امرأة من الحجر

كانت لورين فتاةً جميلة، ورشيقة، في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت تعمل بوظيفة جيدة في صيدلية سيام في شارع سانت أونوريه. ولم يكن هناك مَنْ تعُولُه؛ ولذا كان كلُّ ما تَجنيه من أموال ملكًا لها وحدها. وربما كان فستانها مصنوعًا من قماشٍ زهيد الثمن لكنَّ تصميمَه كان قمةً في الأناقة والرقة، وهو ما كان هبةً طبيعية حُبِيَت بها الفتاة الباريسية؛ ومن ثمَّ لم يكن الناظر إليها ليُفكِّر في رخص ثمن الفستان، وإنَّما كان سيُعجَب بتأثيره الساحر. وكانت تعمل في الصيدلية مسئولةً عن الحسابات ومساعِدة عامة، وتُقيم في غرفة صغيرة في الضفَّة المقابِلة لنهر السين في شارع لِيل. وكانت تعبر النهر مرتَيْن كلَّ يوم؛ مرةً في الصباح حين تكون الشمس مُشرقة، وأخرى في المساء حين تتلألأ الأنوار البرَّاقة المنعكسة عن ضفة النهر وكأنها دُرر في عِقد طويل. وفي كل صباح كانت تسير في حديقة تويلري بعد عبورها الجسر الملكي، لكنها لم تكن تمر عبر الحديقة في طريق عودتها مساءً؛ ذلك أنَّ الحديقة في الصباح تختلف عنها في المساء. وفي طريق عودتها كانت دائمًا ما تسير في شارع تويلري حتى تصل إلى الجسر. وكانت نزهتها الصباحية عبر الحديقة مصدر سعادة لها؛ لأنَّ شارع لِيل ضيق وغير متألق بالأضواء؛ ولذا كان من المُمتع لها أن تسير تحت الأشجار الخضراء وأن تشعر بالحصى المتغضِّن الهَش تحت أقدامها، وأن تُشاهد التماثيل البيضاء اللامعة تحت أشعة الشمس ومياه النافورة المستديرة المتلألئة التي كانت تجلس إلى جوارها في بعض الأحيان. وكان تمثالها المفضَّل تمثالًا لامرأة يستند على قاعدة بالقرب من شارع ريفولي. كانت ذراع المرأة تمتدُّ فوق رأسها، وترتسم على الوجه الرخامي ابتسامة غامضة. كانت تلك الابتسامة تسحر الفتاة حين ترفع نظرها إلى التمثال، وبدا الأمر كأنها تحية الصباح ليومها الحافل بالعمل في المدينة. وكانت الفتاة تُقبِّل أطراف أصابعها حين لا تكون على مرأى من أحد — وهو ما كان عليه الحال غالبًا في الثامنة صباحًا — وتُلقي التحية على التمثال بابتهاج، وكانت المرأة الحجرية تُبادِلها التحية دائمًا بتلك الابتسامة الغريبة التي كانت تُشير فيما يبدو إلى أنها تعرف عن هذا العالَم وأساليبه أكثر مما تعرفه تلك الفتاة الباريسية الصغيرة التي كانت تنظر إليها كلَّ يوم.

كانت لورين سعيدة بالطبع، أليست باريس جميلة دومًا؟ أليست الشمس تُشرق متألِّقة؟ أليس الجو صافيًا دائمًا؟ ما الذي يُمكن لفتاة يافعة أنْ تأمله أكثر من ذلك؟ ربما كان هناك شيءٌ واحد ينقصها فعلًا، لكن في النهاية تحقَّقَ لها ما كانت تُريد؛ وهكذا لم يكن في باريس كلِّها فتاة أسعد من لورين. كادت تُفصح لتمثالها المفضَّل في صباح اليوم التالي بما حدث؛ ذلك أنَّ ابتسامة التمثال بدت لها وكأنها ازدادت اتساعًا منذ آخر مرة مرَّت عليه صباحَ أمسِ، وشعرت وكأنَّ المرأة المنحوتة من الحجر خمَّنت سرَّ الفتاة المخلوقة من لحمٍ ودم.

لاحظته لورين لعدة أيام وهو يَحُوم حول الصيدلية، وكان ينظر إليها بين الحين والآخر، رأت كلَّ شيء، لكنها تظاهرت بأنها لم ترَ شيئًا. كان شابًّا وسيمًا يافعًا ذا شعرٍ مجعَّد ويدَيْن طويلتَيْن نحيلتَيْن وبيضاوَيْن وكأنه لم يكن معتادًا على العمل اليدوي الشاق. وذات ليلة تبعها حتى الجسر، لكنها تابعت سيرَها بسرعة، ولم يستطع اللحاقَ بها. ولم يدخل الشابُّ إلى الصيدلية قط، لكنه كان يَتسكَّع في الأرجاء وكأنه يتحيَّن الفُرصة ليتحدَّث إليها. لم يكن لدى لورين أحدٌ تأتمنُه على سرِّها سوى تلك المرأة الحجَرية، وبدا من ابتسامتها أنها تفهم ما تُريد قوله بالفعل، وأنها ليسَت في حاجة لأن تُخبرَها بأنَّ الشاب الذي ساقه إليها القدر قد أتى. وفي المساء التالي تبعَها لمسافة فوق الجسر، ولم تُسرِع لورين في سيرها هذه المرة. إنَّ الفتيات في مثل وضعِها لا يُفترَض لهنَّ أن يتعرَّفنَ إلى مُحبِّيهنَّ بالطريقة المعتادة، فكنَّ يَعتمدْنَ في ذلك بصفة عامة على التعارُف العشوائي، رغم أن لورين لم تكن تعلم ذلك. وتحدَّث إليها الشابُّ على الجسر، وبينما هو يُحدِّثها رفعَ قبعته عن رأسه ذي الشعر الأسود.

كان كلُّ ما قاله لها: «طابَ مساؤكِ!»

فأشاحت بنظرها عنه خجلًا لكنها لم تُجِبه، واستمر الشابُّ في السير إلى جوارِها.

وقال: «أنتِ تسلكين هذا الطريق كلَّ مساءٍ، كنتُ أراقبكِ. هل يُزعجكِ ذلك؟»

فأجابَتْه بصوتٍ يكاد يكون همسًا: «لا.»

فسألها: «إذن، هل يُمكنُني أن أسير معكِ حتى منزلكِ؟»

فأجابَتْه: «يُمكنك أن تسير معي حتى زاوية شارع لِيل.»

قال الشابُّ: «شكرًا لكِ.» وسارا معًا تلك المسافة القصيرة، وعند المكان المحدَّد تمنَّى لها ليلة طيبة، بعد أن طلب منها أن تأذن له بلقائها عند زاوية شارع سانت أونوريه وأن يسير معها في طريق عودتها إلى المنزل في مساء اليوم التالي.

فقالت له: «لا تأتِ إلى الصيدلية.»

فأجابها وهو يُومئ إيجابًا بأنه سيُحقِّق لها ما تريد: «أتفهَّم ذلك.» وأخبرها أن اسمه جان دوريه، وبمرور الوقت صارت تدعُوه جان وصار هو يَدعُوها لورين. والآن لم يَعُد الشاب يأتي إلى الصيدلية أبدًا، لكنه كان ينتظرها عند زاوية الشارع، وذات يوم أحدٍ أخذها في نزهة صغيرة في النهر، وهو ما استمتعت به كثيرًا. وهكذا مضى الوقت، وكانت لورين في غاية السعادة. وكان التمثال يَبتسِم لها ابتسامته الساحرة، رغم أنها شعرت بما بدا وكأنه تحذير غامض في ابتسامته حين كانت السماء غائمة. ربما كان ذلك بسبب أنهما تشاجَرا الليلة الماضية. بدا جان لها فظًّا وغير مُتسامح. كان قد سألها إنْ كان بإمكانها أن تُحضِر له بعض الأشياء من الصيدلية، وأعطاها قائمةً بثلاث مواد كيميائية، كتب أسماءها في ورقة.

وقال لها: «يُمكنكِ الحصول عليها بسهولة. إنها أشياء موجودة في كل صيدلية، ولن يلاحظَ أحدٌ اختفاءها.»

قالت الفتاة في ذعر: «لكن هذا ضربٌ من السرقة.»

ضحكَ الشابُّ.

وسألها: «كم يَدفعون لكِ هناك؟» وحين أخبرته ضحكَ مرة أخرى وقال:

«يا إلهي، لو كنتُ أحصل على هذا القدر الضئيل من المال لأخذتُ كلَّ يوم شيئًا من الأرفف وبِعْتُه.»

نظرت إليه الفتاة في دهشة، فنظرَ إليها في غضب واستدارَ عنها وانصرفَ تاركًا إياها. اتكأت بذراعها على حاجز الجسر ونظَرَت إلى المياه المظلمة بالأسفل. لطالَما كان النهر في المساء يُثير إعجابها، وكانت في كثير من الأحيان تقف لتُلقيَ نظرةً على النهر وهي تَعبر الجسر، وفي أثناء ذلك كانت تشعر برجفة تسري في أوصالها. بكت قليلًا حين فكَّرت في رحيله المفاجئ، وتساءَلت في نفسها إنْ كانت فظَّةً معه. ففي النهاية، لم يكن يطلب منها فعل الكثير، وكانوا في الصيدلية يدفعون لها مبلغًا ضئيلًا بحق. وربما كان عشيقها فقيرًا، ويحتاج إلى تلك الأشياء التي طلَبَ منها إحضارها. وربما كان مريضًا ولم يخبرها بشيء. ثم شعرت بلمسة على كتفها. فالتفتت على إثرها. كان جان يقف إلى جوارها، لكن عبوس وجهه لم يكن قد تلاشى.

فقال على نحو مُفاجئ: «أعطيني تلك الورقة.»

ففتحت يدَها وأخذَ الورقة منها، واستدارَ مبتعدًا عنها.

فقالت: «انتظر! سأُحضر لك ما تُريد، لكنني سأضع ثمنه بنفسي في دُرج النقود.»

وقفَ الشابُّ في مكانه، وأخذ ينظر إليها للحظة، ثم قال: «لورين، أعتقد أنكِ حمقاء بعض الشيء. إنهم يدينون لكِ بأكثر مما ستَدفعين بكثير. ولكن، لا بدَّ لي من الحصول على تلك الأشياء.» ثم أعطاها الورقة محذرًا إياها: «احرصي على ألَّا يرى أحدٌ ذلك، وتأكدي جيدًا من إحضار الأشياء الصحيحة.» ثم سار بصُحبتها حتى زاوية شارع لِيل وسألها قبل أن يفترقا: «لستِ غاضبةً منِّي، أليس كذلك؟»

فردَّت عليه هامسة: «سأفعل أيَّ شيء لأجلك!» ثم قبَّلها وتمنَّى لها ليلة طيبة.

ثم أخذت هي المواد الكيميائية حين كان صاحب الصيدلية في الخارج، وربطتْها بإحكام كعادتها بعد أن دسَّتها في سلتها الصغيرة التي كانت تَحمل فيها غداءها. وكان صاحب المكان رجلًا يقظًا حاد البصر يَعتني بمتجره ومُساعِدته الجميلة الصغيرة اعتناءً كبيرًا.

وقد سألها وهو يأخذ الإناء ويرمقها بنظراتٍ حادة: «مَنْ ذا الذي يريد هذا الكَمَّ من كلورات البوتاسيوم؟»

ارتجفت الفتاة وقالت:

«كل شيء على ما يرام، هذا هو المال في درج النقود.»

فقال لها: «بالطبع، لم أكن أتوقع منكِ أن تبيعيه دون مُقابل. مَن الذي اشتراه؟»

أجابته الفتاة وهي ما زالت تَرتجِف: «رجل عجوز!» لكن صاحب الصيدلية لم يُلاحظ ارتجافها؛ إذ كان يعدُّ النقود ووجد أنها مضبوطة.

«أتساءَل ماذا سيفعل بهذا الكَم الهائل. إذا أتى مرةً أخرى، فانظري إليه وأمعني النظر وأخبريني بأوصافه. الأمر يبدو مُثيرًا للريبة.» لم تعلم لورين لمَ يبدو الأمر مثيرًا للريبة، لكنها مرَّت بوقتٍ عصيب حتى أخذت السلة في يدها وذهبت للقاء عشيقها عند زاوية شارع بيراميد. وكان أول سؤال طرحه عليها هو:

«هل أحضرتِ لي الأشياء؟»

فأجابته: «أجل، هل ستأخذها هنا، الآن؟»

فعاجلها بردِّه قائلًا: «ليس هنا، ليس هنا.» ثم سألها في قلق: «هل رآكِ أحد وأنتِ تأخذينها؟»

«لا، لكن صاحب الصيدلية يعرف أنها كمية كبيرة؛ ذلك لأنه عدَّ النقود.»

سألها جان: «أيُّ نقود؟»

«ثمن هذه الأشياء. أتظنُّ أنني كنتُ سأسرقُها؟»

ضحكَ الشابُّ وسحبَها نحو زاوية هادئة في حديقة تويلري.

وقال لها: «لن يكون أمامي متسعٌ من الوقت لأذهبَ معكِ إلى شارع لِيل الليلة.»

فسألته في قلق: «لكنَّك ستأتي غدًا كالعادة، أليس كذلك؟»

فأجابها وهو يُخفي العبوات بسرعة في جيوبه: «بالتأكيد، بكل تأكيد.»

في مساء اليوم التالي كانت الفتاة واقفةً تنتظر عشيقَها بصبرٍ عند زاوية الشارع التي اعتادا اللقاء عندها، لكنه لم يأتِ. كانت تقف تحت أحد أعمدة الإنارة المضيئة حتى يراها في الحال. وأثناء وقوفها هناك تحرَّش بها الكثير من الناس، لكنها لم تُجِب أحدًا، وكانت تنظر أمامها مباشرةً بعينين ثابتتين، وكانوا يتركونها ويُغادرُون بعد التردُّد للحظة. وفي النهاية رأت رجلًا يجري بسرعة من الجهة الأخرى من الشارع، وحين مرَّ أمام إحدى النوافذ المُضاءة بأنوار براقة، أدركت أنه جان. وكان يأتي نحوها مسرعًا.

فصاحَتْ وهي تجري نحوه: «ها أنا!» ثم أمسكت به من ذراعه وهي تقول: «أوه، جان، ما الأمر؟»

فتملَّص منها بوقاحة، وصاحَ فيها: «دعيني، أيتها الحمقاء!» لكنها تمسَّكت به، حتى رفعَ قبضته وصفعَها على وجهها. هَوت لورين على الحائط، وهرعَ جان. وكان هناك رجل مِقْدام قويُّ البنية قد حاول التقرب إلى لورين قبل بضع دقائق، ولكنه لم يفهم صمتها فوقفَ عند أحد الأبواب بالجوار يُراقبها، وقد هرعَ الرجل نحوها حين رأى الاعتداء عليها، وألقى بعصاهُ بين قدمَي الرجل الذي يجري، فأرسلَ الأخير على وجهه إلى الرصيف. وفي اللحظة التالية كان يضع قدمه على رقبة جان مُثبتًا إياه على الأرض وكأنه ثعبان.

وصاحَ فيه: «أيها الحقير! كيف تجرؤ على ضرب امرأة؟»

كان جان يَرقُد على الرصيف مذهولًا، وهُرعَ شرطيَّان نحو المكان.

فقال الرجل: «لقد اعتدى هذا الوغد على امرأة لتوِّه. لقد رأيتُه.»

قال أحد الشرطيين في عبوس: «لقد فعل ما هو أكثر من ذلك.» وكأنَّ ضرب امرأة والاعتداء عليها لم يكن خطبًا جللًا.

وأوثقَا رباط الشاب وجرَّاه معهما. فهرعت نحوهم الفتاة وقالت وهي مُضطربة:

«الأمر كله سوء تفاهم، كانت حادثة. لم يكن يقصد فعل ذلك.»

فسألها أحد الشرطيين: «أوه، حقًّا، وكيف عرفتِ ذلك؟»

قال جان للفتاة وهو يجزُّ على أسنانه: «أيتها الغبية، الأمر كله غلطتك.»

وأسرعَ به الشرطيَّان.

قال أحدهما: «في رأيي، كان ينبغي لنا أن نلقيَ القبضَ على الفتاة؛ فقد سمعتَ ما قالته.»

قال الآخر: «أجل، لكن تحقَّق لنا ما يكفي الآن، إذا ما عرف الملأ مَنْ هو.»

فكَّرت لورين أن تتبعهم، لكنها كانت مذهولة من الكلمات التي قالها لها عشيقها أكثر من الصفعة التي وجَّهها لها، حتى إنها استدارَت في حزن نحو الجسر الملكي وذهبت باتجاه غرفتها.

وفي صباح اليوم التالي، لم تذهب إلى عملها عبر الحديقة كعادتها، وحين دخلت صيدلية سيام صاحَ مالكها: «ها هي، تلك الماكِرة! مَنْ كان سيعتقد أنها السبب وراء ذلك؟ أيتها الحقيرة، لقد سرقتِ عقاقير الصيدلية لتُعطيها ذلك الوغد!»

قالت لورين بكل شجاعة: «لم أسرقها، لقد وضعتُ النقود في الدرج ثمنًا لها.»

قال صاحب الصيدلية: «اسمعَا! إنها تعترف!»

تقدَّم نحوها الشرطيَّان المتخفِّيان وألقيَا القبض عليها بتهمة التواطؤ مع جان دوريه الذي كان قد ألقى أمس قنبلة في شارع الأوبرا المزدحم.

وسرعان ما رأى القضاة الفرنسيون المتحيِّزون أنَّ الفتاة كانت بريئة ولم تكن تُضمر أيَّ نيةٍ شريرة، وأنها كانت ضحية ذلك الوغد الذي يحمل اسم جان دوريه. وقد حُكِمَ عليه بالسجن مدى الحياة، بينما أُخليَ سبيلها. وقد حاوَلَ إلقاء اللائمة عليها كالجبان؛ وذلك ليحميَ امرأةً أخرى. وكان هذا هو ما أدمى قلب لورين. ربما كانت ستُحاوِل أن تجد عذرًا لجريمته، لكنَّها أدركت أنه لم يهتمَّ لأمرها قط، وأنه كان يستغلُّها كأداة في يده ليحصُل على المواد الكيميائية التي لم يجرؤ على شرائها.

وتحت زخات المطر الخفيف المتساقط خرجت من سجنها مُعدِمة، مُتعَبة الجسد ومُحطَّمة الروح. مرَّت من أمام صيدلية سيام الصغيرة لكنها لم تجرؤ على دخولها. وأكملت سيرها تحت المطر على طول شارع بيراميد، وعبرت إلى شارع ريفولي، حتى دخلت حديقة تويلري. كانت قد نسيَت أمر المرأة الحجَرية، لكنَّ خطواتها كانت تقودُها إليها من دون وعي منها. ورفعت نظرها إلى التمثال في دهشة، غير مدركة له في البداية. لم يَعُد التمثال لامرأة مُبتسمة. كانت رأس التمثال مُلقًى للخلف وعيناه مغلقتان، وكانت آخر نزعات الموت مرسومة على وجهه. كان التمثال على درجة كبيرة من البشاعة والفظاعة. وكانت الفتاة مُتحيِّرة للغاية من التغيُّر الذي اعترى التمثال، حتى إنَّها نسيَت لبعض الوقت ما حلَّ على حياتها من خراب. ورأَتْ أنَّ الوجه المبتسِم لم يكن سوى قناع مُثبث في مكانه بفعلِ انحناء الذراع اليسرى عليه. وقد أدركَتِ الفتاةُ الآن أنَّ الحياة ما بين مأساةٍ ومَلهاة، وأنَّ مَنْ لا يرى سوى وجهِها المبتسِم، فإنه لم يرَ سوى نصف الحقيقة. أسرعت الفتاة في سيرها نحو الجسر وهي تَنشج في صمتٍ بينها وبين نفسها، ونظرت إلى الأسفل نحو مياه النهر الكئيبة. لم يُعِرها المارَّة أي اهتمام، وتساءَلت في نفسها لمَ كانت تُفكِّر في النهر على أنه بارد وقاسٍ ولا يرحم؟ إنه موطن المُشرَّدين الوحيد، والعشيق الذي لا يتغيَّر ولا يَتبدَّل. ثم استدارَت نحو أعلى الدَّرج الذي كان يُؤدي إلى الأسفل حيث حافَّة المياه. ونظرت نحو حديقة تويلري لكنها لم تستطع أن ترى تمثالها بسبب الأشجار التي حالت بينهما، فقالت في نفسها وهي تنزل الدَّرج بسرعة: «سأُصبحُ أنا أيضًا امرأة من حجر.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤