سيد الأرض والثعلب

عند الطرف الشمالي لامتداد من الأرض المكشوفة، ارتفعَت تلةٌ صغيرة. كانت التلة مغطَّاة بالكامل بالعُشب المدبَّب الحواف، وفي منتصفها كانت تقف شجرةُ بتولا أنثويةٌ جميلة وحيدة.

لم تكن الشجرة، في الواقع، كبيرةً جدًّا، لكن جذعها كان يلمع باللون الأسود، وتفرَّعَت أغصانها بنحوٍ متناسق جميل. في شهر مايو، كانت أزهارها الفاتحة اللون تبدو كالسُّحب، بينما في الخريف، كانت تتساقط منها أوراقها ذات اللونَين الذهبي والقرمزي وألوانٍ أخرى متعددة.

جميع الطيور، من الطيور المهاجرة، مثل طائر الوقواق والنُّهس، وصولًا إلى طائر النمنمة الصغير وطائرٍ أبيض العين، كانت تأتي لتحُط على الشجرة. لكن إذا كان هناك بازٌ شاب أو طائرٌ كبير آخر هناك، فإن الطيور الأصغر كانت تُراقبه عن بُعد دون الاقتراب منه.

كان للشجرة صديقان. كان الأول سيد الأرض، الذي كان يعيش في وسط وهدةٍ مستنقعية على بُعد حوالَي خمسمائة خطوة، والآخر كان ثعلبًا بني اللون، وكان دائمًا يظهر من مكانٍ ما في الجزء الجنوبي من السهل.

من بين الاثنين كان الثعلب، ربما، هو المُفضَّل لدى شجرة البتولا. فسيد الأرض، على الرغم من اسمه المهيب، يبدو متوحشًا للغاية؛ إذ كان بشعرٍ أشعث متدلٍّ كحزمة خيوطٍ قطنية مهترئة، وعينَين داميتَين، وملابس تتدلى عليه مثل قطع الأعشاب البحرية. كان دائمًا يمضي حافي القدمَين، وأظافره سوداء طويلة. في المقابل، كان الثعلب حسن المظهر للغاية، ونادرًا ما يتسبب في غضب الناس أو إهانتهم.

لكن إذا قارنتَ بينهما بعناية، فسيظهر لك أن سيد الأرض كان صادقًا، في حين أن الثعلب كان، ربما، غيرَ صادق قليلًا.

•••

كان الوقت هو إحدى أمسيات بداية فصل الصيف. كانت شجرة البتولا تكتسي بأوراقٍ جديدة غضَّة تملأ الهواء من حولها برائحة تبعث على السرور. كانت مَجرَّة درب التبَّانة تمتد بيضاءَ عَبْر السماء، والنجوم تتلألأ تارةً وتخبو تارةً أخرى بطول السماء.

في تلك الليلة، جاء الثعلب لزيارة شجرة البتولا، مصطحبًا معه كتاب شِعر. كان يرتدي بدلةً زرقاء داكنة قد أحضرها للتوِّ من عند الخياط، وكان حذاؤه الجلدي ذو اللون البني الفاتح يُصدِر صريرًا طفيفًا أثناء سيره.

قال: «يا لها من ليلةٍ هادئة!»

قالت شجرة البتولا بهمس: «أوه، نعم!»

«هل ترَينَ كوكبة العقرب التي تزحف عَبْر السماء هناك؟ في الصين القديمة، كما تعلمين، كانوا يطلقون على أكبر نجم في الكوكبة «نجم النار».»

«هل هذا هو ما يُعرف بالمِريخ؟»

«لا يا عزيزتي. ليس المريخ. فالمريخ «كوكب». بينما هذا نجمٌ حقيقي.»

«إذَن ما الفرق بين الكوكب والنجم؟»

«حسنًا، لا يمكن أن يُضيء الكوكب من تلقاء ذاته. بمعنًى آخر، عليه أن يستمد الضوء من مكانٍ ما آخر قبل أن يكون بالإمكان رؤيته. أما النجم فهو ذاك الشيء الذي يُضيء من تلقاء نفسه. بالطبع، الشمس نجم. إنها تبدو لنا كبيرةً ومتوهجة، لكن إذا نظرنا إليها من مكانٍ بعيد جدًّا فسوف تبدو لنا مجرد نجمٍ صغير، تمامًا مثل جميع النجوم الأخرى.»

«عجبًا! الشمس إذَن ليست سوى أحد النجوم، أليس كذلك؟ إذَن أفترض أنه يُوجد في السماء عددٌ هائل من الشموس — لا النجوم — أوه ما أغباني! الشموس، بالطبع.»

ابتسم الثعلب برحابة صدر. وقال: «يُمكنكِ اعتبارها كذلك.»

«أتساءل لماذا بعض النجوم حمراء اللون وبعضها صفراء وبعضها خضراء.»

ابتسم الثعلب برحابة صدر مرةً أخرى وطوى ذراعَيه بوقار على صدره. تدلى كتاب الشِّعر من تحت ذراعه على نحوٍ خطير، لكنه بطريقةٍ ما توقف قبل سقوطه بقليل.

ثم تابع قائلًا: «حسنًا، في البداية كانت جميع النجوم كالسحب الكبيرة المنفوشة. ولا يزال يُوجد كثير منها في السماء. ويُوجد بعضها في مَجرَّة أندروميدا، وفي مَجرَّة أوريون، وفي مَجرَّة كلاب الصيد. بعضها حلزوني الشكل، والبعض الآخر على شكل حلقاتٍ تشبه فم السمكة.»

«أوَدُّ أن أراها في وقتٍ ما. نجومٌ لها شكل فم السمكة؛ كم هذا رائع!»

«أوه، إنها كذلك، أستطيع أن أؤكد لكِ ذلك. لقد سبق أن رأيتُها في المرصد الفلكي.»

«عجبًا! أريد أن أراها أيضًا.»

«سوف أريكِ إياها. في الواقع، بعثتُ بطلب لشراء تلسكوب من ألمانيا. سوف يكون هنا في وقتٍ ما قبل الربيع القادم، وسأدعُكِ تنظرين إلى النجوم من خلاله عندما يصل.»

كان الثعلب قد قال ذلك دون تفكير، ولكن في اللحظة التالية كان يقول في نفسه: «يا ويلي! ليتني لم أحضُر إلى هنا وأخبر صديقتي الوحيدة بكذبةٍ أخرى. لكني قلتُها فقط لإرضائها؛ فلم أقصد حقًّا أي إساءة لها قَط. في وقتٍ لاحق سأخبرها بالحقيقة.»

سكت الثعلب لبرهة وقد كان عقله مشغولًا بهذه الأفكار، بينما كانت شجرة البتولا سعيدةً للغاية بحيث لم تلاحظ ذلك.

فقالت للثعلب: «أنا سعيدةٌ للغاية! أنت لطيفٌ معي دائمًا.»

قال الثعلب بحزن بعض الشيء: «أوه، إلى حدٍّ بعيد. تعلمين أنني سأفعل أي شيء من أجلك. بالمناسبة، هل تهتمين بقراءة كتاب الشِّعر هذا؟ إن كاتبه رجلٌ يُدعى هاينه. إنها مُجرَّد ترجمة، بالطبع، لكنها ليست سيئة على الإطلاق.»

«أوه! هل حقًّا باستطاعتي استعارته؟»

«بالطبع. احتفظي به لأطول مدة ترغبين بها … حسنًا، الآن يجب أن أترككِ. لكني أشعر أنه يُوجد أمرٌ نسيتُ أن أخبركِ به.»

«نعم، بخصوص لون النجوم.»

«آه، بالطبع! لكن دعينا نؤجل هذا الحديث للمرة القادمة، أليس كذلك؟ يجب ألَّا أطيل البقاء.»

«أوه، لا مشكلة في ذلك.»

«على أي حال، سأعود مرةً أخرى قريبًا. أودِّعكِ إذَن. سأترك الكتاب معكِ. وداعًا.»

بسرعةٍ انطلق الثعلب نحو منزله. أما شجرة البتولا، وقد بدأ يُسمَع لأوراقها حفيفٌ بفعل ريحٍ جنوبية هبَّت فجأةً للتو؛ فقد تناولَت كتاب الشِّعر وأخذَت تقلِّب صفحاته في ضوء الوهج الخافت لدرب التبَّانة والنجوم التي كانت تُرصِّع السماء. ضم الكتاب قصيدة «لوريلي» وقصائدَ أخرى عديدة جميلة للشاعر هاينه، واستمرَّت شجرة البتولا في القراءة طوال الليل. ولم يبدأ النعاس في مغالبتها قليلًا إلا قُبيل الساعة الثالثة فجرًا، عندما بدأ برج الثور بالصعود بالفعل في الشرق فوق السهل.

بزَغ الفجر وأشرقَت الشمس في السماء. كانت قطرات الندى تتلألأ على العشب، والأزهار متفتحة بكامل أوْجِها. ببطء من الجهة الشمالية الشرقية جاء سيد الأرض مغمورًا بضوء الشمس الصباحي، كما لو كان قد سكب النحاس المصهور على نفسه. كان يسير ببطء، ببطءٍ شديد وذراعاه مطويتان بمهابة فوق صدره.

بطريقةٍ ما، شعرَت شجرة البتولا بالضيق بعض الشيء، لكن، رغم ذلك، هزَّت أوراقها الخضراء الزاهية في الاتجاه القادم منه سيد الأرض، فأخذ ظلها يتماوج على العُشب حيث سقط. صَعِد سيد الأرض بهدوء ووقف أمامها.

«صباح الخير يا شجرة البتولا.»

«صباح الخير.»

«هل تعلمين، يا شجرة البتولا، أنه تُوجد كثير من الأشياء التي لا أفهمها عندما أفكِّر فيها؟ نحن حقًّا لا نعرف الكثير، أليس كذلك؟»

«أي نوع من الأشياء؟»

«حسنًا، العُشب، على سبيل المثال. لماذا يجب أن يكون لونه أخضر عندما يخرج من تربةٍ بنية داكنة؟ ثم هناك الأزهار الصفراء والبيضاء. كلها أشياء خارج نطاق فهمي.»

قالت شجرة البتولا: «أليس من المحتمل أن تكون بذور العشب خضراء أو بيضاء اللون من الداخل؟»

قال سيد الأرض: «نعم. نعم، أظن أن ذلك ممكن. لكن مع ذلك فإنه شيءٌ خارج نطاق فهمي. تأمَّلي مثلًا فِطر عيش الغراب في الخريف. إنه يخرج مباشرةً من الأرض دون أي بذور أو أي شيء. ومع ذلك يظهر ملوَّنًا بالأحمر والأصفر وجميع أنواع الألوان. أنا لا أفهم ذلك كليًّا.»

قالت شجرة البتولا، وهي لا تزال متحمسة جدًّا بشأن حديث الليلة الماضية بحيث لا تعرف كيف ترُد على نحوٍ أفضل: «ماذا لو سألتُ السيد ثعلب؟»

تغيَّر لون وجه سيد الأرض فجأةً وضَم قبضتَيه.

«ما هذا؟ السيد ثعلب؟ ما الذي كان يقوله الثعلب؟»

قالت شجرة البتولا بتلعثم: «أوه، في الحقيقة هو لم يقل أي شيء. لقد اعتقدتُ فقط أنه ربما يعرف.»

«وما الذي يجعلكِ تعتقدين أن الثعلب لديه شيء ليُعلم سيدًا مثلي، هه؟»

عندها، توتَّرَت شجرة البتولا بشدة لدرجة أنها لم تستطِع إلا أن ترتعش. كان سيد الأرض يذرع المكان عاقدًا ذراعَيه فوق صدره وهو يَصِر بأسنانه بصوتٍ عالٍ طوال الوقت. حتى العشب كان يرتجف رعبًا أينما سقط ظله الأسود الحالك عليه.

قال سيد الأرض: «هذا الثعلب آفة على وجه الأرض! لا يقول كلمة حق واحدة. وهو أيضًا حقير وجبان وحسود بنحوٍ فظيع.»

مستعيدةً رباطة جأشها أخيرًا، قالت شجرة البتولا: «سيَحين قريبًا موعد المهرجان السنوي في مقامك، أليس كذلك؟»

خفَّ انفعال سيد الأرض قليلًا.

وقال: «هذا صحيح. اليوم هو الثالث من الشهر، هكذا، يتبقى ستة أيام فقط على انطلاقه.»

لكن بعد ذلك فكَّر لبُرهة ثم انفجر غاضبًا فجأةً مرةً أخرى.

وقال: «الناس، رغم ذلك، لا فائدة منهم! فهم لا يجلبون معهم هذه الأيام ولو قربانًا واحدًا لمهرجاني. عجبًا، أول شخص سوف يطأ منطقتي سأجُرُّه إلى قاع المستنقع عقابًا له.»

وقف هناك وهو يَصِر على أسنانه بصوتٍ عالٍ. أما شجرة البتولا فقد انزعجَت كثيرًا عندما وجدَت أن محاولاتها لكبح غضبه كان لها تأثيرٌ معاكس مرةً أخرى، ولم يعُد بإمكانها فعل أي شيء سوى أن تميل بأوراقها مع النسيم. لفترة من الوقت سار سيد الأرض بخُطًا طويلة وهو يجزُّ على أسنانه وذراعاه مطويتان عاليًا فوق صدره، وكان كامل جسده يتوهج بينما ضوء الشمس ينهمر عليه. لكن كلما فكر في الأمر أكثر، زاد الغضب البادي على وجهه. وفي النهاية لم يعُد يحتمل البقاء أكثر، فغادر عاصفًا إلى منزله.

•••

كان سيد الأرض يعيش في مستنقعٍ بارد ورطب بشدة، تنمو في كل أرجائه الطحالب، والبرسيم والبوص القصير الممتلئ، وكانت تُوجد هنا وهناك نبتةٌ شوكية أو شجرةُ صفصافٍ ملتوية بشكلٍ رهيب. كانت تُوجد أماكنُ مُشبعة بالمياه، والتي تتسرَّب منها المياه مكونةً بُقعًا بلون الصدأ. عليك فقط إلقاء نظرةٍ واحدة على المكان حتى تدرك كيف أنه كله مُوحِل ومخيفٌ بعض الشيء.

فوق بقعة تشبه جزيرةً صغيرة في وسط المكان، كان يقع مقام سيد الأرض، المصنوع من كتل الخشب، والذي يبلغ ارتفاعه حوالي ست أقدام.

عند عودته إلى هذه الجزيرة، تمدَّد بالكامل على الأرض بجانب ضريحه، وأخذ يحُكُّ ساقَيه الداكنتَين الهزيلتَين طويلًا وبقوة.

عند ذلك، لاحظ طائرًا يُحلِّق في السماء فوق رأسه تمامًا، فجلس وصاح بصوتٍ عالٍ: «ابتعِد!» فترنَّح الطائر مذعورًا، وبدا للحظة أنه كاد أن يسقط على الأرض، لكنه طار مبتعدًا، ثم بالتدريج فقد قدرته على التحليق عاليًا، كما لو أن الشلل قد أصاب جناحَيه.

ضحك سيد الأرض ضحكةً صغيرة، وكان على وَشكِ أن يقف على قدمَيه عندما تصادف أنه نظر باتجاه التلة، التي لم تكن بعيدة، حيث كانت تنمو شجرة البتولا. وسرعان ما عاد إليه غضبه؛ أصبح وجهُه شاحبًا، وتصلَّب جسده وشرَع في شد شَعر رأسه الجامح.

ظهَر حطَّابٌ كان في طريقه للعمل على جبل ميتسوموري من الجهة الجنوبية للمستنقع، والذي كان يمشي بخطواتٍ واسعة على طول المسار الضيق الذي يحد حافته. كان يبدو عليه أنه يعرف كل شيء عن سيد الأرض؛ لأنه كان ينظر بقلق بين الفَينة والأخرى باتجاه المقام. لكنه لم يستطِع، بالطبع، رؤية أي أحدٍ هناك.

عندما رأى سيد الأرض الحطَّاب، اغتبط مبتهجًا. مدَّ ذراعه نحوه، وأمسك بمعصمه بيده الأخرى، وبدا كما لو كان يسحبها للخلف. ومن الغريب أن الحطَّاب الذي كان يعتقد أنه لا يزال يمشي على المسار، وجد نفسه يمضي تدريجيًّا أعمق وأعمق داخل المستنقع. فجعله هذا يمشي بوتيرةٍ سريعة بانزعاج، وقد شحَب وجهه، وفغَر فاه، وبدأ يلهث.

لفَّ سيد الأرض مِعصَم الحطَّاب ببطء. وعند قيامه بذلك، بدأ الحطَّاب يدور في دوائر ببطء. فازداد قلقه أكثر فأكثر، إلى أن بدأ أخيرًا يدور ويدور في نفس المكان وهو يلهث يائسًا أثناء ذلك. بدا أنه كان يفكر فقط في كيفية الخروج من المستنقع بأسرعِ ما يمكنه، لكن رغم كل جهوده ظل يدور في مكانه. في النهاية، بدأ ينتحب ثم اندفع يركُض رافعًا ذراعَيه.

بدا أن ذلك قد أسعد سيد الأرض. فابتسم ابتسامةً عريضة فقط، وراح يراقب الحطَّاب دون أن ينهض عن الأرض، حتى سقط الحطَّاب الذي أصبح الآن دائخًا ومنهكًا بعد وقتٍ قصير في الماء. عندئذٍ نهض سيد الأرض ببطء على قدمَيه. وبخطواتٍ واسعة شق طريقه إلى حيث كان الحطَّاب موجودًا، والتقَطه وألقاه فوق الأرض المُعشِبة. سقط الحطَّاب على العشب بقوة. تأوَّه لمرةٍ واحدة وتحرك، لكنه لم يستعِد وعيه.

ضحك سيد الأرض بصوتٍ عالٍ. صَعِدت ضحكته إلى السماء على شكل موجاتٍ كبيرة غريبة. وبعد أن وصل الصوت إلى السماء، ارتدَّ إلى المكان الذي كانت تقف فيه شجرة البتولا. فأصبحت الشجرة شاحبةً جدًّا فجأةً لدرجة أن ضوء الشمس سطع باللون الأخضر عَبْر أوراقها، وبدأَت ترتعش باهتياج.

أخذ سيد الأرض يشُد شَعره بقوة بكلتا يدَيه. وقال مُحدِّثًا نفسه: «كل هذا البؤس الشديد الذي أشعر به سببُه الثعلب. أو بالأحرى شجرة البتولا. لا، الثعلب وشجرة البتولا. هذا هو السبب في معاناتي الشديدة. لو أنني فقط لم أهتم بأمر الشجرة، لكنتُ أقل اهتمامًا بأمر الثعلب. ربما أنا لستُ بالشخص المهم جدًّا، لكنني سيد الأرض في النهاية، وإنه لمن المخزي أن أسمح لمجرد ثعلب بإزعاجي. لكن المريب في الأمر أنني أفعل ذلك. ثم لماذا لا أنسى كل ما يخُص شجرة البتولا؟ لأنني لا أستطيع. كم كان رائعًا هذا الصباح عندما شحَبتُ وارتعَدت! لقد كنتُ مخطئًا عندما تنمَّرتُ على شخصٍ بائس كالحطَّاب فقط للتخلص من توتُّر أعصابي، لكن لم يكن هناك مفَر من ذلك. لا أحد بإمكانه أن يقول ماذا يمكن لشخصٍ ما أن يفعله عندما يتملكه الغضب.»

كان سيد الأرض يشعُر بحزنٍ شديد لدرجة أنه كان يضرب الهواء في يأس. جاء طائرٌ آخر يُحلِّق في السماء، لكن هذه المرة أخذ سيد الأرض فقط يراقبه وهو يمضي في صمت.

من بعيد جدًّا، جاء صوت سلاح الفرسان أثناء مناوراتهم، مع طقطقة طلقات البنادق التي تشبه صوت إلقاء الملح على ألسنة اللهب. من السماء سقط الضوء الأزرق على شكل موجات. لا بد أن ذلك كان له تأثيرٌ جيد على الحطَّاب؛ لأنه استرَدَّ وعيه، وجلس بخجل وألقى نظرةً حوله. في اللحظة التالية نهض وبدأ يركُض كسهمٍ أُطلِق من قوس. لقد أخذ يركُض بعيدًا في اتجاه جبل ميتسوموري.

أثناء مشاهدته له ضحك سيد الأرض ضحكةً كبيرة مرةً أخرى. وارتفع ضحكه إلى أعالي السماء الزرقاء مرةً أخرى، وارتد للأسفل حيث تُوجد شجرة البتولا. مرةً أخرى، أصبحَت أوراق الشجرة شاحبة، وراحت ترتعش برقَّة، برقةٍ شديدة لدرجة أنك لم تكن لتلاحظ ذلك.

أخذ سيد الأرض يسير حول مقامه بلا هدف، إلى أن اندفع في النهاية فجأةً إلى الداخل عندما بدا أنه يشعُر بالهدوء أكثر.

•••

كانت ليلة ضبابية في شهر أغسطس. كان سيد الأرض يشعر بالوحدة بنحوٍ رهيب والغضب بنحوٍ مخيف؛ مما دفعه فجأةً لمغادرة مقامه، وبدأ يمشي. وقبل أن يدرك ذلك على نحوٍ وثيق، كانت قدماه تذهبان به نحو شجرة البتولا. لم يستطِع أن يعرف السبب، لكن كلما كان يفكر بها، يبدو أن قلبه كان يتبدل حاله، وكان يشعر بحزن لا يُطاق. في تلك الفترة، كان أهدأ نفسيًّا من ذي قبل، وقد بذل قصارى جهده حتى لا يفكر في الثعلب أو شجرة البتولا. لكن بالرغم من أنه حاول بكل استطاعته فإنهما كانا لا يزالان يَشغلان تفكيره. كان كلَّ يوم يقول لنفسه مرارًا وتَكرارًا: «أنت سيد الأرض في النهاية. فماذا يمكن أن تعني لك مجرد شجرة بتولا؟» لكن الحزن الشديد استمر ولم يفارقه. إن ذكرى الثعلب كانت تُزعِجه على وجه الخصوص حتى كان يبدو أن جسده يحترق بالكامل.

مستغرقًا في أفكاره، وجد نفسه يقترب أكثر فأكثر من شجرة البتولا. وأخيرًا تبيَّن له تمامًا أنه كان في طريقه لرؤيتها، وبدأ قلبه يرقص من الفرح. لقد مرَّ وقتٌ طويل على لقائهما الأخير. ربما تكون قد اشتاقت إليه. في الواقع، كلما فكَّر بالأمر، شعَر أنه متأكد من ذلك أكثر. وإذا كان هذا هو الحال بالفعل، فإنه كان يشعر بالأسف الشديد لكونه قد أهملها. رقص قلبه وهو يمشي بخطواتٍ واسعة عَبْر العشب. لكن سرعان ما اضطربَت خطواته الواسعة وتوقَّف تمامًا؛ فقد شعر فجأةً بأن موجةً زرقاء كبيرة من الحزن كانت تغمُره. كان الثعلب هناك وقد وصل قبله. كان الظلام شديدًا وقتَها لكنه تمكَّن من سماع صوت الثعلب قادمًا عَبْر الضباب المتوهج في ضوء القمر الضعيف.

كان الثعلب يقول: «عجبًا، بالطبع، إن كون شيءٍ ما متوافقًا مع قوانين التناظر لا يعني أنه جميل. ذلك ليس أكثر من جمالٍ ميت.»

جاء صوت شجرة البتولا الناعم: «أنت على حقٍّ بالطبع.»

«إن الجمال الحقيقي ليس شيئًا جامدًا ومتحجرًا. يتحدث الناس عن أهمية أخذ قوانين التناظر بعين الاعتبار، لكن يكفي أن تكون روح التناظر موجودة.»

ردَّت شجرة البتولا بصوتها الناعم ثانيةً: «أوه، نعم، أنا متأكدة أن هذا صحيح.»

عندها شعر سيد الأرض كما لو أن ألسنة حمراء من اللهب تلتهم جسده بالكامل. فضاقت أنفاسه كثيرًا، وشعَر فعلًا بأنه لم يعُد يستطيع تحمُّل الأمر أكثر. فسأل نفسه بغضب: «ما الذي يضايقك بشدة هكذا؟ ما هذا في النهاية سوى حديثٍ قصير بين شجرة بتولا وثعلب خارجًا في الخلاء! أنت تدعو نفسك بسيد الأرض، فكيف تسمح لمثل هذه الأمور أن تزعجك؟»

لكن الثعلب كان يتحدث ثانيةً:

«إن جميع كُتب الفن تتطرق لهذا الجانب.»

سألت شجرة البتولا: «هل عندك كثير من كتب الفن إذَن؟»

«أوه، ليس بالعدد الكبير. أعتقد أن معظمها مكتوبٌ باللغة الإنجليزية أو الألمانية أو اليابانية. لكنَّ هناك كتابًا جديدًا مكتوبًا بالإيطالية، لكن لم أحصُل عليه بعدُ.»

«لا بد أن لديك مكتبةً رائعة.»

«لا، لا. في الحقيقة عددٌ قليل من المجلدات المتناثرة. بالإضافة إلى ذلك فإنني أستخدم المكان لدراستي أيضًا؛ لذلك هناك نوعٌ من الفوضى، مع وجود مِجهَر في إحدى زواياه وجريدة «ذا تايمز» اللندنية في زاويةٍ أخرى، وتمثالٍ نصفي من الرخام ليوليوس قيصر في زاوية ثالثة …»

«أوه، ومع ذلك يبدو المكان رائعًا! حقًّا رائعًا!»

ربما من التواضع أو الفخر، تنهَّد الثعلب قليلًا، ثم ساد الهدوء لفترة من الوقت.

أصبح ربسيد الأرض الآن غاضبًا بشدة. فمن خلال ما قاله الثعلب، بدا أنه قد أصبح مَحَط إعجاب الآخرين أكثر منه هو نفسه. وهكذا لم يعُد بوسعه مواساة نفسه بفكرة أنه كان سيد الأرض؛ إذ لم يعُد هناك ما يُثبِت ذلك. كان الأمر مُريعًا بالنسبة له. شعَر برغبة في أن يهجُم على الثعلب ويشطُره نصفَين. لكنه قال لنفسه إنه لا يجب عليه حتى التفكير في مثل هذه الأشياء. لكن ما الذي من المفترض أن يفعله؟ أليس هو من سمح للثعلب بأن يكون أفضل منه؟ غرَز أظافره في صدره في بؤس.

بدأَت الحديث شجرة البتولا مرةً أخرى قائلةً: «هل وصل التلسكوب الذي ذكَرتَه لي ذات مرة؟»

أجاب الثعلب: «التلسكوب الذي ذكَرتُه؟ أوه، لا، لم يصل بعدُ. ما زلتُ أنتظر وصوله، لكن طرق الشحن مزدحمة للغاية. وحالما يصل سوف أحضِره مباشرةً إليك لتستخدميه. يجب حقًّا أن أدعَكِ تشاهدين الحلقات التي تدور حول كوكب الزهرة، وهذا مثالٌ واحد فقط. إنها جميلة جدًّا.»

عند ذلك، وضع سيد الأرض يدَيه على أذنَيه وانطلق بعيدًا باتجاه الشمال. فقد شعَر فجأةً بالخوف مما يمكن أن يصدُر عنه إذا بقي هناك لفترةٍ أطول.

أخذ يركُض ويركُض في خطٍّ مستقيم. ووجد نفسه في النهاية يقف عند أسفل جبل ميتسوموري وقد بدا عليه الإنهاك وأخذ يتنفس بصعوبةٍ بالغة.

أخذ يتدحرج على العشب وهو يشُد شعره. ثم بدأ يبكي بصوتٍ عالٍ. ارتفع الصوت إلى السماء حيث تردَّد صدى صوته كالرعد في غير أوانه، وجعل نفَسَه مسموعًا في جميع أنحاء السهل. استمر في البكاء حتى الفجر حتى أصابه الإجهاد، فتجول في النهاية عائدًا إلى مقامه خاليَ الوفاض.

•••

مرَّ الوقت وجاء الخريف أخيرًا. كانت شجرة البتولا لا تزال خضراء، لكن كان قد ظهر للعشب حولها بالفعل حواف ذهبية والتي كانت تتلألأ مع هبوب النسيم، وهنا وهناك انتشر توت زنابق الوادي الناضج الأحمر.

في أحد الأيام الخريفية الذهبية الصافية، كان سيد الأرض في أفضل حالاته المزاجية. فجميع الأشياء المزعجة التي كان يشعُر بها خلال الصيف بدا أنها قد تلاشت بعض الشيء، وتحوَّلَت فقط إلى نوع من الضباب الذي كان يحوم فوق رأسه في أكثر الحلقات غموضًا. كما أن فظاظته الغريبة التي كان يتسم بها قد اختفت أيضًا. لقد شعَر أن بإمكان شجرة البتولا التحدث مع الثعلب متى أرادت، وإذا كان الاثنان يستمتعان بالدردشة معًا، فهذا أمرٌ جيد جدًّا لكليهما. كان سيجعل شجرة البتولا تتعرَّف على حقيقة شعوره اليوم. بقلبٍ منير ورأسٍ مليء بهذه الأفكار، انطلق سيد الأرض لزيارتها.

رأته شجرة البتولا قادمًا من بعيد، وبدأَت ترتعد بقلق كالعادة وهي تنتظر وصوله.

صَعِد سيد الأرض وحيَّاها بابتهاج.

ثم قال: «صباح الخير يا شجرة البتولا. يا له من يومٍ جميل!»

«صباح الخير، يا سيد الأرض. نعم، جميل، أليس كذلك؟»

«إن هذه الشمس نعمة بالتأكيد! ها هي هناك بالأعلى، حمراء في الربيع، بيضاء في الصيف، وفي الخريف صفراء. وعندما تتحول إلى اللون الأصفر في الخريف، يتحول لون العنب إلى اللون البنفسجي. آه، إنها نعمة حقًّا!»

«هذا صحيح.»

«أتعلمين؟ أشعر اليوم بتحسنٍ كبير. لقد خُضتُ كل أنواع المِحَن منذ الصيف، لكن في هذا الصباح أخيرًا وبنحوٍ مفاجئ شيءٌ ما قد خرج من ذهني.»

أرادت شجرة البتولا أن ترُد عليه، لكن لسببٍ ما بدا أن ثقلًا كبيرًا يضغط عليها فلزمَت الصمت.

«أشعر الآن أنني على استعداد للذهاب للموت عن طيب خاطر من أجل أي شخص. حتى إنني سأحلُّ محلَّ دودة إذا كان عليها أن تموت ولا ترغب في ذلك.» أثناء كلامه كان يُحدِّق بعيدًا في أعماق السماء الزرقاء بعينَيه الداكنتَين الجميلتَين.

مرةً أخرى أرادت شجرة البتولا الرد، ولكن بدا أن شيئًا ثقيلًا يُثقِل كاهلها مرةً أخرى، وبالكاد تمكَّنَت من التنهد.

في ذلك الحين ظهر الثعلب.

عندما رأى الثعلب سيد الأرض هناك، جفَل وشحَب وجهه. لكنه وجد صعوبة في العودة، فتوَجَّه مباشرةً وهو يرتعش قليلًا إلى حيث وقفَت شجرة البتولا.

وقال: «صباح الخير يا شجرة البتولا. أعتقد أنه سيد الأرض الذي أراه هناك، أليس كذلك؟» لقد كان يلبس حذاءَه الجلدي البني الفاتح ومِعطفَه المطري البني أيضًا، ولا يزال يضع على رأسه قُبَّعتَه الصيفية.

«نعم، أنا سيد الأرض. إنه طقسٌ جميل، أليس كذلك؟» قال هذا بذهنٍ صافٍ.

قال الثعلب لشجرة البتولا ووجهُه شاحب من الغَيرة: «يجب أن أعتذر لمجيئي عندما يكون لديك زائر. هذا هو الكتاب الذي كنتُ قد وعدتُكِ به قبل أيام. أوه، وسأريكِ التلسكوب ذات مساء عندما تكون السماء صافية. وداعًا.»

بدأَت شجرة البتولا الحديث قائلةً: «أوه، شكرًا لك …» لكن الثعلب كان قد انطلق بالفعل نحو المنزل دون إيماءة للزائر الآخر. أصاب الشحوب شجرة البتولا وبدأَت ترتجف مرةً أخرى.

بانشداهٍ حدَّق سيد الأرض لفترة من الوقت في هيئة الثعلب المغادرة. ثم لمح بريقًا مفاجئًا لأشعة الشمس على حذاء الثعلب الجلدي البني وسط العشب، وتمالك نفسَه في جفول. لكن في اللحظة التالية، بدا أن شيئًا ما كان ينقرُ في دماغه. كان الثعلب يمشي مبتعدًا بثبات ويتبختر بتحدٍّ نوعًا ما. بدأ سيد الأرض يغلي غضبًا. وتحوَّل وجهُه إلى لونٍ داكن مخيف. كان سيُريه من يكون؛ هذا الثعلب بكُتبه عن الفن وتلسكوباته.

انطلَق بلمح البصر وراءه. بذعرٍ شديد بدأَت أغصان شجرة البتولا تهتزُّ كلها دفعةً واحدة. ومستشعرًا أن هناك شيئًا مريبًا، نظر الثعلب حوله بنحوٍ عرَضي فلم يشاهد سوى سيد الأرض، الذي كان لونه أسوَدَ بالكامل، يندفع وراءه كالإعصار. جرى الثعلب مثل الريح، وكان وجهه أبيضَ وفمُه ملتويًا من شدة الخوف.

بالنسبة لسيد الأرض، بدا العُشب المحيط به مشتعلًا كالنار البيضاء. حتى السماء الزرقاء اللامعة أصبحَت فجأةً حفرةً سوداءَ فاغرةً فاها تشتعل وتزمجر في أعماقها ألسنة نيرانٍ قرمزية اللون.

ركضَا وهما ينخران ويلهَثان مثل قطارَين مسرعَين. كان الثعلب يركُض وكأنه في حُلم، وجزء من دماغه لم يتوقف عن ترديد: «هذه هي النهاية. هذه هي النهاية. تلسكوب. تلسكوب. تلسكوب.»

كانت أمامه ربوةٌ صغيرة من أرضٍ جرداء. فانطلق يدور حولها حتى يصل إلى الفتحة المستديرة عند قاعدتها. أنزَل رأسه وبدأ يغوص في الحفرة، ورجلاه الخلفيتان تتجهان للأعلى أثناء تقدُّمه عندما انقضَّ عليه سيد الأرض أخيرًا من الخلف. في اللحظة التالية، كان الثعلب مقلوبًا ورأسُه يتدلى على يد سيد الأرض وقد تغضَّنَت شفتاه وكأنما ارتسمَت عليهما ابتسامةٌ صغيرة.

ألقى سيدُ الأرض الثعلبَ على الأرض وداس بقوة أربع مرات أو خمسًا على جسده الناعم الليِّن. ثم نزل إلى داخل حُفرة الثعلب. كان المكان خاليًا ومظلمًا تمامًا على الرغم من أن الطين الأحمر للأرضية قد جرَت تسويتُه بنحوٍ جيد وأنيق.

خرج سيد الأرض من الحفرة ثانية وقد ارتسمَت أمارات الاستغراب الشديد على وجهه، وفمُه متهدل ومُلتوٍ. ثم أدخل يده في جيب مِعطَف الثعلب المطري وهو راقدٌ هناك ممددًا وبلا حَراك. كان الجيب يحتوي فقط على غِلافَين شوكيَّين بُنيَّين، من النوع الذي تستخدمه الثعالب لتمشيط فرائها. خرج صوتٌ غريب للغاية من فم سيد الأرض المفتوح ثم انفجر بالبكاء.

سقطَت دموعه كالمطر على جسد الثعلب الراقد هناك ميتًا، والذي قد تدلى رأسه بلا حَراك وارتسمَت على فمه أوهَنُ الابتسامات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤