هناك دائمًا مطاردة!

كان بين السيارة وبداية المستنقعات نحو ثلاثة كيلومترات … وزاد «أحمد» من سرعة السيارة، فقد خشي أن تكون الطائرة مسلَّحة، ومن الممكن اصياده وهو في العراء المكشوف سواء بقنبلة أو بمدفع رشاش … واندفعت السيارة حتى وصلت سرعتها إلى أقصاها، بينما اندفعت الطائرة ناحيتهم وقد أخذت تنخفِض وتَنخفِض … وقال «أحمد» ﻟ «عثمان»: حاول أن تبعدها بالبندقية …

وأخرج «عثمان» فوهة البندقية من نافذة السيارة، وأطلق بضع طلقات على الطائرة التي كانت على ارتفاع لا يزيد على خمسين مترًا … وبجوارهم، ومن نافذة الطائرة خرج مدفع رشاش، وانهال سيل من الطلقات حولهم. ودارت الطائرة دورة واسعة، ثم عادت تُواجهُهم من الأمام … وانتظر «أحمد» حتى أصبحت على مقربة منهم، ثم انحرف بالسيارة عن الطريق، ومضت الطائرة تطلق رصاصها دون أن تصل طلقة واحدة إلى السيارة … وعندما دارت الطائرة مرة أخرى كان «أحمد» قد بدأ يخفض سرعته، فقد وصلوا إلى منطقة الأحراش العالية، وأصبح من الممكن الاختفاء فيها … وسرعان ما صاح بهم: استعدوا. ثم دار بالسيارة حول شجرة ضخمة واستخدم الفرامل بعنف، ووقفت السيارة تمامًا ونزلوا جميعًا.

«فيجو»: اتجهوا ناحية اليسار … هناك كهف عميق كنتُ أعيش فيه أيام الأمطار …

وانحرفوا جميعًا في اتجاه الكهف، وكانت الطائرة تحوم فوقهم وتُطلق رصاصها على المناطق العارية من الأعشاب … وعندما اقتربوا من الكهف، أشار لهم «عثمان» أن يتوقفوا، فقد لاحظ أن حية ضخمة من نوع «الأبوا» تلتف على عتبة الكهف، وقد تدلَّى رأسها إلى أسفل … وأطلق «عثمان» طلقة واحدة أصابت الرأس المدلاة، وارتعد جسم الحية الضخم، ثم تدلَّت وتكومت على الأرض.

أسرعوا إلى دخول الكهف، وأخرجت «إلهام» بطارية أضاءت المكان … كان كهفًا متسعًا من الصخور الملونة، وقال «فيجو»: هناك سرٌّ يحيط بهذا الكهف … إنه يمتد إلى مسافة بعيدة داخل المستنقعات … وله فتحة في النهاية، ولكن المشكلة أن به انهيارات في معظم الأماكن تجعل عبوره مسألة خطرة.

توقف الجميع عند مدخل النفق وقالت «إلهام»: لا بد أن أعود إلى السيارة، هناك بعض الأشياء سنحتاجها في الرحلة.

رد «أحمد»: انتظري قليلًا … سوف تعود الطائرة إلى القصر، وسيأتي المطاردون بعد قليل، فلا بد أن الطيار اتصل بالقصر باللاسلكي وطلب إرسالهم.

وجلسوا … وقال «عثمان»: إن «قيس» لم يظهر بعد …

أحمد: هذه هي المشكلة، ولا بد أن نتصرف سريعًا، لأن من السهل عليهم الوصول إلى هذا الجزء من المستنقعات. ومن الممكن أن يقضوا علينا في دقائق.

سكت «أحمد» لحظات ثم قال: استمروا أنتم في سيركم. وسأنتظر «قيس» وحدي.

هدى: كيف تبقى وحدك … سأبقى معك!

أحمد: أرجو أن تتحركوا بسرعة، وسأبقى وحدي … فكلما قل العدد كانت الحركة أسرع، وكل ما أرجوه هو أن تتركوا لنا علامات على خط السير.

والتفت «أحمد» إلى «فيجو» وقال: إننا نسبب لك متاعب أيها السنيور «فيجو» …

رد «فيجو» بابتهاج: إنَّ «فيجو» العجوز سعيد لأنه ما زال نافعًا … وقد قلت لك إنني لا أحب «مارتينز» إنه لصٌّ، وقد استولى على كل أملاكي بطرق الاحتيال والنصب …

أحمد: نعدك بأن نقضي عليه. وفي هذه الحالة سوف تسترد أملاكك …

وبدأ الجميع ينصرفون، وأخذ «أحمد» بندقية ومسدسًا مع كمية كبيرة من الذخيرة وبعض الأطعمة المحفوظة، ثم صعد إلى إحدى الأشجار الضخمة، واختفى بين أغصانها، وأخذ يراقب مدخل المستنقعات في انتظار ظهور «قيس»، ومضت ساعة دون أن يظهر له أثر، وكانت الطيور التي فزعت لوجود «أحمد» بينها، قد عادَت إلى أماكنها وأخذت ترقبُه بعيون دهشة، وهي تُطلق أصواتها المختلفة الرنين، وعبقت الأشجار برائحة الزهور البرية … وأحسَّ «أحمد» بالسلام يَغمُرُه، وتمنَّى لو لم يكن في معركة حياة أو موت ليستمتع بهذا المشهد الخيالي … ومضت فترة أخرى، وفجأة خُيِّل له أنه يسمع صوت سيارة بعيدة، وأرهف أذنيه، وتأكد أنها سيارة قادمة من بعيد بسرعة كبيرة، وأزاح أحد الأغصان جانبًا، وشاهد منظرًا جعل الدم يكاد يجمد في عروقه …

كان هناك فارس يَجري على جواده في العراء، وخلفه سيارة تُحاوِل اللحاق به … وبالطبع كانت السيارة أسرع … ولكنه كان يسير بين الصخور والتلال بعيدًا عن الطريق المرصوف، وسرعان ما تبين «أحمد» أن هذا الفارس الوحيد ليس إلا «قيس» … فأسرع ينزل من الشجرة ووصل إلى حافة المستنقعات، وألقى بنفسه خلف جذع الشجرة، ومد فوهة البندقية وانتظر … كان من في السيارة يُطلقُون النار على الفارس الذي كان يجري في اتجاه المستنقعات دون أن يلتفت خلفه … وقد كان «قيس» بارعًا حقًّا في طريقة جريه، فقد كان يلف ويدور وينثني حتى لا يترك فرصة لمُطارديه لإصابته. ولكن المسافة بدأت تضيق بين السيارة والفارس الشاب، وبدا واضحًا أنها ستلحق به بعد قليل … أخذ قلب «أحمد» يخفق سريعًا، فلم يكن في إمكانه مساعدة صديقه إلا إذا أصبحت السيارة في نطاق مرمى الرصاص … ومرَّت دقائق مؤلمة، وانطلقت رصاصة من السيارة أصابت الجواد فأخذ يجري مُترنحًا … واقتربت السيارة أكثر، وفي اللحظة التي أصبحت في نطاق الضرب أرسل «أحمد» رصاصة زغردت في الفضاء وأصابت الزجاج الأمامي للسيارة … ورصاصة ثانية أصابت الكاوتش الأمامي. ورصاصة ثالثة أصابت الكاوتش الخلفي … ودارت السيارة بسرعتها الكبيرة، ثم انقلبت على ظهرها محدثةً دويًّا هائلًا … وكان الجواد قد سقط، وسقط «قيس» على الأرض، وأصيب في قدمه … ولكن الإصابة لم تمنعه من الجري حتى وصل إلى «أحمد» الذي تلقَّاه بين ذراعَيه، وأجلسه إلى جوار شجرة.

قال «أحمد»: هل إصابتك خطيرة؟

قيس: مطلقًا … مجرد التواء في مفصل القدم!

أحمد: وما هي الأخبار؟

قيس: إنهم يُجهِّزون حملة ضخمة من الرجال لمطاردتكم وتحملهم الآن عربات النقل، مع خيولهم … إنهم طبعًا لا يستطيعون دخول المستنقعات بالسيارات …!

أحمد: هيا بنا … لقد سبقنا الآخرون!

سارا معًا … كان «قيس» يشعر ببعض الآلام، ولكنه تحامل على نفسه ومشى، وكانت «إلهام» قد تركت لهم الإشارات على الطريق الذي سلكوه … كانت الإشارات عبارة عن شرائط بيضاء معلَّقة في أغصان الشجر، وكان «أحمد» يلتقط هذه الإشارات كلما وصل إلى إحداها، حتى لا يستخدمها أعوان «مارتينز» في متابعتهم.

كانت المستنقعات مرعبة، تنتشر فيها الطحالب والمياه الراكدة والتماسيح والثعابين وأنواع مختلفة من حيوانات أمريكا الجنوبية … ولو سار فيها أي مخلوق لكان صيدًا سهلًا لهذه الفخاخ، بالإضافة إلى الرمال المتحركة، ولكن «فيجو» العجوز خبير المستنقعات كان يمشي في هذا العالم الموحش كما يسير في قلب كوخه عند طرف المراعي …!

وضعت «إلهام» في اعتبارها أن يسيروا بسرعة محدودة حتى يسمحوا «لأحمد» و«قيس» باللحاق بهم … وفعلًا بعد ساعة تقريبًا استطاع «قيس» أن يميز صوت أشخاص يتحدَّثون في قلب المستنقعات، وسرعان ما كان يُطلِق صيحة الخفاش، وتلقَّى ردًّا سريعًا من «عثمان»، ثم اقترب الاثنان من «عثمان» و«هدى» و«إلهام» و«فيجو» … وبعد لحظات كانوا يتبادلون التحيات بحماس.

سمعوا فوق رءوسهم صوت طائرة «مارتينز» غادية رائحة … وقال «أحمد» يسأل «فيجو»: هل يُمكنهم أن يرونا؟

فيجو: ما دمتُ معكم فلن يروكم مطلقًا …

أحمد: لا أدري ماذا كنا سنفعل دونك يا سنيور «فيجو»، وماذا ستفعل أنت بعد ذلك مع «مارتينز»؟!

ضحك «فيجو» وقال: سأظلُّ معكم! لقد وعدتني أن تهزم «مارتينز»، وأن ترد لي أرضي، وسأبقى معكم حتى نُحقِّق هذا الأمل.

أحمد: نعدك بذلك أيها العم الشجاع …

مضت القافلة الصغيرة تشقُّ طريقها … وعندما انتصف النهار اختاروا بقعة بجوار جدول مياه صغير، وتناولوا بعض الأطعمة المحفوظة، وقال «فيجو»: يُمكننا في أي وقت أن نصطاد بعض الأسماك أو العصافير لطعامنا …

أحمد: إن ما يُهمنا الآن أيها العم «فيجو» أن نبتعد بأسرع ما يمكن عن «مارتينز»!

فيجو: أؤكد لك أنهم لن يستطيعوا اللحاق بكم مُطلقًا … لا أحد منهم يجرؤ على دخول المستنقعات؛ فهم يعرفون أن الموت كامن فيها!

إلهام: ومتى نصل إلى حدود الصحراء من جهة «شيلي»؟

فيجو: بعد ثلاثة أيام تقريبًا!

ومضى الوقت … وقد اختفى صوت طائرة «مارتينز» وعرفوا أنه يئس من المحاولة وعاد يُدبِّر خطة أخرى.

ومضت الساعات حتى أقبل الليل. واختار لهم «فيجو» كهفًا قام «عثمان» بتطهيره من الحيات والحشرات، وقضوا ليلتهم الأولى، وناموا جميعًا بعد أن وضعوا نظامًا للحراسة.

وفي صباح اليوم التالي استأنفوا سيرهم.

مضت الأيام الثلاثة وهم يرتاحون قليلًا ويسيرون كثيرًا، وذات صباح استيقظوا فلم يجدوا «فيجو» بينهم … ووقف الشياطين الخمسة وقد أذهلتهم المفاجأة … إن غياب «فيجو»، معناه الموت بالنسبة لهم في هذه الأدغال الموحشة … ولكن اضطرابهم لم يستمرَّ طويلًا، فبعد نصف ساعة ظهر «فيجو» وهو يُهلِّل فرحًا ومعه شخص آخر غريب الشكل … ووضع الشياطين أيديهم على مسدساتهم، ولكن «فيجو» صاح بهم: لا تخافوا إنه صديق!

وتقدم الاثنان من الشياطين الخمسة وقال «فيجو»: هذا هو صديقي «موري» من قبيلة «مونتوزوما» … إنه الرجل الذي سيقودنا إلى أول مدينة على حدود «شيلي»، لقد انتهت متاعبكم أيها الشبان …

وصاح الشياطين الخمسة فَرِحين … فقد حصلوا على الفيلم الذي سيقودهم إلى المركز الذري، وهربوا من مطاردة «مارتينز» … لقد حققوا انتصارًا رائعًا، ولكن بقيت المهمة الأساسية … الإفراج عن العلماء المخطوفين وبينهم العالم المصري، ولكن هذه مغامرة أخرى نقرؤها معًا في العدد القادم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤