«حين يكون الجهلُ نعمة»

غادرت السفينة البخارية المهيبة «أدامَنت» من نيويورك في رحلتها لشهر فبراير في ظلِّ ظروف مواتية. وكانت هناك عاصفة تَجتاحُ المُحيط لكنها انتهت توًّا؛ ولذا كانت كلُّ الفرص سانحة أمامها للوصول إلى ليفربول قبل حلول العاصفة التالية.

وقد واجه الكابتن رايس مشكلة اجتماعية بسيطة كان عليه حسمُها في بداية الرحلة، لكنه لطَّفَ الأمور وهدَّأها بلباقته المعهودة. كان على متن السفينة سيدتان — وهما زوجتان لمَسئولَيْن رسميَّيْن — من واشنطن، وكان الكابتن — وهو رجل إنجليزي عجوز وبحَّار ماهِر ومُتمرِّس — دائمًا ما يُواجِه مشكلةً فيما يتعلَّق بحق الأولوية للسيدات من واشنطن. ولم يكن الكابتن رايس يَنزعِج مُطلقًا من الأرستقراطية البريطانية؛ لأنَّ حق الأولوية كلَّه مُسجَّل في «مجلد بيرك للنبلاء»، الذي كان يحتفظ به في مقصورته؛ ومن ثمَّ لم تكن هناك أي صعوبةٍ في التعامُل مع الأمر. لكن، من المُفترَض في أي دولةٍ ذات نظام جمهوري ألَّا تتدخَّل في حق الأولوية. ولم تكن الدولة لتفعل ذلك أيضًا لولا النساء.

حدثَ أنَّ السيدة براونريج، زوجة مُساعد المدَّعي العام بمجلس الشيوخ، أتَتْ إلى مضيف السفينة وقالت بأنها لا بدَّ أن تَجلس على مَيمَنة الكابتن، وذلك حسب الترتيب الطبقي للجميع على متنِ السفينة. وبعد ذلك جاءَت السيدة ديجبي، زوجة المُساعِد الثاني لرئيس الأركان في وزارة الحربية، إلى الموظَّف الحائر وقالت بأنها لا بدَّ أن تجلس إلى مَيمنة الكابتن لأنها في واشنطن تَحظى بالأولوية على جميع مَنْ هم على متن السفينة. فأسرَّ المُضيفُ الحائر بمُحيِّرته إلى الكابتن الذي قال بأنه سيهتمُّ بالأمر. ومن ثمَّ، أجلسَ السيدة زوجة مساعد رئيس الأركان في وزارة الحربية إلى يَمينِه وسارَ على سطح السفينة مع السيدة زوجة مساعد المدَّعي العام وقال لها:

«أريدكِ أن تُسديَ إليَّ معروفًا أيتها السيدة براونريج. لسُوءِ الحظ، أنا أعاني من صَمَمٍ طفيف في أُذني اليمنى وأعتقد أن سببه هو الاستماع الدائم إلى بوق الضباب عامًا بعد الآخر؛ ومن ثمَّ، فإنني دائمًا ما أُجلِسُ أكثر السيدات اللائي أريد محادثتهن إلى يساري على الطاولة. فهلَّا تفضَّلتِ عليَّ وجلستِ في ذلك المقعد هذه الرحلة؟ لقد سمعتُ عنكِ أيتها السيدة براونريج، رغم أنكِ لم تَسمَعي بي من قبل قطُّ.»

أجابَتْه السيدة بروانريج: «بكل تأكيدٍ أيها الكابتن. إنني أشعر بإطراءٍ بالغ.»

قال الكابتن المحترم: «وأُؤكِّد لكِ سيدتي أنني لن أُفوِّت على نفسي سماع كلمةٍ واحدةٍ منكِ» إلى آخر ذلك.

وهكذا نُسِّقَ الأمرُ سِلميًّا بين السيدتَيْن. وهذا كلُّه ليس له أي علاقة بالقصة. إنما هي مجرد حادثة أذكرها لأوضِّح ما كانت تتسم به شخصية الكابتن رايس من دبلوماسيةٍ فطريةٍ استمرَّت معه حتى اللحظة. ولا أعرفُ أيَّ قبطان حازَ أُلفةً وقبولًا أكثر منه بين النساء، كما أنه من أفضل البحَّارة الذين عبروا المحيط.

يومًا تلو الآخر، كانت السفينةُ الرائعةُ تشقُّ طريقَها نحو الشرق، وقد أجمعَ الركَّاب أنهم لم يكونوا على متن رحلةٍ بحريةٍ أفضل من هذه في مثل هذا الوقت من العام. كان الطقسُ دافئًا على سطح السفينة حتى إن الكثير منهم قد جلسوا على الكراسي للاستمتاع بأشعة الشمس، وفي الأسفل كان الطقسُ معتدلًا لدرجة أنَّ المرءَ قد يُخيَّل له أنه يُبحِر في المناطق الاستوائية. ورغم ذلك كانوا قد غادروا نيويورك في عاصفة ثلجية وكانت درجة الحرارة تحت الصفر بعدة درجات.

قال سبينر الشابُّ الخبير بكلِّ شيء: «هذا هو تأثير تيار الخليج الدافئ.»

ومع ذلك، عندما نزلَ الكابتن رايس لتناول الغداء في اليوم الرابع كان وجهُه شاحبًا ونظرتُه تنمُّ عن القلق.

قالت السيدة زوجة مساعد المدعي العام: «تبدو كأنك لم تغفُ ليلةَ أمس أيها الكابتن.»

فردَّ عليها الكابتن: «بل نمتُ نومًا هانئًا. شكرًا لكِ سيدتي. إنني دائمًا ما أحصل على قسط وافر من النوم.»

«إذن، آمُل أنَّ حجرتك كانت مريحةً أكثر من حجرتي. يبدو لي أنَّ الجو في حجرتي حارٌّ للغاية حتى إنني لا أستطيع فعل أيِّ شيء فيها. ألا تَعتقدِين ذلك أيتها السيدة ديجبي؟»

أجابت السيدة الجالسة على مَيمنة الكابتن التي كانت تَعتقِد في العموم أنها يَنبغي أن تتبنَّى موقفًا معاكسًا للسيدة على مَيسرته: «أعتقدُ أنها لطيفة كثيرًا.»

قال الكابتن: «إننا، كما تَعرفين، لدينا الكثيرُ من النساء الرقيقات والأطفال الصغار على متن السفينة ومن الضروري أن نُحافظ على درجة الحرارة. ومع ذلك، ربما أفرط في رفعها العامِلُ المسئول عن الحفاظ على درجات الحرارة. سأتحدَّث إليه.»

ثم دفعَ الكابتن عنه الطعام الذي لم يكن يشعر بمذاقه وصعدَ إلى بُرج القيادة، ورفعَ نظره عاليًا إلى الإشارة التي ترفرف على قمة الصاري طالبةً المساعدة في صمت من الأفق الفارغ حولَها.

قال الكابتن: «أليس هناك شيءٌ على مَرْمَى البصر يا جونسون؟»

«لا شيءَ على الإطلاق يا سيدي.»

مسحَ الكابتن خط البحر والأفق بنظارته، ثم وضعَها عن عينَيه وهو يتنهَّد.

قال جونسون: «ينبغي لنا أن نتوصَّل إلى شيءٍ عصرَ اليوم يا سيدي، نحن في إثرهم تمامًا يا سيدي. لا بد أن السفينة فلودا موجودة في مكان ما في الأرجاء.»

أجابه الكابتن: «أخشى أننا بعيدون كثيرًا في الشَّمال عن السفينة فلودا.»

«إذن يا سيدي، يَنبغي أن نرى السفينة فولكان قبل حلول الليل يا سيدي. كان الطقس جيدًا وفي صالحها منذ غادرت كوينزتاون.»

«أجل. واصِلُوا الرصد الثاقب يا جونسون.»

«أمرُكَ يا سيدي.»

راحَ الكابتن يَذرع برج القيادة نَكِدًا مُطأطئ الرأس.

وحدَّثَ نفسه قائلًا: «كان يَنبغي لي أن أعودَ أدراجي إلى نيويورك.»

ثم نزلَ إلى غرفتِه وحاول تجنُّب الركَّاب قدر استطاعته، وطلبَ من الخادِم أن يُحضر له مَرَقَ لحم البقر. فحتى الكابتن لا يُمكنه أن يتابع حياته وهو يشعر بالقلق.

صَدَحَ صوت المُراقِب عند مقدمة السفينة قائلًا: «أرى سفينة عند مقدمة سفينتنا يا سيدي.» وكان للمراقِب بصرٌ حاد؛ ذلك أن بحَّارًا غِرًّا لم يكن ليرى شيئًا.

صاحَ جونسون مُحدِّثًا البحَّار الواقف خلفه: «أسرِع وأخبِر الكابتن.» لكن عندما استدار البحَّار تنفيذًا للأمر ظهر رأس الكابتن أعلى السُّلَّم. أمسكَ الكابتن بنظارته ونظرَ مطوَّلًا إلى نقطة محدَّدة في الأفق.

ثم قال في النهاية: «لا بد أنها السفينة فولكان.»

«أعتقدُ ذلك يا سيدي.»

«أدِر الدفَّة عدة درجاتٍ إلى اليسار وابذُل كلَّ ما في وسعك للحاق بها.»

أعطى جونسون الأوامر اللازمة وبدأت السفينة الكبيرة تنحرف.

صاحَ سبينر الذي كان على سطح السفينة: «هاي! هناك سفينة بخارية. لقد وجدتُها. إنها لي.»

ثم حدثَ تهافتٌ من الركَّاب عند جانب السفينة. كان الصوتُ يصدح قائلًا: «هناك سفينة على مَرْمَى البصر!» وعندئذٍ فقدت كلُّ الكتب والمجلات أهميتها وتشويقها على الفور. وحتى ذلك الرجل الإنجليزي الهادئ المبجَّل الذي كان صَموتًا ومُتحفِّظًا نهضَ عن كرسيِّه وأرسَلَ خادمَه ليرى له ما الأمر. وحملت الأمهاتُ أطفالَهن وأخبروهم أن يكونوا حذرين بينما كانوا يحاولون مشاهدة خيط الدخان الواهِن الظاهر على مسافةٍ بعيدةٍ منهم.

صاحَ سبينر الشابُّ العارِفُ بكل شيء: «الحديث عن المسارات البحرية محضُ هراء. أترون؟! إننا نتجه نحوها مباشرةً. فكِّرُوا كيف كنا لنَنجح في تتبُّعها وسط الضباب! المسارات البحرية! بل هذا ما أسمِّيه محض حظ.»

سألته السيدة الشابة من بوسطن بلطفٍ: «هل سنُرسل إليها إشارة سيد سبينر؟»

أجابها سبينر الشاب: «أوه، بكل تأكيد. أترَين، تلك هي إشارتنا تُرفرف الآن على قمة الصاري. تلك الإشارة توضِّح لهم المسار الذي نتبعه.»

قالت السيدة الشابة: «يا إلهي! كم هو مُثير هذا الأمر. لا بدَّ أنك عبرت المحيط كثيرًا أيها السيد سبينر.»

أجابها سبينر المُتواضِع: «أوه، إنني أعرفُ الطريقَ تمامًا.»

ظلَّ الكابتن ينظر في نظارته وكأنها قد التصقت بعينيه. وفجأة، كادت النظارة تسقط منه.

وصاحَ قائلًا: «يا إلهي! جونسون!»

«ما الخَطْبُ يا سيدي؟»

«إنها ترفع إشارة استغاثة أيضًا!»

اقتربت السفينتان البخاريتان من بعضهما ببطءٍ، وعندما أصبحتا مُتحاذيتَيْن يفصلهما ميل واحد تقريبًا، دقَّ جرسُ السفينة «أدامَنت» معلنةً أنها ستتوقف.

قال سبينر الشابُّ إلى الفتاة من بوسطن: «هاكِ، أترين، إنها تَرفعُ الإشارة نفسها التي نرفعها نحن على صارينا.»

«إذن، فهي تتبَع نفس مَسار سفينتنا؟»

أجابها سبينر الواثق بنفسه أكثر مما يَنبغي: «أوه، بكل تأكيد.»

صاحت الفتاة المُتحمِّسة من إنديانابولِس التي كانت تَعتزم دراسة الموسيقى في ألمانيا: «أوه، انظروا! انظروا! انظروا!»

رفعَ الجميعُ نظرَهم إلى قمة الصاري ووجدوا خطًّا طويلًا من الرايات المتعدِّدة الألوان المتصلة ببعضها وهي ترفرف. وظلَّت تلك الرايات في مكانها لعدة دقائق، ثم أُنزِلَت مرة أخرى ليُرفَع مكانها خطٌّ مختلف من الرايات. وكان الأمر نفسه يحدث على متن السفينة البخارية الأخرى.

قالت زوجة مساعد رئيس الأركان: «أوه، هذا الأمر مُثيرٌ للاهتمام كثيرًا. إنني أتوقُ إلى معرفة ما يعنيه كلُّ هذا. لقد قرأتُ كثيرًا عن هذا الأمر لكنَّني لم أرَه مطلقًا من قبل. أتساءَلُ متى سينزل الكابتن.» ثم سألت الخادم على سطح السفينة: «ما معنى كل هذا؟»

«إنهم يتبادَلون إرسال الإشارات إلى بعضِهم يا سيدتي.»

«أوه، أعرفُ هذا. لكن ما معنى تلك الإشارات؟»

«لا أعرفُ يا سيدتي.»

صاحت الفتاة من إنديانابولِس وهي تُصفِّق بيدها من البهجة: «أوه، انظروا! انظروا! السفينة الأخرى تستدير.»

كان هذا صحيحًا حقًّا. كانت السفينة الكبيرة تضربُ الماءَ بمروحتها، وأصبحت الصواري شيئًا فشيئًا بمحاذاة أحدها الآخر، ثم توجَّهت مقدمتُها نحو الشرق مرةً أخرى. وعندما تمَّ هذا ببطءٍ، دقَّ الجرسُ على متن السفينة «أدامَنت» معلنًا أنها ستتقدَّم بأقصى سرعة، ثم نزلَ الكابتن بخطواتٍ وئيدة على السُّلَّم الخشبي الخارِج من برج القيادة.

«أوه، أيها الكابتن، ماذا يعني كل هذا؟»

«هل ستعود السفينة أدراجَها أيها الكابتن؟ آملُ ألَّا يكون هناك خطبٌ ما.»

«ما هذه السفينة أيها الكابتن؟»

«إنها تَسلُك نفس مسارنا، أليس كذلك؟»

«لِمَ تعود السفينة أدراجَها؟»

قال الكابتن في هدوءٍ: «إنَّها السفينة فولكان، وهي تَنتمي إلى بلاك بولينج لاين، وقد غادرت كوينزتاون بعد وقتٍ قصير من مغادرتنا نيويورك. وقد وقعَ لها حادث. يُعتقَد أنها اصطدمت بحُطام سفينةٍ ما جرَّاء العاصِفة الأخيرة. على أيِّ حال، هناك ثُقب في جسم السفينة، ويَعتمِد نجاحُها في التقدُّم نحو كوينزتاون، في جزءٍ كبير منه، على الطقس حولنا وكذلك على مدى صمود حواجزها. وسنكون إلى جوارها حتى نصلَ إلى كوينزتاون.»

«أتعتقد أنَّها تُقِلُّ الكثيرَ من الركَّاب على متنها؟»

أجابَ الكابتن: «هناك سبعة وثلاثون في المقصورة، وأكثر من ثمانمائة من ركَّاب الدرجة الثالثة.»

«لِمَ لا تأخُذُهم على متن سفينتنا أيها الكابتن وتُبعدُهم عن الخطر؟»

«آه، يا سيدتي، لا داعيَ لأن نَفعل ذلك. سيُؤخِّرنا هذا، والوقتُ هو العامل الأهم في مثل هذه الحالات. وبالإضافة إلى ذلك، سيتلقَّون إنذارًا مبكرًا إنْ كانت ستغرق، وسيكون لديهم متسعٌ من الوقت لإنزال الجميع في قوارب النجاة. كما أننا سنكون إلى جوارهم كما تَعرفين.»

قالت زوجة مُساعد المدَّعي العام المتعاطفة معهم: «أوه، أولئك المساكين. فكِّر في موقفهم المرعب. قد يغرقون في أي لحظة. أتصوَّر أنهم الآن جاثُون جميعًا في مقصوراتهم. ولا بدَّ أنهم مُمتنُّون كثيرًا لرؤية السفينة أدامَنت.»

كان التعاطُفُ عميقًا من جميع الأطراف مع الركَّاب أصحاب الحظ العسر على السفينة فولكان. فقد شحبَت الوجوه لمجرَّد تخيُّل الكارثة التي قد تحدُث في أيِّ لحظة على متن السفينة الأخت. وكان ذلك درسًا عمليًّا حقيقيًّا على الخطر المُحدِق دومًا في البحر. وبينما كان الركَّاب على سطح السفينة ينظرون باهتمامٍ بالغ إلى السفينة الأخرى التي تَندفِع في البحر بمُحاذاتهم وعلى بُعد ميلٍ منهم، انسلَّ الكابتن بعيدًا عنهم وذهبَ إلى غرفته. وبينما كان جالسًا هناك سمعَ طرقًا على بابه.

صاحَ الكابتن: «ادخل.»

دخلَ الرجل الإنجليزي الصموت في هدوء.

وسأله قائلًا: «ما الخطبُ أيها الكابتن؟»

«أوه، السفينة فولكان بها ثقبٌ كبير وقد بعثتُ إشارة …»

«أجل، أعرفُ ذلك بالطبع، لكن ما الخطبُ بنا؟»

ردَّد الكابتن كلمتَه مشدوهًا: «بنا؟»

«أجل، ما الخطبُ في سفينتنا أدامَنت؟ ما الذي حدث في اليومين أو الثلاثة المنصرمة؟ أنا لا أتحدَّثُ كثيرًا، ولست بخائفٍ أكثر منك، لكنَّني أريد أن أعرف.»

قال الكابتن: «بكل تأكيد، من فضلك أغلِق الباب يا سيد جون.»

•••

في تلك الأثناء كان هناك صخبٌ ونشاطٌ بالغ على متن السفينة فولكان. وفي الصالة الكبيرة كان الكابتن فلينت يقف واضعًا يديه على الطاولة.

صاحَ آدام كيه فينسنت، عضو الكونجرس، قائلًا: «والآن ما معنى هذا كلِّه بحقِّ السماء؟»

كان هناك حشدٌ من النساءِ الخائفات يَقِفن في الأرجاء، وكان الكثيرُ من الركَّاب على شَفا الإصابة بنوبة هستيرية. وكان الأطفال بوجوهِهم الشاحبة يتعلَّقون في ملابس أمهاتهم من شدة الخوف، ولا يعرفون ممَّ يخافون. واحتشدَ الرجالُ وقد بدا القلق على وجوههم، وفي مُواجهتِهم جميعًا وقفَ كابتن السفينة العجوز الصريح الحازم.

«معنى ماذا يا سيدي؟»

«أنت تعرف جيدًا. ما معنى استدارتنا؟»

«معناه يا سيدي أنَّ السفينة أدامَنت بها خمسة وثمانون من ركَّاب الدرجة الأولى وما يقرب من خمسمائة من ركَّاب الدرجتَيْن الثانية والثالثة، وجميعُهم يواجهون خطرًا كبيرًا. لقد اشتعلت النيران في القطن الموجود في مخزن السفينة، وهم يكافحون النار ليلَ نهار. وقد يندلع حريقٌ هائل في أي لحظة. وهذا يَعني يا سيدي أنَّ السفينة فولكان ستقف إلى جوار السفينة أدامَنت وتساعدها.»

عَلَا نحيبُ النساءِ الخائفات بسبب المصير المرعب الذي قد يَنتظِر الكثير من البشر الموجودين على مقربة منهم، فاحتضنوا أطفالهم أكثر وشكروا الرَّبَّ أن مثل هذا الخطر لا يَتهدَّدُهم ومَنْ يُحبون.

صاحَ عضو الكونجرس: «تبًّا يا سيدي. أتعني أن تخبرنا أنك ستعود بنا عكس رغبتنا إلى كوينزتاون، من دون حتى أن تَستشيرنا؟»

«هذا هو ما أقصد قوله يا سيدي.»

«حسنًا، أقسم أنَّ هذه إساءة لنا، ولن أسكُت عليها يا سيدي. لا بدَّ أن أكون في نيويورك بحلول السابع والعشرين من الشهر الحالي. لن أسكُت على ذلك يا سيدي.»

«أنا في غاية الأسف يا سيدي إن كان هناك من سيتأخَّر على مواعيده.»

«يتأخر؟ تبًّا لذلك، لِمَ لا تأخُذ الآخَرين على متن سفينتِنا وتذهب بهم إلى نيويورك؟ إنني أحتجُّ على هذا. سأرفع دعوى قضائية ضد الشركة يا سيدي.»

قال الكابتن بنبرة حازمة: «أيها السيد فينسنت، اسمح لي أن أُذكِّرك أنني قبطان هذه السفينة. طابَ مساؤك يا سيدي.»

غادر عضو الكونجرس الصالة الكبيرة وهو يَستشيط غضبًا ويَتلفَّظُ بالتهديد والوعيد باتخاذ الإجراءات القانونية ضد الشركة وضد الكابتن بصفة شخصية، لكن وافقَ مُعظم الركَّاب على أن التخلِّي عن السفينة أدامَنت وتركها وحدها وسط المحيط في مثل تلك الظروف المريعة سيكون عملًا غير إنساني.

سألت زوجة الجنرال ويلر: «لِمَ لم يعودُوا أدراجهم أيها الكابتن فلينت؟»

«لأنَّ لكل لحظة قيمتها في مثل تلك الحالة يا سيدتي، ونحن أقربُ إلى كوينزتاون منا إلى نيويورك.»

وهكذا راحت السفينتان تشقَّان طريقهما نحو الشرق في قلقٍ وجنبًا إلى جنب، فكانتا دومًا على مَرْمَى البصر من بعضهما أثناء النهار، وكانت أضواء المصابيح في كلٍّ منهما ظاهِرة للأرواح المتعاطِفة في السفينة الأخرى أثناء الليل. وفي إحداهما كان الرجال يصبُّون الماء في المخزن، وفي الأخرى كانت المضخَّات تدفع بالماء خارج المخزن، حتى وصلُوا إلى كوينزتاون.

•••

وعلى متن سفينة الخدمات التي أخذت الركَّاب إلى الشاطئ في كوينزتاون من كلتا السفينتَين، التقَت سيدتان مَذهُولتان.

«يا إلهي! زوجة الجنرال ويلر؟! هل كنتِ على متن السفينة فولكان المشئومة!»

«بحق الرب! زوجة المُساعِد بروانريج! أهذا أنتِ فعلًا؟ يا لَلمفاجأة! هل قلتِ مشئومة؟ أعتقدُ أنكِ كنتِ محظوظة جدًّا. ألم تكوني خائفة حَدَّ الموت؟»

«أجل، لكن لم تكن لديَّ أدنى فكرة عن وجود أحدٍ أعرفه على متن السفينة.»

«لقد كنتِ على متن السفينة بنفسِك. كان هذا كافيًا لأموت رعبًا.»

«على متن السفينة بنفسي؟ ماذا تقصدين؟ لم أكن على متن السفينة فولكان. هل غفت عيناكِ قط بعد أن عرفتِ أنكم قد تغرقون في أي لحظة؟»

«يا إلهي، يا جين، عمَّ تتحدثين؟ نغرق في أي لحظة؟ أنتم مَنْ كنتم على وشكِ الغرق في أي لحظة، أو الأسوأ من ذلك، ربما كنتم ستحترقون حتى الموت إنِ اشتدَّت حِدَّة النيران. أتقصدين أنكِ لم تكوني على علمٍ بأن النيران كانت مضطرمةً في السفينة أدامَنت طوال الرحلة؟»

«السيدة ويلر! هناك خطأٌ فادح. قال الكابتن إنَّ السفينة فولكان كانت في خطرٍ كبير، وإنَّ كل شيءٍ يعتمد على صمود حواجزها. كان هناك ثقبٌ كبير يُشبه باب الحظيرة في السفينة فولكان. وكانت المضخَّات تعمل ليلَ نهار.»

نظرت زوجة الجنرال إلى زوجة المُساعِد بينما بدأت كلٌّ منهما تُدركُ حقيقة الموقف.

قالت: «لم تكن تلك إذن هي المحركات، بل كانت المضخات.»

صاحت زوجة المُساعِد: «ولم يكن ذلك دخان المحرِّك، بل كان دخان النيران. أوه، يا له من قبطان كاذب، كنت أعتقد أنه رجل لطيف أيضًا. أوه، أكاد أصابُ بنوبة هستيرية، أكاد أصابُ بها حقًّا.»

قالت زوجة الجنرال المتعقِّلة بما كانت تتحلَّى به من سعة الأفق: «لم أكن لأفعل لو كنت مكانكِ. كما أنَّ الأوان قد فاتَ كثيرًا على ذلك. نحن جميعًا بمَأمن الآن. أعتقدُ أن كلا القبطانَيْن كانا حصيفَيْن للغاية وتعامَلا مع الموقف بعقلانية شديدة. ولا شكَّ أنَّ كليهما متزوِّج.»

وكان هذا صحيحًا تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤