن يحتاجون إلى الدعم والإرشاد بالموارد المتاحة.23 إنَّ طلب النصيحة من الخبراء بشأن رعاية النباتات ممن هم أكثر علمًا أو نجاحًا، لا يُعد ضعفًا، وعلى المنوال نفسه، علينا أن نعزِّز البيئات والمجتمعات والثقافات التي يُعَد طلبُ النصيحة فيها بشأن الطريقة المثلى لدعم الآخرين وإرشادهم موطن قوة، بل مسئولية، يتلقى التشجيع والتقدير والمكافأة.
إذا حدث، مع الأسف، أن لم تَسِرْ إحدى العلاقات الداعمة على نحوٍ جيد، فإنَّ طريقة رعايتنا بالنباتات يمكن أن تقدِّم لنا دروسًا. فمثلما نفعل مع نباتٍ لا ينمو جيدًا، علينا مراعاة أنَّ مقدِّم الدعم ربما لا يلبي احتياجات الشخص المتلقي للدعم، بدلًا من استنتاج أنَّ الفرد يعاني عيوبًا مستعصية. وفي حالة عدم التوافق الثقافي على وجه الخصوص، قد تُحسِّن التدخلات المتعلقة ﺑ «الممارسة ذات الصلة بالثقافة» في الإرشاد والدعم، من قدرات الداعمين على مساعدة أفراد ينتمون إلى نطاق واسع من الخلفيات المتنوعة.24 إنَّ الانخراط في مثل هذه الممارسات ذات الصلة بالثقافة يمكن أن «يساعدنا على فهم الطريقة التي نستطيع بها التركيز على ثراء الثقافة في المجتمعات المهمشة ومجتمعات الأقليات وزيادة فاعليتها»، إضافةً إلى تقييم الحواجز الهيكلية المنهجية التي تعيق العمليات.25 من المتطلبات الأساسية اللازمة لكي يعمل الفرد بفاعلية في أحد الأدوار الداعمة ذات الصلة بالثقافة هي «التمتع بمنظور مزدوج؛ أي رؤية [الشخص المتلقي للدعم] بصفته فردًا، وبصفته أيضًا جزءًا من سياق اجتماعي أكبر.»26 ويتضمن ذلك القدرة على اكتساب وعي كامل بأنَّ العديد من التحديات التي يواجهها العديد من الأفراد المنتمين إلى أقليات تنبع من تواريخ طويلة مترسخة من الظلم الممنهج.27 في الحالات التي لا يقدِّم فيها الداعم النفعَ لشخصٍ ما على نحوٍ جيد، وكان قد طلب النصيحة بالفعل بشأن كيفية تحسين العلاقة، فلا ينبغي أن يُعَد الاعتراف بأنَّ من غير المحتمل أن ينتهي الوضع على نحوٍ جيد فشلًا، والعمل على تيسير تحويل الفرد إلى مقدِّم رعاية أكثر ملاءمة. أما القيام بما سوى ذلك؛ أي الإصرار على الانخراط مع شخصٍ لا تتلاءم مهارات الدعم لديه مع احتياجات المتلقي للدعم، فقد يؤدي إلى فشل ازدهار ذلك الفرد فشلًا تامًّا. ينبغي أن يكون التركيز دائمًا على دعم النمو؛ ومن ثمَّ فلا ضرر ولا ضرار، بصرف النظر عن نوايا مقدِّم الرعاية.

•••

بمقدورنا بناء ثروة من المعرفة والإلهام بشأن كيفية دعم نمو الآخرين من خلال الملاحظة والتأمُّل وتطبيق الدروس بناءً على كيفية رعايتنا للنباتات. فالطريقة التي نندمج بها مع النباتات، من حيث تبني منظور النمو مع التأكيد على الاستقصاء والإدراك، يمكن أن تساعدنا على تحويل نهجنا تجاه الأفراد الذين يتلقون الإرشاد أو الدعم، إلى التركيز على مساعدتهم من أجل بلوغ أهدافهم الشخصية والمهنية. ومثلما نفعل مع النباتات، علينا استخدام الإشارات كمرشدٍ لنا في الاعتناء بالآخرين لدعم نجاحهم وازدهارهم.

إنَّ بيئاتنا الشخصيةَ والمهنيَّةَ دائمًا ما تُعطي الأولويَّةَ لنماذج النجاح والإنجاز الفردي، وتقدِّمها على الزمالة المجتمعية والتبادل.28 علينا أن نتحول من النُّهوج المستندة إلى العيوب في الإرشاد والدعم، لا سيما لهؤلاء الذين ينتمون إلى مجموعاتٍ لا تحظى بالتمثيل الجيد في بيئتهم التعليمية أو المهنية، إلى ممارسات النمو المستند إلى الدعم. يتمتَّع هذا النموذج القائم على النمو بإمكانيةٍ عظيمةٍ لتحسين النواتج للأشخاص القادمين من مجموعةٍ كبيرةٍ من الخلفيات والخصائص السكانية. فوجود الأفراد وازدهارهم في بيئتنا لا يعزِّز من نمونا فحسب، بل إنَّ له تأثيرًا إيجابيًّا أيضًا على المجتمعات التي نعيش ونعمل ونتعلم فيها.

ثمة الكثير ممَّا يمكن أن نتعلمه من كيفية رعاية النباتات بعضها بعضًا. فالطريقة التي تقوم بها النباتات الراعية بتقديم بعض المزايا للنباتات اليافعة التي تقوم ﺑ «إرشادها»، والمزايا التبادلية التي تحصل عليها النباتات الراعية فيما يتعلَّق بتحسين النمو والتكاثر، تُبيِّن لنا كيفية تقديم التعاون على المنافسة. إنَّ هذه النباتات الراعية، إلى جانب أنظمة الأخوات الثلاث، تذكِّرنا بأننا نزدهر على نحوٍ أفضل حين نعمل معًا.

«إنَّ قدرتنا على اتخاذ قراراتٍ حكيمةٍ وسليمةٍ ورغبتنا في ذلك ليست متأصلةً في جيناتنا، بل هي مهارةٌ مكتسَبة، ويمكن للنباتات أن تكون معلِّمًا رائعًا لنا.»

مونيكا جاجليانو
«وهكذا تكلَّم النبات»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤