نزيلٌ غامض

عندما نزلَ جون أرمسترونج من القطار في محطة يونيون في تورنتو بكندا وسار إلى خارجها، اقتربَ منه صبيٌّ صغير.

«أتريد أن أحمل حقيبة سفرك عنك يا سيدي؟»

قال السيد أرمسترونج: «لا، شكرًا لك.»

«هل أحملها مقابل عشر سنتات يا سيدي؟»

«لا.»

«هل أحملها مقابل خمس سنتات يا سيدي؟»

«هَلا ابتعدت عن طريقي؟»

ابتعدَ الصبيُّ عن طريقه، وحملَ جون أرمسترونج حقيبة سفره بنفسِه.

كان في الحقيبة نصف مليون دولار تقريبًا؛ ولذا ظنَّ السيد أرمسترونج أنَّ من الأفضل أن يَحمل هو الحقيبة لنفسه.

•••

في نافذةٍ بارزة لأحد أجمل البيوت في روتشستر بمدينة نيويورك، جلست الآنسة ألما تيمبل تنتظر والدها لدى عودته من البنك. كان السيد هوراس تيمبل أحد الرجال الأقوياء ماديًّا في روتشستر، وكان يعمل رئيس بنك تيمبل الوطني. ورغم أن الوقت كان لا يزال في بداية شهر ديسمبر، كان الشتاء ينذر بأنه سيكون هو الأقسى منذ عدة سنوات، فكان الجليد يُغطِّي الشوارع بطبقاتٍ صلبة، لكنه لم يكن بالصلابة الكافية ليسمح للناس بالتنقل باستخدام زلاجة الجليد. كان الجو في غاية البرودة. وفجأة، ابتعدت الآنسة ألما عن النافذة وقد تورَّد وجهُها سريعًا، ومن المؤكَّد أن ذلك لم يَكُن سببُه مجيء والدها. كان هناك شابٌّ أنيق يتقافَز على الدَّرج في خفة، ثم ضغطَ الشاب على الزر الكهربائي عند الباب. وحين دخل الشاب إلى الحُجرة بعد لحظة، كانت الآنسة ألما تجلس بالقرب من نيران المدفأة في رزانة. تقدَّم الشابُّ نحوها بسرعة، وأخذ كلتا يديها الممدودتَيْن في يديه. ثم حيَّاها برقة وحنان، وهو ينظر خُفية في جميع أنحاء الغرفة، حيَّاها بطريقةٍ لا يرى راوي هذه الأحداث أنه مُلزم بسرد تفاصيلها. لكن، ربما يكون جديرًا بالذكر أنَّ المقاومة التي ظنَّت الآنسة الشابة أنها ملائمة لهذا الموقف كانت مقاومةً واهنة وغير ذات جدوى، وهكذا نفهم — منذ البداية — أنَّ هذا الشاب وتلك الشابة كانا على درجةٍ كبيرةٍ من التفاهم فيما بينهما.

بدأ الشابُّ حديثه قائلًا: «تَبدين متفاجئةً لرؤيتي.»

«في الواقع يا والتر، لقد فهمتُ أنك غادرت آخر مرة بعد أن أفصحت عن عزمك في حماسة كبيرة بأن ظلَّك لن يطأ عَتبتنا مرة أخرى.»

«حسنًا، أنتِ تعرفين يا عزيزتي أنني أكون متسرعًا في بعض الأحيان؛ وفي الواقع، الطقس غائم كثيرًا هذه الأيام، وبأيِّ حال، لن يُحدِث ذلك فارقًا إنْ أتيتُ ووطِئ ظلي عَتبة بابكم مرة أخرى، ففكرتُ أن آتي وأجازفَ بذلك.»

«لكنني فهمتُ أيضًا أن أبي جعلك تقطع وعدًا، أو أنك قطعت الوعد من تلقاء نفسك، بألا تراني مرة أخرى من دون إذن منه؟»

«ليس من تلقاء نفسي. بل كان الأمرُ بعيدًا كل البُعد عن ذلك. كنت مُكرَهًا، أؤكِّد لكِ. لكنني لم آتِ لكي أراكِ. أنتِ مخطئة في ذلك. إنَّ رؤيتك الآن مجرَّد صدفة، وقد بذلت قصارى جهدي لكي أتجنَّب وقوعها. هذا حقيقي! لقد قالت الخادمة: «هَلا دخلت إلى غرفة الصالون.» وهكذا فعلتُ بطبيعة الحال. ولم أكن أتوقَّع أن أجدكِ هنا. ظننتُ أنني رأيت سيدة شابة بجوار النافذة بينما كنت أصعد إلى هنا، لكن نظرتي كانت خاطفة حتى إنني اعتقدت أنني كنتُ مخطئًا.»

«إذن سأتركُك ولن أقاطع …»

«لا تَفعلي. إنني أرجوكِ الآن ألا تُغادري بسببي يا ألما. تَعلمين أنني ما كنت لأتسبَّب لكِ في أي مشكلة.»

«أنت عطوف جدًّا يا سيد براون، أنا واثقة من هذا.»

«بالفعل أنا كذلك آنسة تيمبل. وكلُّ أصدقائي يُقرُّون بهذا. لكن، بما أنكِ هنا الآن … بالمناسبة، لقد جئتُ لرؤية السيد تيمبل. أهو بالمنزل؟»

«إنني أتوقَّع وصوله في أي لحظة.»

«أوه، حسنًا، لقد خابَ أملي، لكنني أعتقد بأني سأنتظره بعض الوقت … حتى يصل إلى المنزل.»

«كنتُ أعتقد أن آخر لقاءٍ بينكما لم يكن سارًّا كثيرًا بحيث تطلب لقاءَه مرة أخرى بهذه السرعة.»

«الحقيقة يا ألما أنَّ كلينا فقدَ أعصابه بعض الشيء، ومردود هذا لا يكون جيدًا أبدًا. لا يُمكن للمرء أن يبرم الصفقات في وقت الغضب كما تعلمين.»

«أوه، إذن طلبك يد ابنته كان صفقة … مجرَّد عرض عمل، أليس كذلك؟»

«حسنًا، أقرُّ بأنه فسَّر الأمر على هذا النحو، وبقوَّة أيضًا. وبالنسبة إليَّ كان الأمر سيخالطه السرور لو وافق، لكنه لم يوافق. اسمعي يا ألما، أخبريني بصراحة بوجه اعتراضِه عليَّ على أيِّ حال (لقد حدَّثكِ والدكِ في هذا الأمر دون شك).»

«أتصوَّر أنك ترى نفسك شابًّا مرغوبًا فيه كثيرًا حتى إنه ليدهشك كثيرًا حين يُبدي أحدٌ اعتراضًا عليك؟»

«أوه، بحقك يا ألما، لا تُمعني في جرحي بينما أنا في موقف سيئ كهذا. إنَّ زهوي بنفسي وخيلائي لا يزيدان عما لدى أيِّ شابٍّ عادي، لكن، على الجانب الآخر، لستُ بأحمق — على الرغم من ظاهر الأمر — لكيلا أعرف أن بعض الناس يرونني شخصًا لديه مؤهِّلات ومرغوبًا فيه. وفي رأيي أنني لا أتصف بصفاتٍ سيئة كثيرة. فأنا لا أعاقر الشراب؛ ولا … أوه، يُمكنني أن أصنع لكِ قائمة بالأشياء السيئة التي لا أفعلها.»

«لا شكَّ أنك صريحٌ بما يكفي، أيها الشاب ذو المؤهلات. ومع ذلك، يجب ألا تنسى أن أبي يعدُّ حموًا ذا مؤهلاتٍ أيضًا، إن كان الأمر يتعلَّق بذلك.»

«بالطبع، أقرُّ بذلك. كيف يُمكن له ألا يكون كذلك وهو أبٌ لابنةٍ فاتنة مثلك؟»

«تعرف أنني لا أقصد ذلك يا والتر. كنت تَتحدَّث عن الثروة وكنت أقصد أنا ذلك. ربما من الأفضل أن نتطرَّق إلى موضوع آخر.»

«بالمناسبة، هذا يُذكِّرني بما أتيتُ لرؤيتكِ بشأنه. ماذا …»

«لرؤيتي؟ كنتُ أظن أنك أتيت لرؤية أبي.»

«أوه، أجل … بكل تأكيد … أتيتُ لرؤيته، بالطبع، لكن في حالة أنني رأيتُكِ، فكَّرتُ في أن أسألكِ عن المزيد من التفاصيل في القضية. لقد طرحتُ عليكِ السؤال لكنكِ راوغتِ في الإجابة. لم تُخبريني لِمَ هو متحيِّز ضدِّي. لماذا عامَلَني بطريقة فظَّة حين تحدَّثتُ إليه عن الأمر؟ إنَّ طلب يد ابنة من أبيها ليس عملًا إجراميًّا. أؤكِّد لكِ أنه ليس كذلك. لقد بحثتُ في القانون عن هذا الأمر، ويقول أحد أصدقائي — وهو يعمل مُحاميًا — إن القضية المقدَّمة لا ينطبق عليها نص قانوني. فقانون ولاية نيويورك لا ينظر إلى فِعلي على أنه ضد سلام الولاية وازدهارها. وفي الواقع، عاملني الرجل وكأنَّني ضُبِطتُ متلبسًا في سرقة بنك. والآن أريدُ أن أعرف وجه اعتراضه. سأسمع …»

«صَه! ها قد حضر أبي الآن.»

غادرت الآنسة ألما الحجرة ولقيت والدها في الردهة. ووقفَ السيد براون وقد وضعَ يدَه في جيبه وأعطى ظهره إلى المدفأة. وسمعَ صوتَ السيد تيمبل الفظَّ وهو يقول فيما بدا أنه ردٌّ على معلومات قالتها له ابنته: «أحقًّا؟ ماذا يريد؟»

ثم سادَ الصمتُ لحظة، وبعدها قال الصوت نفسه:

«حسنٌ إذن، سألتقيه في غرفة المكتبة بعد بضع دقائق.»

وبطريقة ما تلاشت شجاعة السيد براون الشاب حين سمعَ صوت المصرفي، أما المعلومات التي كان قد قرَّر أن يطلبها في غرور وخيلاء؛ فقد رأى أنه قد يطلبها بلطفٍ أكثر.

ثم أضاءَ وجه السيد براون حين انفتح الباب، لكن لم تكن الآنسة ألما هي مَنْ فتحته. قالت له الخادمة:

«السيد تيمبل في غرفة المكتبة يا سيدي. فهَلا تبعتني!»

تبعها الرجل ووجدَ السيد تيمبل جالسًا إلى الطاولة في غرفة المكتبة والتي كان قد وضع عليها لتوِّه بعضَ الأوراق التي تبدو ذات صبغة قانونية، وكانت الأوراق مربوطة إلى بعضها برباط مطاطي سميك. كان من الواضح أن عمله في البنك لم ينتهِ حين غادر البنك. ولاحظَ براون الشاب أنَّ السيد تيمبل بدا مهمومًا ومنهكًا، وأنَّ أسلوبه كان مختلفًا كثيرًا عما كان عليه في آخِر لقاءٍ بينهما.

«طابَ مساؤك سيد براون. يَسرُّني حضورك. كنت أريد أن أكتب إليك، لكن موضوع حديثنا في تلك الليلة قد أنساني إياه انشغالي بأشياء أخرى أكثر أهمية.»

فكَّر السيد بروان الشاب على نحو يصعب قبوله أنه يَنبغي ألا تكون هناك أمور مهمَّة لأي أبٍ أكثر من سعادة ابنته، لكنه كان يَتحلَّى بمنطق سليم يَمنعه من قول ذلك.

«لقد تحدَّثتُ إليك في تلك الليلة بأسلوب من الصَّعب تبريره، وأريد أن أعتذر منك على ذلك. كان من المُمكن أن أقول ما قلت بأسلوب يُراعي مشاعرك أكثر من ذلك.»

«إذن، آمُل يا سيد تيمبل أنك غيَّرت رأيكَ في …»

«لا يا سيدي. لا زلت مُلتزمًا بما قلت حينها — بفحوى ما قلت وليس بطريقة قولي إياه.»

«هل لي أن أسأل عن وجه اعتراضك عليَّ؟»

«بالطبع. اعتراضِي عليك هو نفس اعتراضي على مُعظَم الشباب في الوقت الحالي. إذا سألتُ عنك، فماذا سأجد؟ أنك مُجدِّف بارز … أنك بلا وظيفةٍ … وأن مُميزاتك في الجامعة تَنحصِر في أنك كنت كابتن فريق كرة القدم، و…»

«لا، لا، فريق البيسبول.»

«الأمر سيان في رأيي.»

«بل مُختلِف تمامًا، أؤكِّد لك يا سيد تيمبل.»

«الأمر سيان بالنسبة إليَّ على أيِّ حال. والآن، في زمني كان الشباب يُواجهون صعابًا أكثر، وكانوا يتغلَّبون عليها. إنَّني كما يقولون رجلٌ عصامي، وربما كان حُكمي على الشباب في هذا الوقت أقسى مما ينبغي. لكنَّني لو كان لديَّ ابنٌ لسعيتُ أن أعلِّمه كيفية إنجاز شيءٍ ما، ثم أتحرَّى أنه أتمَّه.»

«إنني مُمتنٌّ لك لأنك أبديتَ وجه اعتراضك يا سيد تيمبل. لقد تخرَّجتُ في كلية هارفرد للقانون، لكنني لم أُزاوِل المهنة قط لأنني — كما قال الصبي الصغير — لستُ في حاجةٍ إلى ذلك. ربما لو تحدَّث إليَّ أحدُهم بالطريقة التي تحدَّثتَ بها إليَّ لَكنت شمرتُ عن ساعديَّ وبدأت العمل. ولم يَفُتِ الأوان بعد. هلا منحتني الفرصة؟ بوظيفة الصرَّاف في البنك لديك، على سبيل المثال؟»

كان وقعُ تلك الكلمات الساذجة في ظاهِرِها على السيد تيمبل مذهلًا. فقد هبَّ الرجل واقفًا وهوى بقبضته على الطاولة في عنفٍ ممَّا جعل السيد براون الشاب يَنتفِض في مكانه. ثم صاحَ بنبرةٍ حازمة قائلًا: «ماذا تقصد يا سيد؟ ماذا تقصد بقولك هذا؟»

راحَ براون يتلعثم قائلًا: «أنا … أنا … أقصد …» لكنَّه لم يَنطِق بالمزيد. كان يَعتقِد أن الرجل العجوز قد فقدَ صوابه فجأة. كان الرجل يُحدِّق إلى براون على الجانب الآخر من الطاولة وكأنه على وشك أن يُطبِقَ على رقبته في أي لحظة. ثم بدا الشحوب على وجهه مرةً أخرى، ومرَّر يدَه على جبينه، ثم غاصَ في كرسيِّه وهو يغمغم.

قال براون وهو يقترب منه: «سيدي العزيز، ما الأمر؟ هل هناك شيء يُمكنني …»

أجابه المصرفي بنبرة حزينة: «اجلس من فضلك. آمُل أن تتجاوَز عن ذلك، إنني أعاني من مشكلة كبيرة. لم أُردْ أن أتَحدَّث عن الأمر، لكني أدين لك بتفسير. في غضون شهرٍ من الآن، وإذا كنت من النوع الذي عليه أكثرية أبناء جيلك، فلن ترغب في الزواج من ابنتي. فهناك احتمالٌ كبيرٌ أن تُوصَد أبواب بنكي في غضون تلك الفترة.»

«أنت تُدهشُني يا سيدي. كنت أظنُّ …»

«أجل، وهكذا يظن الجميع. إنني في حياتي قلَّما منحتُ ثقتي أناسًا لا يستحقُّونها، لكنني وثقتُ في الشخص الخطأ هذه المرة، ويبدو أن هذا الخطأ سيمحو كلَّ ما نجحت في تحقيقه طوال حياةٍ مليئةٍ بالعمل الجاد.»

«إذا كنت أستطيع مساعدتك ماديًّا، فسيَسرُّني هذا كثيرًا.»

«كم المبلغ؟»

«في الواقع، لا أعلم … خمسون ألف دولار ربما، أو …»

«لا بد أن يكون معي مائتان وخمسون ألف دولار قبل نهاية هذا الشهر.»

«مائتان وخمسون ألفًا!»

«أجل يا سيدي. إنَّ السيد ويليام إل ستيبلز — وهو صرَّاف البنك لديَّ — موجود الآن في كندا ومعه نصف مليون من أموال البنك. ولا أحدَ يعلم بهذا إلا أنا واثنان من المُديرين. ومن المعلوم عمومًا أنه ذهب إلى واشنطن لقضاء إجازة هناك.»

«ألا يُمكنك أن ترسل محقِّقين في إثره؟»

«بالطبع يُمكنني. لكن حينها سيُذاع أمرُ السرقة على الملأ في الحال. ستعجُّ الصحف بأخبار عن ذلك. وربما يُواجه البنك هروبًا من المستثمرين، وسيَتحتَّم علينا أن نُغلق أبوابنا في اليوم التالي. إنَّ إرسال المحققين في إثره لا يَعني إلا أننا نجلب بالكارثة فوق رءوسنا. إنَّ ستيبلز في مأمنٍ كبير، وهو يعلم ذلك. وبفضل مُعاهَدةٍ دوليةٍ غبية، فإنه الآن حرٌّ طليق لا يخشى خطرَ القبض عليه في كندا، كما لا تَخشى أنت القبضَ عليك هنا. ومن المُستحيل تسليمه إلينا كمُجرِم متَّهم بالسرقة.»

«لكن أظنُّ أن هناك قانونًا بشأن إدخال أموالٍ مسروقة إلى كندا.»

«ربما. لكن هذا لن يُساعدنا في الوقت الراهن. لا بدَّ أن ندخل في مساومةٍ معه، إذا استطعنا أن نجده في الوقت المناسِب. وحتى إذا أغلق البنك أبوابه، فإننا بالطبع سندفع كل الأموال حين يكون هناك وقتٌ لتدارك الأمر. لكن ليسَت هذه هي المشكلة. هذا الأمر يعني وقوع كارثة ومواجهة متاعب كثيرة، وسيتسبَّب على الأرجح في إخفاقاتٍ أخرى، وكلُّ هذا بسبب احتيال شخصٍ واحد ونذالته.»

«إذن لا يَبقى سوى حل واحد. لا بدَّ أن نجد ستيبلز في هدوء ونتفاوض معه. سيد تيمبل، دعني أتولى أمر إيجاده وأمر التفاوض معه أيضًا، إذا أردت أن تضع ثقتك بي.»

«أتعرفه؟»

«لم ألتقِ به في حياتي.»

«إليك صورته. من السهل أن تتعرَّف عليه من خلالها. لن تُخطئ في التعرف عليه. من المرجح أنه يعيش في مونتريال تحت اسم مُستعار. وربما يكون قد أبحرَ إلى أوروبا. أنتَ لن تخبر أحدًا بهذا الأمر، أليس كذلك؟»

«لن أفعل بكل تأكيد. سأُغادر في قطار الليلة إلى مونتريال، أو في أول قطار يتَّجه إلى هناك.»

دسَّ السيد براون الصورة في جبيه وسلَّم على المصرفي. وبشكل ما تسبَّبت ثقته في نفسِه وانتباهه الجيد في بث شعور بالأمل في نفس الرجل العجوز أكثر مما أظهر؛ ذلك أنه — بصفة عامة — كان يزدري الشباب العادي.

«كم المدة التي يمكنك التكتم فيها على الأمر إذا ما لم يُكتشف على الملأ؟»

«شهرًا على الأقل؛ وربما شهرَيْن أو ثلاثة.»

«إذن، لا تتوقع أن أراسلك قريبًا. لن أخاطر بمراسلتك. وإذا كان هناك شيء لنتواصَل بشأنه، فسآتي بنفسي.»

«إنَّه لكَرم منك أن تحمل عبء مشاكلي على كاهلك بهذا الشكل. أنا مُمتنٌّ لك كثيرًا.»

فأجابه براون الشاب: «أنا لست بفاعل خير يا سيد تيمبل.»

•••

وحين نزل السيد براون الشاب من القطار في المحطة المركزية في تورنتو، دنَا منه صبيٌّ صغير وقال:

«أتريد أن أحمل عنك حقيبة سفرك يا سيدي؟»

قال براون وهو يُسلِّمها إليه: «بكل تأكيد.»

ثم سأله عندما وصلا إلى ردهة الفندق: «بكَم أدينُ لك؟»

قال الصبيُّ على الفور: «خمسة وعشرين سنتًا.» ثم حصلَ على ما طلب.

سجَّل براون نفسه في سجلات الفندق تحت اسم جون إيه ووكر من مونتريال.

•••

لم يحدث قط في حياته أن شعرَ السيدُ والتر براون من روتشستر بأنه مثبَّط العزيمة كما شعرَ في تلك اللحظة التي سجَّل فيها الكلمات «جون إيه ووكر من مونتريال.» في سجل الفندق. كان قد بحث في مدينة مونتريال من أقصاها إلى أقصاها، لكنه لم يجد أيَّ أثر للرجل الذي كان يبحث عنه. ومع ذلك، من الغريب أن نقول إنه حين رفع عينيه عن السجل رأى وجه السيد ويليام إل ستيبلز الصرَّاف السابق. كان من حظ براون أنَّ ستيبلز كان ينظر إلى الكلمات التي كتبها، ولم يكن ينظر إليه هو، وإلا كان قد لاحظَ نظرة الذهول التي بدَتْ تلقائيًّا على وجه براون وتورُّد وجهه من السعادة. وكان من الغريب أيضًا أنَّ السيد براون كان قد رسم في ذهنه خططًا كثيرة للتعرُّف على ستيبلز حين يلقاه، ومع ذلك فإن الخطوة الأولى كانت من جهة ستيبلز نفسه.

قال السيد ستيبلز، واسمه المستعار جون أرمسترونج: «أنت من مونتريال.»

قال السيد براون: «إنها مدينتي ومسقط رأسي.»

«كيف هو ذلك المكان في الشتاء؟ أهو مُفعَم بالحيوية؟»

«أوه، أجل. إنَّ مونتريال مدينة شتوية بدرجة كبيرة. ماذا تَبغي منها، عمل أم ترفيه وتسلية؟»

«كلاهما في الواقع. وعمومًا، فحيثما يكون العمل يكون هناك الكثير من الترفيه والتسلية.»

قال براون مؤيِّدًا حديثه: «أجل، هذا صحيح.» لم يرغب براون في أن يُطيل المحادثة. فقد كانت لديه بعض الخطط التي عليه وضعها؛ ولذا تبعَ حقائبه حتى غرفته بالفندق. كان من الواضح أن عليه أن يتصرَّف سريعًا. فقد كان ستيبلز قد بدأ يسأم من تورنتو.

وبعد يومَيْن كان براون قد أتمَّ وضع خططه. وقابلَ ستيبلز ذات مساءٍ في غرفة المدخنين في الفندق.

سأله براون قائلًا: «هل تُفكِّر في الذهاب إلى مونتريال؟»

«فكَّرت في ذلك فعلًا. لكنني لست واثقًا بعد. هل لديك أعمال تقوم بها هناك؟»

«أجل. إنكَ إذا ما ذهبتَ إلى مونتريال فسأعطيك بعضَ خطابات التعريف للكثير من الأصدقاء الذين سيُرشدونك إلى أماكن الترفيه والتسلية، هذا إذا كنت تحب السير بأحذية الثلج، أو التزحلق على الجليد، وما إلى ذلك.»

قال ستيبلز: «لم تَستهوِني الرياضات يومًا.»

فردَّ عليه براون: «لا يَستهويني أنا أيضًا بذل الجهد. إنما آتي إلى هنا كلَّ عام من أجل ركوب زوارق الجليد. تلك هي فكرتي عن اللهو والتسلية. إنني أمتلك أحد أسرع الزوارق الجليدية في هذه المنطقة. هل جرَّبت الخروج على متن أحدها يومًا؟»

«لا، لم أفعل. لكنَّني رأيتُ مثلها كثيرًا. سيكون الخروج في أحدها في مثل هذا الطقس صعبًا للغاية، أليس كذلك؟»

«لا أعتقد ذلك. أتحبُّ الخروج معي في أحدها غدًا؟»

«حسنًا، لا بأسَ بذلك.»

وفي اليوم التالي لذلك واليوم الذي يليه راحَا يَجُوبان المنطقة على متن الزورق الجليدي. وحتى ستيبلز الذي بدا ضجرًا من كل شيءٍ تقريبًا، راقت له سرعة الزورق وما شعرَ به على متنه من غبطة.

وفي ظهيرة أحد الأيام، دَلَفَ براون إلى المشرب الخاص بالفندق حيث وجد ستيبلز واقفًا إليه.

صاحَ براون به وهو يُربِّت على كتف الرجل: «اسمع يا أرمسترونج، أتودُّ الخروج للهو قليلًا؟ الليلة مقمرة ولطيفة، وسأخرج على متن الزورق إلى هاملتون للقاءِ بعض الرفاق، ويمكننا أن نعود على متنه أيضًا، أو أن تظلَّ أنت هناك ثم تعود على متن القطار إذا ما ارتأيت أنَّ الوقت قد تأخر بك.»

«إلى هاملتون؟ إنها تقع أعلى البحيرة، أليس كذلك؟»

«بلى، إنها ليست ببعيدة عن هنا. هيا، فأنا أُعوِّل على حضورك.»

وبعد مرور ساعة كانا يتزلجان على سطح البحيرة المتجمِّد.

قال براون: «حاول أن تنعمَ ببعض الدفء بأردية جلد الثيران فهي مصنوعةٌ لأجل ذلك. لا بد لي أن أوجِّه الزورق؛ ولذا يتحتَّم عليَّ البقاء في الخارج. لو كنت مكانك لدثَّرت نفسي بتلك الأردية وخلدت إلى النوم. سأوقِظُك حين نصل إلى هناك.»

أجابَ ستيبلز: «حسنًا، هذه ليست بفكرة سيئة.»

قال براون الشاب في نفسه: «الجنرال جورج واشنطن! هذا قرار سريع وسهل في مجمله. سأقود به عبر البحيرة كحَمَل ساذج. وقبل أن يستيقظ من نومه سنكون قد عبرنا البحيرة المُتجمِّدة، وسيجد نفسه في الولايات المتحدة مرةً أخرى ما إن يَفتح عينيه. الشيءُ الوحيد الذي عليَّ تجنُّبه الآن هو الجيوب الهوائية والتلال الثلجية، وسيكون كلُّ شيءٍ على ما يُرام.»

كان براون قد قطعَ هذا المسار من قبل وكان يعرف تمامًا ما يقع أمامه. كانت الرياح تهبُّ بشدةٍ من جهة أعلى البحيرة، وكان الزورق يتحرَّك في صمتٍ، وفي سرعة أكبر من قطارٍ سريع، فكان يَبتعِد عن كندا ويطوي المسافة نحو الشاطئ الأمريكي.

صاحَ ستيبلز وهو يوقِظ نفسه وينشِّطها: «أخبرني عن حالك يا ووكر.» أجابه براون: «بأفضل ما يمكن. سرعان ما سنصل إلى هناك يا ستيبلز.»

كادت زلة لسانه المشئومة تلك تُكلِّف السيد براون حياته. كان براون يُفكِّر في أمر الرجل باسمه الحقيقي، وقد نطقَ به من دون وعي منه. ولم يَلحظ براون أنه فعلَ ذلك في الوقت المناسِب حتى يتدارك نفسه، وفي اللحظة التالية كان اللص قد اندفعَ نحوه وضغط برأسه على الذراع الحديدية المسئولة عن توجيه دَفَّة القيادة، وقد فعلَ ذلك بقوةٍ كبيرةٍ حتى إنَّ الدفَّة ظلَّتْ في مكانها وأكملَ الزورق تقدُّمه السريع على طول الجليد من دون أن يَنحرِف.

زأرَ سارق البنك قائلًا: «أيها المحتال! أهذه خطتك إذن؟ أقسم أنَّني سأُلقِّنك درسًا قاسيًا في أمور التحري!»

وعلى الرغم من أن براون الشاب كان قويًّا، فإن الهجوم المباغِت وحقيقة أن ستيبلز كان يحكم كلتا قبضتيه حول رقبتِه ويَرتكز بركبتَيْه على صدره، كلُّ ذلك شلَّ حركة براون وجعله عاجزًا تمامًا. وحتى تلك اللحظة لم يُدرِك براون كيف خمَّن السارق ترتيبَه.

لهثَ براون قائلًا: «بالله عليك، دعني أنهض! سنخُوض في جيب هوائي وسنغرق على الفور.»

«سأخاطر بذلك أيها الكلب! حتى أجعلك تلفظ آخر أنفاسك.» تملَّص بروان برأسه بعيدًا عن الذراع الحديدية، آملًا أن يتسبَّب ذلك في انحراف الزورق، إلا إنه ظلَّ محافظًا على مساره. وأدركَ أن عليه أن يتصرَّف بسرعةٍ إذا أراد أن ينجو بحياتِه. شعرَ براون أن لسانه يَنتفِخ ويتورَّم في حلقه الجاف. خارت قواه وكانت رقبته في قبضة حديدية شريرة. فراحَ يضرب بقدميه بقوة وتسبَّبت إحدى الركلات المواتية بتحريك الدفَّة بزوايا قائمة تقريبًا.

وفي الحال انقلبَ الزورق وأصبحَ في مهب الريح. وحتى لو كان المرء مُستعدًّا لحدث كهذا، فإنَّ الأمر يتطلَّب كل قوةٍ منه وصلابة لكي يظلَّ على متن الزورق الجليدي. ولم يكن ستيبلز مُستعدًّا. فطارَ برأسه أولًا في الجو ثم راحَ ينزلق لمسافة طويلة على الجليد الصلب. وطارَ براون على الجليد أيضًا ورقدَ في مكانه برهة ليَلتقِط أنفاسه. ثم استجمع براون نفسه ودسَّ يدَه تحت معطفِه وأخرجَ مسدسه الدوَّار. وقد ظنَّ براون في البداية أن ستيبلز كان يَتظاهَر بأنه فاقِد الوعي، لكنه حين فحصه عن قربٍ وجد أنَّ سقوطه على الجليد أفقده وعيه.

كان هناك شيءٌ واحد فقط كان السيد براون يتُوق إلى معرفته. كان يريد أن يعرف مكان المال. وكان قد لعب دور المحقق الخاص في ترونتو بطريقة جيدة — بأفضل الطرق الفرنسية — وبحث في غرفة ستيبلز أثناء غيابه، لكنه كان يعرف جيدًا أن المال لم يكن فيها ولا في حقيبة سفره. كما كان يعرف جيدًا أن الأموال كانت في إحدى مؤسسات الإيداع التي تؤجر خزانات إيداع في المدينة، لكنه لم يستطع أن يَكتشِف مكانها تحديدًا. وكان قد عقد العزم أيضًا أن يلعب على مخاوف ستيبلز من دخول السجن بمجرَّد أن يَتمكَّن من أخذه إلى الجانب الآخر آمنًا. أما الآن، بما أن الرجل فقد وعيه، قال لنفسه إن الوقت مُواتٍ ليجد ما إذا كان ستيبلز يمتلك في جيبه مُفكِّرة يُدوِّن فيها مكان الإيداع. ولم يجد مثل هذه المُفكِّرة في جيبه. لكنه سمع أثناء بحثه صوت خشخشة أوراق وكان من الواضح أن مصدرها بطانة معطفه. ثم لاحظ أن سُمك بطانته كبير. وفي لحظة كان قد مزَّق بطانة المعطف، فنظرَ فيها فإذا بها مربوطة بوثاق. وكان المعطف والسترة التحتية كلاهما مُبطَّنَيْن بهذه الطريقة، كانت السترة التحتية ممتلئةً بأوراقٍ نقديةٍ من بنك إنجلترا؛ ولذا كانت الاحتمالات تقول بأن ستيبلز قد جابَ أوروبا في جولة. كان من الواضح أن السارق لا يثق في خزائن الإيداع ولا في البنوك. قلَبَ براون اللص على وجهه، وبعد أن فكَّ أزرار المعطف والسترة التحتية خلعهما عن ذراعيه. ثم خلع براون معطفه، وبصعوبة جعلَ الرجل الفاقد الوعي يَرتديهما ثم ارتدى هو ملابس ذلك الرجل الجشع.

قال براون في نفسه: «هذا هو ما أُسمِّيه التقلُّب في الثراء.» ثم أقرَّ بأنه يشعر بشعورٍ أفضل كثيرًا بعد أن غيَّر ملابسه، وذلك رغم برودة الجو.

وبعد أن أغلقَ براون أزرار ملابسه على جسد الرجل المنبطح، وضعَ قارورةً من الشراب على شفتيه وسرعان ما أعاده إلى وعيه. وجلسَ ستيبلز على الجليد مُصابًا بالدوار، ومسحَ جبهته بيده. وتحت بصيص ضوء القمر البارد وجد فوَّهة مسدس براون الدوار «تغشاه».

«لقد انتهى كلُّ شيء يا سيد ستيبلز. اصعد إلى متن الزورق الجليدي.»

«إلى أين ستأخذني؟»

«سأُخلِّي سبيلك حين نصل إلى الشاطئ إذا أخبرتني عن مكان المال.»

قال السيد ستيبلز، وكان من الواضح أنه يُريد بذلك أن يكسب بعض الوقت: «أنت تعلم أنك مُتَّهم بجريمة الاختطاف؛ ومن ثمَّ فأنت تحت طائلة القانون الآن.»

«هذه مسألةٌ يُمكن أن نناقشها فيما بعد. لقد أتيتُ بطوع إرادتك، لا تنسَ ذلك. أين المال؟»

«إنه في خزينة إيداع في البنك التجاري.»

«إذن، هَاكَ ورقة وقلم، وإذا لم يكن الحبر قد تجمَّد … لا، إنه على ما يرام … فحرِّر شيكًا بسرعةٍ بالمبلغ يُدفَع إلى حامله. أسرِع، وإلا تجمَّد الحبر.»

وكانت هناك ابتسامةٌ تنمُّ عن الارتياح على وجه ستيبلز وهو يحرِّر الشيك.

ثم قال في تنهيدة مزيَّفة: «هَاكَ. ذلك هو المبلغ.»

كان الشيك محرَّرًا بمبلغ ٤٨٠ ألف دولار.

وحين وصلا على مشارف الساحل الأمريكي، أمرَ براون راكبه أن ينزل عن الزورق.

«يمكنك الوصول بسهولة إلى اليابسة من هنا، وسيُفيدك السير في استعادة عافيتك. سأكمل طريقي أعلى البحيرة.»

وحين كاد ستيبلز يَصل إلى اليابسة صدحَ صوته خلال جو الليل الصافي قائلًا: «لا تُنفق المال ببذخ حين تحصل عليه يا ووكر.»

فردَّ عليه براون الشاب وهو يَصيح: «سأَنتبه إليه يا ستيبلز.»

•••

هُرعَ السيد براون الشاب على درج منزل السيد تيمبل في مدينة روتشستر، وضغطَ على الزر الكهربائي.

ثم سأل الخادمة: «هل ذهبَ السيد تيمبل إلى البنك بعد؟»

«لا يا سيدي. إنه في غرفة المكتبة.»

«شكرًا لكِ. لا تُزعجي نفسكِ. أنا أعرفُ الطريق.»

التفتَ السيد تيمبل حين دخلَ الشاب الحجرة، وحين رآه، هبَّ واقفًا على قدمَيه وقد علَتْ وجهه نظرةُ ترقب أليمة. قال السيد براون وهو يضع رزمة على الطاولة: «هذه هدية صغيرة لك. أربعمائة وثمانية وسبعون ألفًا؛ أوراق مالية من بنك إنجلترا وسندات من الولايات المتحدة.» قبضَ الرجل العجوز أصابعَ يدِه وجاهدَ أن يتحدَّث، لكنه لم يقل شيئًا.

•••

تساءَل الناسُ عن سبب ذهاب السيد والسيدة براون إلى تورنتو في رحلة زفافهما في أوج فصل الشتاء. كان أمرًا غريبًا جدًّا وغير مألوف، ألا تعرفون؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤