مداهمة ميليش

تختلف بعضُ الجرائد عن غيرها. وإحدى الخصال الغريبة بشأن جريدة آرجوس هو وتيرة تغيُّر الرجال فيها. كان رئيسو التحرير يأتون من أجل إحداث ثورة في العالَم وبالتبعية في جريدة آرجوس، لكنهم كانوا يَختفون ويفسحون المجالَ لغيرهم الذين اختفوا أيضًا بدورهم. ولم يكن الصحفيون في ذلك الجزء من البلاد ليظنُّوا في أنفسهم أنهم أصبحوا كاملي الأهلية إلا حين يَحصُلون على منصب رئيس تحرير في جريدة آرجوس. وإذا سألت عن رئيس تحرير جريدة آرجوس، فالإجابة تكون على الأرجح: «في الواقع، كان فلان هو رئيس التحرير صباحَ اليوم. لكنني لا أعرف مَنْ أصبح رئيس التحرير في الظهيرة.»

ربما كانت أكثر الفترات غرابة في تاريخ جريدة آرجوس حين استقدم مُلَّاك الجريدة رجلًا غريب الأطوار من بيتسبرج وعيَّنوه رئيسَ تحرير محليًّا، ليترأس بذلك فريق الصحفيين العاملين في المدينة. كان الرجل في تلك الفترة يُدعى ماكراسكي، وكان اسمه عند التعميد أنجوس أو آرشي؛ لقد نسيتُ أيهما كان اسمه. في الواقع، لطالما كان اسمُه عند التعميد هو ما يُشكِّل نقطة خلاف؛ فكان بعضُ الصحفيِّين يقولون بأنه أنجوس، بينما كان البعض الآخر يقولون بأنه آرشي، ولم يكن أحدٌ بالشجاعة الكافية ليسأله. على أيِّ حال، كان الرجل يُوقِّع باسم إيه ماكراسكي. كان رجلًا صالحًا وقد وجدَ الصحفيون هذا الأمر غريبًا وحيَّرهم كثيرًا. فقد كان معظم مَنْ سبقوه في هذا المنصب يَختلفون كثيرًا عن بعضهم، إلا أنهم كانوا يتشابَهون جميعًا في شيءٍ واحد؛ وهو التلفُّظ بالألفاظ النابية. فكانوا يُعبِّرون عن رفضهم بلغة تنكمشُ من وقعها المنشفة في يد عامل الطباعة داخل غرف التنضيد، فما بالُكَ بوقع تلك اللغة على العامِل نفسه.

كانت وجهة نظر ماكراسكي الرائعة تقتضي أنَّ الإصدار المحلِّي من الجريدة ينبغي أن يكون له تأثيرٌ أخلاقي قوي في المجتمع. فقد أذهلَ المحرِّر الرياضي حتى إنه وقفَ معقودَ اللسان حين قال له بأنَّ الجريدة لن تنشر تقارير عن الملاكمة التكسُّبية بعد الآن. فعادَ مورين المسكين إلى حجرته وجلسَ إلى طاولته ودفنَ رأسه بين يديه. كان كلُّ فرد في فريق الصحفيين المحليين يعتقد بطبيعة الحال أنَّ الجريدة تُنشَر في الأساس من أجل أن يَحظى قسمه بفرصة للظهور، وكان مورين يرى أنَّ القتال حتى النهاية هو أمرٌ يهتم به العالَم أكثر من اهتمامه بالانتخابات الرئاسية. وقد حاولَ بقية زملائه أن يُروِّحُوا عنه. فقال مورين في مرارة: «الوضعُ حسَّاس ودقيق. فكِّروا في مباراة الأسبوع القادم بين كاليفورنيا دافر وبيجون بيلي ولا تقريرَ يُنشَر عنها في الآرجوس! تخيَّلوا الانتصار السهل للصحف الأخرى. بحق السماء، ما الذي يريد الناسُ في رأيه أن يقرءوه؟»

لكن كانت هناك مفاجأة أخرى تنتظر الصحفيِّين. جمعَهم ماكراسكي جميعًا في حجرته وأطالَ الحديث معهم. ثم طرحَ سؤالًا فجأة على الصحفي الجنائي، وكان السؤال مباغتًا حتى إن تومبسون كادَ يدلي بالحقيقة وهو مأخوذ على حين غرة.

«أتعرف عن وجود أي أندية قمار في المدينة؟»

التقطَ تومبسون أنفاسه ورمقَ مورين بنظرة سريعة.

ثم قال في النهاية: «لا، لا أعرف أيًّا منها، لكن ربما يعرف المحرِّر الديني. من الأفضل أن تسأله.»

ابتسمَ المحرِّر الديني ونزعَ غليون الذرة من فمه.

وقال: «ليس هناك أندية للقمار. ألا تعلم أن إدارة نادٍ للقمار أمرٌ مُخالف للقانون في هذه الولاية؟ أجل يا سيدي!» ثم أعادَ غليون الذرة إلى مكانه.

كان ماكراسكي مسرورًا حين رأى أن الشبان الذين يعملون تحت رئاسته لا يعرفون الكثير عن بشاعة مدينة كبيرة كهذه، بيدَ أنه كان هناك ليعطيهم بعض المعلومات؛ ولذا قال في هدوء:

«من المؤكَّد أن هذا الأمر مُخالفٌ للقانون، لكن هناك الكثير من الأشياء المخالفة للقانون تزدهر في مدينة كهذه. والآن أريدُ أن تعرفُوا قبل انقضاء الأسبوع عدد أندية القمار وأماكنها. وحين تتحققون من صحة ما تجدون، سننظِّم حملة لمداهمة تلك الأماكن وستكون الأخبار حصرية على الأرجح، ذلك أنَّ المداهمة ستكون في ساعة متأخِّرة من الليل وقد لا تسمع بها الصحفُ الأخرى.»

قال المحرِّر الديني وقد تلألأت عينه بينما كان ينزع غليون الذرة من فمه مرة أخرى: «لنفترض — بزعم أن مثل هذه الأماكن موجودة — أنكَ وجدتَ ممثلين عن الصحف الأخرى هناك؟ إنهم أناسٌ سيئون، أولئكَ الذين يعملون في الصحف الأخرى.»

قال المحرِّر المحلي: «إذا وُجِدوا هناك، فسيُزجُّ بهم في السجن.»

قال مورين في تجهُّم: «لن يُمانعُوا ذلك، إذا كان في مقدورهم أن يكتبوا شيئًا عن الأمر.» وكان في رأيه أن صحيفة آرجوس كانت في طريقها نحو الهلاك والفشل.

قال ماكراسكي: «والآن يا تومبسون، يَنبغي لك كصحفي جنائي أن تكون على معرفةٍ بالكثير من الرجال الذين يُمكنهم أن يُزوِّدُوك بتفاصيل لكتابة مقال ممتاز عن مساوئ القمار وشُروره. جهِّز مقالًا عن هذا الموضوع لطبعة يوم السبت، سوف تُخصَّص لك مساحة عمود ونصف، وأريدُ عناوين ترويعية. ينبغي أن نُؤسِّس للرأي العام.»

وحين عاد الصحفيون إلى حجرتهم من جديد، جلسَ مورين وقد دفنَ رأسه بين يديه، فيما اتكأ تومبسون للخلف في كرسيه وراحَ يضحك.

وقال: «نؤسِّس للرأي العام. من الأفضل لماك أن يُؤسِّس لمعرفته بشوارع المدينة، وألَّا يَلبس ثوب الشجاعة والجرأة كما فعلَ صباح اليوم.»

كان المحرِّر الديني يُحضر التبغ من الدُّرج الخاص بمورين حين سأل تومبسون: «هل ستخبر ميليش بالأمر ليأخذ حذره؟»

قال تومبسون: «لا أعرف بعدُ ماذا سأفعل على وجه التحديد. هل تعرف أنت؟»

أجابه المحرِّر الديني قائلًا: «سأفكِّر في الأمر. يا له من تبغ سيئ ذلك الخاص بك يا مورين. لِمَ لا تشتري قطع التبغ؟»

قال المحرِّر الرياضي من دون أن يرفع رأسه: «لستَ مُضطرًّا لأنْ تُدخن منه.»

«بل أنا مضطرٌّ حين يَنفد مني التبغ، والزملاء الآخرون يُوصِدون أدراجهم.»

ذهبَ تومبسون إلى ميليش صاحب نادي القمار الضخم ليستشيره بشأن المقال الذي سيُنشَر في طبعة يوم السبت. وقد أبدى ميليش اهتمامًا كبيرًا بالأمر، ورأى أنه سيكون ذا تأثير جيد. وذكر ميليش إلى تومبسون طواعية عدة حالاتٍ أدَّت فيها هذه الآفة إلى دمار شُبان واعدين.

قال ميليش متأمِّلًا: «كلُّ الناس يُقامرُون بشكلٍ أو بآخر، فهناك مَنْ يقامر على هذا النحو وهناك مَنْ يقامر على نحوٍ آخر. المقامرة متأصِّلة في الطبيعة البشرية، مثل الخطيئة الأولى. وبداية كل عمل تجاري هو ضربٌ من المقامرة. فإذا كنتُ أملك ثلاثين ألف دولار فسأُفضِّل أن أجازف بمضاعفة هذا المبلغ على هذه الطاولة بدلًا من أن أفتتح جريدةً جديدةً أو أن أضع المال في أسهم السكك الحديدية على سبيل المثال. خُذْ مثالًا على ذلك ازدهار الأراضي، كما حدث في كاليفورنيا أو وينيبيج … إنَّ الفارق بين وَضْعِ مالك في شيءٍ كهذا والتوجُّه الصريح إلى القمار هو أنك في الحالة الأولى تكون واثقًا من أنك ستخسر أموالك، بينما في الحالة الثانية لديك فرصة للفوز. وأنا أُومِن بأن كل أشكال القمار سيئة، إلا إذا كان في إمكان المرء أن يتحمَّل بسهولة خسارة ما يُقامر عليه. المشكلة تكمن في أن القمار يؤثر في بعض الناس كتأثير الشراب عليهم. كنت أعرف رجلًا ذات مرة …» لكن يُمكنك أن تقرأ المقال كاملًا إذا راجعت الأعداد القديمة من جريدة آرجوس.

أخبر تومبسون ميليش بشأن ماكراسكي. كان ميليش مُهتمًّا كثيرًا بهذا الشأن وأعربَ عن رغبته في مقابلة رئيس التحرير المحلي. كان ميليش يعتقد بأن الصحف يجب أن تُوليَ اهتمامًا أكبر مما تُوليه في الواقع إلى حظر أوكار القمار، وقال بأنه يُريد أن يرى كلَّ أوكار القمار تتوقَّف عن مزاولة نشاطها بما في ذلك ناديه الخاص. وأضافَ قائلًا: «يُمكنني أن أغلق نادي القمار الخاص بي، لكن هذا يعني بكل بساطة أنَّ هناك شخصًا آخر سيفتح ناديًا آخر، ولا أظنُّ أن هناك من أدار مكانًا مثل هذا بنفس الأسلوب العادِل الذي أدير به مكاني.»

ذهبَ ماكراسكي إلى رئيس الشرطة وقدَّم نفسه بصفته رئيس التحرير المحلي لجريدة آرجوس.

قال رئيس الشرطة: «أوه، هل رحلَ جورمان إذن؟»

قال ماكراسكي: «لا أعلم بشأن جورمان، كان الرجل الذي خلفته يُدعى فينيجان، وأعتقد أنه في سينسيناتي الآن.»

عندما عَلِمَ رئيسُ الشرطة بمَغزى زيارة رئيس التحرير المحلِّي أصبح أكثر رسميةً ومتحفظًا في كلامه نوعًا ما. كان رئيس الشرطة يظنُّ بأن هناك أندية للقمار في المدينة، وإنْ صحَّ ظنُّه، فإنها هادئة جدًّا ولا تتناهى إلى سَمْعه أيُّ شكاوى. وقال بأن هناك الكثيرَ من الأشياء التي من المستحيل حظرها، وأن محاولة فعل ذلك ستجعل الشرَّ يُمعن في العمل خفيةً. وبدا أن رئيس الشرطة يُفضِّل أن ينظِّم الأمر أكثر من تفضيله محاولة تحقيق المستحيل، ومع ذلك إذا أتاه ماكراسكي بأدلة دامغة على أن هناك ناديًا للقمار يزاول نشاطًا، فسيرى أنَّ من واجبه مُداهمته. وقد نصحَ ماكراسكي بأن يتكتَّم كثيرًا في سعيه هذا، ذلك أنَّ للمقامرين بلا شك أصدقاءَ كُثرًا سيشُون لهم بما سيحدث ومن ثمَّ يُحبطون المداهمة، وربما يزجون بكبش فداءٍ ليتحمَّل عنهم تبعات ما حدث. وقال ماكراسكي بأنه سيتوخى الحذر.

لعبَ الحظ دورَه مع ماكراسكي حين «أتاه» رجل لم يكن يبالي كثيرًا بما يفعل عندما دخل إلى حجرة رئيس التحرير المحلي. دخلَ جوس هامرلي — وهو فتى مترَف ومن مشاهير المجتمع — إلى مكتب جريدة آرجوس في ساعة متأخِّرة ذات ليلة ليُبلِّغ المحرر الرياضي أخبارًا عن «حدث» ما. كان خبيرًا بمكتب الجريدة، وعندما وجدَ أن مورين لم يكن موجودًا، تركَ المعلومات على مكتبه. ثم تجوَّل إلى غرفة رئيس التحرير المحلي. كان كلُّ الصحفيين العاملين في الجريدة يُحبون هامرلي، وقد حصلوا منه من قبل على العديد من المقالات الجيدة. ولم يَشُوا به قطُّ، ورأى أنهم لم يَخِب أملُهم ولم يُتخلَّ عنهم، كما هو الحال الدارج بينهم.

«مساء الخير، أعتقد بأنك رئيس التحرير المحلي الجديد. لقد تركتُ بعض المعلومات على مكتب مورين، أعتقدُ بأنه لم يأتِ من مباراة المصارعة بعد. اسمي هامرلي. الجميعُ هنا يعرفونني وقد عرفتُ أربعة عشر رجلًا من سابقيك؛ ولذا أريد أن أتعرَّف عليك أيضًا. سمعتُ أنك من بيتسبرج.»

«أجل، اجلس يا سيد هامرلي. أتعرف بيتسبرج؟»

«أوه، أجل. إنَّ بوردن العجوز، الذي يدير وكر القمار في شارع كذا، صديقٌ قديم لي. أتعرف كيف هي أحواله؟»

«أجل، لقد داهمَتِ الشرطة وكره وأغلقته.»

«يا لحظُّه العسِر! الأمرُ نفسه حدث في مدينة كنساس.»

«بالمناسبة، سيد هامرلي، أتعرف أيَّ أندية للقمار في هذه المدينة؟»

«يا إلهي، ألم يأخذك الشباب في جولة بعد؟ حسنًا، هذا ليس من حُسن الضيافة. إنَّ نادي ميليش للقمار هو المكان الأفضل في المدينة. إني ذاهبٌ إلى هناك الآن. وإذا ما أتيت معي، فسأعطيك جواز الدخول عند الباب ولن تُواجه مشكلة بعد ذلك.»

قال ماكراسكي وهو يمدُّ يده إلى قبعته «سأذهبُ معك.» وهكذا قادَ هامرلي الساذجُ الحَمَلَ إلى عرين الأسد.

كان ماكراسكي غير مُعتاد على المشهد؛ ولذا فقد كان مذهولًا من سرعة اللَّعب. كانت هناك طاولةٌ شبه دائرية، وعلى الإطار الخارجي لها يَجلس عددٌ من الرجال في أريحيةٍ تامَّة. وأما في الجزء الداخلي من الطاولة، فكان هناك رجلٌ يُوزِّع أوراق اللَّعب. كان يُعطي كلَّ لاعبٍ ورقة لعب بحركةٍ سريعة، وكان وجه الورقة للأسفل، كان يفعل ذلك بسرعةٍ ومهارةٍ أذهلَت ماكراسكي. ثم أعطى لكل لاعبٍ ورقة لعب أخرى وجهها للأعلى، وكان الرجال يضعون مبالغ من المال بجوار أوراقهم بعد النظر فيها. ثم تجري عملية توزيعٍ أخرى وهكذا، لكن الرجل الغريب وجدَ أنَّ من المستحيل له فَهْم هذه اللعبة أو تتبُّعها. لقد رأى المال يُغترَف غرفًا ويُدفَع بسرعة، ورأى لياقة رسمية في التعامُل لم يكن مستعدًّا لرؤيتها. فقد توقَّع أن يسمع السباب من اللاعبين وأن يسحبوا مسدسات بعضهم في وجوه بعض.

قال هامرلي الساذج: «هاكَ يا ميليش، اسمح لي أن أقدِّمك إلى رئيس التحرير المحلي الجديد لجريدة آرجوس.» ثم قال هامسًا: «لم أعرف اسمك.»

«اسمي ماكراسكي.»

«السيد ماكراسكي؛ هذا هو السيد ميليش. إنه مالِكُ هذا المكان، وستجد أنه رجلٌ من الطراز الأول.»

قال ميليش بنبرةٍ هادئة: «يسرُّني لقاؤك. إنَّ أيَّ صديق من جهة هامرلي مرحَّب به هنا. تصرَّف وكأنك في بيتك.»

وبعد أن ابتعد عن الرجلَيْن، همسَ ميليش سريعًا إلى سُوتي النادل: «اذهب وأخبِر حارس الباب أن يُحذِّر تومبسون أو أيًّا من بقية مَنْ يعملون في جريدة آرجوس أنَّ رئيسَهم في العمل موجود هنا.»

وفي الساعة الثانية عشرة صباحًا في تلك الليلة كان رئيس التحرير المحلي يَجلس في غرفته، وقد صاحَ حين سمعَ صوت وقع أقدام: «أهذا أنت، يا تومبسون؟»

أجابه تومبسون وهو يدخل عليه: «أجل يا سيدي.»

«أغلِقِ البابَ يا تومبسون. لديَّ مهمة كبيرة لك الليلة، لكن ينبغي للأمر أن يتم في هدوء. لقد اكتشفتُ وكرًا للقمار يعجُّ بالنشاط. وستُداهمه الشرطة الليلة في تمام الثانية صباحًا. وأريدُك أنت ومورين أن تكونا في مسرح الحدث؛ فهل ستحتاج إلى أي شخص آخر؟»

«يتوقَّف هذا على مدى رغبتك في نشر هذا الأمر.»

«أريدُ أن أجعله المقال الرئيسي لعدد الغَد من الجريدة. أعتقد بأن ثلاثتنا كافٍ لهذا الأمر، لكن يُمكنك أن تُحضر المزيد من الزملاء إذا أردت. يدير المكان رجلٌ يدعى ميليش. والآن، لو كنتم يقظين أيها الشباب لأصبحتم على درايةٍ أكبر بما يجري في مدينتكم.»

قال تومبسون في تواضع: «لا يَحظى معظمنا بميزة التدرُّب على ذلك في العاصمة.»

«سأذهبُ إلى هناك برفقة الشرطة. ومن الأفضل أن تكون أنت ومورين هناك، لكن لا تذهبا إلى هناك في وقتٍ مبكِّر، ولا تُثيرا الشكوك حولكما حتى لا يأخذوا حذرهم. هاكَ هو العنوان. من الأفضل أن تدوِّنه.»

«أوه، سأجد المكان …» ثم فكَّر تومبسون للحظةٍ وتمالَكَ نفسه وقال وهو يُدوِّن اسم الشارع ورقم المنزل بعناية: «شكرًا لك.»

توقَّفَتْ قوةٌ من الشرطة أمام المكان قبل أن تحلَّ الثانية ببضع دقائق. كانت الشوارع خاليةً من المارَّة، وكانت قوة الشرطة هادئةً للغاية حتى إنَّ صوتَ وَقْع أقدام أحد المارَّة المتأخرين على الرصيف الحجري في شارعٍ بعيدٍ ليُدوِّي عاليًا في سكون الليل.

قال ماكراسكي مُحدِّثًا الرجل المسئول عن قوة الشرطة: «هل أنت واثقٌ أنه لا يوجد مَدْخَلٌ خاص في مكانٍ ما؟»

فجاءه الرد بنفاد صبرٍ من الرجل: «بكل تأكيدٍ هناك مَدْخَل خاص. والرقيبُ ماكولم وأربعة من الرجال برفقته يتمركَزون في الشارع الخلفي. نحن نعرف عملنا تمام المعرفة يا سيد.»

ظنَّ ماكراسكي أنَّ هذا ازدراء من قِبَل مسئول الشرطة، وقد كان محقًّا في ذلك. وراحَ ينظر حوله في الظلام بحثًا عن رجاله الصحفيين. فوجدهم يقفون معًا أمام أحد الأبواب في الجهة المقابلة من الشارع.

فهمسَ لهم: «أتقفون هنا منذ وقتٍ طويل؟»

كان مورين مُتجهِّمًا ولم يُجِب. ونزعَ المحرِّر الديني غليون الذرة من فمه وقال في اقتضاب: «منذ عشر دقائق تقريبًا يا سيدي.» كان تومبسون يُحدِّق باهتمام بالغ في المبنى المظلم على الجهة المقابلة من الشارع.

«هل رأيتم أحدًا يخرج؟»

«لا أحدَ. على العكس، لقد دخل ستة أشخاصٍ وصعدوا هذا الدَّرج.»

سألَ تومبسون بسذاجة الحملان التي كان عليها الصحفي الجنائي: «أهذا هو المكان يا سيدي؟»

«أجل، في الطابق العلوي منه.»

قال المحرِّر الديني: «ألم أخبرك؟ كان تومبسون يصرُّ على أنه المبنى المجاور.»

قال ماكراسكي: «هيا، الشرطة تتحرك أخيرًا.»

دقَّ جرسٌ كبير في الحي دقَّتَيْن بطيئتَيْن، وراحت الساعةُ تدق في كل أرجاء المدينة بدرجاتٍ مختلفة من النغمة والسرعة. ثم دوَّت صافرةٌ في الأرجاء، وجاء الرد عليها بصافرة مثلها من بعيد. تحرَّكت الشرطة بسرعة وهدوء على الدَّرج.

سأل الرجل على الباب في أدب: «أتحملُون التذاكر أيها السادة. هذا مَلأٌ خاص.»

قال رقيب الشرطة في اقتضاب: «إنها الشرطة، تنحَّ جانبًا.»

لم تكن وجوه رجال الشرطة لتُوضِّح أي اندهاش حتى لو أذهلهم المشهد الذي رأوه أمام أعينهم. أما ماكراسكي، فلم يكن يسيطر على ملامح وجهه، فبدا مصعوقًا. كانت الحجرة هي نفسها بلا أدنى شك، لكن لم يُرَ أيُّ أثر ولو لورقة لعب واحدة. لم تكن هناك طاولات، وحتى المشرب اختفى. وكانت الكراسي مرتَّبة جيدًا ومعظمها مشغولًا. وفي الجهة المقابلة من الغرفة وقَفَ بوني رويل على منصة أو على صندوق أو شيء مُرتفع، وكان وجهُه الشاحب الجاد يشع بحماسة المتحدِّث العام. كان يقول: «أيها السادة، تتوقَّف حياة الحِزب على نزاهة الاقتراع. وفي رأيي أنَّ كل مَنْ يَسمع كلماتي الآن يرغب في أن يحصل كل امرئ على حق الاقتراع من دون تدخُّل أو مضايقة من أحد، ويرغب كذلك في احتساب كل صوتٍ في نزاهةٍ تامة.» (ثم جاءَ تصفيقٌ حاد تمكَّن بوني خلاله أن يرتشف رشفة من كوب أمامه ربما كان يحتوي على ماء.)

وقد دخلت الشرطة المكان في هدوءٍ تام بحيث بدا أنَّ أحدًا لم يلحظ دخولهم، عدا ميليش، الذي هرعَ نحوهم ليُرحِّب بالمُقتحمين.

سألهم ميليش قائلًا: «هَلا جلستم؟ إننا نَستمع إلى خطاب سياسي صغير من السيد رويل أيها الرقيب.»

قال الرقيب في تجهُّم: «إنها ساعة متأخرة بعض الشيء يا سيد ميليش.»

أقرَّ ميليش بذلك وكأنه لم يكن يعرف ذلك بحق: «إنها حقًّا متأخِّرة بعض الشيء!»

انتشر رجالُ الشرطة الذين دخلوا من المَدْخَل الخلفي عند الجهة الأخرى من الغرفة، وبات واضحًا أن خطاب رويل قد أُنهيَ في غير أوانه. وقد بدا على بوني أنه حزين ومُستاء، لكنه لم يقل شيئًا.

قال الرقيبُ: «نريد أن نُفتِّش المقر يا سيد ميليش.»

قدَّم لهم ميليش في ذلك كلَّ مساعدة مُمكنة، لكن الشرطة لم تجد شيئًا.

وبينما كان الرجال الأربعة يسيرون معًا عائدين إلى مكتب جريدة آرجوس، كان ماكراسكي في غاية السخط والغضب.

قال ماكراسكي: «سنَفضح أمر الشرطة غَدًا. لا شك أنهم سرَّبوا معلومة إلى ميليش.»

قال تومبسون: «لا أعتقد ذلك. لن نَذكُر شيئًا عن الأمر.»

«لقد نسيتَ نفسك يا سيد تومبسون. أنا مَنْ أملك الاختصاص لكي أقول ما سيحدث في العدد المحلي من الجريدة، وليس أنت.»

قال تومبسون بحزن واغتمام: «أنا لا أنسَى نفسي، إنما تذكَّرت للتو. لقد عيَّنني أمس أعضاءُ مجلس إدارة جريدة آرجوس في منصب رئيس التحرير المحلِّي. ألم يُخبروك بالأمر؟ هذا من شيَمهم. لقد نسوا أن يذكروا إلى كوربن أنَّ هناك مَنْ خَلَفه في المنصب، وقد ذهبَ المدير في رحلة صيد بعد أن عيَّنَ جونسي في المنصب نفسه؛ ولذا أصبح لدينا رجلان في منصب رئيس التحرير المحلي لمدة أسبوع، وكان هذا الأسبوع فظيعًا. أتذكره يا مورين؟» وبدا من غمغمة مورين أن ذكريات تلك الفترة لم تكن سارةً على الإطلاق.

وتمتَم المحرِّر الديني لكن من دُون أن يخرج غليون الذرة من فمه هذه المرَّة: «وإذا كنت تشكُّ في الأمر، فأطِع أوامر الرجل الجديد فيما يتعلَّق بأمر جريدة آرجوس. إنني معك أيها الزميل تومبسون. متى حدث ذلك؟»

قال تومبسون بنبرةٍ تكاد تكون مختنقة: «بعد ظهر أمس. سيَصرفونني عن منصبي في غضون شهر؛ ولذا فإنني أشعر بالأسف. كنت أحب العمل في جريدة آرجوس … كصحفي. ولم أبحث قطُّ عن مثل هذا الحظ العاثر في الترقِّي. لكن جميعنا لديه مَشاكله، أليس كذلك يا ماك؟»

لم يُجب ماكراسكي. وهو الآن يَعمل في جريدةٍ ما في مدينة تكساس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤