جورش عازف التشيلُّو

كان جورش هو عازف آلة التشيلُّو في دار السينما في البلدة. لسوء الحظ كان معروفًا عنه أنه ليس بالعازف الجيد. «ليس بالعازف الجيد» ربما ليس هو التعبير المناسب؛ لأن عزفه في الحقيقة كان أسوأ من عزف أيٍّ من زملائه الموسيقيين، وكان دائمًا يتعرَّض للنقد القاسي من قِبل قائد الفرقة الموسيقية لهذا السبب.

بعد ظُهر أحد الأيام، كانوا جميعُهم يجلسون في دائرة خلف الكواليس يتدرَّبون على السيمفونية السادسة لبيتهوفن، التي كانوا سيؤدونها في قاعة الحفلات الموسيقية في المدينة قريبًا.

كانت الأبواق تُدوِّي بكل قوة.

وكانت آلات الكلارينيت تدعمُها.

وكانت آلات الكمان أيضًا تعزف بحماسة.

أما جورش، فكان يشذُّ في عزفه عن الجميع؛ إذ كان غير متيقظ لما يدور حوله، يُطبِق شفتَيه ويُحملِق بالنوتة الموسيقية التي أمامه بعينَين كبيرتَين تبدُوان كصُحون الفناجين.

فجأة، صفَّق قائد الفرقة الموسيقية بيدَيه.

فتوقَّف الجميع عن العزف على الفور، وساد الصمت.

صاح القائد: «لقد تأخَّر التشيلُّو! تم–تيدي، تيدي–تي … هيا أعيدوا العزف مرةً أخرى من الجزء الذي يبدأ ﺑ تم–تيدي، تيدي-تي. أفهمتم؟» وهكذا بدأ الجميع بالعزف من النقطة التي تسبق تلك التي كانوا قد وصلوا إليها. وبوجهٍ أحمر وجبينٍ متعرق بالكامل، تمكَّن جورش على نحوٍ ما من تجاوُز الجزء الصعب. وكان جورش يعزف الجزء الذي يليه بنوع من الارتياح، عندما صفَّق القائد بيديه مرةً أخرى.

«يا عازف التشيلُّو! إنك تخرُج عن الإيقاع! ما الذي يمكن أن نفعله معك؟ ليس لديَّ الوقت لأعلِّمك السُّلم الموسيقي البسيط، كما تعلم!»

شعَر الآخرون بالأسف تجاه جورش، وحدَّقوا عمدًا بنُوتهم الموسيقية، أو شرَعوا في ضبط آلاتهم. وعلى الفور، راح جورش يشُد أوتار آلته.

«من المازورة السابقة. أفهمتم؟»

بدأ الجميع بالعزف مرةً أخرى. كان فم جورش ملتويًا وهو يحاول العزف بنحوٍ صحيح. لأول مرة، تمكَّنوا من مواصلة العزف لنقطةٍ متقدمة دون أي مشكلات، وكان جورش يشعُر بالرضا الشديد عن نفسه عندما عبَس قائد الفرقة وأمر العازفين بالتوقف عن العزف. قال جورش محدثًا نفسه بقلبٍ مرتجف: «أوه، لا … ليس مرةً أخرى.» لكن هذه المرة، لحسن الحظ، كان المخطئ شخصًا آخر. فتعمَّد جورش النظر من كثَب إلى نوتته الموسيقية، كما كان قد فعل الآخرون عندما شعَروا بالأسف من أجله، وبذل قصارى جهده ليبدو منغمسًا في شيءٍ آخر.

«دعُونا ننتقل مباشرةً إلى الجزء التالي. حسنًا؟»

لكن جورش، الذي كان يشعُر بالاعتداد بنفسه، لم يكَد يبدأ بالعزف حتى ضرب القائد بقدمه على الأرض بقوة وبدأ في الصراخ.

وقال: «لن يُجدي هذا. هناك حالة من الاضطراب والفوضى في الفرقة. هذا الجزء هو قلبُ العمل بأكمله، وانظروا كيف تُشوِّهونه. أيها السادة، لدينا عشرة أيام فقط حتى موعد العرض. نحن موسيقيون محترفون … كيف لنا أن نُواجه الناس إذا كان أداؤنا أشبه بأداء مجموعةٍ غير منظَّمة من الموسيقيين غير المهرة؟ أنت يا جورش. أنت إحدى المشكلات الرئيسية. لا يظهر عليك أي تعبير. لا غضب، لا فرح … أي شعور على الإطلاق. كما أنك لا تتزامن في عزفك مع عزف زملائك على الآلات الأخرى. أنت دائمًا تتأخر، وتشبه في ذلك من لا يُحكِم ربط رباط حذائه فيتدلى على الأرض مما يجعله يُبطئ في مشيه. لن يُجدي ذلك … عليك أن تُطوِّر من نفسك. ليس من العدل للآخرين أن يصبح اسم فرقة فينوس الموسيقية ملطخًا بالوحل بسبب رجلٍ واحد. حسنًا، إذَن … لنتوقف عن التدريب الآن. خذوا قسطًا من الراحة، وكُونوا في المكان المحدد عند الساعة السادسة تمامًا.»

انحنَوا جميعًا، ثم ذهبوا للتدخين أو التجول في الخارج.

حاملًا التشيلُّو الرخيص الخاص به الشبيه بالصندوق بين ذراعَيه، أدار جورش وجهه للحائط. كان فمُه ملتويًا وتنهمر دموعٌ غزيرة على خدَّيه، لكنه سرعان ما لملم شتات نفسه، وبدأ بمفرده وبهدوءٍ كبير في العزف مرةً أخرى من البداية الجزء الذي عزفوه للتو.

•••

في وقتٍ متأخر من ذلك المساء، وصل جورش إلى منزله وهو يحمل شيئًا أسود ضخمًا على ظهره. لم يكن منزله في الحقيقة أكثر من طاحونةٍ قديمة متهالكة تقع بجوار نهر في ضواحي المدينة. وكان يعيش هناك بمفرده. وكان يقضي صباحه في تقليم الطماطم والتقاط اليرقات من حبات الكرنب في الحقل الصغير المحيط بالطاحونة، بينما كان يخرج دائمًا في فترة ما بعد الظهيرة.

دخل جورش المنزل وفتح الشيء الأسود. كان يُوجد بداخله بالطبع آلة التشيلُّو الضخمة القبيحة التي كان يعزف عليها في وقتٍ مبكر من ذلك المساء. أنزَلها برفق على الأرض، ثم أخذ كوبًا وصبَّ فيه بعض الماء من دلو وشربه بسرعة.

بعد ذلك، وهو يهزُّ برأسه، جلس على كرسي، وبدأ في عزف المقطوعة الموسيقية التي كانوا يتدربون عليها ذلك اليوم، مُغيرًا على آلته بضراوة نمر.

وهو يُقلب صفحات النوتة الموسيقية، أخذ يعزف لبُرهة ويفكِّر، ثم يفكِّر لبرهة ويعزف، وعندما كان يصل إلى النهاية كان يبدأ مرةً أخرى من البداية، ماضيًا بعزفه على نفس الوتيرة مرارًا وتكرارًا.

استمَر على ذلك المنوال إلى ما بعد منتصف الليل بوقتٍ طويل، حتى إنه في النهاية بالكاد أصبح يُميِّز فيما إن كان هو من يعزف أم أحدٌ آخر. بدا مُريعًا، وكأنه قد ينهار في أي لحظة؛ إذ كانت عيناه داميتَين بشدة ووجهُه متوردًا للغاية.

بعد ذلك مباشرةً، نقر أحدُهم على الباب الموجود خلفه ثلاث مرات.

نادى كما لو كان نصف نائم: «هل هذا أنت يا هورش؟» لكن لم يكن هورش من دفع الباب ودخل، بل كان قطًّا كبيرًا فراؤه يُشبِه صدفة السلحفاة كان قد رآه من قبلُ أكثر من مرة في الأنحاء.

كان القِط يحمل، بجهدٍ كبير كما بدا، حبة طماطم نصف ناضجة كان قد أتى بها من حقل جورش، ووضعها أمامه.

قال: «أُف! كان ذلك متعبًا. إن حمل الأشياء عملٌ فظيع.»

صاح جورش متعجبًا: «ماذا …؟»

قال القط: «إنها هدية لك.»

كل الغيظ الذي كان يُراكِمه جورج بداخله منذ وقتٍ سابق في ذلك اليوم انفجر لتوِّه دفعةً واحدة.

«من طلب منكَ أن تُحضِر حبة الطماطم؟ لماذا أريد أي شيء من شخصٍ مثلك؟ وحبة الطماطم تلك، بالإضافة إلى ذلك، هي من حقلي. ما الذي تظن أنك فاعله؟ … تقطفها قبل نضوجها! أعتقد أنه أنت إذَن من كان يقطع السيقان ويُبعثِرها في أنحاء المكان؟ اخرُج من هنا، أيها القِط اللعين!»

كل ذلك جعل كتف القط الزائر يتدلى وعينَيه تضيقان، لكنه أجبَر نفسه على الابتسام ابتسامةً عريضة وقال: «يجب ألا تغضب يا سيدي هكذا؛ فهذا سيئ جدًّا على صحتك. لماذا لا تعزف شيئًا عوضًا عن ذلك؟ على سبيل المثال، «تروميري» لشومان. … سأكون أنا جمهورك.»

«لم أسمع بمثل هذه الوقاحة اللعينة قَط. ومن قِط!»

شاعرًا بغضبٍ شديد، قضى جورش بعض الوقت في التفكير في الأشياء التي يَرغَب في فعلها في هذا المخلوق.

قال القِط: «هيا، لا تخجل. أرجوك. كما تعلم، أنا لا أستطيع الخلود للنوم ما لم أستمع لعزفك.»

«لقد سئمتُ من وقاحتك! سئمت، أقول! سئمت!»

كان وجه جورش قد أصبح أكثر احمرارًا، وكان يصرخ ويضرب الأرض بقدمَيه، تمامًا كما كان قد فعل قائد الفرقة في وقتٍ سابق من ذلك اليوم. لكن، فجأة، غيَّر رأيه وقال: «حسنًا، إذَن، سوف أعزف!» بتجهُّم، أغلَق الباب وأوصَد جميع النوافذ، ثم أخرج آلة التشيلُّو وأطفأ الضوء. وعندما فعل ذلك، أضاء ضوءُ القمر القادم من الخارج نصف الغرفة.

«ما الذي كنتَ تريد أن تسمعه؟»

قال القط بصوتٍ جاد تمامًا وهو يمسح فمه أثناء كلامه: «… «تروميري». لشومان.»

«أوه. «تروميري». بالطبع. هل هكذا تُعزف؟»

متجهمًا مرةً أخرى، مزَّق منديله إلى قِطع وأغلَق بها كلتا أذنَيه. ثم بدأ بقوة في عزف قطعة تُسمَّى «صيد النمور في الهند».

استمع القط لفترة من الوقت ورأسه مَحْني، لكنه فجأةً رمش بعينَيه بسرعة وقفز نحو الباب. ارتطم جسده بالباب لكنه لم ينفتح. فأصابت القط حالة هياجٍ كبيرة، وتطايَر الشرَر من عينَيه ومن جبهته. ثم تطايَر من شاربه وأنفه أيضًا الذي أصبح يُدغدِغه، فبدا لوهلةٍ أنه على وشك أن يعطس، وبدأ يُهروِل في المكان كما لو أنه لا يستطيع البقاء ساكنًا. كان جورش مسرورًا بالتأثير الذي أحدثه، وبدأ يعزف بقوةٍ أكثر.

قال القط: «سيد جورش، ذلك يكفي، شكرًا لك. هذا يكفي. أتوسَّل إليك أن تتوقف. أعدُك بأنني لن أخبرك مرةً أخرى بما يجب عليك فعله.»

«اهدأ! لقد وصلنا لتوِّنا إلى الجزء الذي يصطادون فيه النمر.»

عندها أصبح القِط يقفز صعودًا وهبوطًا في ألم، ثم بدأ يعدو بمحاذاة كل جدران الغرفة، مما أعطى وهجًا أخضر قصيرًا عندما كان يحتكُّ بها. وفي النهاية أصبح يلفُّ في حركةٍ دائريةٍ سريعة.

بدأ رأس جورش يدور قليلًا، فقال: «حسنًا، سوف أتركُك الآن.» وأخيرًا توقَّف عن العزف.

أجبر القِط نفسه على أن يبدو هادئًا. وقال: «سيد جورش، يوجد شيءٌ مختلف في عزفك لهذه الليلة. أليس كذلك؟»

مرةً أخرى، شعر جورش بالانزعاج الشديد، لكنه بدون تركيز أخرج سيجارة ووضعها في فمه، ثم أخذ عود ثقاب وقال: «ماذا عنك؟ هل أنت متأكد أنك على ما يُرام؟ دعني أُلقي نظرةً على لسانك.»

بنحوٍ فظٍّ نوعًا ما، أخرج القِط لسانه الطويل المدبَّب.

قال عازف التشيلُّو: «آها! أخشى أنه يبدو خشنًا بعض الشيء»، ودون سابق إنذار، أشعل عود الثقاب فوق لسانه وأشعل سيجارته. إن القول بأن القِط كان مصدومًا، لا يُعبِّر جيدًا عن الأمر؛ فقد ركض، وهو يُلوِّح بلسانه كلُعبةِ طاحونة الهواء، باتجاه الباب، وضرب رأسه به، ثم ترنَّح بعيدًا، وعاد واصطدم به مرةً ثانية وترنَّح، ثم عاد واصطدم به مرةً أخرى وترنَّح، محاولًا بيأسٍ الهروب.

لفترة من الوقت راقبه جورش بمتعة، ثم قال له: «سأدعُك تخرج. وتذكَّر ألا تعود مرةً أخرى. غبي!»

فتح الباب، واندفع القط بسرعة البرق عَبْر عشب البامباس. ابتسم جورش قليلًا بينما كان يُراقِبه وهو يذهب، ثم ذهب لسريره ونام بهدوء وكأن حِملًا قد انزاح عن كاهله.

•••

في مساء اليوم التالي أيضًا، عاد جورش للمنزل وهو يحمل نفس الشيء الأسود على ظهره، وبعد أن شرب كميةً كبيرة من الماء، بدأ بالعزف بنشاز على التشيلُّو الخاص به مرةً أخرى. وسرعان ما أصبحَت الساعة الثانية عشرة، ثم الواحدة، فالثانية، وجورش كان ما يزال ماضيًا في عزفه. كان مستمرًّا في العزف، وهو بالكاد مُدرِك كم كان الوقت أو حتى حقيقة أنه كان يعزف، عندما سمع أحدهم يدُق على الجانب الآخر من السقف.

صرخ: «ماذا! … ألَم تكتفِ بعدُ أيها القط؟» وعندئذٍ جاء صوت نقر من فتحة في السقف، وإذا بطائرٍ رمادي يعبُر من خلالها ويسقط على الأرض. لقد كان طائرَ وقواق.

قال جورش: «إذَن، أصبح لديَّ طيورٌ الآن أيضًا. ماذا تريد؟»

قال الوقواق بجديةٍ تامة: «أريد أن أتعلم الموسيقى.»

قال جورش مبتسمًا: «الموسيقى، صحيح؟ لكن كل ما يمكنك غناؤه هو كوكو، كوكو، أليس كذلك؟»

قال طائر الوقواق بجدية: «بلى، هذا صحيح. لكنك تعرف أنه من الصعب جدًّا القيام بذلك.»

«صعب؟ المشكلة الوحيدة لدى طيور الوقواق هي اضطرارها إلى الغناء كثيرًا. لا تُوجد صعوبة في النغمات الفعلية، أليس كذلك؟»

«بلى، فعليًّا هذا هو السبب في صعوبة الأمر الشديدة. على سبيل المثال، إذا غنَّيتَ هكذا — كوكو — ثم هكذا — كوكو — تجد أنهما مختلفان تمامًا فقط من خلال الاستماع، أليس كذلك؟»

«بالنسبة إليَّ يبدُوان نفس الشيء.»

«ذلك لأن أذنك ليست مُرهَفةً بما فيه الكفاية. بإمكانك أن تُغنِّي عشرة آلاف كوكو وستكون مختلفةً كلها بالنسبة لنا.»

«لن أجادلك في هذا. لكن إذا كنتَ جيدًا جدًّا في ذلك، فلماذا كان عليك أن تأتي إليَّ؟»

«أريد أن أتعلم السُّلم الموسيقي بنحوٍ صحيح.»

«لمَ عليك تعلُّم السلم الموسيقي؟»

«أوه، إن المرء يحتاج إليه إذا كان مسافرًا للخارج.»

«ولماذا تريد السفر للخارج؟»

«سيدي … أرجو منك أن تُعلمني السُّلم الموسيقي. سوف أغنِّيه معك وأنت تعزف.»

«أوه، تبًّا! انظر، سوف أعزفه ثلاث مراتٍ فقط، وعندما أنتهي، أريد منك الخروج من هنا.»

أخذ جورش آلة التشيلُّو الخاصة به، وشد الأوتار حتى يضبطها، ثم عزف: دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي، دو.

لكن طائر الوقواق خفق بجناحيه في حزن.

وقال: «لا، لا. ما هكذا ينبغي أن يسير الأمر.»

«ليس هناك ما يُرضيك. حاول أنت إذَن.»

«هكذا يكون.» انحنى الطائر للأمام قليلًا، واستجمع قواه، ثم صدَح بصوته كوكو واحدة.

«حسنًا! هل تُسمِّي ذلك سُلمًا موسيقيًّا؟ إذا كان كذلك، فإنه سلمٌ موسيقي عادي، والسيمفونية السادسة بالنسبة لكم يجب أن تكون عبارة عن كوكو متكرِّرة متماثلة.»

«أوه، لا، إنها مختلفة تمامًا.»

«كيف؟»

«إحدى الصعوبات تكون عندما تُكرِّرها كثيرًا بنحوٍ متتالٍ.»

«هل تقصد مثل هذا، على ما أعتقد؟» أخذ جورش التشيلُّو مرةً أخرى وبدأ يعزف عددًا من الكوكو بنحوٍ متتابع.

ابتهجَ الطائر كثيرًا عند سماعه ذلك كثيرًا، لدرجة أنه في وسط ذلك بدأ بغناء كوكو بالتزامن مع عزف جورش. استمَر بالغناء وهو يميل بجسده جيئة وذهابًا.

بدأ جورش يشعُر بأن يدَيه تؤلمانه؛ لذلك توقَّف.

وقال: «يا هذا، هذا يكفي، أليس كذلك؟»

لكن طائر الوقواق ضيَّق عينَيه في حزنٍ شديد، واستمر في الغناء لفترةٍ قصيرة، إلى أن صدح في النهاية كوكو، كوك–كوك–كوك–كو وتوقف.

في تلك اللحظة كان الغضب يتملك من جورش.

«انظر … إذا انتهيت، يمكنك الانصراف.»

«أوه، أرجوك. ألن تعزفها مرةً أخرى فقط؟ لا يزال هناك شيءٌ غير صحيح فيها من جانبك.»

«ماذا؟ ليس من المفترض أن أتعلم منك. هيا، اذهب إلى المنزل.»

قال الطائر وهو يميل برأسه في تذلل: «أرجوك، لمرةٍ واحدة أخرى فحسب. أرجوك …»

«حسنًا، إذَن، هذه المرة فحسب.» وهكذا جهَّز جورش قوسه.

غرَّد طائر الوقواق بكوك واحدة ثم قال: «لأطول فترةٍ ممكنة إذا كنتَ لا تمانع.» وانحنى برأسه مرةً أخرى.

قال جورش: «ليساعدنا الرب.» وبدأ العزف بابتسامةٍ ممتعضة. مرةً أخرى انغمس طائر الوقواق تمامًا في الحالة، وغنَّى بكل طاقته وهو يميل بجسده ذهابًا وإيابًا: كوكو، كوكو، كوكو.

في البداية، شعَر جورش بالغضب الشديد، لكن مع استمرار العزف بدأ ينتابه شعورٌ غريب بأن طائر الوقواق كان، بطريقةٍ ما، هو من كان يعزف نغمات السُّلم الموسيقي. في الواقع، كان كلما عزف أكثر، اقتنع أكثر بأن طائر الوقواق كان أفضل منه.

وقال: «يا للجحيم! سأصبح طائر وقواق إذا واصلتُ ذلك»، وتوقَّف عن العزف فجأةً.

ترنَّح طائر الوقواق كما لو أن أحدهم قد ضربه على رأسه، ثم، تمامًا كما كان قد فعل من قبلُ، غنَّى: كوكو، كوكو، كوك–كوك–كوك، وتوقَّف.

قال الطائر وهو ينظر إلى جورش باستياء: «لمَ توقفتَ؟ أي طائر وقواق جدير بالاحترام كان سيستمر في الغناء بأعلى صوته حتى يؤلمه حلقه بشدة بحيث لا يكون قادرًا على الاستمرار.»

«عجبًا، يا صفيق … هل تظن أنه يمكنني الاستمرار في العبث بهذا النحو إلى الأبد؟ هيا، اخرج الآن. يا هذا، ألا تستطيع أن ترى أن الوقت الآن قد قارب الفجر؟» وأشار إلى النافذة.

كانت السماء الشرقية تتحول إلى اللون الفضي الباهت؛ إذ كانت السُّحب السوداء تمُر عَبْرها بسرعة باتجاه الشمال.

«ألا نستطيع الاستمرار حتى طلوع الفجر؟ ما علينا سوى الانتظار لوقتٍ قصير.»

أحنى طائر الوقواق رأسه مرةً أخرى.

«هذا يكفي! يبدو أنك تعتقد أنه بإمكانك فعل ما تريد دون مراعاة للآخرين. إذا لم تخرج، فسوف أنتف ريشك، يا أيها الطائر الغبي، وآكلك في الإفطار.» وضرب بقدمه على الأرض بقوة.

بدا أن هذا قد أخاف طائر الوقواق؛ ذلك لأنه فجأةً طار لأعلى نحو النافذة، فقط ليضرب رأسه بقوة بالزجاج، ويسقط على الأرض ثانية.

«انظر إلى نفسك أيها الأحمق، وأنت تصطدم بالزجاج!» وبسرعةٍ نهض جورش لفتح النافذة، لكن النافذة لم تكن قَط من النوع الذي يُفتح بسهولة، وأخذ يُحرِّك الإطار بقوة عندما ارتطم طائر الوقواق به، وسقط على الأرض مرةً أخرى.

كان بإمكان جورش رؤية قليل من الدم يسيل من قاعدة منقاره.

«سأفتحه لك؛ لذا انتظر لحظة، رجاءً.» بصعوبةٍ بالغة كان قد فتح النافذة بمقدار بضع بوصات فقط عندما نهض طائر الوقواق، ثم طار باهتياجٍ شديد وهو يحدِّق بقوة بالسماء الشرقية فيما وراء النافذة، وبدا وكأنه كان مصممًا على النجاح هذه المرة بأي ثمن كان. في هذه المرة، بالطبع، ارتطم بالنافذة بقوةٍ أكثر من ذي قبل، وسقط على الأرض حيث بقي ساكنًا تمامًا لبعض الوقت. غير أنه عندما مد جورش إحدى يدَيه ليحمله نحو الباب ليدعه يطير بعيدًا، فتح الطائر فجأةً عينَيه وقفز بعيدًا عن متناول يدَيه. بدا عليه كما لو أنه كان سيطير باتجاه النافذة ليرتطم بها ثانية؛ لذلك، ودون تفكير تقريبًا، رفع جورش ساقه وضرب النافذة ضربةً قوية.

اثنان أو ثلاثة ألواح من النافذة تحطَّمَت مُحدِثةً صوتَ ارتطامٍ هائل، وسقطَت النافذة برُمتها إلى الخارج، الإطار وكل شيء. طار طائر الوقواق للخارج كالسهم من خلال الفتحة الكبيرة التي خلَّفها الحُطام. استمَر في الطيران لمسافةٍ بعيدة إلى أن غاب عن الأنظار كليًّا. لفترة من الوقت ظل جورش ينظر للخارج في اشمئزاز، ثم ارتمى بتثاقُل في زاويةٍ من زوايا الغرفة، واستسلم للنوم بمكانه.

•••

في اليوم التالي، عزف جورش أيضًا على آلة التشيلُّو الخاصة به حتى منتصف الليل. كان متعَبًا ويشرب كأسًا من الماء عندما سمع نقرًا على الباب مرةً أخرى.

أيًّا كان زائره، كان يقول لنفسه إنه كان سيتخذ موقفًا تهديديًّا منذ البداية، ويُبعدُه قبل أن يحدُث الشيء نفسه الذي حدث مع طائر الوقواق. وبينما كان ينتظر وكأس الماء بيده، انفتح الباب قليلًا ودخل منه شِبل غرير. فتح جورش الباب أكثر قليلًا، ثم ضرب بقدمه على الأرض.

صاح: «أنت، اسمع، هل تعرف ما هو حَساء الغرير؟» لكن الغرير جلس بنحوٍ منظَّم على الأرض والحَيرة تبدو على وجهه، وبدأ يفكِّر لفترة بينما يميل برأسه إلى أحد الجانبَين.

قال بصوتٍ خافت: «حَساء الغرير؟ لا.»

تعابير وجه شبل الغرير جعلَت جورش يريد أن ينفجر ضحكًا، لكن سرعان ما رسَم على وجهه تعابيرَ صارمة، وتابع قائلًا: «إذَن سأخبرك. حَساء الغرير، كما تعلم، هو غرير مثلك تمامًا جرى غليه مع الكرنب والملح كوجبةٍ لذيذة مُعدَّة لمن هم مثلي.»

كان الغرير الصغير لا يزال ينظر بحَيرة وقال: «لكن والدي، كما تعلم، قال إن عليَّ أن أذهب لأدرس مع السيد جورش؛ لأنه رجل لطيف جدًّا، ولا داعي للخوف منه على الإطلاق.»

لدى سماعه هذا، ضحك جورش أخيرًا بصوتٍ عالٍ جدًّا. وقال: «وماذا قال لك إنك ستدرُس؟ عليك أن تعلم أنني مشغول. ونعسان أيضًا.»

تقدَّم الغرير الصغير للأمام كما لو كان قد استجمع شجاعته فجأةً.

وقال: «اعلم أنني من أعزف على الطبلة المطوَّقة، وقد قيل لي أن أذهب وأتعلم العزف برفقة آلة التشيلُّو.»

«لكنني لا أرى أي طبلةٍ مطوَّقة.»

«هنا … انظر.» وأخرج الغرير عصوَين كانتا متدليتَين على ظهره.

«وماذا تنوي أن تفعل بهما؟»

«اعزف رجاءً مقطوعة «المدرب السعيد»، وسترى.»

««المدرب السعيد»؟ ما هذا؛ مقطوعة جاز أو شيء من هذا القبيل؟»

«هذه هي النوتة الموسيقية.»

هذه المرة، أخرج الغرير من خلف ظهره ورقةً عبارة عن نوتةٍ موسيقية. أخذها منه جورش وضحك.

«حسنًا، هذه قطعةٌ موسيقية مضحكة! تمام. دعنا نبدأ إذَن. أنت ستعزف على الطبلة، أليس كذلك؟» وبدأ العزف وهو يُراقِب شبل الغرير من زاوية عينه ليرى ماذا سيفعل.

ووسط دهشة جورش، بدأ الغرير بحيوية في الضرب بعصوَيه على جسم التشيلُّو تحت الجسر. ولم يكن أداؤه سيئًا على الإطلاق، وفيما كان يعزف وجد جورش نفسه قد بدأ يستمتع بالأمر.

عندما وصلا للنهاية، ظل الغرير يفكر لفترة من الوقت وهو يميل برأسه جانبًا. ثم أخيرًا بدا وكأنه قد توصَّل لنتيجة من نوعٍ ما؛ إذ قال: «عندما تعزف على الوتر الثاني هذا، فإنك تتأخر، أليس كذلك؟ يبدو أن ذلك يجعلني أخرج عن الإيقاع بطريقةٍ ما.»

فوجئ جورش بذلك. لقد كان محقًّا؛ فمنذ مساء اليوم السابق كان يشعُر أنه مهما كانت براعته في العزف على هذا الوتر بالذات، كان هناك دائمًا تأخير قبل أن يخرُج صوت النغمة.

فقال بحزن: «هل تعلم أنك ربما تكون على حق؟ هذا التشيلُّو ليس جيدًا.» بدا الغرير متعاطفًا معه، وسرح بتفكيره لبرهة مرةً أخرى.

«أتساءل أين الخلل فيه. هل تُمانِع في عزفها مرةً أخرى؟»

«بالطبع.» وبدأ جورش بالعزف ثانيةً. بدأ الغرير بالعزف كما حدث في المرة السابقة وقد أخذ يميل برأسه إلى جانبٍ واحد من حين لآخر كما لو أنه كان يُصغي لآلة التشيلُّو. وفي الوقت الذي انتهى فيه كلاهما من العزف كان هناك وميضُ ضوءٍ يسطع مرةً أخرى من جهة الشرق.

«انظر … لقد قارب الفجر على البزوغ. شكرًا جزيلًا لك.» على عَجَل، رفع الغرير الصغير العصوَين والنوتة الموسيقية على ظهره وربطها هناك بشريطٍ مطاطي، وانحنى مرتَين أو ثلاثًا وخرج مسرعًا من المنزل.

جلس جورش لفترةٍ قصيرة وهو شارد الذهن، يستنشق الهواء البارد الذي يدخل من خلال النافذة التي كان قد حطمها الليلة الماضية، ثم قرر أن ينام ويستعيد نشاطه للذهاب إلى البلدة، فذهب إلى سريره.

•••

في اليوم التالي، أيضًا، ظل جورش مستيقظًا طوال الليل يعزف على آلة التشيلُّو الخاصة به. كان الفجر على وشك البزوغ، وكان قد بدأ يغفو بينما كانت النوتة الموسيقية ما تزال في يده، عندما سمع مرةً أخرى نقر أحدهم. كان النقر خافتًا جدًّا لدرجة أنه كان من الصعب التأكد من أن أحدهم كان قد طرق بالفعل أم لا، لكن جورش، الذي اعتاد على هذا بحلول ذلك الوقت، سمع الطَّرق في الحال وقال: «فلتدخُل.»

فُتح الباب بحوالَي بوصة أو اثنتَين، ودخلَت منه فأرةُ حقل تقود فأرَ طفلٍ صغير الحجم للغاية. وبتردُّد، تقدَّمَت نحو جورش. أما بالنسبة للفأر الصغير، فقد كان صغيرًا جدًّا — تقريبًا بحجم مَمْحاة — لدرجة أن جورش لم يستطع منع نفسه من الابتسام. أخذَت الأم تنظر حولها وكأنها تتساءل فيما قد يكون سبب ابتسامه، ثم وضَعَت أمامها حبة كستناء خضراء، وانحنَت بنحوٍ جيد للغاية.

ثم قالت: «سيد جورش! هذا الطفل ليس على ما يُرام، وأخشى أنه قد يموت. أتوسل إليك، لطفًا منك، أن تشفيه.»

سألها جورش بفظاظة نوعًا ما: «كيف تتوقعين مني أن أفعل ذلك؟»

نظرَت الفأرة الأم إلى الأرض وبقيَت صامتةً لبعض الوقت، ثم بدا أنها استجمعَت شجاعتَها وقالت: «أعلم جيدًا أنك تُعالِج كل أنواع الأشخاص كل يوم، وأنك ماهرٌ جدًّا في ذلك أيضًا.»

«لا أعرف ما الذي تتحدثين عنه.»

«لكن بفضلك تحسَّنَت جدة الأرنب، أليس كذلك؟ ووالد الغرير، وحتى ذَكَر البومة العجوز البغيض هذا قد شُفي، أليس كذلك؟ لذا في ظل هذه الظروف أعتقد أنه من غير اللائق جدًّا منك أن تقول إنك لن تُنقِذ هذا الطفل.»

«انتظري لحظةً … لا بد أن هناك خطأً ما. فأنا لم أعالج قَط أيَّ ذكَرِ بومةٍ مريض. لكن في الحقيقة كان عندي هنا الغرير الصغير الليلة الماضية، والذي بدا وكأنه عضو في الفرقة.»

ضحك وهو ينظر إلى الفأر الطفل في حَيرة.

لكن الفأرة الأم بدأت في البكاء.

«يا ويلي، إذا كان على الطفل أن يمرَض فقد كنتُ أتمنى فقط لو أنه فعل ذلك في وقتٍ أبكر. لقد كنتَ تُقعقِع بآلتك هنا منذ فترةٍ وجيزة، ثم ما إن مرض حتى تلاشى الصوت نهائيًّا، وأنت ترفض الآن العزف مرةً أخرى. يا له من صغيرٍ مسكين!»

صرخ جورش مذهولًا: «ماذا؟ تقصدين أنني عندما أعزف فإن الأرانب والبوم المريضة تتحسَّن حالتها؟ عجبًا، كيف؟»

قالت فأرة الحقل وهي تفركُ عينَيها بإحدى كفوفها: «كلما مرض سكان هذه المنطقة، فإنهم يزحفون تحت أرضية منزلك.»

«هل تعنين أنهم يتعافَون؟»

«نعم، إن العزف يُحسِّن الدورة الدموية بنحوٍ رائع. إنهم يشعُرون بتحسنٍ كبير. بعضُهم يُعالَجون على الفور، والبعض الآخر بعدما يزورون المنزل مرةً أخرى.»

«آه، لقد فهمت. تقصدين أنه عندما يقعقع التشيلُّو الخاص بي فإنه يعمل بمنزلة نوع من التدليك؟ … الآن فهمت. حسنًا جدًّا، سأعزف لأجلك.» ضربَ على الأوتار قليلًا لضبطها، ثم فجأةً أمسك بالفأر الصغير بين أصابعه وأدخله في الفتحة الموجودة في التشيلُّو.

قالت الفأرة الأم باهتياج وهي تقفز داخل التشيلُّو: «سأذهب معه. كل المستشفيات تسمح بذلك.»

قال جورش: «إذَن أنتِ أيضًا تريدين الدخول، أليس كذلك؟» وحاول مساعدتَها للدخول من خلال الفتحة، لكنها استطاعت إدخال نصف وجهها فقط.

قالت لصغيرها في الداخل بينما كانت تدفع نفسها وتُصارِع من أجل الدخول: «هل أنت بخير بالداخل؟ هل سقطتَ بنحوٍ صحيح على كفوفك الأربعة كما كنتُ أعَلمُك دائمًا؟»

قال الفأر الصغير بصوتٍ خافت جدًّا كان بالكاد يُسمع من أسفل التشيلُّو: «أنا بخير. لقد سقطتُ بنحوٍ جيد.»

قال جورش: «بالطبع هو بخير. لذلك لا نُريدكِ أن تبكي الآن.»

وضع جورش الفأرة الأم على الأرض، ثم تناوَل قوسَه وراح يعزف لحنًا مرتجلًا. جلسَت الأم تستمع بقلق إلى جودة الصوت، لكن، أخيرًا، بدا أنها لم تعُد تتحمل الانتظار، وقالت: «هذا يكفي، شكرًا لك. هل يمكنك إخراجه الآن، من فضلك؟»

«حسنًا! هل هذا كل شيء؟» قلَب جورش التشيلُّو، ووضع يده بجانب الفجوة، وانتظر. وعلى الفور تقريبًا ظهر الفأر الصغير. ودون أن يَنبِس بكلمة، وضعه جورش على الأرض. كانت عينا الطفل مغمضتَين تمامًا، وأخذ يرتجف ويرتجف وكأنه لن يهدأ أبدًا.

سألت الفأرة الأم طفلها: «كيف كان الأمر؟ كيف تشعُر؟ هل أنت أفضل؟»

لكنه لم يرُد، بل ظل جالسًا لفترة من الوقت مُغمَض العينَين وقد أخذ يرتجف ويرتجف، ثم قفز فجأةً لأعلى وبدأ يركض.

«انظر، إنه أفضل! شكرًا جزيلًا لك، يا سيدي، شكرًا جزيلًا.» ذهبت الفأرة الأم وركضَت قليلًا مع طفلها، لكنها سرعان ما عادت إلى جورش وقالت وهي تنحني مرارًا وتكرارًا: «شكرًا جزيلًا لك، شكرًا جزيلًا لك»، مُكرِّرةً ذلك حوالَي عشر مرات.

وبطريقةٍ ما، شعَر جورش بالشفقة الشديدة تجاههما.

قال: «والآن … هل تأكلان الخبز؟»

بدَت فأرة الحقل الأم مصدومة. وقالت وهي تنظر حولها باضطراب: «أوه، لا! يقول الناس بأن الخبز خفيف جدًّا وجيد للأكل — إذ يبدو أنهم يصنعونه من الطحين المعجون — لكن نحن بالطبع لم نقترب قَط من خِزانتك، ولن نرغب أبدًا في القدوم لسرقته بعد كل ما صنعتَه من أجلنا.»

«لا … هذا ليس ما أقصده. أنا أسأل فقط إذا كان بإمكانكما تناوُله. لكن بالطبع يمكنكما ذلك. انتظري لحظة، إذَن، سوف أعطي بعضًا منه لهذا الطفل لسوء معدته.»

وضع التشيلُّو على الأرض، وذهب إلى الخزانة، واقتطع بعضًا من الخبز، ووضعه أمامهما.

بكت الفأرة الأم وضحكَت وانحنَت لجورش تمامًا كما لو أنها قد فقدَت عقلها، ثم وبحذرٍ شديد وضعَت الخبز في فمها وخرجَت وهي تدفع بطفلها أمامها.

قال جورش: «يا إلهي! إنه لمن المرهق تمامًا التحدث إلى الفئران.» ثم رمى بنفسه على سريره، وسرعان ما نام وراح يشخر.

•••

كان هذا في مساء اليوم السادس التالي للأحداث السابقة. بوجوهٍ متوهجة، ذهب أعضاء الفرقة الموسيقية فينوس، يحمل كل واحد منهم آلتَه في يده، متفرقين من مسرح قاعة البلدة إلى غرفة الموسيقيين في الخلف. لقد أدَّوا للتَّو السمفونية السادسة بنجاحٍ كبير. كانت عاصفة التصفيق ما تزال مستمرةً في القاعة. كان قائد الفرقة ويداه في جيبَيه، يسير ببطء بينهم كما لو أن التصفيق لم يكن يعني له شيئًا على الإطلاق، لكنه في الحقيقة كان سعيدًا للغاية. كان بعضهم يضع السجائر بين شفاهه ويُشعِل أعواد الثقاب، والبعض الآخر يضع آلاته داخل حقائبها.

كان التصفيق لا يزال مستمرًّا في القاعة. وفي الواقع، كان يعلو باطراد وبدأ يدعو للقلق لأن الأمور قد تخرج عن السيطرة. عند ذلك، دخل عليهم مدير الحفلات، والذي كان يضع وردةً تزيينية بيضاء كبيرة على صدره.

وقال: «إن الجمهور يدعوكم للظهور ثانيةً. هل بإمكانكم عزف مقطوعةٍ قصيرة من أجلهم؟»

أجاب قائد الفرقة بحزم: «أخشى أنه لا يمكننا ذلك. لا يُوجد شيءٌ يمكننا القيام به ويكون مُرضيًا لنا بعد هذا العمل الكبير.»

«إذَن ألن تخرج وتتحدث إليهم؟»

«كلا. أنت يا جورش. اذهب واعزف لهم شيئًا، ما رأيك؟»

قال جورش بدهشة كبيرة: «أنا؟»

قال مدير الحفلات فجأةً، رافعًا رأسه: «أنت … نعم، أنت.»

قال قائد الفرقة الموسيقية: «هيا، الآن. هيا اذهب.»

وضع الآخرون التشيلُّو الخاص به في يدَيه، وفتحوا الباب، ودفعوا به للأمام. وعندما ظهر على خشبة المسرح ممسكًا بالتشيلُّو وهو يشعُر بالحرج، صفَّق الجمهور بصوتٍ أعلى وكأنه يقول: «انظروا هناك، هل ترونه؟» حتى إن بعضهم بدأ بالهُتاف.

قال جورش محدثًا نفسه: «لكن هل يجدون الاستهزاء بأحد الأشخاص أمرًا ممتعًا؟ حسنًا … سأريهم. سأعزف لهم معزوفة «صيد النمور في الهند».»

بهدوءٍ تام الآن، تقدَّم إلى منتصف خشبة المسرح. وبدأ بعزف «صيد النمور في الهند» بكل طاقة فيلٍ غاضب، تمامًا كما فعل عندما أتى لمنزله القِط. ساد الصمت بين الجمهور، وأصغَوا بكل ما أُوتوا من قوة. استمر جورش بالعزف بثباتٍ وهمَّة. الجزء الذي أخذ القِط فيه يقفز صعودًا وهبوطًا في ألمٍ عُزف وانتهى. وهكذا الحال بالنسبة للجزء الذي رمى بنفسه عنده على الباب مرةً تلو الأخرى.

عندما انتهى من العزف أخيرًا، لم ينظر جورش حتى إلى الجمهور، بل رفع التشيلُّو، وجرى بسرعة، تمامًا كما كان قد فعل القِط، وذهب إلى غرفة الموسيقيين. لكن هناك وجد قائد الفرقة وجميع زملائه جالسين صامتين تمامًا، يُحدِّقون للأمام مباشرةً كما لو حدث حريقٌ للتَّو.

مشى جورش، الذي لم يعُد يهتم بما حدث، بسرعة من أمامهم، وألقى بنفسه على أريكة في الجانب الآخر من الغرفة، ووضع ساقًا على الأخرى.

استداروا جميعًا للنظر إليه، لكن بدلًا من أن يسخروا منه، كانت تعابيرهم جادَّة.

قال جورش في نفسه: «لا أستطيع فهم ما يحدُث هذا المساء.» لكن قائد الفرقة وقف وقال: «جورش، لقد كنتَ رائعًا! قد لا تكون الموسيقى معروفةً كثيرًا، لكنك جعلتَنا نُواصِل الإصغاء دون توقُّف. لقد تحسَّن أداؤك كثيرًا خلال الأسبوع أو الأيام العشرة الماضية. عجبًا، إن مقارنتَه بأدائك قبل أيام العشرة الماضية يشبه مقارنةَ مجنَّدٍ قليل الخبرة بمناضلٍ مخضرم. كنتُ أعلم دائمًا أنه باستطاعتكَ ذلك إذا حاولتَ، يا جورش!»

الآخرون أيضًا، تقدَّموا نحوه، وقالوا: «أحسنتَ!»

كان قائد الفرقة يقول من خلفهم: «كما ترَون، يُمكِنه فعلُ ذلك لأنه قويُّ الإرادة. إن الظروف التي وُضع فيها كانت كفيلةً بكسر أي رجلٍ عادي.»

في وقتٍ متأخر من تلك الليلة، عاد جورش لمنزله.

في البداية، شرب كميةً جيدة من الماء. ثم فتح النافذة ونظر إلى السماء البعيدة في الاتجاه الذي راقب طائر الوقواق وهو يذهب منه، وقال: «أتعلم أيها الوقواق … أنا آسفٌ لما حدث. ما كان ينبغي أن أغضب هكذا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤