خطاب الآلة الكاتبة

حين يكون المرءُ في صراعٍ مع الفقر طيلة حياته، حين يخشى الفقر وهو يحاربه، حين يشعر أنه يخنق الفقر من رقبته الصغيرة، ويخشى طيلة الوقت أن تأتيَ اللحظة التي يتغلب فيها الفقر عليه ويخنقه، فقد نتخيَّل حين يعلم هذا المرء أنه أصبح ثريًّا أنه سيتلقى الخبر بمرح بالغ. عندما أدرك ريتشارد دينهام أنه أصبح ثريًّا غَدَا عقلانيًّا أكثر من المعتاد، وأخذ شهيقًا عميقًا وكأنه كان يجري في سباق وقد ربحه أخيرًا. ولم تكن لدى الرجل الذي جاءَه بتلك الأخبار أدنى فكرة عن أنه أخبر دينهام بشيءٍ جديد.

لم يقل الرجل سوى: «أنت الآن رجل ثري أيها السيد دينهام، ولن يعرف الفقرُ إليك طريقًا بعد الآن.»

لم يكن يُنادى دينهام من قبل بالرجل الثري، وحتى تلك اللحظة، لم يكن يرى أنه ثري. حرَّر دينهام الشيك المطلوب منه، وغادر زائره ممتنًّا له، تاركًا التاجر مع شيءٍ ليتأمله. كان دينهام مندهشًا من حدوث الأمر على هذا النحو المفاجئ كما لو أن شخصًا قد ترك له إرثًا. فحتى الآن كان المال كله من جَنيه هو، لكنه كافح بشدة ولم يكن يراوده أدنى أمل في التغلب على فقره يومًا، حتى إنه ظلَّ يبذل كلَّ ما أُوتي من طاقة كعادته، حتى بعدما هُزِمَ عدوُّه بفترةٍ طويلة، مثلما حدث تمامًا مع القوَّات في نيو أورلينز حين خاضت معركة شرسة دون أن تُحِيط علمًا بأن الحرب قد وضعت أوزارها. كان دينهام يَتحدَّر من عائلة فقيرة مُعدِمة، تعيش في فقر مدقع لا أملَ في الخروج منه. كان الفقر هو إرثهم الذي تناقلته العائلة عبر الأجيال. كان الفقر هو الإرث الثابت الذي يتركه الأب لابنه في عائلة دينهام. وكان جميع أفراد العائلة يتقبلون مصيرهم وقدرهم باستسلام وخنوع، حتى قرر ريتشارد أن يحاول على الأقل أن يكافح في سبيل تغيير ذلك الوضع. والآن، صار النصرُ حليفه. جلس دينهام في مكتبه يحدق إلى ورق الحائط الرث لفترةٍ طويلةٍ حتى أطلَّ روجرز — وهو مدير المكتب — برأسه إلى داخل مكتبه وقال بنبرة تنم عن الاحترام ومراعاة رغبات الآخرين:

«أتُريد منِّي أيَّ شيء آخر الليلة أيها السيد دينهام؟»

اندهشَ دينهام من السؤال وكأنه لم يكن يُطرَح على مسامعه وبنفس النبرة مساءَ كل ليلة لمدة أعوام طويلة.

فصاحَ به قائلًا: «ما هذا، ما الأمر؟»

ذُهِل روجرز لكنه استطاع أن يُخفيَ ذهوله.

«أتُريد منِّي شيئًا آخر الليلة أيها السيد دينهام؟»

«آها، حسنًا. لا يا روجرز، شكرًا لك. لا شيء.»

«طابَ مساؤك أيها السيد دينهام.»

«ماذا؟ أوه، أجل. طابَ مساؤك يا روجرز، طابَ مساؤك.»

وحين غادَرَ السيد دينهام مكتبه وخرج إلى الشارع بدا له كلُّ شيء بمظهر مُختلِف. راحَ يقطع الشارع من دون أن يُبالي بوجهته. نظر إلى البيوت الفخمة وأدرك أنه ربما يَحصل على منزل فخم إذا ما أراد. ورأى عرباتٍ جميلة؛ ربما يَحصل لنفسه على واحدة أيضًا. لكن شعور الارتياح الناجم عن تلك الأفكار كان قصير الأمد. فما فائدة أن يَحصل على منزل فخمٍ أو عربة جميلة؟ لم يكن يعرف أي شخص يُمكن أن يدعوَه إلى المنزل أو يَركب معه العربة. بدأ يُدرك كَمْ هو وحيد تمامًا في هذا العالم. لم يكن لدَيه أصدقاء، أو حتى معارف؛ فالكلب الذي يَجري وهو يدسُّ أنفه في الأرض لا يرى أيَّ شيءٍ من حوله. كان بالطبع يعرف بعض الأشخاص فيما يتعلَّق بشئون العمل، وكلٌّ منهم له منزله في أطراف المدينة وضواحيها، لكنه لا يستطيع أن يجرَّ رجل أعمال من كتفَيه ويقول له: «ادعُني إلى منزلك؛ أنا وحيد، وأريد أن أتعرَّف إلى أناسٍ آخرين.»

إنه لم يكن يعرف هو نفسه ماذا سيفعل إذا تلقَّى مثل تلك الدعوة. كانت حجرة العَدِّ ولغتها مألوفة له، أما غرفة الصالون فكانت أرضًا غير مُستكشَفة ولغتها مجهولة له. لقد فوَّت على نفسِه شيئًا وهو في طريقه إلى الثراء، وكان الأوان قد فات الآن كي يعود لتعويض ما فوَّته. لقد سمع أمسِ أحد الموظفين، الذي لم يكن يعلم أنه على مَسمعٍ من السيد دينهام، وهو يُشير إليه ﺑ «الرجل العجوز». شعر دينهام بأنه لطالَما كان في ريعان شبابه، لكن تلك الجملة وعلى الرغم من أنها قيلت على مَحمَل الهزل تمامًا، جعلته يَشهَق ألمًا.

وبينما كان يسير الآن عبر المتنزَّه، وبعيدًا عن الشوارع المزدحمة، خلع عنه قبعته ومرَّر أصابعه في شعره الأشيب، ونظر إلى يدَيه بعد أن فعل ذلك، وكأن شيبته ستخرج في يده وكأنها صبغة لم تجفَّ بعد. تذكَّر فتاة كان يَعرفها ذات يوم، والتي كانت ربما ستتزوَّج به لو أنه طلب منها الزواج؛ حيث كان يشعر بنزعةٍ نحو ذلك. لكن كانت تلك هيَ غلطة آل دينهام دائمًا. لقد تزوَّجوا جميعًا وهم في سنٍّ صغيرة، عداه هو، وهكذا غاصُوا أكثر في مُستنقَع الفقر المُوحِل، واستبدَّت بهم الضغوط بفِعل ذريتهم المُتزايدة بسرعة. وتذكَّر أن تلك الفتاة قد تزوَّجت بخبَّاز. أجل، كان ذلك منذ زمن طويل. ولم يكن الموظف مخطئًا حين قال بأنه رجل عجوز. وفجأة ظهرت أمام مخيلتِه فتاة أخرى، وهي فتاة عصرية، تختلف تمامًا عن الفتاة التي تزوَّجت بالخبَّاز. كانت تلك هي المرأة الوحيدة في العالم التي يوجد بينهما مجال للحديث، وكان يُعلمها فقط لأن أناملها الرقيقة والرشيقة كانت تعزف مقطوعة العمل الوحيدة ذات الوتيرة الواحدة على الآلة الكاتِبة الموجودة في مكتبه. كانت الآنسة جيل جميلة بالطبع، كحال كل الفتيات اللائي يَكتبن على الآلة الكاتِبة، وكان من المعروف عنها في المكتب أنها تتحدَّر من عائلة ثرية ساءَ حالها. وكان مظهرها الذي يوحي بالاستقلالية يعزز من تلك القناعة لدى الجميع، وجعل موظفي المكتب لا يَجرءون على الاقتراب منها، فظلُّوا على مسافة منها. كانت فتاة رشيدة أدركت أن الآلة الكاتبة تدر مالًا أكثر من البيانو؛ ومن ثمَّ حوَّلت مهارة أناملها البيضاء إلى الآلة الكاتبة. جلس ريتشارد دينهام على مقعد في المتنزَّه وسأل نفسه: «لمَ لا؟» لم يكن من سببٍ يمنعه من ذلك سوى أنه شعر أنه لم يكن يملك الشجاعة. ومع ذلك، اتخذ قرارًا يائسًا.

في اليوم التالي، سار يوم العمل كالمعتاد. جرى الرد على الخطابات، وحان الوقت الذي تدخل فيه الآنسة جيل لكي ترى إنْ كانت هناك أوامر أخرى اليوم. تردَّد دينهام. وشعر إلى حدٍّ ما أن المكتب ليس بالمكان المناسِب لعَرض زواج، لكنه كان يعلم أنه سيكون في وضع غير مؤاتٍ في أيِّ مكان آخر. ففي المقام الأول، لم يكن لدَيه عذر منطقي يجعلُه يدعو الشابَّة إلى منزله، وفي المقام الثاني، كان يعلم أنه حتى لو اصطحَبَها إلى المنزل فسوف يُصيبه صمتٌ مُطبِق؛ ومن ثمَّ، لا بد أن يحدث هذا في المكتب وإلا فلن يحدث في أيِّ مكان على الإطلاق.

وأخيرًا قال: «تفضلي بالجلوس يا آنسة جيل. أردتُ أن أستشيرك بشأن أمر ما … أمر يخصُّ العمل.»

جلست الآنسة جيل، وبتلقائية أخرجت الدفتر الصغير ووضعته على ركبتها لتُدوِّن تعليماته. ورفعت نظرها إليه في انتظار ذلك. فمرَّر دينهام أصابعه بين شعره بطريقة تنمُّ عن الارتباك.

بدأ دينهام حديثه قائلًا: «أُفكِّر في الحصول على شريك. فالعمل مُزدهِرٌ الآن. وفي الواقع، كان كذلك منذ فترة طويلة.»

قالت الآنسة جيل بنبرة استفهام: «حقًّا؟»

«أجل، أعتقد أنني يَجب أن أحصل على شريك. وهذا هو ما أردتُ أن أحدِّثكِ بشأنه.»

«ألا تعتقد أن من الأفضل أن تَستشير السيد روجرز؟ إنه على دراية بشئون العمل أكثر منِّي. لكن ربما تريد أن يكون السيد روجرز شريكًا لك؟»

«لا، ليس روجرز. هو رجل صالح. لكنه ليس روجرز.»

«إذن، أعتقد أن في أمر مُهم كهذا كان السيد روجرز، أو شخص يضاهيه في الإلمام التام بشئون العمل، سيتمكَّن من إسدائك نصائح قيِّمة.»

«إنني لا أنشدُ النصيحة على وجه التحديد. لقد اتخذتُ قراري بأن أتخذ لي شريكًا، إذا كان الشريك لديه الرغبة في ذلك.»

مسح دينهام جبينه. كان الأمر يزداد صعوبة أكثر مما توقع.

سألته الآنسة جيل وهي تتلهَّف لمساعدته: «إذن، هل تتعلق المسألة برأس المال الذي سيقدمه شريكك؟»

«لا، لا. لا أريد رأسَ مال. لديَّ ما يكفي لكلينا. والعمل مزدهر للغاية آنسة جيل، و… ولطالما كان.»

رفعت الشابة حاجبَيها تعبيرًا عن اندهاشها.

«من المؤكَّد أنك لا تنوي أن تتقاسَمَ أرباحك مع شريكٍ لن يُقدم أي رأس مال في العمل، أليس كذلك؟»

«بلى، بلى، لا أنوي ذلك. فأنتِ ترين — كما قلتُ — أنني لست بحاجة إلى المزيد من رأس المال.»

«أوه، إذا كانت المسألة كذلك، فإنني أرى أنك يَنبغي أن تَستشير السيد روجرز قبل أن تُلزِم نفسك بشيء.»

«لكن روجرز لن يفهم.»

«أخشى أنني لا أفهم أيضًا. يبدو لي أن من الحماقة أن تفعل ذلك، هذا إذا كنتَ تُريد نصيحتي.»

«أوه، أجل، أريدها. لكن الأمر ليس بهذه الدرجة من الحماقة كما تعتقدين. كان ينبغي لي أن أتخذ شريكًا منذ وقت طويل. هذا هو الخطأ الذي وقعتُ فيه. ولقد عقدتُ العَزم على ذلك.»

«إذن لا أرى أنَّ في مقدوري أن أفيدَك، إذا كنت قد عقدت العَزم بالفعل.»

«أوه، بل يُمكنكِ أن تُفيديني. ولكن أخشى قليلًا أن عرضي لن يحوز القبول.»

«من المؤكَّد أنه سيحُوز القبول لدى أي رجل رشيد. لا يُمكن أن تخشى من رفض عرض كهذا! مثل هذه العروض لا تُقدَّم كل يوم. سيَحُوز القبول.»

«أتعتقدين ذلك حقًّا آنسة جيل؟ يُسعدني أن يكون هذا هو رأيكِ. والآن، ما أريد أن أَستشيرَكِ بشأنه هو صيغة العرض. أريد أن أصوغَه بأسلوب رقيق، حسنًا، وحسٍّ مرهف، كما تعلمين، حتى لا يُقابَل بالرفض، ولا يُمثل أي إساءة.»

«فهمت. تريد مني أن أكتبَ له خطابًا؟»

صاح دينهام بشيءٍ من الارتياح: «بالضبط، بالضبط.» لم يكن قد فكَّر في إرسال خطاب من قبل. والآن، تساءَل لمَ لم يفكر في ذلك من قبل. كان من الواضح أن هذه هي أفضل وسيلة للخروج من هذا الموقف المُحرج للغاية.

«هل تحدثتَ إليه في هذا الشأن؟»

«تحدثت إليه؟ مَنْ؟»

«إلى شريككِ المستقبلي، بشأن هذا العرض.»

«لا، لا. أوه، لا. لم أتحدَّث إلى أحدٍ سواكِ.»

«وأنت عازم على ألَّا تتحدَّثَ إلى السيد روجرز قبل أن تكتب عرضك؟»

«بكل تأكيد. لا شأن لروجرز بذلك.»

قالت الآنسة جيل باقتضابٍ وهي تنكبُّ على دفترها: «أوه، حسنًا إذن.»

كان من الواضح تمامًا أن رأيَها في حكمة دينهام وحصافته يتراجع على نحو مطرد. ثم رفعت نظرها فجأة.

«وكم أذكر بشأن الأرباح السنوية؟ أم أنك لا تُريد أن تذكر ذلك؟»

«لا، لا أعتقد أنني سأذكرها. لا أريد أن يُبنَى هذا الترتيب على أساسٍ مالي — ليس في مجمله.»

«على أي أساس إذن تُريد أن يُبنَى؟»

«حسنًا، لا أستطيع وصفه على وجه التحديد. ربما على أساسٍ شخصي. إنني أُفضِّل أن تكون لدى الشخص — أي شريكي — الرغبة في مشاركتي.»

سألته الآنسة جيل دون أن ترأف لحاله: «أتقصد بصفة ودية؟»

«بالتأكيد. بصفة ودية قطعًا، وربما أكثر من ذلك.»

رفعت الآنسة جيل نظرها إليه في يأس أكيد من قدرته على التعبير.

«لمَ لا تكتب رسالة تدعو فيها شريكك المستقبلي لزيارتك هنا، أو في أيِّ مكانٍ آخر ملائم، ثم تناقشان الأمر؟»

بدا دينهام خائفًا.

«فكرتُ في ذلك، لكنني لن أفعل. لا، لن أفعل. أُفضِّل أن نتفق على كل شيءٍ بالمراسلة.»

«أخشى أنني لن أستطيع صياغة خطاب يلائمك. يبدو أن هناك الكثير من الصعوبات. إنه أمر غير اعتيادي.»

«هذا صحيح، ولهذا السبب أعرف أنكِ الوحيدة التي في إمكانها مساعدتي يا آنسة جيل. وسيسرني هذا كثيرًا إذا كان يَسرُّكِ.»

هزَّت الآنسة جيل رأسَها، لكن بعد لحظاتٍ قالت: «كيف سنبدأ؟»

«عزيزي السيد …»

صاح دينهام: «انتظري لحظة، تبدو هذه الافتتاحية في غاية الرسمية، أليس كذلك؟ كيف سيكون وقعها لو قلنا: «صديقي العزيز»؟»

«لا بأسَ إنْ كانت هذه رغبتك.» ثم شطبت كلمة «السيد» وبدَّلت بها الكلمة المقترَحة. ثم قرأت:

صديقي العزيز، كنتُ أرغب منذ مدة أن أتَّخذ لي شريكًا، ويسرني إذا فكَّرت في هذه المسألة ووافقت على الانضمام إليَّ في هذا العمل. إنَّ العمل مزدهر الآن، ولطالَما كان كذلك منذ بضع سنوات، وبما أنني لن أطلب منك تقديم أيِّ رأس مال، أرى أنك ستجد عرضي مؤاتيًا كثيرًا. وسوف …

قال دينهام في شيءٍ من التردُّد: «أنا … لا أظنني أريد صياغته على هذا النحو. يبدو الأمر وكأنني أُقدِّم كلَّ شيءٍ، وأن شريكي … أنتِ تفهمين ما أرمي إليه.»

قالت الآنسة جيل في جرأة: «هذه هي الحقيقة.»

«من الأفضل صياغة الخطاب بصفة ودِّية كما اقترحتِ قبل قليل.»

«لم أقترح أيَّ شيءٍ أيها السيد دينهام. ربما كان من الأفضل أن تُمليَ عليَّ الخطاب كما تُريدُه بالضبط. كنت أعرف أنني لن أستطيع صياغة خطاب يسرُّك.»

«إنَّه يسرُّني كثيرًا، لكنني أفكر في شريكي المستقبلي. إنكِ تبلين بلاءً ممتازًا، أفضل مما يمكنني فعله. لكن كل ما عليكِ أن تصوغي الأمر بصفة ودية.»

وبعد لحظاتٍ قرأت:

… الانضمام إليَّ في هذا العمل. إنني أقدِّم لك هذا العرض من منظور ودِّيٍّ بحت، وليس من منظور مالي، آملًا أنني أروق لك بما يَكفي لتُوافِقَ على مشاركتي.

«أيُّ شيءٍ آخر سيد دينهام؟»

«لا. أعتقد أنَّ هذا يُغطي كلَّ شيء. سيبدو الخطاب مقتضبًا ومنسوخًا بالآلة الكاتِبة، أليس كذلك؟ ربما أضفتِ شيئًا يُوضِّح أنني سأصاب بخيبة أمل كبيرة لو أنَّ عرضي قُوبِل بالرفض.»

قالت الآنسة جيل: «لا داعيَ للقلق بشأن ذلك، لكنَّني سأضيف ما تُريد على أيِّ حال. «المُخلص» أو «المُخلص جدًّا»؟»

«يُمكنكِ أن تختمي الخطاب ﺑ «صديقك».»

جاء صوتُ النقر السريع على الآلة الكاتِبة من الغرفة المجاورة لبضع دقائق، ثم خرجت الآنسة جيل وفي يدها نص الخطاب كاملًا.

وسألته: «هل أطلب من عامل المكتب أن ينسخه؟»

أجابها السيد دينهام في هلع واضح: «أوه، بارككِ الرب؛ لا!»

قالت الشابة في نفسِها: «إنه لا يُريد للسيد روجرز أن يعرف بالأمر، ولا عجبَ في ذلك. إنه طلبٌ لا علاقة له بالعمل بالمرة.»

ثم قالت بصوتٍ مسموع: «هل ستَحتاجُني اليوم مجدَّدًا؟»

«لا آنسة جيل، وشكرًا جزيلًا لكِ.»

في صباح اليوم التالي جاءت الآنسة جيل إلى مكتب السيد دينهام وعلى وجهها ابتسامة.

وقالت بينما تخلع عنها دثارها: «لقد ارتكبتَ خطأً طريفًا ليلة أمس أيها السيد دينهام.»

سألها بانتباه شديد: «أحقًّا؟»

«أجل، لقد أرسلتَ الخطابَ على عنواني. واستلمتُه هذا الصباح. وقد فتحتُه لأنني اعتقدتُ أنه لي وأنك ربما لم تكن بحاجة إليَّ اليوم. لكنَّني أدركتُ في الحال أنك وضعت الخطاب في المظروف الخطأ. فهل تُريدني اليوم؟»

كادَ يقول: «أريدكِ كلَّ يوم.» لكن كل ما فعله أنه مدَّ يدَه ليأخذ الخطاب، ونظر إليه وكأنه لا يجد تفسيرًا لإرساله إلى الوجهة الخطأ.

جاءت الآنسة جيل في اليوم التالي متأخرة، وبدت مذعورة. وبدا واضحًا أن دينهام كان يفقد رباطة جأشه. وضعت الآنسة جيل الخطاب أمامه وقالت:

«لقد أرسلته إليَّ للمرة الثانية أيها السيد دينهام.»

ارتسمت على وجه دينهام أمارات القلق المضني مما زاد شكوكها. وشعر دينهام أنَّ عليه أن يُصارحها الآن وإلا فلن يصارحها أبدًا.

فقال بصوتٍ أجش: «إذن لمَ لا تردِّين عليه يا آنسة جيل؟»

تراجعت إلى الخلف بضع خطوات.

ثم ردَّدت كلمته بصوتٍ خافت: «أرد عليه؟»

«بالتأكيد. لو أنني تسلَّمت خطابًا واحدًا مرتَيْن، لرددْتُ عليه.»

صاحت قائلة، ويدها على مقبض الباب: «ماذا تقصد؟»

«ما يقوله الخطاب تمامًا. أريدكِ شريكةً لي. أريد أن أتزوجكِ، و… بالنسبة إلى الاعتبارات المالية …»

صاحت الآنسة جيل بعد تنهيدة طويلة مرتجفة: «أوه!» لا شك أنها كانت مصدومة من الكلمة التي نطق بها، فهرعت إلى مكتبها وأغلقت الباب خلفها.

جابَ ريتشارد دينهام الغرفة ذهابًا وإيابًا لبضع لحظاتٍ، ثم نقر على باب مكتبها نقرًا خفيفًا، لكن لم يأتهِ رد. فارتدى قبعته وخرج إلى الشارع. وبعد أن سار مسافةً طويلة هائمًا على وجهه بلا هدف، وجد نفسه مرةً أخرى عند مقر عمله. وحين دخل قال له روجرز:

«لقد غادرت الآنسة جيل يا سيدي.»

«أحقًّا؟»

«أجل، وقد تركت إخطارًا. وقالت بأنها لن تعود يا سيدي.»

«حسنًا إذن.»

دَلَفَ حجرته ووَجَدَ على مكتبه خطابًا معنونًا ﺑ «شخصي». فمزَّع المظروف ليفتحه وقرأ في حروف منمقة منسوخة على الآلة الكاتِبة:

لقد استقلتُ من وظيفتي ككاتِبة على الآلة الكاتِبة، حيث تلقيتُ عرضًا أفضل. لقد تلقيتُ عرض شراكة في منزل ريتشارد دينهام. وقد قررتُ أن أقبل العرض، ليس بسبب المغريات المالية الكثيرة بقدر ما هو بسبب أنني يسرُّني — بصفة ودية — الارتباط بالرجل الذي ذكرتُ اسمه. لماذا وضعتني تحت هذا الضغط الكبير في كتابة هذا الخطاب الأحمق، في حين أن بضع كلماتٍ قليلة كانت ستُوفِّر الكثير من العناء؟ من الواضِح أنك تُريد شريكًا. وسوف يسعد أمي كثيرًا أن تَلتقي بك في أي وقت. لديك العنوان، صديقتك.

مارجريت جيل

صاح دينهام مبتهجًا: «روجرز!»

أجابه الرجل المحترَم وقد أطلَّ برأسه إلى داخل الغرفة: «أجل يا سيدي.»

«انشر إعلانًا عن حاجتنا إلى موظَّفة آلة كاتِبة أخرى يا روجرز.»

قال روجرز: «أمرُك سيدي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤