عندما تُصبح المغامرة … خطأ

جلس الصديقان «تختخ» و«محب»، وأخذ «تختخ» يروي لصديقه القصة كاملة … كيف كلَّفه المفتش «سامي» بالمهمَّة … كيف تنكَّر وعمل عند «مايزر» … كيف استطاع مراقبة كلِّ ما يدور حوله … انطباعه الغريب في أسلوب «مايزر»؛ في الأكل … وأحيانًا في المشي.

واستمع «محب» بانتباه شديد لتفاصيل محاولة «تختخ» الحصول على سلسلة مفاتيح «مايزر» والنافذة التي تركها مفتوحة … ثم خوفه من أن يكون «مايزر» قد شكَّ فيه … وأنه قد يهرب في أية لحظة. ثم اختتم «تختخ» حديثه سائلًا «محب»: ما رأيكَ في هذا كله؟

ردَّ «محب»: الحقيقة أن الموقف خطير جدًّا … وقد يكون أي خطأ فيه نهاية لكل هذه المغامرة المثيرة … لهذا فإنني أُفضِّل أن ننتظر وصول المفتش غدًا، ونترك له حرية القرار. إنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يُقرِّر!

ساد الصمت بين المغامرَين … وانعزل كلٌّ منهما عن الآخر، كأنهما يجلسان في غرفتَين منفصلتَين؛ فقد كان القرار صعبًا حقًّا … وفجأةً قطع «تختخ» حبلَ الصمت قائلًا: ما رأيكَ لو ذهبنا معًا ليلًا، ودخلنا من النافذة المفتوحة؟

إنني متأكِّد أن «مايزر» سيفعل شيئًا الليلة … وإلا ما فكَّر في إبعادي.

محب: إنكَ في محاولة إنجاز المهمَّة التي أُوكلَت إليك على استعدادٍ لأن تفعل أي شيء … ولكن هذا خطير جدًّا يا «توفيق».

تختخ: لعلك تخشى شيئًا؟

محب: إنك تعرف أنني لا أخشى أي شيء … بل إنني … كما تصفونني عادة … أكثر المغامرين اندفاعًا … ولكني في الحقيقة أخاف عليكَ أنت، خاصةً إذا كان «مايزر» يشك فيك فعلًا … فهذا معناه أنه سيُفتش الفيلا جيدًا بعد خروجك … وأنه قد يعثر على النافذة المفتوحة، فمثل هذه الحيلة لا تدخل عليه … ومعناه أنكَ ستذهب لتجده في انتظارك!

مدَّ «تختخ» يده وربت رأس صديقه، وقال: معذرةً يا «محب» … لعلني فعلًا مندفع وراء رغبتي في إنهاء المغامرة، وقد أرتكب أخطاءً قاتلة.

محب: إذن من الأفضل أن ننتظر المفتش غدًا … وتروي له قصة سلسلة المفاتيح، والغرفة المغلقة … وسوف يُحاصر المكان، ويمكنه القبض على «مايزر» في لحظات.

تختخ: اتفقنا.

محب: إذن أتركك الآن لتنام، وغدًا صباحًا نلتقي في الحديقة مع المفتش لنرى ما يجب عمله.

•••

انصرف «محب»، ونظر «تختخ» إلى ساعته، كانت تُشير إلى التاسعة، وكان متعبًا، فتمدَّد في الفراش، وسرعان ما استسلم لنومٍ عميق … ولكن بعد ست ساعات بالضبط؛ أي في الثالثة صباحًا … استيقظ «تختخ» فجأةً على أثر حلم مزعج … ونظر إلى ساعته، ثم جلس في فراشه، وأخذ يُحاول استعادة الحلم من جديد … ولكن لم يستطِع أن يتذكَّر منه إلا القليل.

جلس هادئًا دقائق، ثم تمدَّد مرةً أخرى لينام … ولكن النوم طار من عينَيه، وأخذ يتقلَّب في فراشه … كانت فكرة الذهاب إلى فيلا «مايزر» ورؤية ما يحدث هناك، تُسيطر على عقله تمامًا … وعبثًا حاول أن يطردها، وفجأةً سمع صوت نباح «زنجر»، لقد نساه تمامًا في هذه المغامرة، ومن غير أن يُفكِّر لحظةً واحدة، قفز من فراشه وأخذ يرتدي ثيابه …

كان يلبس بسرعةٍ كأنه محموم … وفي دقائق كان في الحديقة … ووجد «زنجر» بجواره يزوم.

قال «تختخ»: أعرف أنكَ زعلان مني.

زام «زنجر» كأنه يقول نعم.

تختخ: ليس لك دور في هذه المغامرة يا «زنجر».

وكأنما لم تُعجب هذه الملاحظة «زنجر» … فأخذ يزوم مرةً أخرى بشدة …

وقال «تختخ» لنفسه: … يبدو أنه يُصرُّ أن يأتي معي …

ذهب إلى طرف الحديقة، وأخرج درَّاجته من الكشك الصغير … وقفز عليها، ودون أي دعوة منه قفز «زنجر» في السلة الخلفية كعادته … وهزَّ «تختخ» رأسه وانطلق … كان يعرف أنه يُخالف اتفاقه مع «محب»، ويعرف أنه يُخالف تعليمات المفتش «سامي» … ولكن دافع المغامرة القوي في داخله حرَّك ساقَيه. واندفعت الدرَّاجة في طرقات «المعادي» الخالية.

كان القمر في آخر أيامه … يُشبه شقةً من البطيخ الأبيض، في سماء سوداء … ومضى «تختخ» وخلفه «زنجر»، وبعد ربع ساعة كان يقف قريبًا من الفيلا … ونزل … وترك درَّاجته بجوار سور تُغَطِّيه الأعشاب بعد أن أخفاها جيدًا … ثم تقدَّم بهدوء من فيلا «مايزر» …

كانت الفيلا غارقةً في الظلام … والصمت يلف المكان، وأحسَّ «تختخ» أنه أخطأ خطأً فاحشًا بحضوره في هذه الساعة … كان عقله يدفعه للعودة، وكانت قدماه تحملانه إلى الفيلا، واقترب من السور … ومن الشجرة العتيقة التي تتدلَّى أفرعها خارج السور … وبرغم سمنته، قفز بخفة وأمسك بأحد الأغصان … ثم تدلَّى لحظات، واستجمع قوته، وهزَّ قدمَيه بشدة، ثم طوَّحهما إلى غصن أعلى … وأخذ يشد نفسه إلى فوق، حتى استوى على الغصن القوي، وأخذ يزحف … واقترب من السور، سور عريض كأنه سور قلعة قديمة، ومشى على السور حتى اقترب من النافذة التي تركها مفتوحة … وأصاخ السمع … كان كل شيء هادئًا تمامًا، وأمسك بأحد الأفرع، ثم تدلَّى إلى الناحية الثانية … واقترب من النافذة في حذر، وأمسك بضلفة الخشب الخارجية، وجذبها بهدوء … ولكن الخشب القديم أصدر صوتًا، خُيِّل ﻟ «تختخ» أن قنبلةً انفجرت بجوار أذنَيه مباشرة … واستلقى على الأرض … وأخذ يُصيخ السمع، وأخذ قلبه يدق بسرعة، ولكن شيئًا آخر لم يحدث …

ماذا يفعل الآن؟ … هل يستمر أو يعود؟ … ومرةً أخرى تحَّركت ذراعاه بالرغم عن عقله … ومدَّ يده ودفع الزجاج … وفي هذه المرة لم يصدر سوى صوت ضئيل، وانتظر لحظات … ثم قفز إلى حافة النافذة، ونزل بساقه إلى الداخل … ثم ساقه الثانية، ووجد نفسه في غرفة الطعام، وكان الصمت يلف المكان.

كان يعرف مكان كلِّ شيء … واستطاع برغم الظلام أن يمشي بهدوء وبثقة، حتى وصل إلى الدهليز الذي تقع فيه غرفته، وأخرج مصباحه الصغير، وأرسل شعاعًا رفيعًا من الضوء على الدهليز … ودار بالشعاع حتى وقع على باب الغرفة المغلقة، وتسارعت دقَّات قلبه … كانت سلسلة المفاتيح هناك، ومعنى هذا أن «مايزر» في داخل الغرفة.

خطا بهدوء حتى أصبح أمام الباب، ووضع أذنه وأصاخ السمع … لم يكن هناك أي صوت … ومدَّ يده إلى المفتاح وأداره، ثم بمنتهى الهدوء دفع باب الغرفة ونظر.

ودارت الدنيا أمام عينَيه … كانت الغرفة فارغة، فارغة تمامًا ليس بها أي شيء سوى ضوء ضئيل جدًّا يصدر من جانب الغرفة … دخل بهدوء وأدار ضوء بطَّاريته الصغير في أرجاء الغرفة … ومرةً أخرى لم يجِد أي شيء … مجرَّد جدران عادية، قد غطَّتها شرائح من ورق قديم، يتدلَّى هنا وهناك.

دارت بذهنه عشرات الخواطر … هل يدخل «مايزر» هذه الغرفة ليجلس على الأرض مثلًا؟ … هل هي خلوة شاعرية؟ ليس بالغرفة حتى كرسي واحد … لا شيء على الإطلاق … إذن ماذا وراء هذه الجدران؟

مضى يتحسَّس الجدران العارية، ويدور عليها بأصابعه في خفة، ويستمع إلى صدى الصوت … وكما توقَّع بالضبط، في الجدار المواجه للباب تمامًا، كان الصوت أجوف … ودقَّ مرةً أخرى … وتأكَّد أن ثمَّة شيئًا في هذا الجدار … وأخذت أصابعه تتحسَّس الجدار في مختلِف أنحائه … ثم فكَّر … إذا كان هناك باب في هذه الجدران، باب سري … فمن المنطقي أن يكون مقابل الباب الآخر. وهكذا ركَّز جهده على هذه المنطقة من الجدار، وأخذ يبحث ويبحث، وسرعان ما عثر على ما كان يبحث عنه خلف شرائح الورق القديمة المتدلية، تحسَّست أصابعه بروازًا صغيرًا يُشبه مقبضًا في حجم الإصبع الصغير، مخفًى بمهارة في تجويف بالجدار … وأدار المقبض الصغير، وإذا بجزء من الجدار يدور حول نفسه، وينفتح على ظلام شديد …

وتذكَّر «تختخ» على الفور أن جدار الفيلا الضخم يُجاور هذا الجزء من الفيلا تمامًا … فهو إذن في قلب جدار الفيلا القديم الضخم. وأضاء بطاريته الصغيرة، وأدار شعاعها … وتأكَّد أنه في قلب الجدار … فقد كانت الأحجار الضخمة في مواجهته تمامًا … وقد بلَّلتها المياه المتسرِّبة من الحديقة، وظهرت فيها بعض المزروعات الرفيعة …

خطا «تختخ» داخل الجدار المجوَّف … ثم مضى يمشي يسارًا … نسي كلَّ المخاطر التي يتعرَّض لها من هذه المغامرة، ومشى على أرض مبلَّلة بالنشع … ورائحة الرطوبة والعفونة تملأ المكان … وظلَّ يمشي مع السور وهو ينحني يسارًا أكثر فأكثر حتى اقترب من نهايته … وأدرك أنه الآن قريب من الكوخ القديم في الحديقة …

وبدا له فجأةً كل شيء واضحًا … إن «مايزر» يدخل من الغرفة المغلقة، ثم يمشي في تجويف الجدار حتى يصل إلى الكوخ … وهناك … ماذا هناك؟! …

إن السر كلَّه في ذلك الكوخ … وتقدَّم خطوةً أخرى، وفجأةً أضاء تجويف الجدار، ضوء وهَّاج أعشى عينَي «تختخ»، حتى إنه وضع يدَيه … ليحجب عنه ذلك الضوء الشديد … وسمع صوتًا يقول: أنت!

كان صوت «مايزر» … ومضى «مايزر» يقول: تقدَّم ولا تُحاول أن تجري … إنني أستطيع أن أقتلك بطلقة واحدة.

أنزل «تختخ» يدَيه، ثم تقدَّم كما طلب منه «مايزر»، حتى وجد نفسه أمام باب تجاوزه … فوجد نفسه دون أدنى شكٍّ في الكوخ القديم.

إذن «مايزر» يدخل من باب الغرفة المغلقة … ثم يدخل من الباب السري في الجدار، ثم يمر داخل تجويف الجدار ليصل إلى الكوخ … ونظر «تختخ» حوله، ووجد رجلًا تُغطِّيه الضمادات … إنه جريح.

وتذكَّر «تختخ» الرجلَ الذي جُرح في الحادث … الرجل الذي وُجِدت معه الأفلام السرية … إذن ﻓ «مايزر» هو الجاسوس، ولكن جاسوسًا يمسك بيده مسدسًا ضخمًا، يمكن أن ينسفه في لحظات … وأحسَّ باليأس يتسرَّب إلى قلبه …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤