أَمِيرُ الْعَفَارِيتِ

(١) زَادُ الْمُسَافِرِ

كَانَ «حَمْدَانُ» التَّاجِرُ مِنْ أَهْلِ الثَّرَاءِ: الَّذِينَ بَسَطَ اللهُ لَهُمْ فِي الرِّزْقِ، وَآتَاهُمْ وَفْرَةَ الْمَالِ.

وَكَانَتْ تِجَارَتُهُ رَائِجَةً رَابِحَةً، وَأَعْمَالُهُ مُوَفَّقَةً نَاجِحَةً.

وَقَدْ ذَاعَ صِيتُهُ فِيمَا جَاوَرَهُ مِنَ الْبُلْدَانِ، بِفَضْلِ مَا عُرِفَ بِهِ مِنَ الْأَمَانَةِ وَالْوَفَاءِ، فَأَصْبَحَ لَهُ عُمَلَاءُ، يَتَّجِرُونَ مَعَهُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ؛ فَلَمْ يَقَرَّ — لِذَلِكَ — قَرَارُهُ، وَتَوَاصَلَتْ رِحَلُهُ وَأَسْفَارُهُ.

وَذَاتَ يَوْمٍ، أَزْمَعَ «حَمْدَانُ» السَّفَرَ لِبَعْضِ شُئُونِ التِّجَارَةِ، فَامْتَطَى جَوَادَهُ (رَكِبَ حِصَانَهُ)؛ بَعْدَ أَنْ مَلَا حَقِيبَتَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي سَفَرِهِ الْبَعِيدِ، مِنْ جُبْنٍ وَزَيْتُونٍ وَقَدِيدٍ (لَحْمٍ مُجَفَّفٍ)، وَمَا إِلَى ذَلِكَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ الْمُسَافِرُ: مِنَ رُقَاقٍ وَشَطَائِرَ، وَحَلْوَى وَفَطَائِرَ.

(٢) الْوَاحَةُ الْمَسْحُورَةُ

وَلَمَّا انْقَضَتِ رِحْلَتُهُ، وَكُلِّلَتْ بِالنَّجَاحِ غَايَتُهُ، قَفَلَ عَائِدًا.

فَلَمَّا انْتَصَفَ الْيَوْمُ الرَّابِعُ، جَهَدَهُ الْحَرُّ وَالتَّعَبُ. وَكَانَ قَدْ بَلَغَ وَاحَةً، فَعَرَّجَ عَلَيْهَا لِيُرَوِّحَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ عَنَاءِ السَّيْرِ.

وَرَأَى نَافُورَةً بَدِيعَةً، تَتَفَجَّرُ مِنْهَا عُيُونُ الْمَاءِ صُعُدًا فِي الْجَوِّ، فَتُشِيعُ الْبَهْجَةَ فِيمَا حَوْلَهَا.

فَرَبَطَ حِصَانَهُ إِلَى جِذْعِ شَجَرَةٍ، ثُمَّ جَلَسَ عَلَى حَافَةِ النَّافُورَةِ، وَأَكَلَ مَا بَقِي مَعَهُ مِنْ قَدِيدٍ وَزَيْتُونٍ.

(٣) مَصْرَعُ «صَاخِدَةَ»

ثُمَّ عَمَدَ إِلَى نَخْلَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ، فَهَزَّهَا إِلَيْهِ، فَتَسَاقَطَ مِنْهَا رُطَبٌ جَنِيٌّ. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ يَمْتَعُ بِأَكْلِهِ، وَيَتَلَهَّى بِقَذْفِ نَوَاهُ، يَمْنَةً وَيَسْرَةً.

وَإِذَا بِمَارِدٍ طُوالٍ، يَقِفُ أَمَامَهُ، شَاهِرًا — فِي يَدِهِ — حُسَامَهُ، وَهُوَ يَقُولُ: «إِلَيَّ، أَيُّهَا الْقَاتِلُ الشِّرِّيرُ! هَلُمَّ أَقْتُلْكَ، وَآخُذْ بِثَأْرِي مِنْكَ!»

فَسَأَلَهُ «حَمْدَانُ» مُتَعَجِّبًا: «بِأَيِّ ذَنْبٍ تَقْتُلُنِي، أَيُّهَا السَّيِّدُ الْكَرِيمُ؟ وَأَيُّ ثَأْرٍ لَكَ عِنْدِي، وَأَنَا لَمْ أَشْرُفْ بِلُقْيَاكَ مِنْ قَبْلُ؟»

فَأَجَابَهُ الْجِنِّيُّ مُتَأَلِّمًا مَحْزُونًا: «لَقَدْ أَهْلَكْتَ وَلَدِي: «صَاخِدَةَ»، وَأَنْتَ لَاهٍ غَافِلٌ.»

(٤) النَّوَاةُ الْقَاتِلَةُ

فَقَالَ «حَمْدَانُ»: «كَيْفَ أَقْتُلُهُ، وَأَنَا لَمْ أَرَهُ وَلَمْ أَعْرِفْهُ؟»

فَقَالَ الْجِنِّيُّ مُتَأَلِّمًا: «أَلَمْ تُلْقِ بِالنَّوَى فِي كُلِّ مَكَانٍ؟»

فَقَالَ «حَمْدَانُ»: «صَدَقْتَ. فَمَاذَا يُضِيرُكَ مِنْ هَذَا؟»

فَقَالَ الْجِنِّيُّ: «لَقَدْ دَخَلَتْ إِحْدَى النَّوَى فِي عَيْنِ وَلَدِي: «صَاخِدَةَ» فَقَتَلَتْهُ فِي الْحَالِ.»

فَقَالَ «حَمْدَانُ» مُفَزَّعًا: «كَيْفَ تَقْتُلُ نَوَاةُ الْبَلَحِ الصَّغِيرَةُ جِنِّيًّا مَارِدًا؟»

فَصَرَخَ بِهِ الْجِنِّيُّ غَاضِبًا: «وَيْلَكَ! أَتَظُنُّنِي كَاذِبًا فِيمَا أَقُولُ؟ أَلَا تَعْلَمُ أَنَّ نَخْلَ هَذِهِ الْوَاحَةِ الْمَسْحُورَةِ قَدْ غَرَسَهُ السَّاحِرُ الْعَظِيمُ «آصِفُ بْنُ بُرْخِيَا»: وَزِيرُ نَبِيِّنَا «سُلَيْمَانَ»؛ لِيَكُونَ نَوَاهُ سِهَامًا تَفْتِكُ بِمَنْ تُصِيبُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْعَفَارِيتِ، وَالْمَرَدَةِ وَالشَّيَاطِينِ؟»

(٥) رَجَاءٌ مَقْبُولٌ

فَقَالَ «حَمْدَانُ»: «الْآنَ فَهِمْتُ مَا تَعْنِيهِ، يَا «أَبَا صَاخِدَةَ»، وَلَمْ يَبْقَ لِي إِلَّا الْتِمَاسُ عَفْوِكَ؛ وَلَنْ يَضِيعَ مَعْرُوفُكَ عِنْدَ اللهِ.

ثُمَّ مَاذَا تُفِيدُ إِذَا قَتَلْتَنِي، وَفَجَعْتَ — بِقَتْلِي — أَهْلِي، وَيَتَّمْتَ أَوْلَادِي، وَرَمَّلْتَ زَوْجِي؟ أَتَعُودُ الْحَيَاةُ إِلَى وَلَدِكَ؟

فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ بُدٌّ مِنَ الانْتِقَامِ، فَلَنْ يَضِيرَكَ أَنْ تُؤَخِّرَهُ عَامًا أَوْ بَعْضَ عَامٍ، رَيْثَمَا أُوَدِّعُ أَهْلِي وَصَحَابَتِي، وَأَقْضِي دَيْنِي، وَأَكْتُبُ وَصِيَّتِي.»

فَقَالَ الْجِنِّيُّ، وَقَدْ خَفَّ غَضَبُهُ عَلَى «حَمْدَانَ» لِمَا رَآهُ مِنْ ثَبَاتِهِ وَشَجَاعَتِهِ، وَقُوَّةِ حُجَّتِهِ: «لَنْ أَضَنَّ عَلَيْكَ بِتَأْجِيلِ قَتْلِكَ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ مِنَ الْعَامِ الْقَابِلِ. فَكَيْفَ أَثِقُ بِعَهْدِكَ؟»

فَقَالَ «حَمْدَانُ»: «أُقْسِمُ لَكَ، لَأَعُودَنَّ إِلَيْكَ؛ وَأَنَا لَا أَخْشَى — مَعَ اللهِ — أَحَدًا.»

(٦) فِي خِلَالِ عَامٍ

فَتَرَكَهُ الْجِنِّيُّ. وَعَادَ (حَمْدَانُ) إِلَى أَهْلِهِ.

•••

وَمَا إِنْ قَصَّ عَلَيْهِمْ مَا حَدَثَ لَهُ مَعَ الْجِنِّيِّ، حَتَّى اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْفَزَعُ. وَلَكِنَّهُ بَذَلَ وُسْعَهُ فِي تَهْوِينِ الْمُصِيبَةِ عَلَيْهِمْ.

•••

ثُمَّ أَعَدَّ لِلْمَوْتِ عُدَّتَهُ، فَوَفَّى دَيْنَهُ، وَزَكَّى مَالَهُ، وَكَتَبَ وَصِيَّتَهُ.

•••

وَلَمَّا أَشْرَفَ الْعَامُ عَلَى نِهَايَتِهِ، اجْتَمَعَ حَوْلَهُ أَوْلَادُهُ وَزَوْجَتُهُ بَاكِينَ مَحْزُونِينَ، وَتَوَسَّلُوا إِلَيْهِ أَنْ يَأْذَنَ لَهُمْ فِي الذَّهَابِ مَعَهُ إِلَى الْوَاحَةِ الْمَسْحُورَةِ؛ فَلَمْ يَقْبَلْ.

وَظَلَّ يَضْرِبُ لَهُمُ الْأَمْثَالَ، وَيُوصِيهِمْ بِالصَّبْرِ عَلَى قَضَاءِ اللهِ.

(٧) صَاحِبُ الْغَزَالَةِ

ثُمَّ انْطَلَقَ بِجَوَادِهِ، وَظَلَّ يَجِدُّ فِي السَّيْرِ حَتَّى بَلَغَ الْوَاحَةَ الْمَسْحُورَةَ، وَجَلَسَ عَلَى حَافَةِ النَّافُورَةِ، مُتَرَقِّبًا عَوْدَةَ الْجِنِّيِّ إِلَيْهِ.

•••

وَإِنَّهُ لَغَارِقٌ فِي تَفْكِيرِهِ؛ إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ شَيْخٌ هَرِمٌ يُدْعَى: «حَمْزَةَ»، تَتْبَعُهُ غَزَالَةٌ.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُ، حَيَّاهُ، فَرَدَّ عَلَيْهِ (حَمْدَانُ) تَحِيَّتَهُ.

ثُمَّ سَأَلَهُ «حَمْزَةُ» عَمَّا سَاقَهُ إِلَى هَذِهِ الْوَاحَةِ الْمَسْحُورَةِ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ — لِلْقَاصِي وَالدَّانِي (لِلْبَعِيدِ وَالْقَرِيبِ) — أَنَّهَا وَاحَةُ «دَنْدَانَ»: أَمِيرِ الْعَفَارِيتِ وَزَعِيمِ الْجَانِّ، وَقَلَّمَا سَلِمَ — مِمَّنِ اجْتَازَهَا — إِنْسَانٌ.

فَقَصَّ عَلَيْهِ «حَمْدَانُ» قِصَّتَهُ مَعَ الْجِنِّيِّ.

فَعَجِبَ «حَمْزَةُ» مِمَّا سَمِعَ أَشَدَّ الْعَجَبِ.

وَزَادَ احْتِرَامُهُ وَإِجْلَالُهُ لَهُ، حِينَ رَآهُ يَفِي بِوَعْدِهِ لِلْجِنِّيِّ، فَلَا يَثْنِيهِ عَنْهُ حَذَرُ الْمَوْتِ.

(٨) «نُوَيْرَةُ» وَ«تَمِيمٌ»

فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِهِمَا الْمُقَامُ، أَقْبَلَ عَلَيْهِمَا شَيْخٌ آخَرُ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا، اسْمُهُ: «نُوَيْرَةُ» يَتْبَعُهُ كَلْبَانِ أَسْوَدَانِ.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْهُمَا، حَيَّاهُمَا. فَرَدَّا عَلَيْهِ تَحِيَّتَهُ أَحْسَنَ رَدٍّ.

•••

وَلَمَّا سَأَلَهُمَا عَنْ سَبَبِ قُدُومِهِمَا إِلَى هَذِهِ الْوَاحَةِ الْمَسْحُورَةِ، أَعَادَ عَلَيْهِ «حَمْدَانُ» قِصَّتَهُ مَعَ «دَنْدَانَ»، كَمَا رَوَاهَا لِصَاحِبِهِ، مِنْ قَبْلُ.

فَقَالَ (نُوَيْرَةُ): «لَا بُدَّ مِنَ الانْتِظَارِ، حَتَّى يَحْضُرَ الْجِنِّيُّ، لِنَرَى مَا هُوَ صَانِعٌ. وَمَنْ يَدْرِي؟ فَلَعَلَّنَا — كِلَيْنَا — نَسْتَطِيعُ أَنْ نَسْتَعْطِفَهُ عَلَيْكَ؛ فَنُلِينَ قَلْبَهُ، وَنَثْنِيَهُ عَنِ انْتِقَامِهِ.»

•••

وَهُنَا حَضَرَ شَيْخٌ ثَالِثٌ، اسْمُهُ: «تَمِيمٌ»، فَنَزَلَ عَنْ بَغْلَتِهِ. وَلَمَّا سَمِعَ قِصَّةَ «حَمْدَانَ» عَجِبَ مِنْهَا — كَمَا عَجِبَ «حَمْزَةُ» وَ«نُوَيْرَةُ» — وَعَزَمَ عَلَى انْتِظَارِ الْجِنِّيِّ، كَمَا صَنَعَ صَاحِبَاهُ.

(٩) مَقْدَمُ الْجِنِّيِّ

وَمَا هِيَ إِلَّا أَنْ عَلَا — فِي الْجَوِّ — دُخَانٌ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِمَدْخَنَةٍ، فِي مِثْلِ ارْتِفَاعِ مِئْذَنَةٍ.

ثُمَّ تَقَشَّعَ الدُّخَانُ، وَتَجَلَّى أَمَامَهُمْ أَمِيرُ الْعَفَارِيتِ: «دَنْدَانُ»، وَقَدْ بَدَا عَلَى وَجْهِهِ الْإِعْجَابُ بِمَا رَآهُ مِنْ وَفَاءِ «حَمْدَانَ».

(١٠) «الرَّقْطَاءُ»

فَأَسْرَعَ «حَمْزَةُ» إِلَى «دَنْدَانَ» يَسْتَعْطِفُهُ، ثُمَّ خَتَمَ رَجَاءَهُ قَائِلًا: «إِنَّ الدُّنْيَا مَمْلُوءَةٌ عَجَائِبَ وَغَرَائِبَ. وَلَيْسَتْ قِصَّتُكَ مَعَ «حَمْدَانَ» بِأَعْجَبَ مِنْ قِصَّتِي مَعَ هَذِهِ الْغَزَالَةِ.»

•••

فَاشْتَاقَ الْجِنِّيُّ إِلَى سَمَاعِ قِصَّتِهِ.

وَرَأَى «حَمْزَةُ» مِنْ شَغَفِ الْجِنِّيِّ وَوَلَعِهِ بِسَمَاعِ قِصَّتِهِ، مَا أَطْمَعَهُ فِي مُسَاوَمَتِهِ. فَلَمْ يُقَصِّرْ فِي انْتِهَازِ الْفُرْصَةِ الْمُوَاتِيَةِ، فَقَالَ: «لَعَلَّ سَيِّدِي أَمِيرَ الْعَفَارِيتِ يَتَجَاوَزُ لِي عَنْ ثُلُثِ حَيَاةِ «حَمْدَانَ»؛ إِذَا ظَفِرَتْ قِصَّتِي بِإِعْجَابِهِ.»

فَقَالَ «دَنْدَانُ»: «لَكَ مَا أَرَدْتَ.»

فَقَالَ «حَمْزَةُ»: «لَيْسَتْ هَذِهِ غَزَالَةً مِنَ الْغِزْلَانِ، بَلْ هِيَ إِنْسِيَّةٌ مِنَ الْأَنَاسِيِّ. وَهِيَ بِنْتُ عَمِّي، وَتُدْعَى: «الرَّقْطَاءَ».

وَقَدْ مَرَّ عَلَيْنَا زَمَنٌ طَوِيلٌ لَمْ نَخْتَلِفْ — فِي خِلَالِهِ — مَرَّةً وَاحِدَةً. ثُمَّ غِبْتُ عَنْ بَلَدِي سَنَةً كَامِلَةً.

فَلَمَّا عُدْتُ مِنْ رِحْلَتِي، لَمْ أَجِدْ — فِي الدَّارِ — وَلَدِي وَلَا زَوْجَتِي. فَلَمَّا سَأَلْتُهَا عَنْهُمَا، زَعَمَتْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ أَهْلَكَتْهُمَا.

وَلَمْ أَكُنْ أَدْرِي أَنَّهَا تُضْمِرُ الْحِقْدَ لِزَوْجَتِي وَوَلَدِي وَلَا تُطِيقُ رُؤْيَتَهُمَا.

وَكَذَلِكَ لَمْ أَعْرِفْ أَنَّهَا تَعَلَّمَتِ السِّحْرَ؛ حَتَّى إِذَا بَرَعَتْ فِي فُنُونِهِ وَمَهَرَتْ، عَمَدَتْ إِلَيْهِمَا، فَسَحَرَتْ زَوْجَتِي بَقَرَةً، وَوَلَدِي عِجْلًا.

فَلَمَّا اقْتَرَبَ الْعِيدُ، أَهْدَتْهُمَا إِلَيَّ، لِأُضَحِّيَ بِهِمَا.

(١١) دُمُوعُ الْبَقَرَةِ

فَلَمَّا أَقْبَلَ الْعِيدُ، قَدِمَ عَلَيَّ حَارِسُ الدَّسْكَرَةِ، وَمَعَهُ الْعِجْلُ وَالْبَقَرَةُ لِيَذْبَحَهُمَا. فَلَمَّا هَمَّ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، رَأَيْتُهَا تُخْفِضُ مِنْ رَأْسِهَا، فِي ذِلَّةٍ وَانْكِسَارٍ، ثُمَّ تَنْظُرُ إِلَيَّ ضَارِعَةً مُسْتَعْطِفَةً، وَالدُّمُوعُ تَتَرَقْرَقُ فِي عَيْنَيْهَا.

فَاشْتَدَّ عَجَبِي مِمَّا رَأَيْتُ، وَطَلَبْتُ إِلَى الْحَارِسِ أَنْ يَعُودَ بِهَا إِلَى الْحَظِيرَةِ، دُونَ أَنْ يَمَسَّهَا بِسُوءٍ.

وَهُنَا ظَهَرَ الْغَضَبُ عَلَى وَجْهِ «الرَّقْطَاءِ»، زَاعِمَةً أَنَّنِي احْتَقَرْتُ هَدِيَّتَهَا.

وَصَرَخَتْ بِالْخَادِمِ، تَأْمُرُهُ أَنْ يُسْرِعَ بِذَبْحِهَا.

وَلَمَّا رَأَيْتُ الْحَارِسَ يَهُمُّ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ، لَمْ أُطِقِ الْبَقَاءَ، فَخَرَجْتُ هَائِمًا.

(١٢) نَجَاةُ الْعِجْلِ

ثُمَّ عَادَ الْحَارِسُ — بَعْدَ قَلِيلٍ — وَمَعَهُ الْعِجْلُ لِيَذْبَحَهُ. فَلَمَّا رَآنِيَ الْعِجْلُ تَمَلَّصَ مِنَ الْحَارِسِ، قَافِزًا وَاثِبًا؛ حَتَّى إِذَا دَانَانِي، رَاحَ يَتَمَرَّغُ تَحْتَ قَدَمَيَّ، وَيَتَمَسَّحُ بِي، وَيَلْعَقُ يَدِي بِلِسَانِهِ؛ وَكَأَنَّمَا يَسْتَعْطِفُنِي عَلَيْهِ.

وَقَدْ ذَكَّرَنِي ذَلِكَ بِمَا رَأَيْتُهُ مِنْ دُمُوعِ الْبَقَرَةِ. فَأَمَرْتُ الْحَارِسَ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ، وَأَنْذَرْتُهُ بِالْهَلَاكِ، إِذَا مَسَّهُ بِسُوءٍ.

وَحَاوَلَتِ «الرَّقْطَاءُ» أَنْ تُغْرِيَنِي بِذَبْحِهِ فَزَجَرْتُهَا. فَخَرَجَتْ مِنْ دَارِي، مُغْضَبَةً حَانِقَةً.

(١٣) كَيْدُ «الرَّقْطَاءِ»

وَجَاءَنِيَ الْحَارِسُ — بَعْدَ قَلِيلٍ — فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا عَجَبًا، قَالَ: «لَقَدْ تَعَلَّمَتْ بِنْتِي «سَمِيرَةُ» فُنُونَ السِّحْرِ، مُنْذُ نَشْأَتِهَا. وَقَدْ رَوَيْتُ لَهَا نَبَأَ الْعِجْلِ، فَسَأَلَتْنِي أَنْ أُحْضِرَهُ إِلَيْهَا لِتَرَاهُ.

فَلَمَّا رَأَتْهُ بَدَا عَلَى وَجْهِهَا الْغَيْظُ وَالْأَلَمُ، وَلَمْ تَتَمَالَكِ الدُّمُوعُ أَنْ تَنْفَرِطَ مِنْ عَيْنَيْهَا. فَسَأَلْتُهَا عَمَّا حَزَنَهَا وَأَبْكَاهَا.

فَقَالَتْ لِي مُتَفَجِّعَةً: «أَتَظُنُّ هَذَا عِجْلًا، يَا أَبَتَاهُ؟ إِنَّهُ «صَاعِدٌ» نَجْلُ «حَمْزَةَ»، صَاحِبِ الدَّسْكَرَةِ. وَهُوَ ابْنُ «مَاجِدَةَ» الْمِسْكِينَةِ.»

فَسَأَلْتُهَا مُتَحَيِّرًا: «وَأَيْنَ مَاجِدَةُ؟»

فَقَالَتْ: «إِنَّهَا الْبَقَرَةُ الَّتِي ذَبَحْتُمُوهَا صَبَاحَ الْيَوْمِ. وَقَدْ سَحَرَتْهُمَا «الرَّقْطَاءُ»؛ لِتُطْفِئَ نَارَ حِقْدِهَا عَلَيْهِمَا وَغَيْرَتِهَا مِنْهُمَا.»

فَلَمَّا بَلَغَ الْحَارِسُ مِنْ قِصَّتِهِ ذَلِكَ الْمَدَى، عَشَى بَصَرِي، وَالْتَهَبَ صَدْرِي، وَدَارَتْ بِيَ الْأَرْضُ قَائِمًا.

(١٤) بِنْتُ الْحَارِسِ

وَأَسْرَعْتُ إِلَى «سَمِيرَةَ» أُسَائِلُهَا: أَحَقًّا مَا أَخْبَرَتْ بِهِ أَبَاهَا؟

فَقَالَتْ: «ذَلِكَ يَقِينٌ لَا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ الشَّكُّ.»

فَقُلْتُ لَهَا: «أَلَا سَبِيلَ إِلَى فَكِّ السِّحْرِ؟»

فَقَالَتْ: «مَا أَيْسَرَ ذَلِكَ عَلَى مِثْلِي، إِذَا أَجَبْتَ لِي رَجَاءً وَاحِدًا.»

فَقُلْتُ لَهَا: «فُكِّي عَنْهُ السِّحْرَ، وَلَكِ مِنِّي مَا تَشَائِينَ.»

فَقَالَتْ: «لَوْ أَبْقَيْتُ عَلَى «الرَّقْطَاءِ» بِلَا عِقَابٍ، لَتَضَاعَفَ حِقْدُهَا عَلَيْنَا جَمِيعًا، فَلَمْ نَأْمَنْ مَكْرَهَا. فَهَلْ تَأْذَنُ لِي أَنْ أُقَيِّدَهَا بِسِحْرِي، بَعْدَ أَنْ أَفُكَّ السِّحْرَ عَنْ وَلَدِكَ؟»

(١٥) بَرَاعَةُ «سَمِيرَةَ»

فَقُلْتُ لَهَا: «ذَلِكَ مَوْكُولٌ إِلَيْكِ: فَاصْنَعِي مَا تَشَائِينَ، عَلَى أَلَّا تُسْرِفِي فِي مُعَاقَبَتِهَا. فَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَإِنْ عَظُمَتْ إِسَاءَتُهَا إِلَيَّ.»

فَلَمْ تُخَالِفْ «سَمِيرَةُ» رَأْيِي. وَأَسْرَعَتْ إِلَى قَارُورَةٍ (زُجَاجَةٍ)، فَمَلَأَتْهَا مَاءً، وَأَدْنَتْهَا مِنْ فَمِهَا، وَجَمْجَمَتْ أَقْوَالًا مِنَ السِّحْرِ لَمْ أَفْهَمْ لَهَا مَعْنًى، ثُمَّ سَكَبَتْ مَاءَهَا عَلَى الْعِجْلِ.

فَعَادَ (صَاعِدٌ) إِنْسَانًا كَمَا كَانَ.

وَاسْتَوْلَى عَلَيْنَا الْفَرَحُ، فَلَمْ نَتَمَالَكْ أَنْ بَكَيْنَا، مِنْ فَرْطِ السُّرُورِ بِاجْتِمَاعِ الشَّمْلِ، بَعْدَ يَأْسٍ مِنَ اللِّقَاءِ شَدِيدٍ.

وَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِنَا الْمُقَامُ حَتَّى عَادَتْ «سَمِيرَةُ»، وَمَعَهَا «الرَّقْطَاءُ»؛ بَعْدَ أَنْ حَوَّلَتْهَا غَزَالَةً.

وَخَيْرًا صَنَعَتْ؛ إِذْ لَمْ تُحَوِّلْهَا دَابَّةً دَمِيمَةً، تَتَأَذَّى الْعَيْنُ بِمَنْظَرِهَا الْقَبِيحِ.

فَلَمْ أَجِدْ مَا أُكَافِئُ بِهِ الْفَتَاةَ إِلَّا أَنْ أُزَوِّجَهَا وَلَدِي: «صَاعِدًا»، الَّذِي كَادَ يَفْقِدُ حَيَاتَهُ، لَوْلَا مَا صَنَعَتْ مِنْ مَعْرُوفٍ.»

فَعَجِبَ «دَنْدَانُ» مِمَّا سَمِعَ. وَقَالَ لِـ«حَمْزَةَ»: «مَا أَعْجَبَ قِصَّتَكَ! وَقَدْ وَهَبْتُ لَكَ ثُلُثَ حَيَاةِ حَمْدَانَ.»

(١٦) قِصَّةُ الْكَلْبَيْنِ

فَأَقْبَلَ «نُوَيْرَةُ»: صَاحِبُ الْكَلْبَيْنِ، وَقَدْ قَوِيَ أَمَلُهُ فِي خَلَاصِ التَّاجِرِ، وَقَالَ لِـ«دَنْدَانَ»: «لَعَلَّكَ وَاجِدٌ فِي قِصَّتِي مَعَ هَذَيْنِ الْكَلْبَيْنِ أَعْجَبَ مِمَّا وَجَدْتَ فِي قِصَّةِ «حَمْزَةَ»، مَعَ هَذِهِ الْغَزَالَةِ. فَهَلْ تَعِدُنِي — إِذَا أَعْجَبَتْكَ — أَنْ تَهَبَ لِي مِنْ حَيَاةِ هَذَا التَّاجِرِ، مِثْلَ مَا وَهَبْتَ لِحَمْزَةَ؟»

فَقَالَ «دَنْدَانُ»: «لَكَ عَلَيَّ ذَلِكَ. فَهَاتِ الْحَدِيثَ.»

فَأَنْشَأَ «نُوَيْرَةُ» يَقُولُ: «إِنَّ هَذَيْنِ الْكَلْبَيْنِ أَخَوَانِ لِي شَقِيقَانِ. وَقَدْ وَرِثْنَا مِنْ أَبِينَا — بَعْدَ مَوْتِهِ — ثَلَاثَةَ آلَافِ دِينَارٍ، فَخَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَلْفٌ. فَاتَّجَرَ كُلٌّ مِنَّا بِنَصِيبِهِ …

وَأَصَرَّ أَخِي «صَادِقٌ» عَلَى أَنْ يُسَافِرَ، لِيُضَاعِفَ رِبْحَهُ. وَغَابَ عَنِّي أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ.

(١٧) الْخَائِبُ الْأَوَّلُ

وَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي دُكَّانِي — ذَاتَ يَوْمٍ — إِذْ قَدِمَ عَلَيَّ بَائِسٌ فَقِيرٌ، فِي أَسْمَالٍ بَالِيَةٍ. فَحَسِبْتُهُ سَائِلًا يَسْتَجْدِي، فَتَصَدَّقْتُ عَلَيْهِ بِدِرْهَمٍ.

فَرَدَّهُ إِلَيَّ مُتَعَجِّبًا، وَهُوَ يَقُولُ: «أَتُرَانِي قَدْ بَلَغَ بِيَ الْهُزَالُ وَالْمَرَضُ حَدًّا أَنْسَاكَ صُورَةَ أَخِيكَ صَادِقٍ؟»

فَدَهِشْتُ مِمَّا رَأَيْتُ، وَأَقْبَلْتُ عَلَى أَخِي، أُرَحِّبُ بِهِ وَأُعَانِقُهُ فَرْحَانَ بِعَوْدَتِهِ.

ثُمَّ سَأَلْتُهُ عَمَّا لَقِيَهُ فِي رِحْلَتِهِ مِنْ كَوَارِثَ وَأَحْدَاثٍ.

فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ قَالَ: إِنَّ التَّوْفِيقَ لَمْ يُحَالِفْهُ. فَقَدْ سَلَبَهُ اللُّصُوصُ مَالَهُ، وَلَمْ يَتْرُكُوا لَهُ مِنْ ثِيَابِهِ شَيْئًا. ثُمَّ أَخَذَتْهُمُ الرَّأْفَةُ بِهِ؛ فَمَنَحُوهُ ذَلِكَ الْهِدْمَ (الثَّوْبَ الْمُرَقَّعَ الْبَالِيَ)، الَّذِي يَكَادُ لَا يَسْتُرُ جَسَدَهُ.

فَهَوَّنْتُ عَلَيْهِ مَا لَقِيَهُ مِنَ الْمَصَاعِبِ.

وَكَانَتْ ثَرْوَتِي — حِينَئِذٍ — قَدْ تَضَاعَفَتْ، فَقَسَمْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ بِالسَّوَاءِ.

(١٨) الْخَائِبُ الثَّانِي

وَمَرَّ عَلَيْنَا زَمَنٌ هَانِئٌ سَعِيدٌ. ثُمَّ فَاجَأَنِي «زُهَيِرٌ»: أَخِي الْأَوْسَطُ، بِعَزْمِهِ عَلَى السَّفَرِ؛ لِيُجَرِّبَ حَظَّهُ فِي التِّجَارَةِ.

فَأَقْبَلْنَا كِلَانَا عَلَيْهِ. وَبَذَلْنَا وُسْعَنَا فِي تَبْغِيضِ السَّفَرِ إِلَيْهِ. فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِنَصِيحَتِنَا.

ثُمَّ عَادَ مِنْ سَفَرِهِ — فِي آخِرِ الْعَامِ — بَادِيَ الذُّلِّ، مَكْسُورَ الْجَنَاحِ، كَمَا عَادَ «صَادِقٌ» مِنْ قَبْلُ.

وَكُنْتُ قَدْ رَبِحْتُ — فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ — أَلْفَ دِينَارٍ أُخْرَى. فَوَهَبْتُهَا لَهُ؛ لِيَسْتَأْنِفَ بِهَا تِجَارَتَهُ.

(١٩) بَعْدَ سَنَوَاتٍ خَمْسٍ

وَمَرَّتْ عَلَيْنَا خَمْسُ سَنَوَاتٍ كَانَتْ أَسْعَدَ سِنِي حَيَاتِنَا جَمِيعًا.

ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ أَخَوَايَ، يُزَيِّنَانِ لِيَ أَنْ نُسَافِرَ مَعًا.

وَلَمْ أَكُنْ أَجْهَلُ فَوَائِدَ الرِّحَلِ وَالْأَسْفَارِ.

وَلَكِنَّنِي كُنْتُ نَاجِحًا فِي بَلَدِي. وَكُنْتُ أَرْتَابُ فِي صَلَاحِيَتِهِمَا وَلَا أَثِقُ بِكِفَايَتِهِمَا.

بَيْدَ أَنَّهُمَا ظَلَّا يُلِحَّانِ عَلَيَّ؛ حَتَّى لَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنَ الْإِذْعَانِ لِرَأْيِهِمَا فِي الارْتِحَالِ.

(٢٠) حَزْمُ «نُوَيْرَةَ»

وَكَانَتْ ثَرْوَتِي — حِينَئِذٍ — قَدْ بَلَغَتْ سِتَّةَ آلَافِ دِينَارٍ.

فَذَكَرْتُ الْحِكْمَةَ الْقَائِلَةَ: «فَرِّقْ مَا لَدَيْكَ مِنَ الْبَيْضِ فِي سِلَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَلَا تَجْعَلْهُ كُلَّهُ فِي سَلَّةٍ وَاحِدَةٍ.»

فَخَبَأْتُ فِي دَارِي نِصْفَ الْمَالِ، وَاتَّجَرْتُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ.

•••

وَرَبِحَتْ تِجَارَتِي؛ فَرُحْتُ أَتَنَقَّلُ — مَعَ أَخَوَيَّ — مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، وَثَرْوَتُنَا فِي ازْدِيَادٍ، حَتَّى أَصْبَحْنَا فِي حَالَةٍ مِنَ الْيُسْرِ، لَمْ نَكُنْ لِنَحْلُمَ بِهَا مِنْ قَبْلُ.

(٢١) الْغَرِيقَةُ النَّاجِيَةُ

وَخَرَجْتُ — ذَاتَ يَوْمٍ — أَتَنَزَّهُ. فَلَمَّا بَلَغْتُ شَاطِئَ الْبَحْرِ، رَأَيْتُ جَمَاعَةً يَتَصَايَحُونَ. ثُمَّ عَلِمْتُ أَنَّ عَاصِفَةً قَدْ هَبَّتْ — مُنْذُ قَلِيلٍ — فَأَغْرَقَتْ سَفِينَةً بِرَاكِبِيهَا، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنَ الْغَرَقِ إِلَّا فَتَاةٌ تَاعِسَةٌ مُشْرِفَةٌ عَلَى الْهَلَاكِ.

فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهَا وَأَنْقَذْتُهَا؛ فَشَكَرَتْ لِيَ الْفَتَاةُ مَا صَنَعْتُ.

وَعَلِمْتُ أَنَّها تُدْعَى: «لَمْيَاءَ». ثُمَّ تَبَيَّنْتُ مِنْ حَدِيثِهَا نَبَالَةَ أَصْلِهَا، وَرَجَاحَةَ عَقْلِهَا؛ فَعَرَضْتُ عَلَيْهَا أَنْ تُرَافِقَنَا فِي السَّفَرِ. فَقَبِلَتْ «لَمْيَاءُ» مُتَلَطِّفَةً.

ثُمَّ أَقَلَّتْنَا سَفِينَةٌ كَبِيرَةٌ، حَمَّلْنَاهَا مَا جَلَبْنَاهُ مِنَ الْبَضَائِعِ.

(٢٢) مُؤَامَرَةُ الْحَاقِدَيْنِ

وَكَادَتْ رِحْلَتُنَا تَنْتَهِي بِسَلَامٍ، لَوْلَا أَنَّ عَاصِفَةً مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ هَبَّتْ عَلَى قَلْبَيْ أَخَوَيَّ، فَأَثَارَتْ فِيهِمَا مَا لَا قِبَلَ لَهُمَا بِاحْتِمَالِهِ، مِنَ الْغَيْرَةِ وَالْغَيْظِ عَلَيَّ، لِمَا ظَفِرْتُ بِهِ مِنْ نَجَاحٍ.

فَاجْتَمَعَ رَأْيَاهُمَا عَلَى أَنْ يُغْرِقَانِي. وَصَبَرَا إِلَى مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ؛ ثُمَّ قَذَفَا بِي — وَأَنَا نَائِمٌ — فِي عُرْضِ الْبَحْرِ.

(٢٣) فَضْلُ «لَمْيَاءَ»

فَانْتَبَهْتُ مُفْزَّعًا مَذْعُورًا. وَإِذَا بِيَدٍ رَفِيقَةٍ تَنْتَشِلُنِي مِنَ الْغَرَقِ، ثُمَّ تَرْفَعُنِي فِي رِفْقٍ، وَتَطِيرُ بِي فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، ثُمَّ تَسْتَقِرُّ بِي فِي بَيْتِي.

وَنَظَرْتُ، فَإِذَا بِي أَرَى «لَمْيَاءَ» إِلَى جَانِبِي تُؤَسِّينِي (تُصَبِّرُنِي)، وَتُهَوِّنُ عَلَيَّ مَا لَقِيتُ مِنْ عَذَابٍ.

وَرَأَيْتُ إِلَى جِوَارِهَا كَلْبَيْنِ أَسْوَدَيْنِ، فَسَأَلْتُهَا جَلِيَّةَ الْخَبَرِ.

فَقَالَتْ «لَمْيَاءُ»: «مَا أَنَا بِإِنْسِيَّةٍ — كَمَا تَوَهَّمْتَنِي — بَلْ أَنَا جِنِّيَّةٌ مِنْ بَنَاتِ الْبَحْرِ. وَقَدْ نَشَأْتُ — مُنْذُ طُفُولَتِي — مُولَعَةً بِمُؤَازَرَةِ أَخْيَارِ الْإِنْسِ، وَمُعَاقَبَةِ أَشْرَارِهِمْ.

وَقَدِ امْتَلَأَ قَلْبِي إِعْجَابًا بِكَ، لِمَا رَأَيْتُهُ مِنْ عَطْفِكَ عَلَى أَخَوَيْكَ، مَعَ أَنَّهُمَا مِنْ كِبَارِ الْأَشْرَارِ؛ كَمَا امْتَلَأَ قَلْبِي خَوْفًا عَلَيْكَ، بَعْدَ أَنْ عَرَفْتُ مَا يُدَبِّرَانِ لَكَ مِنْ كَيْدٍ؛ لِيَتَخَلَّصَا مِنْكَ، وَيَظْفَرَا — وَحْدَهُمَا — بِثَرْوَتِكَ.

فَلَمَّا رَأَيْتُكَ تُيَمِّمُ شَاطِئَ الْبَحْرِ، أَثَرْتُ الْعَاصِفَةَ الْهَوْجَاءَ. الَّتِي رَأَيْتَهَا، وَخَيَّلْتُ بِسِحْرِي لِلنَّاسِ أَنَّ السَّفِينَةَ غَرِقَتْ بِمَنْ فِيهَا، وَتَظَاهَرْتُ أَنِّي مُشْرِفَةٌ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَنَا عَارِفَةٌ أَنَّ مُرُوءَتَكَ سَتَدْفَعُ بِكَ إِلَى نَجْدَتِي.

وَقَدْ صَحَّ مَا تَوَقَّعْتُهُ.

فَصَبَرْتُ عَلَى أَخَوَيْكَ؛ حَتَّى إِذَا زَيَّنَ لَهُمَا شَيْطَانُ الطَّمَعِ أَنْ يَقْذِفَا بِكَ إِلَى قَرَارِ الْبَحْرِ — وَأَنْتَ نَائِمٌ — أَسْرَعْتُ إِلَى إِنْقَاذِكَ، ثُمَّ مَسَخْتُ أَخَوَيْكَ كَلْبَيْنِ، عِقَابًا لَهُمَا.

(٢٤) هَدِيَّةٌ ثَمِينَةٌ

وَقَدْ أَحْضَرْتُ لَكَ بَضَائِعَكَ سَالِمَةً، وَأَوْدَعْتُ خِزَانَتَكَ هَدِيَّةً ثَمِينَةً مِنْ لَآلِئِ الْبَحْرِ وَنَفَائِسِهِ، لِتَغْنَى بِهَا طُولَ حَيَاتِكَ.»

وَلَمَّا انْتَهَتْ «لَمْيَاءُ» مِنْ قِصَّتِهَا وَدَّعَتْنِي. فَشَكَرْتُ لَهَا صَنِيعَهَا النَّبِيلَ، ثُمَّ رَجَوْتُهَا أَنْ تَعْفُوَ عَنْ أَخَوَيَّ، وَحَسْبُهُمَا مَا لَقِيَا مِنْ عِقَابٍ.

فَقَالَتْ «لَمْيَاءُ»: «لَا سَبِيلَ إِلَى الْعَفْوِ عَنْ هَذَيْنِ الْحَسُودَيْنِ. عَلَى أَنَّنِي لَنْ أُخَيِّبَ رَجَاءَكَ كُلَّهُ، وَسَأَكْتَفِي بِإِبْقَائِهِمَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ، لَا تَزِيدُ.»

ثُمَّ طَارَتْ «لَمْيَاءُ» فِي الْجَوِّ حَتَّى غَابَتْ عَنْ نَاظِرَيَّ.»

•••

فَعَجِبَ «دَنْدَانُ» مِمَّا سَمِعَ، وَوَهَبَ لِـ«نُوَيْرَةَ» ثُلُثَ حَيَاةِ «حَمْدَانَ».

(٢٥) بَغْلَةُ «تَمِيمٍ»

وَأَقْبَلَ «تَمِيمٌ» عَلَى أَمِيرِ الْعَفَارِيتِ، يَسْأَلُهُ: هَلْ يَهَبُ لَهُ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ مِنْ حَيَاةِ «حَمْدَانَ» إِذَا أَعْجَبَتْهُ قِصَّتُهُ؟

فَوَعَدَهُ «دَنْدَانُ» بِذَلِكَ. فَأَنْشَأَ «تَمِيمٌ» يَقُولُ: «كَانَتْ هَذِهِ الْبَغْلَةُ جَارَةً لِي. وَكَانَتْ كَالْعَقْرَبِ: دَائِمَةَ الْإِسَاءَةِ، دَائِبَةَ الْأَذَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّصِلُ بِهَا، مِنْ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ. يَكَادُ لَا يَسْلَمُ مِنْ شَرِّهَا مَنْ تُصَادِفُهُ. سِيَّانِ فِي ذَلِكَ مَنْ تَجْهَلُهُ، وَمَنْ تَعْرِفُهُ.

فَلَا عَجَبَ إِذَا أَطْلَقُوا عَلَيْهَا اسْمَ: «شَوْشَبَ»؛ لِأَنَّهَا — كَمَا قُلْتُ لَكَ — أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْعَقْرَبِ.

(٢٦) جُرْأَةُ «شَوْشَبَ»

وَاضْطُرِرْتُ إِلَى السَّفَرِ — ذَاتَ يَوْمٍ — ثُمَّ عُدْتُ، فَلَمْ أَجِدْ لِبَيْتِيَ أَثَرًا.

وَرَأَيْتُ مَكَانَهُ حَدِيقَةً غَنَّاءَ، حَافِلَةً بِالثِّمَارِ، وَالْأَزْهَارِ وَالْأَطْيَارِ. فَرُحْتُ أُسَائِلُ الْجِيرَانَ عَمَّا حَدَثَ.

فَعَلِمْتُ أَنَّ «شَوْشَبَ» قَدِ اسْتَوْلَتْ عَلَى بَيْتِي عَنْوَةً — فِي أَثْنَاءِ سَفَرِي — وَهَدَمَتْهُ؛ ثُمَّ أَنْشَأَتْ — مَكَانَهُ — حَدِيقَةً غَنَّاءَ، وَأَلْحَقَتْهَا بِدَارِهَا.

فَعَجِبْتُ مِنْ جُرْأَتِهَا. وَذَهَبْتُ إِلَيْهَا مُعَاتِبًا، فَلَمْ تُبَالِ عِتَابِي.

وَتَمَادَتْ فِي جُرْأَتِهَا، فَأَنْكَرَتْنِي وَتَجَاهَلَتْنِي، وَهَمَّتْ بِطَرْدِي مِنَ الدَّارِ. فَتَوَعَّدْتُهَا بِالذَّهَابِ إِلَى الْقَاضِي لِأَشْكُوَهَا.

فَقَالَتْ «شَوْشَبُ»: «خَيْرٌ لَكَ أَلَّا تَفْعَلَ. وَمَا أَجْدَرَكَ أَنْ تَحْمَدَ اللهَ عَلَى سَلَامَتِكَ مِنِّي، عَلَى كُلِّ حَالٍ!»

فَقُلْتُ لَهَا: «وَهَلْ سَلِمَ مِنْ أَذَاكِ إِنْسَانٌ؟ أَوْ نَجَا مِنْ شَرِّكِ كَائِنٌ كَانَ؟»

(٢٧) اِنْتِقَامُ السَّاحِرَةِ

فَنَظَرَتْ إِلَيَّ غَاضِبَةً، يَكَادُ الشَّرَرُ يَتَطَايَرُ مِنْ عَيْنَيْهَا.

ثُمَّ قَالَتْ لِي مُزْدَرِيَةً سَاخِرَةً: «وَهَلْ يَسْتَمِعُ الْقَاضِي إِلَى شَكْوَى الْكِلَابِ؟»

فَلَمْ أَفْهَمْ مَا تَعْنِيهِ، وَسَأَلْتُهَا مُتَعَجِّبًا: «أَيَّ كِلَابٍ تَقْصِدِينَ؟»

فَقَالَتْ لِي هَازِئَةً: «لَوْ أَبْقَيْتُكَ كَمَا أَنْتَ، لَجَازَ أَنْ يَسْتَمِعَ الْقَاضِي إِلَى شَكْوَاكَ، فَإِذَا حَوَّلْتُكَ كَلْبًا، كَفَفْتُ عَنِّي أَذَاكَ.»

ثُمَّ رَشَّتْ وَجْهِي بِقَطَرَاتٍ مِنَ الْمَاءِ الْمَسْحُورِ، فَمَسَخَتْنِي كَلْبًا فِي الْحَالِ. فَحَاوَلْتُ أَنْ أَسْتَعْطِفَهَا، فَانْقَلَبَ كَلَامِي عُوَاءً وَنُبَاحًا.

(٢٨) بِنْتُ الْجَزَّارِ

فَمَشَيْتُ مَغْمُومًا حَزِينًا لَا أَدْرِي كَيْفَ أَصْنَعُ، حَتَّى وَقَفْتُ عَلَى دُكَّانِ جَزَّارٍ، فَرَمَى إِلَيَّ بِقَلِيلٍ مِنَ الْعَظْمِ لِأَعْرُقَهُ (لِآكُلَ مَا عَلَيْهِ مِنَ اللَّحْمِ).

ثُمَّ صَحِبَنِي إِلَى بَيْتِهِ. فَلَمَّا رَأَتْنِي بِنْتُهُ فَطِنَتْ إِلَى قِصَّتِي، وَأَخْبَرَتْ بِهَا أَبَاهَا.

وَكَانَتْ بَارِعَةً فِي فُنُونِ السِّحْرِ. فَسَأَلَهَا أَنْ تُعِيدَنِي إِنْسَانًا كَمَا كُنْتُ فَقَالَتْ لَهُ: «لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ — يَا أَبَتَاهُ — قَبْلَ أَنْ أَنْتَقِمَ مِنَ السَّاحِرَةِ: «شَوْشَبَ»، حَتَّى لَا نَتَعَرَّضَ لِأَذَاهَا بَعْدَ الْيَوْمِ. ثُمَّ غَابَتْ قَلِيلًا، وَعَادَتْ إِلَيْنَا بِهَا، بَعْدَ أَنْ حَوَّلَتْهَا بَغْلَةً. ثُمَّ قَذَفَتْنِي بِإِحْدَى زَهَراتِ النَّرْجِسِ، وَهِيَ تَقُولُ: «اخْرُجْ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ، وَعُدْ إِلَى صُورَتِكَ الْأُولَى بِإِذْنِ اللهِ.»

وَلَمَّا اسْتَرْدَدْتُ آدَمِيَّتِي قَبَّلْتُ يَدَهَا، شَاكِرًا لَهَا صَنِيعَهَا.

وَاسْتَوْلَيْتُ عَلَى الْحَدِيقَةِ وَالدَّارِ.

وَأَصْبَحَتْ «شَوْشَبُ» هَادِئَةَ الْخُلُقِ، لَيِّنَةَ الْعَرِيكَةِ (سَهْلَةَ الطَّبْعِ)، بَعْدَ أَنْ مُسِخَتْ دَابَّةً. وَلَمْ تَعُدْ تُفَكِّرُ فِي الْأَذَى مُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

فَمَا كَانَ أَلْأَمَهَا إِنْسَانًا، وَمَا أَكْرَمَهَا الْآنَ حَيَوَانًا!

وَهَا هِيَ ذِي أَمَامَكَ، تَحْمِلُنِي كُلَّ يَوْمٍ إِلَى غَايَاتِي، فِي أَسْفَارِي الْقَرِيبَةِ وَالْبَعِيدَةِ، بِلَا تَبَرُّمٍ وَلَا ضَجَرٍ.»

(٢٩) خَاتِمَةُ الْقِصَّةِ

فَالْتَفَتَ إِلَيْهَا «دَنْدَانُ» يَسْأَلُهَا: «أَحَقًّا مَا يَقُولُ صَاحِبُكِ؟»

فَأَوْمَأَتْ «شَوْشَبُ» (أَشَارَتْ) بِرَأْسِهَا إِيمَاءَةَ التَّصْدِيقِ.

فَعَجِبَ الْجِنِّيُّ مِمَّا سَمِعَ وَرَأَى.

وَسُرْعَانَ مَا وَهَبَ لِـ«تَمِيمٍ» الثُّلُثَ الْبَاقِيَ مِنْ حَيَاةِ «حَمْدَانَ».

ثُمَّ وَدَّعَهُمْ «أَمِيرُ الْعَفَارِيتِ» شَاكِرًا لَهُمْ مَا أَهْدَوْهُ إِلَيْهِ مِنْ حَدِيثٍ بَارِعٍ، وَقَصَصٍ رَائِعٍ. وَطَارَ فِي الْجَوِّ حَتَّى غَابَ عَنِ الْعُيُونِ.

وَعَادَ «حَمْدَانُ» إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَعَاشَ آمِنًا مَحْبُورًا؛ بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَ أُمْنِيَّتَهُ، وَاسْتَرَدَّ حُرِّيَّتَهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤