قرار كراندال

جلسَ جون كراندال إلى مكتبه وفكَّر في الموقف. كان الجميع قد غادَرُوا وبقيَ هو في المكتب وحيدًا. كان كراندال يَشعُر بالتعب والنعاس؛ ولذا فقد كان ميالًا لأن يرى الأمور بنظرةٍ متشائمة وكئيبة. ولم يكن ذلك لوجود مشكلةٍ ما في عمله؛ إذ كانت أعماله في الواقع في حالة جيدة حتى هذه اللحظة، لكنها لم تمضِ قُدُمًا بالقدر الكافي، كان هذا هو ما يفكِّر فيه جون وهو يُمعن التفكير في شئونه. كان يجني المال بالطبع، لكن كانت المشكلة أنه لا يَجنيه بالسرعة الكافية.

وبينما كان جون يفكِّر في هذه الأمور، خلدَ إلى النوم تدريجيًّا وعلى نحوٍ غير محسوس، وفي أثناء نومه راوده حُلم ما. سيكون من السهل كثيرًا أن نتظاهَر بأنَّ السيدتَيْن اللتين أتيتاه في حُلمه دخلتا مكتبه فعلًا وأنه ظنَّ أنهما من زبائنه المعتادين أو شيء من هذا القبيل، في حين أنَّ في نهاية القصة — حين أصابَ الذهول الجميع — يمكن توضيح الأمر كله بالإفصاح عن حقيقة أنَّ الأمر برمته كان مجرد حُلم، لكن بما أنَّ هذه الرواية صادقة وحقيقية، فلن نستخدم أيَّ خدعة، وسنَعترف منذ البداية أنَّ جون كان ضحيةَ حُلمٍ رآه.

في هذا الحُلم، تقدَّمت منه سيدتان في غاية الجمال. كانت إحداهما ترتدي ثيابًا فاخرة وتتزيَّن بمجوهراتٍ برَّاقة. وكانت الأخرى ترتدي ملابسَ عادية. في البداية، ظنَّ السيد كراندال في حُلمه — أو حلم بأنه ظنَّ — أنَّ السيدة التي تَرتدي ملابس فاخرة كانت هي الأجمل بينهما. لا شكَّ أنها كانت تتمتَّع بجاذبية كبيرة، لكن حين اقتربَت منه أكثر، تصوَّر جون أنَّ الجزء الأكبر من جمالها كان اصطناعيًّا. وقال في نفسه إنها ربما كانت تَتزيَّن بالمساحيق بطريقة بديعة، لكنها وعلى أيِّ حال كانت تُفرط في الزينة.

أما عن الأخرى، فلم يكن من خلاف بشأنها. كانت جميلة حقًّا، وما حازته من حُسن وبهاء كان عَطيَّة إلهية وليس بمساعدة صانِع المساحيق. وكانت هي مَنْ تحدَّثت أولًا.

قالت المرأة في أعذب صوتٍ سمعه: «سيد كراندال، لقد أتينا هنا معًا لكي تختار من بيننا. فأيًّا منا ستختار؟»

قال كراندال وهو مندهش من هذا العرض المتبجح حتى إنه كاد يستيقظ من نومه: «يا إلهي، يا إلهي، ألا تعرفان بأنني مُتزوِّج؟»

فأجابته السيدة الشابة الجميلة بأبهى ابتسامة رآها يومًا: «أوه، لا يُهمُّ ذلك.»

قال السيد كراندال: «لا يهمُّ ذلك؟ لو حظيت بشرف لقاء السيدة كراندال لعرفتِ بأنَّ هذا مهم كثيرًا … كثيرًا جدًّا في الحقيقة.»

«لكنَّنا لسنا ببَشر، نحن أرواح.»

فأجابَ السيد كراندال: «أوه، أحقًّا؟ جيد جدًّا، هذا يُحدِث فارقًا بالتأكيد.» وقد شعر بارتياح كبير؛ ذلك أنه من منطلق المنعطف الذي اتخذَتْه تلك المحادثة بدأ يخشى أن يكون في حضرة اثنتَيْن من كُتَّاب الروايات المعاصرة.

واصلت المتحدِّثة الأولى حديثها قائلة: «هذه السيدة هي رُوح الثروة. وإذا اخترتها فستصبح رجلًا ثريًّا قبل أن تموت.»

صاحَ كراندال: «أوه، حقًّا! هل أنتِ واثقة من ذلك؟»

«واثقة تمامًا.»

«حسنًا، إذن لن أطيل في اتخاذ قراري. سأَختارها هي بالطبع.»

«لكنك لا تعرف مَنْ أنا. ربما حين تعرف، قد ترغب في عكس قرارك.»

«أعتقدُ بأنكِ روح القوة أو الشهرة أو شيء من هذا القبيل. أنا لست بشخص طموح؛ تحقيق الثروة يكفيني.»

«لا، أنا رُوح الصحة. فكِّر جيدًا قبل أن تتخذ قرارك. لقد رفضني الكثيرون، وبعد ذلك، عرضوا أن يتخلَّوا عن كل ما يَملكُون دون جدوى، وذلك في سبيل أن يجتذبوني إليهم.»

قال السيد كراندال في شيءٍ من التردد: «آها، إنكِ شَخصٌ من المبهج جدًّا أن يكون موجودًا في أرجاء المنزل. لكن لِمَ لا يسعني الحصول على كلتيكما؟ كيف تجدين ذلك؟»

«أنا آسفة للغاية، لكنني غير مَسموح لي أن أعطيك حرية اختيار كلتَيْنا.»

«ولِمَ ذلك؟ يُسمَح للكثيرين أن يختاروا كلتيكما.»

«أعلم ذلك، لكن لا يزال علينا أن نتبع التعليمات.»

«إذن، إذا كان الأمر كذلك، أعتقدُ بأنني سأستقرُّ على خياري الأول، ولا أرغبُ بذلك أن أسيء إليكِ على الإطلاق. إنني أختارُ الثروة.»

وحين قال ذلك، تقدَّمت نحوه السيدة الأخرى وابتسمَت ابتسامةً تعبِّر عن الانتصار بينما مدَّت يدها إليه. أمسكَ كراندال بيدها فتنهَّدت الروح الأولى. وحين كانت روح الثروة على وشك أن تتحدَّث بشيءٍ، اهتزَّ باب المكتب، ورأى السيد جون كراندال الرُّوحَين وهما يتلاشيان. فَرَكَ عينيه وقال في نفسه: «يا إلهي! كنت نائمًا. يا له من حُلم أشبه بالحقيقة.»

وبينما كان يتثاءَب ويمطُّ ذراعيه فوق رأسه، جاءَه صوتُ ارتجاج الباب مخبرًا إياه أنَّ هذا الصوت على الأقل لم يكن جزءًا من الحُلم.

فنهضَ الرجل من مكانه وفتحَ الباب.

وقال بينما دخلَ ذلك الرجل القويُّ البنيَة: «مرحبًا سيد بوليون. لقد تأخرتَ عن موعدك.»

«وأنت أيضًا. لا بد أنك كنت منهمكًا في حساباتك، وإلا سمعتني قبل ذلك. ظننتُ أنني لا بد أن أهشِّم البابَ كي تَفتح لي.»

«أنت تعلم أنَّ رجل الشرطة يُحاول أحيانًا أن يفتح الباب وظننتُ في البداية أنه هو. هَلا جلست.»

«أشكرك! لكن لا بأس. هل أنت مشغول الليلة؟»

«لقد انتهيتُ لتوِّي من العمل.»

«حسنًا، كيف تسير الأمور؟»

«أوه، ببطءٍ كالمعتاد. الأمور تسير ببطءٍ؛ لأننا ليس لدينا ما يكفي من المرافق، لكننا نؤدي كلَّ العمل بقدر ما نستطيع.»

«وهل تَجني ثمار ما تؤدي من عمل؟»

«بكل تأكيد. إنني لست بفاعل خير كما تعرف.»

«لا، لم أَفترض أنك كذلك. والآن، انظر يا كراندال، أعتقد بأنَّ عملَك واعد وأنه سينمو ويزدهر ليُصبح شركة كبيرة إذا ما جرى توسيعه.»

«أعلمُ ذلك. لكن ماذا يُمكنني أن أفعل؟ من الناحية العملية، ليس لديَّ رأس مال يُمكِّنني من توسيع عملي، ولا أريد أن أرهن ما لديَّ وأدفع نسبة فائدة كبيرة مع احتمالية أن نُواجه أزمة تجارية في لحظة حاسمة فأخسر حينها كلَّ شيء.»

«صحيح تمامًا؛ صحيح، وهو مبدأ آمن وسليم. وفي الواقع، هذا هو ما أتيتُكَ بشأنه. كنت أراقبُكَ أنت وهذا المصنع عن كثب منذ فترة. والآن، إذا كنت تريد رأسَ مال فسأمدُّك به شريطة أن يأتي محاسب من جهتي ويفحص سجلاتك ويَجد أنَّ كل شيءٍ يُبشِّر بعائدٍ مُجزٍ لتوسيعِ عملك. إنني أثق بالطبع فيما قلته عن أنَّ الأمور تسير على ما يُرام، لكن العمل يبقى عملًا كما تعلم، وبالإضافة إلى ذلك، فإنني أريد أن أحصل على رأي خبير بشأن مدى التوسُّع الذي يمكن أن نقوم به. أعتقد أن بإمكانك بكل سهولة أن تتدبر أمر مصنع أكبر من هذا بعشرة أو عشرين ضعفًا.»

قال السيد كراندال: «إلى حَدٍّ كبير.»

«إذن ما رأيك في أن أُعرِّج عليك غدًا في التاسعة ومعي المحاسب الذي حدَّثتُك عنه؟»

«لا بأسَ بذلك.»

وسارَ السيد جون كراندال إلى منزله في تلك الليلة وهو في غاية الابتهاج.

•••

قال المريض بصوت واهنٍ كثيرًا: «حسنًا أيها الطبيب، ماذا ترى!»

«كما قلت من قبل. سيتحتَّم عليك أن تأخذ قسطًا من الراحة. وكما تعلم، فقد تنبأتُ بهذا التداعي.»

«ألا يمكنك أن تعطيَني شيئًا يُحسِّن من حالتي مؤقتًا؟ من الضروري بدرجةٍ كبيرةٍ أن أظلَّ في العمل هذه الفترة.»

«ذلك ضروري بالطبع. لقد ظلَّت الحال على هذا المنوال طوال السنوات الخمس المنصرمة. أنسيتَ أنك في تلك الفترة كنت تُحسِّن من حالتك عدة مراتٍ لفتراتٍ مؤقتة. والآن، سأضعُكَ قيد الملاحظة حتى يُمكنَك السفر في غضون عدة أيام، وأُصرُّ على أن تكون رحلتك بحريةً أو أن تقضيَ وقتًا هادئًا في مكانٍ ما على هذه القارة. سيتحتَّم عليك أن تتوقَّف كلية عن التفكير في شئون العمل. لا مجالَ لأي حُجج أو استثناءاتٍ هذه المرة.»

«اسمعني أيها الطبيب. لا أعرفُ كيف سأغادر في الوقت الحالي. لقد ساءَتْ حالتي على هذا النحو لمراتٍ كثيرة من قبل. أنت تعلم هذا. وأنا أكدح كثيرًا وحين أعود إلى مكتبي يُمكنني أن أتعامَلَ مع الأمور بسهولةٍ أكبر. وكما تعلم، نحن على وشك إبرام صفقةٍ كبيرة مع أمريكا الجنوبية وأشعرُ بقلق شديد حيال الأمر. إنه مشروع جديد، كما تعلم.»

«أعتقدُ بأنك تستطيع أن تُحرِّر شيكًا بمبلغٍ كبيرٍ من المال يا سيد كراندال.»

«أجل، أستطيع. إذا كانت الأموال ستساعد في رأب الصدع، فسأتدبَّر ما يلزم.»

«في الواقع، لا يستطيع المال فعل ذلك. ما أردتُ قوله هو أنكَ إذا بالغت في السحب من حسابك بقدر ما يستطيع البند أن يُقدِّم لك — بدلًا من زيادة حجم إيداعاتك — فهل ستستغرب لو رُفِض شيك لك؟»

«لا، لن أستغرب ذلك.»

«إذن، هذه هي حالتك الجسدية. لقد أفرطت في السحب من حساب صحتك. ينبغي لك أن تجري إيداعًا. لا بد أن تأخُذ إجازة.»

«في أي وقت آخر أيها الطبيب. سآخذ إجازة بالتأكيد، لكن بمجرد أن ننتهي من إبرام تلك الصفقة. أعدُك بشرفي أنني سأفعل. لست في حاجة لأن تَهزَّ رأسك رافضًا. إن أخذ إجازة الآن لن يساعد إلا في تفاقم الأمر. لن أنعم بدقيقة واحدة من السكينة وراحة البال وأنا أعرف أن مشروع أمريكا الجنوبية قد يكون عرضة للفشل. سيستبدُّ بي القلق حَدَّ الموت.»

•••

كانت جنازة السيد كراندال بلا شك هي أحد أكثر المشاهد المهيبة التي شهدتها المدينة حتى اليوم. وقد تحدَّثت الصحف كلُّها عن صفات رجل الصناعة الراحِل، الذي كان ازدهار عمله مؤشرًا يقاس به ازدهار المدينة نفسها. كما تحدَّث الوزير المُفوَّه عن الأقدار الإلهية الغامضة في اقتطاف رجل في أوج عِزِّه وذروة نَفْعِه وغَنائه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤