حادث عند المستشفى …

كانت هذه أول مرة يزور فيها «تختخ» المفتش «سامي» في منزله.

كان منزلًا أنيقًا منظَّمًا … فيه من الذوق أكثر ممَّا فيه من الفخامة … وكان يشغل شقةً في إحدى عمارات حي «جاردن سيتي» قرب النيل. وقد رحَّبت زوجة المفتش وابنته الجميلة «أمينة» بضيفهم … ثم انسحبتا، وجلس المفتش و«تختخ» معًا يتحدَّثان.

قال المفتش: لقد شرَّفتني بهذه الزيارة … وأنا آسف لأنني لم أدعُ بقية المغامرين … فإنني أُريد أن أتحدَّث إليك وحدك أولًا.

ردَّ «تختخ»: الحقيقة أنني سعيد بهذه الزيارة … وفي الوقت نفسه سألت نفسي لماذا دعوتني وحدي … ولم تدعُ بقية المغامرين؟

المفتش: سأقول لكَ حالًا.

وقام المفتش وأحضر مجموعةً من الأوراق، من بينها مظروف سميك، وقال وهو يفتح المظروف:

إننا نُعالج قضيةً من أغرب القضايا … وبرغم أنها من اختصاص جهات أمن أخرى … فقد وجدنا لفرط خطورتها، أن تتعاون مختلِف الأجهزة على حلِّ غموضها.

ومدَّ المفتش يده داخل المظروف … وأخرج مجموعةً من الصور الصغيرة، وقال وهو يمد يده … بها إلى «تختخ»: هذه مجموعة من الصور، قد لا يُهمُّك كثيرًا أن تعلم ما بها … فهي صور لجهاز إلكتروني خاص بتتبُّع الطائرات، والأقمار الصناعية في الجو … وهو جهاز هام يقوم العلماء المصريون مع بعض الخبراء الأجانب بتطويره …

وأخذ «تختخ» يتأمَّل الصور … ووجد أنه لا يكاد يفهم منها شيئًا، ونظر إلى المفتش الذي ابتسم قائلًا: من إجراءات الأمن في المشروع … أنه مُقسَّم إلى أجزاء في أماكن متفرِّقة، حتى إذا حدث تجسُّس على جزء منه؛ لا تنكشف أسرار بقية الأجزاء.

وقد حدث ما توقعناه … فقد قام شخص ما بتصوير جزء من المشروع وهو الذي تراه في هذه الصور.

تختخ: جاسوس؟!

المفتش: نعم … بالتأكيد.

تختخ: وحتى الآن لم تكتشفوه؟

المفتش: لا … وهذا سبب استدعائي لك … فإنني محتاج إليكَ في مهمَّة خطيرة!

تختخ: إنني تحت أمرك.

المفتش: إن العاملين في أبحاث تطوير الجهاز السري هم عدد من العلماء المصريين … وخمسة من الخبراء الأجانب.

وتنهَّد المفتش واستطرد قائلًا: وبالطبع فهناك رقابة محكمة … على الجميع بحيث لا يمكن أن يقوم واحد منهم بالتصوير.

تختخ: ولكن هذا حدث.

المفتش: نعم … وهذا ما استدعيتُك من أجله … إن الإجراءات التي تتم قبل أن يدخل أي واحد … من العلماء إلى المعمل، لا تسمح مطلقًا بدخول أي نوع … من أجهزة التصوير إلى المعمل.

تختخ: ولكن تمَّ التصوير.

المفتش: نعم … وقد بحثنا التفاصيل كلَّها الخاصة بدخول العلماء إلى المعمل … فلم نجد ثغرةً واحدة … فالعلماء جميعهم يستبدلون ثيابهم قبل دخول المعمل … ولا يُسمَح لهم بإدخال أي شيء معهم.

تختخ: وعلب السجائر والولَّاعات والخواتم والساعات وغيرها؟!

المفتش: ممنوع عليهم أخذ أي شيء من هذا … ونحن نُحضر لكل منهم نوع السجائر التي يطلبها، ونضع لهم الكبريت بدلًا من الولَّاعات … بل إنهم يخلعون أحذيتهم ذاتها قبل الدخول.

تختخ: مدهش!

المفتش: مدهش جدًّا … بالإضافة إلى أنهم جميعًا قد اختيروا بعناية كاملة … وتمَّ بحث حالاتهم وتاريخهم الشخصي، وعلاقاتهم بالآخرين … وكل إجراءات الأمن التي تتخيَّلها؛ لمنع تسرُّب الصور لمختلِف أجزاء المشروع …

تختخ: ومع هذا … وقبل أن يُتم جملته قال المفتش: ومع هذا تمَّ تصوير أجزاء من المشروع!

تختخ: وكيف عثرتم على هذه الصور؟! إن تتبُّع آثارها لا بد أن يُؤدِّي إلى الشخص … الذي قام بالتصوير.

المفتش: للأسف … فإن ذلك شيء شديد الصعوبة … فقد حدث كل شيء بالصدفة … فمنذ ثلاثة أيام وقع حادث أمام مستشفى «المعادي»، في ساعة متأخِّرة من الليل … فقد خرجت سيارة نقل ذات مقطورة من الشارع الجانبي بجوار المستشفى … وكان السائق يظن أن طريق الكورنيش خالٍ في هذه الساعة … لهذا لم ينظر إلى ناحية اليسار؛ ليتأكَّد من خلو الطريق … وفي هذه اللحظة نفسها كانت سيارة ملَّاكي قادمةً بسرعة كبيرة في الاتجاه نفسه، فاصطدمت بالسيارة النقل، وانقلبت وتحطَّمت! …

كان «تختخ» يُتابع حديث المفتش باهتمامٍ بالغ … خاصةً بعد أن جاء ذِكر «المعادي» في الحديث، وهو مع بقية المغامرين … يعتبرون كل ما يحدث في «المعادي» من اختصاصهم.

ومضى المفتش يقول: وتوقَّفت سيارة النقل … ونزل السائق ومُساعده، ووجدا أن راكب السيارة الملَّاكي مصاب ومغمًى عليه … فقاما بنقله إلى المستشفى …

وتنهَّد المفتش وهو يقول: وقام الأطباء بإسعافه، ووضعوه في غرفة خاصة … وتمَّ إخطار الشرطة للتحقيق في الحادث … وقد وجدوا أن المصاب قد سقطت منه بعض الأشياء فجمعوها لتسليمها له … ولكن المفاجأة تمَّت عندما أقبل رجال الشرطة، وذهبوا لاستجواب المصاب … فوجئوا بأنه قد غادر غرفته واختفى … برغم أن الأطباء قالوا إن إصاباته خطيرة.

ونظر المفتش إلى «تختخ» وقال: واضح جدًّا أن الرجل قد هرب خوفًا من شيء … وعندما تمَّ فحص الأشياء التي سقطت منه، وجدنا مجموعةً من الأفلام الدقيقة جدًّا، قمنا بطبعها … فإذا بأجزاءٍ من مشروع الجهاز الفضائي موجودة فيه … وهكذا عرفنا لماذا هرب السائق برغم إصاباته؛ لقد خشي من القبض عليه … بتهمة التجسُّس والكشف عن الشبكة التي يعمل لحسابها …

وقد قمنا فورًا بإجراءات أمن حول خبراء المعمل من الأجانب والمصريين، ولكن جهودنا للكشف عن اتصال أيٍّ منهم بالرجل المصاب لم تُسفر عن شيء …

تختخ: ألم يترك الرجل المصاب خلفه أدلةً يمكن أن تُؤدِّي إلى الكشف عن شخصيته؟

المفتش: وجدنا بعض أشياء لا أهمية لها … منها «بايب» مكسور به آثار تبغ من نوع «الأمفورا»، وهو نوع شائع الاستعمال … وعلبة كبريت ممَّا تُوزِّعه شركات السجائر العالمية، ماركة «كِنت» … ومطواة صغيرة متعدِّدة الأسلحة من طرازٍ نادر … ولا شيء آخر.

تختخ: والسيارة؟

المفتش: السيارة ماركة «مرسيدس»، مُؤجَّرة من أحد محلَّات السيارات، باسم «كريم سليمان» ببطاقة مزوَّرة!

تختخ: إذن فقد أخفى آثاره جيدًا.

المفتش: برغم ضآلة ما تركه من أدلة … فإننا نُحاول البحث عنه في خِضَم البشر في القاهرة.

تختخ: وما المطلوب مني … أو من المغامرين الخمسة؟

فكَّر المفتش لحظات، ثم قال: مُهمَّة سخيفة، ولكنها حيوية جدًّا … فسوف يعمل واحدٌ منكم خادمًا عند أحد الخبراء الأجانب … إنه يبحث عن خادم … وقد حاولنا أن نَدُس أحد رجالنا عليه، ولكنه يطلب من مكتب التخديم أن يكون الخادم صغير السن … وهذا ما جعلنا نشك فيه … فهذا يعني أنه خائف من شيء … أو شديد الحذر … فلماذا؟

لا بد أن عنده شيئًا يُخفيه، ولعله يكون الجاسوس الذي نبحث عنه … فما رأيك … هل تقوم بهذا العمل؟

إنكَ الوحيد الذي خطر ببالي … فأنت تعرف الكثير عن الأساليب البوليسية … وفي إمكانك أن تحصل لنا على معلوماتٍ وافرةٍ عن هذا الرجل.

ردَّ «تختخ»: بالطبع سوف أقوم بهذا الدور … وهناك أسباب قوية للقيام به … أولًا: خدمة للوطن … ثانيًا: حبي لحل الألغاز المستعصية … ثالثًا: كصديق لك.

قال المفتش مبتهجًا: أشكرك كثيرًا يا «توفيق». لقد كنتُ واثقًا أنكَ ستقبل القيام بهذا الدور.

تختخ: وما الترتيبات؟

المفتش: تُغيِّر ثيابك الأنيقة … تتمرَّن على عمل الخادم.

تختخ: ذلك شيء يمكن عمله فورًا.

المفتش: عليك إذن أن تذهب لمكتب «الوفاء» للتخديم … وقد اتفقنا مع صاحبه على ترشيحك للعمل عند الخبير الأجنبي.

تختخ: وأين يسكن؟

المفتش: في «المعادي» طبعًا … إن أكثر الخبراء يُفضِّلون السكن هناك … خاصةً أن مشروع تطوير الجهاز الذي حدَّثتك عنه في صحراء «المعادي» أيضًا.

تختخ: اتفقنا.

المفتش: لن أُعطيك أية أجهزة للتصنُّت … أو التسجيل … فهو خبير لا مثيل له في هذه الأجهزة … وأي نوعٍ منها سوف يكتشفه فورًا … لهذا فإنني أُفضِّل أن نعتمد على ذكائك ويقظتك.

تختخ: ما نوع المعلومات التي تُريدها؟

المفتش: أي شيء يمكن أن يُؤكِّد، أو ينفي صلته بموضوع التجسُّس على المشروع.

إن المسألة هامة جدًّا … وإنني أعتمد عليكَ كل الاعتماد.

وتصافح الصديقان، وخرج «تختخ» إلى الشارع وهو يُفكِّر في مُهمَّته القادمة … إنها أول مُهمَّة من نوعها في حياته … وأَمْن الوطن وسلامته أمانة في عنقه، يُريد أن يُؤدِّيها على أفضل وجه … واستقلَّ القطارَ عائدًا إلى منزله، وبعد ساعة كان قد تحوَّل إلى ولد آخر … إلى خادم صغير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤