فاتحة

«الإنجيل» بالمعنى اليوناني الأصلي لهذه الكلمة: «إيفانجليون»، يعني «البشارة». وهو نوعٌ من الأدب الدينيِّ الذي يقصُّ عن حياة يسوع المسيح وتعاليمه وأقواله، ثم موته وبعثه. ولدينا أربعة أناجيل أقرَّتها الكنيسة الرسمية في أواخر القرن الثاني الميلادي، وضمَّتها إلى أول كتالوج رسميٍّ للكتاب المقدس المسيحي المدعو بالعهد الجديد، وهي:
  • (١)

    إنجيل متَّى.

  • (٢)

    إنجيل مرقس.

  • (٣)

    إنجيل لوقا.

  • (٤)

    إنجيل يوحنا.

وقد دُوِّنت هذه الأناجيل باللغة اليونانية في الفترة ما بين ٧٠–١١٠ للميلاد. إلى جانب الأناجيل الأربعة، فإنَّ الكتاب المقدس المسيحي يحتوي على عددٍ آخر من الأسفار، وهي:
  • أعمال الرسل المعزو تدوينه إلى لوقا.

  • رسائل بولس الرسول.

  • رسالة يعقوب.

  • رسالتان لبطرس.

  • ثلاث رسائل ليوحنا.

  • رسالة يهوذا.

  • رؤيا يوحنا.

إلى جانب هذه الأسفار التي اعتُبرت قانونية ومكتوبة بإلهام من الرُّوح القدس، هنالك عدد من الأناجيل التي لم تقرَّها الكنيسة الرسمية، واعتبرتها منحولة، أي منسوبة زورًا إلى أسماء شخصيات بارزةٍ في العهد الجديد، مثل: إنجيل يعقوب، ومنحول متَّى، والإنجيل العربي، وإنجيل توما الإسرائيلي، وتاريخ يوسف النجار، ومعظم هذه الأناجيل يهتم بتاريخ أسرة مريم وطفولتها وحياتها السابقة، وميلاد يسوع وطفولته، وما إلى ذلك من المواضيع التي لم تأخذ حظًّا وافرًا من عناية مؤلفي الأناجيل الرسمية.

وعلى الرغم من أنَّ هذه الأناجيل قد بقيت على هامش الأسفار الرسمية للعهد الجديد، إلا أنَّها كانت متداولة على نطاقٍ واسعٍ، وأدَّت دورًا مهمًّا في تزويد الخيال الشعبي والتقوى المسيحية بمادةٍ غنيةٍ. كما أمدَّت الفن التشكيلي بكثير من العناصر والأفكار التي بقي يُعالجها وصولًا إلى العصور الحديثة، وذلك مثل ميلاد العذراء، وتقديمها إلى الهيكل، ومغارة الميلاد، وبشارة الملاك لمريم وهي جالسةٌ تنسج حجاب الهيكل. كما قدمت مادةً غنيةً للموسيقى والتراتيل الكنسية، وصارت بعض أحداثها مناسبات دينية احتفالية، مثل عيد صعود السيدة العذراء.

في مطلع القرن السابع للميلاد، عند ظهور الإسلام، كان العَالم المسيحي غارقًا في الأناجيل المنحولة، ولم تكن الكنيسة المركزية قد أفلحت تمامًا في تنميط المعتقد المسيحي والقضاء على ما أسمته بالهرطقات التي كانت تحمل أفكارًا ورؤى لا تنسجم من قرارات المجامع المسكونية المتتالية منذ مجمع نيقية عام ٣٢٥م.

أي إنَّ القرآن قد أُنزل في مناخٍ ثقافيٍّ مشحون بالجدال بين المسيحيين واليهود من جهة، وبين المسيحية والوثنية من جهةٍ ثانية، وبين الفرق المسيحية المتناحرة من جهة ثالثة. وقد أدلى القرآن الكريم بدلوه في خضم هذا الجدال السائد، وقدم روايته الخاصة ومنظوره الأيديولوجي الخاص فيما يتعلق بطبيعة يسوع وميلاده وحياته وأقواله وتعاليمه. وهذه الرواية تُشكِّل في حدِّ ذاتها إنجيلًا يمكن إضافته إلى الأناجيل غير القانونية، إنه الإنجيل برواية القرآن.

سنقوم في هذا الكتاب بإجراء مقارنةٍ شاملةٍ بين ما جاءت به الرواية القرآنية من معلومات وأفكار، وبين الأناجيل القانونية الأربعة وبقية أسفار العهد الجديد، إضافة إلى الأناجيل المنحولة، لأنَّ الرواية القرآنية تحتوي على مادةٍ غنيةٍ شبيهة بمادة الأناجيل المنحولة وغائبة عن الأناجيل القانونية. والهدف من وراء ذلك هو إظهار مدى التشابك والتشابه بين الرواية الإنجيلية بشقيها والرواية القرآنية؛ الأمر الذي يجعل الرواية القرآنية أشبه برواية تقوم على جدلٍ مسيحيٍّ داخلي، لا على جدل بين ديانتين مختلفتين. كما سنقوم عبر ثنايا الكتاب بإجراء مقارنةٍ بين اللاهوت المسيحي الذي نسجته — ببطء وعبر عدة قرون — قرارات المجامع المسكونية، وبين لاهوت القرآن الكريم كما يتجلَّى في جدله المطروح مع أهل الكتاب، متعرضين إلى أكثر النقاط حساسيةً وإثارة للجدل بين الفريقين، مثل مفهوم ابن الله، ومفهوم الثالوث الأقدس، لنتوصل إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ الهوة اللاهوتية بين الطرفين ليست على الدرجة التي نظنها من الاتساع، بعد أن ركَّز كلاهما، وطوال قرونٍ مديدةٍ، على نقاط الاختلاف أكثر من تركيزهم على نقاط التلاقي.

لقد أردت لهذه الدراسة أن تكون نموذجًا في مقارنة الأديان، ووضعت نفسي على مسافةٍ متساويةٍ من كلا الطرفين؛ أي إنني لم أقصد إلى الجدل ولا إلى التبشير بأي من المعتقدين، أو إلباس أحدهما لبوس الحق والآخر لبوس الباطل.

إن جُلَّ ما أوردته هو عرض ما يؤمن به المسيحيون والمسلمون فيما يخصُّ عيسى — عليه السلام — وتسليط الضوء على القواسم المشتركة بينهم، وهي أكثر بكثير مما يتوقع الطرفان. وكما سيكتشف القارئ تدريجيًّا، فإنَّ التعابير والمصطلحات المختلفة من حيث الشكل، غالبًا ما تُخفي وراءها اتفاقًا في المضمون. على أنني في التركيز على نقاط الالتقاء لا أدَّعي وجود تلاقٍ كاملٍ فيما يخصُّ كل المفاهيم، فالاختلاف موجودٌ، والحوار وحده كفيل بإظهار الاختلافات الحقيقية، وفرزها عن الاختلافات الوهمية النابعة من سوء فهم كل طرف للآخر. فنحن كلما ازددنا معرفة بالمعتقد الآخر ازددنا له احترامًا، مثلما ازددنا فهمًا لمعتقدنا الخاص واحترامًا له. كما إنَّ الحوار وحده كفيلٌ بتحويل الكثير من نقاط الاختلاف الفعلية إلى مجرد اختلافاتٍ شكليةٍ.

فإذا استطاع هذا الكتاب أن يُبدد بعضًا من سوء التفاهم بين الطرفين، يكون قد أدَّى الغرض منه، لأنَّ سوء التفاهم هذا ينذرنا اليوم بكارثةٍ على مستوى العالم؛ يُهيئ لها ويغذيها الحرفيون من كلا العقيدتين.

فراس السواح
حمص، كانون الثاني/يناير ٢٠١١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤