الفصل الثالث

فجْر رمادي

كان براكسفيلد في هذه الأثناء يُراقب جاي ماركنمور بنظراتٍ فضولية من مكانه المُنزوي في الخلفية، ورآه ينتفض انتفاضةً طفيفة حين لمَّحَت فالنسيا هذا التلميح المباشر. وتَلَت هذه الانتفاضة ضحكةٌ لم تكن عفوية إطلاقًا.

قال جاي: «حسنًا.» وأضاف: «ما خطْب الخاتم؟ إنه مجرد خاتم.»

قالت فالنسيا: «بالضبط، إنه خاتم. لكنه خاتم غريب. وأنا أعرف شخصًا ما لديه نُسخة طبق الأصل منه.»

سألها جاي: «مَن؟»

أجابت فالنسيا قائلة: «السيدة تريزيرو. إنها ترتديه دائمًا. كنتُ أظنها اشترته من الهند. لكن خاتمك مُماثل له بالضبط. يا للعجَب! من الغريب أن يكون لديكما خاتمان مُتماثلان بالضبط هكذا.»

فقال جاي: «إذن، فالسيدة تريزيرو تأتي إلى هنا!»

أجابت فالنسيا: «بالتأكيد! لقد كنَّا جميعًا نعرفها قبل زَواجها. وبقدْر ما أتذكَّر، عادةً ما كنتما تقضيان معًا أوقاتًا طويلة.»

تثاءب جاي، لكن أُخته رأت أنَّ هذا التثاؤب كان مُصطنعًا.

ثم قال محاولًا أن يُبدي لا مُبالاته: «لقد نسيتُ كل شيءٍ تقريبًا عن هذه الأيام.» وأردف قائلًا: «لقد مضى وقتٌ طويل، وصرتُ مُنشغلًا بأشياءَ أخرى منذ أن رحلتُ عن هنا.»

استدارت فالنسيا ونظرَت إلى براكسفيلد.

ثم قالت له بنظرةٍ ذات مغزًى: «انظر ما إذا كانوا يُريدون شيئًا في الطابق العلوي يا براكسفيلد. يُمكنك أن تجلس مع السير أنطوني قليلًا، وتختلق عُذرًا ما يُبرِّر غيابنا إذا أراد أيًّا منَّا.»

فَهِم براكسفيلد التلميح وغادر، ثم استدارت فالنسيا إلى أخيها.

قالت وهي تُناديه باسمه للمرة الأولى: «جاي، أعتذرُ منك إذا كنتُ قد بدوتُ فظةً قبل قليل. لكن … لكنك لم تُعامِلنا معاملةً حسنة، أو لطيفة. وأريد أن أعرف لماذا لم تأتِ إلى هنا من قبل، كل هذا الوقت، ولماذا غادرتَ أصلًا. ألا تستطيع إخباري؟»

كان جاي يَميل في البداية إلى التملمُل وعدم التجاوب تحت وطأة أسئلة الفتاة، لكنَّ نبرتها كانت تحمِل قدرًا من الجدية الصادقة المُلِحَّة التي جعلته يُغيِّر رأيه ويُفكر في الأمر. فرمى سيجارَه وقام من كرسيه وحشر يديه في جيبيه، ثم بدأ يسير جَيئةً وذهابًا في الغرفة وقد بدا مُنهمكًا في تفكيرٍ عميق بوضوح.

ثم قال أخيرًا: «قد أُخبِرك يومًا ما. ربما سأفعل لاحقًا، بعد التفكير مَليًّا في الأمر.»

فصاحت فالنسيا مُتعجبة: «هذه المرة الثانية التي أسمع فيها هذه الإجابة على ذاك السؤال نفسه الليلة!» وأردفت قائلة: «وبالكلمات نفسها تقريبًا!»

توقَّف جاي فجأةً عن جولاته عبر الغرفة وحدَّق إليها.

وسألها فجأة: «مِمَّن كانت الإجابة الأولى؟»

أجابت فالنسيا: «هاربورو. فقد عاد أيضًا. وكان هنا هذا المساء. لقد عرفتُ أنكما كنتما صديقَين في الماضي. وسألته عمَّا إذا كان يعرف سبب رحيلك. فأجاب نفس الإجابة التي ذكرتُها بالضبط.»

سألها جاي بصوتٍ أشبهَ تمامًا بالزمجرة، قائلًا: «حسنًا! حسنًا وماذا إذن؟»

قالت فالنسيا: «أظنه يعرف.»

بدأ جاي يجول عبر الغرفة مرة أخرى. وقطع عدة أشواطٍ قبل أن يتكلَّم.

وأخيرًا قال: «سأُسدي إليكِ نصيحةً بشأن جون هاربورو. إنه يُصبحُ ذا مزاجٍ شرس مُفعم بالغضب والكراهية في ظروف مُعينة. لذا خُذي حذرك. وإلا …»

سألته فالنسيا: «وإلا ماذا؟»

فاختتم جاي عبارته قائلًا: «وإلَّا فليس لديَّ ما أقوله في حقِّه. والآن، يكفي هذا! لم آتِ إلى هنا لأُستجوَب. لقد أخبرتكِ أنتِ وهاري بسبب مجيئي، وأنوي أن أُعاملكما بإحسانٍ وإنصاف حسبما قلت. لذا لا تكترثي أبدًا بسبب رحيلي عن ماركنمور، ولا سبب بقائي بعيدًا.»

فألحَّت عليه فالنسيا قائلة: «ولكن ليتك تُخبرني بشيءٍ واحد فقط. هل لذلك أي علاقة بفيرونيكا لايتون، كما كانت تُدعى آنذاك؟ أقصد السيدة تريزيرو؟»

ردَّ جاي بإجابة قاطعة قائلًا: «لن أُخبرك بأي شيء. فهذا ليس من شأنك ولا من شأن أي أحد الآن. لقد بدأتُ طريقي الخاص حين رحلتُ عن هنا، وانتهى الأمر بالنسبة إليَّ. لن أقرب هذا المكان مرةً أخرى أبدًا بعدما أُغادره الليلة، ومن الآن فصاعدًا، فهو مِلكُكِ ومِلك هاري. وحين أعود من أمريكا، يُمكنكما المجيء وزيارتي في لندن، متى شئتما وكلَّما شئتما. لكنَّ عزبة ماركنمور لن تراني مرة أُخرى؛ فأنا أكرهها!»

سألَتْه فالنسيا: «وماذا عن أبيك؟»

هزَّ جاي رأسه وهو ما زال يسير جَيئةً وذهابًا في الغرفة.

ثم أجاب قائلًا: «كنتِ أصغرَ من أن تُدركي حقائقَ الأمور. لكنِّي أنا وأبي لم نكن على وفاقٍ قط … لم نكن على وفاقٍ قطُّ منذ البداية. لم يكن يُعاملني جيدًا قط، وساءت معاملته بعدما تزوَّج أمَّك. ولولاها، لهربتُ من ذلك وأنا ما زلتُ صبيًّا. لكن أمَّك كانت امرأةً طيبة؛ إذ أحسنت مُعاملتي حتى وقت وفاتها، حين كنتِ أنتِ وهاري طفلَين. وسببُ تنازُلي لكما عن ماركنمور الآن هو أنِّي ما زلتُ أتذكَّرها وأتذكر طِيبتها.»

قالت فالنسيا: «شكرًا لك.» وأضافت: «سنظلُّ نتذكَّر ذلك. ولكن يا جاي … أبوك على مشارف الموت. ألن تراه؟»

أجاب جاي بحِدَّة قائلًا: «كلَّا!» وأردف قائلًا: «كلَّا! فأنا في عِداد الموتى في نظرِه، وما جدوى إزعاجِ رجُلٍ يحتضر؟ دَعِي الأمور على حالها يا فالنسيا؛ فكما قلتُ لكِ الآن، لعلَّك ستعرفين وتفهمين مزيدًا من الأشياء لاحقًا. أمَّا في الوقت الحالي …»

فُتِح الباب في هذه اللحظة بالضبط، وعاد هاري إلى الغرفة. كان حاملًا في يُمناه شمعة مُشتعلة، وفي يُسراه حافظة الجيب التي أرسله أخوه لإحضارها، وكانت قديمة الطراز ومصنوعةً من جِلدٍ أخضرَ باهت. فتمتم جاي بكلمة شُكر، وأخذ الحافظة والشمعة منه، ثم سار عبر الغرفة إلى أقصى جوانبها، ووضع الشمعة على خِزانةٍ كبيرة من خشب البلُّوط، وعلى ضوئها، بدأ يفحص حافظة الجيب بينما كان هاري وفالنسيا يُراقبانه. لم يستغرق الفحص كثيرًا؛ فبعدما ألقى جاي نظرةً خاطفة على بعض الأوراق التي أخرجها من الحافظة القديمة، نقل بعضًا منها إلى محفظة نقودٍ أخرجها من جيب بِنطاله الخلفي، ثم ضمَّ المحفظة وحافظة الجيب معًا، ووضعهما في الجيب الذي كان قد أخرج منه المحفظة. وبعدئذٍ أطفأ الشمعة والتفت إلى أخيه وأُخته.

قال بلا مُبالاة: «ما كنتُ أريده هو بعض الأوراق القديمة. ليس فيها شيء مُهم، لكنِّي أردت الاحتفاظ بها.» ثم جلس مرةً أخرى وأشعل سيجارًا آخر. وتابع قائلًا: «والآن، لأنني لا أملك الكثير من الوقت، فلنتحدَّث عن العمل والأمور المالية فحسْب. أخبِرني يا هاري عن كيفية سير الأمور بالضبط فيما يتعلق بالأملاك؛ أي كيف تُديرها وما إلى ذلك.»

ظلَّت فالنسيا طوال نصف الساعة التالية تُنصت إلى الرجلين وهما يناقشان مسائل الإيجار والإصلاحات والدخل والنفقات، وأدركَتْ أنَّ جاي، بغض النظر عما قد يكون به من صفاتٍ أُخرى، رجل أعمال فطِن، وأدركت أيضًا أنَّه كان حريصًا بكل صدقٍ على إسداء النصح السديد إلى هاري بشأن إدارته لأملاك ماركنمور في المُستقبل. وأخيرًا، أخرج بطاقة وسلَّمَها إلى أخيه الأصغر.

وقال: «هنا عنوان مَقر عملي في لندن، ويُوجَد على ظهرها عنوان في نيويورك تستطيع أن تبعث بالرسائل إليه في أي وقتٍ طوال الأشهر الاثني عشر القادمة. سأنتظر منك أن تُطلعني على كيفية سَير الأمور … كل الأمور. والآن، يجب أن أرحل.»

هبَّ واقفًا على قدَمَيه واتَّجه إلى قُبعته ومعطفه. وألقت فالنسيا نظرةً خاطفة على الساعة.

وسألته: «ولكن لماذا يجب أن ترحل الآن؟» واستطردَتْ قائلة: «لقد قلتَ إنك تعتزم ركوب قطار الصباح الباكر من ميتبورن، أليس كذلك؟ وهذا القطار لا ينطلق إلَّا بعد الساعة الرابعة صباحًا. والساعة الآن ما زالت العاشرة والنصف فقط.»

كان جاي قد ارتدى مِعطفه بالفعل. فابتسمَ لنظرة فالنسيا المُتسائلة.

أجاب قائلًا: «بالضبط!» وتابع: «ولكن يجب أن أُقابل شخصًا آخر في الجوار هنا، بشأن بعض الأعمال. إنه مَوعد، أتفهمين؟ أي مُتفق عليه سلَفًا. لذا يجب أن أرحل وإلَّا سأتأخَّر عليه.»

فاعترضَتْ فالنسيا قائلة: «ولكن … كان يجب أن تتناول عشاءً أو أي شيء.»

ردَّ جاي: «سيكون العشاء جاهزًا في المكان الذي سأذهب إليه. ارتاحا ولا تشغلا نفسيكما! استدعِيا براكسفيلد إلى الأسفل؛ فهو رجل عجوز طيب، ويجب أن أُودِّعه.»

وبعد ذلك بخمس دقائق، كان قد ودَّع الثلاثة، وأخرجه براكسفيلد من الباب الذي دخل منه. عاد كبير الخدَم العجوز إلى حجرته ليجد سيِّدتَه الشابة واقفة بجوار النيران، ومنهمكة في تفكيرٍ عميق كما بدا واضحًا عليها. رفعت ناظرَيها نحوه حين دخل.

وسألته: «براكسفيلد، في أي طريق ذهب السيد جاي؟»

فأجاب براكسفيلد: «نحو القرية يا آنسة. انعطف عبر الشجيرات.»

كان براكسفيلد من صنف الرجال الذي يَعتبِرُ كل الناس مَحلَّ ثقة. ولم تجد فالنسيا سببًا يجعلها تُخفي عنه ما يجول في خاطرها.

فأضافت قائلة: «لقد قال إنه مُرتبط بمَوعد عمل مع شخصٍ ما في الجوار. فمن عساه يكون هذا الشخص يا براكسفيلد؟»

أجاب كبير الخدم قائلًا: «لا أستطيع القول يا آنسة. لكنَّ السيد جاي كان يعرف أناسًا كثيرين في هذه المنطقة في الأيام الخوالي.»

قالت فالنسيا: «ولكن في هذا الوقت المتأخِّر من الليل!» وأردفت قائلة: «وفوق ذلك، فمَن قد يكون موجودًا أصلًا في أيِّ مكان قريب من هنا؟ أعني مِن الأشخاص الذين قد يريد لقاءهم؟ فلا يُوجَد سوى مزارعَين أو ثلاثة وقس الأبرشية.»

فقال براكسفيلد: «لقد ذكَر في كلامه معي نزل سيبتر إن يا آنسة، وذكره بطريقةٍ جعلتني أتساءل عمَّا إذا كان يعتزم زيارته. ولكن …»

وهنا قُوطِع براكسفيلد وهو يشرع في قولِ ما كان سيقوله برنينٍ خفيض من جرسٍ جُذِبَ بمنتهى الرفق. ففغرت عينه هو وفالنسيا عند سماعه ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر.

صاحت فالنسيا قائلة: «لا بد أنه قد عاد مرةً أخرى!»

قال براكسفيلد: «لا يا آنسة. فالسيد جاي كان سيأتي إلى مدخل الحديقة؛ فهذا دأبه دائمًا. هذا جرس بابنا الأمامي.»

أخذ مِشكاةً قديمة الطراز وهو يتكلَّم، ثم أشعل شمعتها وخرج. وتبعته فالنسيا. كان الظلام يسود الرواق والصالة الكبيرة، وأحدث دوران المفتاح وسحب المتاريس صوتًا حادًّا مُزعجًا في السكون الذي كان قد خيَّم على المنزل القديم منذ وقتٍ طويل. وحين فتح براكسفيلد الباب، بدا الليل في الخارج حالكَ السواد، ورأَيا في ضوء المششكاة امرأةً مُتشحة بعباءةٍ ومُلفَّعة بحجاب على الدرجات الواقعة أسفلَ الرواق. ولكن بالرغم من هذه الدُّثُر، عرفت فالنسيا هوية الزائرة.

صاحت مُتعجبة: «السيدة تريزيرو!»

ردَّت السيدة تريزيرو بضحكةٍ خفيضة تحمِل انفعالًا ممزوجًا بالتوتُّر. ثم دخلت المنزل وتجاوزت براكسفيلد ووضعت يدًا على ذراع فالنسيا ودفعتْها برفقٍ إلى نهاية الصالة، التي كان بصيصٌ خافت من الضوء يتسلَّل إليها من باب حجرة براكسفيلد المفتوح.

وقالت لها هامسة: «صه!» وأضافت قائلة: «أريد أن أُحادِثِك على انفرادٍ يا فالنسيا. أخبري كبير الخدَم بأن ينتظِر هناك؛ فأنا سأعود مُجددًا في غضون دقيقة.»

فقالت فالنسيا: «ابقَ هناك يا براكسفيلد. فالسيدة تريزيرو ستحتاج إلى الخروج بعد قليل.» ثم أضافت وهي تتَّجِه إلى الحجرة المُضاءة: «تعالَي معي. ما الخطْب؟»

سارت السيدة تريزيرو وراء الفتاة إلى داخل حجرة كبير الخدم، وواربت الباب، وألقت حجابها وعباءتها الثقيلة إلى الوراء. وبالرغم من دهشة فالنسيا، لم تستطِع منع نفسها من التحديق إليها بإعجاب. فقد كانت السيدة تريزيرو ترتدي أرقى ثيابها ومُتعلقاتها، فكان جسدها مكسوًّا بفستان سهرةٍ لم ترَ فالنسيا مثيلًا له من قبل، وكان الألماس يُزيِّن شعرها الكستنائي ومُقدمة رقبتها البيضاء، فيما كانت عيناها البنفسجيتان مُفعمتَين بالإثارة، وكانت شفتاها القرمزيتان مُفترقتَين قليلًا، وأدركت فالنسيا أنَّ هذه المرأة أجمل بكثيرٍ ممَّا كانت تظنُّها. وبدأت للمرة الأولى تدرك أيضًا أنها كانت امرأةً خطرة.

نظرت العينان البنفسجيتان بحدَّة إلى أرجاء الغرفة ثم استقرَّتا على وجه الفتاة. وبدا فيهما سؤال كرَّرَته شفتاها.

«أخوكِ جاي؟ أهو هنا؟»

أجابت فالنسيا: «لا.» وأردفت قائلة: «ليس هنا.»

فقطَّبت السيدة تريزيرو حاجبَيها الجميلَين في عبوسٍ مُتحيِّر.

وقالت بشيءٍ من الانفعال الغاضب: «لكنَّ بيرتون، الحُوذي الذي يعمل لديَّ قال لي إنه رآه آتيًا إلى هنا مساء اليوم!» وأضافت: «من المؤكَّد أنه هنا!»

ردَّت فالنسيا بحدَّة، قائلة: «ليس هنا. كان هنا ورحَل.»

«رحل؟ إلى أين؟»

قالت فالنسيا: «لا أعرف. ماذا تُريدين؟»

ضحكت السيدة تريزيرو، ولفَّت عباءتها وحجابها حولَها وهي تضحك.

ثم أجابت بنبرةٍ مُتحدِّية: «أردتُ رؤيته مُجددًا بالطبع. لمَ لا؟ ومع ذلك، أظنه سيأتي لزيارتي غدًا.»

فقالت فالنسيا: «لا!» وأضافت: «لقد رحل. عاد إلى لندن.»

قالت السيدة تريزيرو: «لا يُغادر أيُّ قطار إلى لندن في هذا الوقت من الليل يا طفلتي.» وضحكت بقليلٍ من الخبث. ثم تحوَّلت نبرة صوتها إلى نبرةٍ تنمُّ عن أنها أدركت شيئًا ما فجأة. فصاحت قائلة: «آه!» وأردفت: «فهمت! من المؤكد أنَّه ذهب ليزورَني الآن! لقد اشتقتُ إليه. وداعًا يا فالنسيا، وآسفة لإزعاجك.»

خرجَت من الغرفة وركضت عبر الرواق والصالة قبل أن تستطيع فالنسيا الرد، وبعد ذلك بلحظةٍ أُغلِق الباب الأمامي خلفها. وعاد براكسفيلد.

سأل قائلًا: «هل تُريدين منِّي أن أفعل أيَّ شيءٍ في الطابق العلوي يا آنسة؟» وأضاف: «وماذا عن المُمرِّضة؟ هل ستكون بحاجة إلى شيء طوال الليل؟»

قالت فالنسيا: «لا شيء على ما أعتقد يا براكسفيلد، شكرًا لك.» كانت تُغادر الغرفة حينئذٍ، لكنها توقَّفَت فجأة، وتردَّدَت وعادت إلى كبير الخدم. ثم أردفت بنظرةِ ثقة: «براكسفيلد، أنت رفيق لأُسرتنا منذ فترةٍ طويلة، أليس كذلك؟»

أجاب براكسفيلد: «مُعظم حياتي يا آنسة. عملت خادم استقبال عشر سنوات، ثم كبيرًا للخدم طوال ثلاثين عامًا.»

قالت فالنسيا: «وتعرف الكثير من شئوننا. ومن المؤكَّد أنك تعرف أكثر ممَّا أعرف. لذا أودُّ أن تُخبرني بشيءٍ ما. هل نشأت أي علاقة غرامية بين أخي جاي والسيدة تريزيرو، حين كانت الآنسة لايتون؟ أريد أن أعرف يا براكسفيلد.»

تردَّد براكسفيلد هو الآخر. وضحك ضحكةً ممزوجة بقليل من التوتُّر؛ ضحكةَ رجلٍ توَّاق إلى الانغماس في ذكريات الأيام الخوالي.

ثم قال أخيرًا: «حسنًا، كما تعلمين يا آنسة، فأيُّ رجل في مثل مَوقعي يسمع ويرى الكثير بالطبع. كانت الآنسة لايتون — كما كانت تُدعى آنذاك أو السيدة تريزيرو، كما تُدعى الآن — حسناء للغاية، وبالطبع كان الكثيرون يتودَّدون إليها ويسعَون وراءها. كان الناس يتناقلون أحاديثَ عنها هي والسيد جاي؛ إذ كانا يقضِيان أوقاتًا طويلة معًا يصطادان ويتسابقان بالخيل وما إلى ذلك. ولكن حينئذٍ، كان ثمَّة آخرون يتودَّدون إليها.»

سألته فالنسيا: «ومَن هؤلاء الآخرون؟»

تابع براكسفيلد: «حسنًا يا آنسة، كان من بينهم السيد هاربورو، الذي جاء إلى هنا الليلة. كان يبدو شديد الهيام بها في وقتٍ من الأوقات، كُنتِ بعيدة في مدرستك آنذاك يا آنسة، وإلَّا كنتِ ستتذكَّرين ذلك. نعم، كان السيد هاربورو من بينهم، وفي الحقيقة، عادةً ما كان الناس يتساءلون عمَّن سيظفر بها: السيد جاي أم السيد هاربورو. صحيح أنَّ آخرين كانوا يتودَّدون إليها — وكثير ما هم — لكنَّ هذين الاثنين كانا ما يُمكن أن تُسميهما المُرشَّحَيْن الأول والثاني الأوفر حظًّا، حسبما بدا.»

سألته فالنسيا: «ولماذا لم تتزوَّج أحدهما إذن؟» وأردفت قائلة: «هل تعرف يا براكسفيلد؟»

«كلَّا يا آنسة، لا، لا أعرف شيئًا عن هذه المسألة. كل ما أعرفه أنَّ كِلا الشابَّين ترك هذه المنطقة فجأةً ودون سابق إنذار. فرحل السيد جاي — بغتةً في الواقع — ولم نسمع عنه شيئًا قبل الآن. ثم رحل السيد جون هاربورو أيضًا؛ إذ سافر مُتنقلًا بين بلدانٍ أجنبية. ولم يمُر وقت طويل — لم يبلغ أسبوعين حسب ما أظن — حتى أعلِنَ عن زواج الآنسة لايتون من الكولونيل تريزيرو. كان قائد كتيبته العسكرية في ثكنات سيلكاستر باراكس، يا آنسة. ما زلتُ أتذكره جيدًا جدًّا؛ كان رجلًا أحمر الوجه.»

تساءلت فالنسيا: «أكان أكبر منها سِنًّا؟»

«كان كبيرًا بما يكفي ليكون أباها يا آنسة. لكنه كان فاحِش الثراء. وسرعان ما تزوَّجا هنا في كنيستنا، وبعد ذلك بوقتٍ قصير، صدرت أوامر بإرسال الكتيبة إلى الهند، وبالطبع ذهبت مع زوجها.» ثم أضاف براكسفيلد ناظرًا إلى سيدته الشابة على استحياء: «أليس غريبًا يا آنسة أنَّ هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يعرفون بعضهم جيدًا في الأيام الخوالي — أقصد السيدة تريزيرو والسيدان جاي وهاربورو — كلهم قد عاودوا الظهور هنا في الوقت نفسه تقريبًا؟ هذا ما يُسمُّونه مصادفة، وإن كانت السيدة تريزيرو قد عادت منذ حوالي شهر بالطبع. لكن مَجيء هذين الاثنين الآخرين إلى هنا الليلة، هذا يُدهشني نوعًا ما.»

قالت فالنسيا: «أظنها كانت مجرَّد مُصادفة.»

ثم تمنَّت للعجوز ليلةً طيبة وتركته وصعدت إلى الطابق العلوي. وهناك التقت هاري عند باب غرفة أبيها. فقال لها إنَّ السير أنطوني قد نام نومًا خفيفًا، وإنَّ المُمرِّضة معه، ولا شيء ليفعلانه. فاتجها إلى غرفتَيهما.

قال لها هاري هامسًا وهما يمشيان في الرواق: «مَن جاء إلى الباب الأمامي؟»

أجابت فالنسيا: «السيدة تريزيرو.»

«السيدة تريزيرو! في هذا الوقت؟ ماذا كانت تريد؟»

«جاي!»

«جاي؟ ومَن أخبرها بأنه كان هنا؟»

«رآه الحُوذي الذي يعمل لديها آتيًا إلى هنا.»

فسألها هاري بعد سكوتٍ لحظي: «حسنًا.» وأضاف: «وماذا بعد؟»

«أخبرتُها بأنه رحل. فذهبَت. بل ذهبَت على عجلٍ أيضًا. هاري!»

«ماذا؟»

«يُخبرني حدسي بأنَّ ثمة شيئًا مُستترًا وراء ظهور هؤلاء الأشخاص مرةً أخرى فجأة. لا أعرف ماهيته، ولكن يُوجَد شيءٌ ما. لقد كانت السيدة تريزيرو في أشدِّ اللهفة لرؤية جاي! وأنا لا أثق بها. فهي … أوه، لا أعرف ما هي! لا تهتم، لنخلد إلى فراشَينا.»

ذهبت فالنسيا إلى فراشها، لكنها ظلَّت مُستيقظة وقتًا طويلًا حتى استطاعت النوم، وحين نامت أخيرًا، كان نومُها خفيفًا ومُضطربًا. واستيقظت فجأةً في النهاية، كان الفجر الرمادي يشق ظلام السماء، وسمعت عبر نوافذها المفتوحة نعيق البوم — الذي كان مُخيفًا وباعثًا على التشاؤم — في الغابة الواقعة وراء المُتنزَّه. دفعها شيءٌ ما إلى النهوض من فراشها ورفع ستارتها والنظر من خلال النافذة. كانت غرفتها تواجِه الشرق، وبعيدًا عبر المُتنزَّه وسلسلة التلال المُنخفضة الواقعة خلف حافة الغابة الشجرية القديمة التي كانت تُحيط بها، لاح في الأفق حزام عريض من الاحمرار كان يتَّسِع رويدًا. وكانت العصافير المُغردة وطيور الشحرور تُغرِّد بالفعل وسط الشجيرات، وكان أحد طيور القُبَّرة يحلِّق إلى السماء من مرج المنزل.

وفي مكانٍ ما في المزارع المُجاورة، دوَّت طلقة نارية فجأة، وتردَّدت أصداؤها عاليًا من الغابة الكثيفة. وبينما كانت فالنسيا تتساءل عن السبب الذي جعل حارس الطيور والحيوانات البرية الوحيد لديهم يخرُج في هذا الوقت الباكر للغاية من الصباح، سمعت طرقةً على بابها، ثم فُتِح الباب ودخل هاري. وبنظرةٍ واحدة إلى وجهه، علِمَت فالنسيا ماهية الخبر الذي أتى به. فهُرعت نحوَه بسؤال في عينَيها. فحنى هاري رأسه مُجيبًا على سؤالها.

وهمس قائلًا: «في أثناء نومِه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤