رسول في الفجر!

في الساعة الرابعة وخمسة وأربعين دقيقة صباحًا، كانت «إلهام» تقف عند الشجرة التي حددها «أحمد»، وأطلقت صيحة الخفاش، وسرعان ما كان «عثمان» يُساعدها على اجتياز السور، وكانت تحمل حقيبة صغيرة بها الأجهزة التي تحتاجها … وسارا بين الأشجار الكثيفة التي تُغطي الحديقة حتى وصلا إلى نافذة غرفة «أحمد» وكان في انتظارهما، وفي لحظات دخلا، وأغلق «أحمد» النافذة …

جلس الثلاثة لحظات، كانوا يتبادلون أثناءها نظرات صامتة … لقد اشتركوا في كثير من المعارك، وتزامَلُوا في عشرات المغامرات، ولكن هذه هي أول مرة يكونون فيها على هذا البعد السحيق من أرض الوطن. ولو انكشفَ أمرهم لما لقوا أية رحمة من «مارتينز» ورجاله.

خرج «أحمد» إلى الدهليز الذي تَقع فيه غرفته، وفي نهايته تقع غرفة المكتب … كان كل شيء هادئًا ولا أثر لمخلوق، فقد كان هو شخصيًّا المسئول عن الحراسة في هذا المكان … وهكذا سار حتى باب المكتب وترك «إلهام» و«عثمان»، ثم أطل «عثمان» من الباب فأشار له «أحمد»، وسرعان ما كانت «إلهام» تتسلَّل إلى باب غرفة المكتب … كانت مُغلَقة … ولكن «إلهام» أخرجت أداة رفيعة دسَّتها في القفل، ولم تمضِ لحظات حتى كانت تدفع الباب وتدخل …

دخل «أحمد» معها وأشار إلى مكان الخزينة ثم همس: هل تحتاجين إلى مساعدة؟

ردَّت «إلهام» في ثبات: مُطلَقًا …

خرج «أحمد» دون كلمة أخرى. ومشى بعيدًا حتى نهاية الدهليز المظلم ووقف يُراقب … نظرت «إلهام» إلى ساعتها، وأخذت تعدُّ الدقائق، ثم الثواني حتى إذا أصبحت الساعة الخامسة تمامًا، وضعت الجهاز الإلكتروني على الدائرة الخضراء التي تُحدِّد مكان القفل، ثم أخذت تدير أصابع الجهاز الصغير لتسجل عن طريقه أرقام الفتح، وعدد الدورات واتجاهها، ثم أخذت تدير الدائرة يمينًا ويسارًا … وسرعان ما أخذت الأرقام تظهر تباعًا على مؤشر الجهاز الصغير … ٧، ٨، ١، ٣، ٩، ثم بدأت الدوائر تظهر، ثلاث درجات يمينًا … وثلاث درجات يسارًا … خمس درجات يمينًا … واحدة يسارًا … وكالسِّحر انفتح باب الخزينة الضخمة!

ألقت «إلهام» نظرة عليها، وهالها ما فيها من كنوز المجوهرات والنقود والأسلحة النادرة، ولكن همها الوحيد كان في علبة شرائط سينما وضعت أسفل الأدراج وأمسكتها وبسرعة أخرجت الشريط الخطير ووضعت مكانه الشريط الذي أحضرته، وأعادت إغلاق الخزينة وقلبها يقفز بين ضلوعها فرحًا، لقد أنجزَت المهمة الشاقة … وفجأة تسمرت في مكانها … لقد سمعت صوت سيارة مقبلة ناحية القصر، وسمعت الأبواب الخارجية تُفتح، فأسرعت لتغادر الغرفة فوقفت بجوار الباب لحظات تتسمع، فسمعت صوت أبواب السيارة تفتح ثم تغلق … وفتحت الباب ونظرت إلى الدهليز كان «عثمان» يقف أمام غرفة «أحمد» ويشير لها، فأسرعت إليه، ودخلت غرفة أحمد ثم أغلق الباب!

ونظر «عثمان» من نافذة الغرفة، كان ثمة شخص يتحدث إلى «أحمد» بانفعال ظاهر، كان يقول: قلت لك أريد مقابلة «مارتينز»!

أحمد: وقلت لك إنني أريد أن أعرف لماذا تريد مقابلته؟!

الرجل: لن أقول لك!

لاحظ «عثمان» أن «أحمد» يتحدَّث إلى الرجل وهو يختلس النظر إلى نافذة غرفته، وفهم على الفور أنه يُعطِّل الرجل حتى تنتهي «إلهام» من مهمتها، فرفع أصابعه بعلامة «٧» ومعناها النصر … وسرعان ما قال «أحمد» للرجل: هل تستطيع أن تَنتظِر حتى يستيقظ «مارتينز»؟

الرجل: التعليمات لديَّ هي أن أبلغه الرسالة في أسرع وقت حتى وإن أيقظته من النوم … الرسالة مهمة جدًّا وتتعلَّق بخيانة يتعرض لها «مارتينز» …

لم يكد «أحمد» يسمع هذه الجملة، حتى أدرك أن الرسالة خاصة به أو ﺑ «كاردوفا»، وتذكر زعيم «الورلد ماسترز» عندما قال له إنَّني رأيتك من قبل … لقد كان ﻟ «أحمد» صورة عند هذه العصابة الضخمة، ولعلَّ زعيم «الورلد ماسترز» عندما عاد إلى مقر العصابة راجع الصور لديه فتذكَّره.

أشار «أحمد» إلى «عثمان» إشارة فهمَ منها كل شيء … كان المطلوب التخلص من الرجل فورًا، وهكذا قفز «عثمان» من النافذة وسار كالقط على الحشائش … وكان «أحمد» والرجل يقتربان من القصر، وفجأة أطلق «عثمان» كرته الجهنمية فأصابت الرجل في رأسه إصابةً مُباشِرة، وترنَّح الرجل وسقط على الأرض بلا حراك وأسرع «أحمد» و«عثمان» يَحملانه، ثم يضعانه بين الأعشاب الكثيفة … وانهمك «أحمد» في تفتيش الرجل وسرعان ما عثر في جيوبه على مظروف مستطيل موجه إلى «مارتينز» ومكتوب عليه: لا يُفتح إلا بمعرفة السنيور «مارتينز» …

فتح «أحمد» المظروف، ووجد ما كان يخشاه، صورة له ومعها مذكِّرة صغيرة:

إلى السنيور «مارتينز»، من «و.م»

إن الشاب الذي ألحقته بحراستك يَنتمي إلى منظمة خطيرة تُدعى «منظمة الشياطين اﻟ ١٣» … إن مهمة هؤلاء هي مكافحة الجريمة في كل مكان، خاصةً في العالم العربي. إنه شابٌّ خطيرٌ خاض معارك متعدِّدة فاز فيها هو وزملاؤه … اقبض عليه فورًا وسوف نصل اليوم للتحقيق معه … إذا استطعت القبض عليه فسنضرب عصفورين بحجر؛ إنقاذ المشروع الذري، والقضاء على الشياطين اﻟ «١٣» «خذ حذرك منه فإنه شديد البراعة».

عن «الواو»، «ميم»
ج. جاكوب

قال «أحمد» هامسًا: لقد انكشفت … يجب أن نَهرُب فورًا!

ثم مال مرة أخرى على الرجل الممدَّد على الأرض، وجرده من أوراقه، ومفاتيح السيارة التي جاء بها. ثم قال ﻟ «عثمان»: أحضر «إلهام» وهيا إلى السيارة …

تحرَّك الثلاثة كالأشباح، وفجأة ظهر شبح رابع … وانزوى «أحمد» جانبًا وشاهد «كاردوفا» يحمل مسدسًا ويتَّجه ناحية غرفة المكتب … ولم يتردَّد «أحمد» ترك «كاردوفا» يمر حتى وصَل إلى جواره تمامًا، ثم طوَّح قدمه في ضربة صاعقة أصابت بطن «كاردوفا» فسقط على الأرض، ووقع المسدس من يده، وارتطمَ رأسه بحائط الدهليز، وتمدَّد مغشيًّا عليه … ولكن شبحًا خامسًا ظهر … كان أحد حراس «مارتينز» الشبان، وهو قويٌّ كالثور، وكان قريبًا من «عثمان» الذي تقدَّم في الظلام بسمرته الداكنة حتى أصبح جزءًا من الظلام لا يرى … ثم ظهر فجأةً أمام الشاب الذي ارتبك وقبل أن يُفيق من ربكته عاجله «عثمان» بثلاث لكمات قوية … ثم حمله قبل أن يسقط على الأرض ووضعه جانبًا.

وصل الثلاثة إلى السيارة، وكانت من طراز «فورد نوفا»، السريع، وسرعان ما كانت تدرج بهم على ممرات الحديقة … وعند الباب أظهر «أحمد» إشارة الحراس لحارس الباب الذي كان يَعرفه ففتح الباب وعلى وجهه علامات الدهشة … وأطلق «أحمد» للسيارة العنان …

قال «عثمان»: هل في ذهنك خطة معينة؟

أحمد: ليست هناك أية خطة سوى الابتعاد عن «باهيا بلانكا». والأرجنتين كلها بأسرع ما يُمكن!

عثمان: ينقصنا «هدى» و«قيس»!

أحمد: هذا ما أفكِّر فيه … «هدى» سنمر بها الآن لنأخذها معنا، وسوف نرسل إشارة بالشفرة إلى «قيس» ليلحق بنا … أليس معه جهاز التقاط إشارات يا إلهام؟

ردَّت «إلهام»: نعم …

عثمان: ولكنه سيكون نائمًا الآن …

أحمد: سنُكرر له الإشارة بضع مرات.

ومضت السيارة ومؤشر السرعة يتصاعد باستمرار … كان «أحمد» يعرف أنها ستكون مُطارَدة مخيفة، فسوف يُجنُّ جنون «مارتينز»، خاصةً إذا اكتشف سرقة الفيلم، ولن يتردد في إطلاق عشرات الرجال من عنده، وغيرهم من رجال العصابات في أعقابهم … وفكَّر أن الطريقة الوحيدة للهرب يجب أن تكون طريقة غير مألوفة، فلو حاولوا الهرب عن طريق الوسائل العادية فسوف يَلحق بهم «مارتينز» … وكان «عثمان» يُفكِّر في نفس الشيء … وفجأة قال: الأفضل أن نهرب عن طريق المستنقعات …

ردت «إلهام» التي كانت تفكر بنفس الطريقة: نعم … هذا هو الحل الوحيد … ونستطيع أن نعبر صحراء «بتاجونيا» إلى حدود جمهورية «شيلي». ومن هناك نستطيع الخروج من أمريكا الجنوبية كلها …

كان هذا فعلًا هو الحل الوحيد الممكن … فمن المؤكد أن «مارتينز» يمكنه الوصول إليهم في أي مكان في الأرجنتين، وهكذا استقر رأي «أحمد» على ما قاله «عثمان»، وسرعان ما كانت السيارة تدرج بهم إلى قرب كوخ «فيجو» … وكانت مفاجأة لهم أن وجدوا «هدى» مستيقظة وعندما رأتهم صاحت: هل أتممتم المهمة؟!

ردت «إلهام»: نعم … ولكن يجب أن نهرب فورًا … إن «مارتينز» في أعقابنا …

أحمد: أرسلي تعليمات إلى «قيس» ليَلحق بنا عند حافة المستنقعات، فلقد قررنا الهرب من هناك …

ثم التفت إلى «عثمان» وقال: أيقظ «فيجو» وأقنعه بأن يَصطحبنا … إنه الوحيد الذي يستطيع قيادتنا في هذه المستنقعات الخطرة!

أسرع «عثمان» إلى «فيجو» … كان العجوز مستغرقًا في نوم عميق، وأخذ «عثمان» يهزه … لقد أصبحا صديقين منذ أنقذه «عثمان» من الموت في المستنقعات، ولم يكد «فيجو» يفتح عينيه ويرى «عثمان» حتى ابتسم قائلًا: صباح الخير أيها الشاب … ماذا هناك؟!

قال «عثمان»: إننا نحتاج إلى معونتك يا سنيور «فيجو» …

فيجو: إن «فيجو» العجوز يُحبكم جدًّا، وعلى استعداد لخدمتكم … ولكن ماذا في إمكاني أن أفعل؟

«عثمان»: إن «مارتينز» يُطاردنا، ونريد الهرب عن طريق المستنقعات إلى صحراء «بتاجونيا»، ومنها إلى «شيلي»…

فتح «فيجو» عينَيه في غضب وقال: ألم أقل لكم إن «مارتينز» هذا مُجرِم خطير؟! إنكم لم تصدقوني … لقد حذرتكم منه، ودهشت لأن شبانًا ظرفاء مثلكم يقبلون العمل عنده!

عثمان: لقد كنا نُؤدي مهمة معينة يا سنيور، والآن هيا بنا …

قام «فيجو» العجوز بنشاط، فارتدى ثيابه وصنع قدحًا ضخمًا من القهوة تجرعه في سرعة، ثم ركب السيارة بجوار الأصدقاء وانطلقوا …

قال «فيجو»: أين زميلكم الخامس؟!

أحمد: لقد اتصلنا به، ولعله يَلحق بنا عند حدود المستنقعات.

فيجو: إنها رحلة شاقة سواء عبر المستنقعات، أو في صحراء «بتاجونيا» القاحلة …

أحمد: على كل حال هذا أفضل من الموت!

فيجو: سوف أُعطيكم رسالة إلى قبيلة «مونتزوما» التي تعيش على حدود الصحراء … إنهم فقط الذين يُمكن أن يقودوكم عبر الصحراء إلى حدود «شيلي» …

ساد الصمت فترة من الوقت والسيارة منطلقة بأقصى قوتها نحو الغرب، وكل واحد من الركاب غارق في خواطره … وفجأةً قطع حبل الصمت صوت أزيز طائرة غطَّى على صوت المحرك … ونظر «أحمد» إلى ساعته، كانت السادسة والنصف وقال: لا بدَّ أنها طائرة «مارتينز»! لقد بدأت المطاردة قبل موعدها!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤