مدخل إلى «العهد الجديد»

(١) في الأناجيل الأربعة

لم يترك يسوع أثرًا مكتوبًا، بل تعاليم شفوية وسيرة حياة. وكانت الجماعات المسيحية الأولى تتناقل أقواله وأعماله وسيرة حياته، كما وصلت إليها عن طريق تلامذته المباشرين ممن رافقوه في مسيرته التبشيرية. وفي الحقيقة فإنَّ الأناجيل التي نعرفها اليوم لم تكن الأثر الأول المكتوب الذي كان المسيحيون الأوائل يعملون بهَدْيه، فقد سبقتها رسائل بولس الرسول التي ظهرت تِباعًا فيما بين عام ٥١ وعام ٦٧م. وهو العام الذي استشهد فيه بمدينة روما أثناء موجة الاضطهاد الواسعة ضد المسيحيين في أيام الإمبراطور نيرون. ولكن رسائل بولس نفسها لم تحتوِ على أي شيءٍ فيما يخصُّ سيرة حياة يسوع المسيح أو أعماله وأقواله ومعجزاته. وتعاليم بولس تبتدئ من يسوع القائم من بين الأموات ربًّا ومخلِّصًا، وتنتهي عنده. فهو لم يُشر بكلمةٍ واحدةٍ إلى السيدة مريم العذراء، ولا إلى ميلاد يسوع الإعجازي، ولا إلى كرازته١ التي ابتدأت بعد هبوط الروح القدس عليه عقب معموديته بماء الأردن على يد يوحنا المعمدان، ولا إلى الأحداث التي قادت إلى محاكمته وصلبه. وهذا يعني أن أربعين سنة أو نحوها قد انقضت على وفاة يسوع دون أن يكون لدى الكنيسة وثيقةٌ معتمدة فيما يخص يسوع التاريخي، وإنما مجموعة رسائل ذات طابعٍ لاهوتيٍّ يتركَّز موضوعها الأساسي لا على حياة يسوع، وإنَّما على الآثار الخلاصية لصلبه وموته وقيامته.

وعندما مات معظم أفراد الجيل الذي سمع عن يسوع مباشرة أو سمع من تلامذة يسوع، حاملين معهم ذكرياتهم وانطباعاتهم المباشرة، طفت على السطح الخلافات والتناقضات داخل الكنيسة الأولى، وبدت الحاجة ماسةً إلى تدوين سيرة يسوع وتعاليمه، وذلك بهدف تثبيت المعتقد المسيحي من جهة، أو توكيد وجهة نظر هذه الجماعة أو تلك. وهكذا ظهرت على التتابع الأناجيل الأربعة التي عُزيت إما إلى شخصيات من العصر الرسولي؛ مثل مرقس ولوقا، أو إلى تلاميذ مباشرين ليسوع مثل متَّى ويوحنا. وجميع هذه الأناجيل دوِّنت باللغة اليونانية التي كانت لغة الثقافة في ذلك العصر.

هناك شبه إجماع بين الباحثين في العهد الجديد اليوم على أن إنجيل مرقس هو أقدم الأناجيل، وأنَّه دُوِّن نحو عام ٧٠م. وعلى الرغم من أنَّ مرقس لم يكن أحد رسل يسوع الاثني عشر، ولا من الذين رأوه أو سمعوا منه، إلا أن سفر أعمال الرسل يذكر أنَّه قد رافق كُلًّا من بولس وبطرس. يليه إنجيل متَّى وإنجيل لوقا اللذان دُوِّنا بين عامي ٧٠ و٩٠م. ومن المفترض أنَّ صاحب إنجيل متَّى هو متَّى العشار٢ أحد رسل يسوع الاثني عشر. أما صاحب إنجيل لوقا، فمن المفترض أنَّه مرافق بولس الرسول الذي وصفه في رسالته إلى أهالي كولوسي بأنَّه الطبيب الحبيب (كولوسي، ٤: ١٤)، ووصفه في الرسالة إلى فليمون «بالعامل معي» (فليمون، ٢٤). أما إنجيل يوحنا، فقد دُوِّن بين عامي ١٠٠ و١١٠م، ومن المفترض أنَّ صاحبه هو التلميذ يوحنا، الشاب الذي كان يسوع يحبه، والذي اتكأ على صدره في جلسة العشاء الأخير (يوحنا، ١٣: ٢٣–٢٥).
تُدعَى الأناجيل الثلاثة الأُوَل: متَّى ومرقس ولوقا، بالأناجيل المتشابهة، لأنَّها تعكس وجهة نظرٍ موحدةٍ تقريبًا فيما يخصُّ يسوع ورسالته؛ كما تُدعى بالإزائية (Synoptic)؛ لأنَّ القصة فيها تسير عبر مفاصل رئيسية متقابلة، بحيث نستطيع المقارنة بينها عند وضعها إزاء بعضها في أعمدة ثلاثة. وإليكم مثال على ذلك:
مرقس، ٩: ٣٠–٣١ متَّى، ١٧: ٢٢–٢٣ لوقا، ٩: ٤٣–٤٤
وخرجوا من هناك واجتازوا الجليل ولم يُرد أن يعلَم أحد؛ لأنَّه كان يُعلِّم تلاميذه ويقول لهم: إنَّ ابن الإنسان يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يُقتل يقوم في اليوم الثالث. وفيما هم يترددون في الجليل قال لهم يسوع: «ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس فيقتلونه وفي اليوم الثالث يقوم.» وإذا كان الجميع يتعجبون من كل ما فعل يسوع قال لتلاميذه: «ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم: إن ابن الإنسان سوف يُسلَّم إلى أيدي الناس.»
وقد لاحظ الباحثون أنَّ المادة التي قدمها مرقس تشكل قاسمًا مشتركًا بين متَّى ولوقا، عالجها كل منهم على هذه الدرجة أو تلك من الإطالة والتفصيل. وعندما يختلف الاثنان عن مرقس فإنَّهما لا يتفقان معًا ضده. وهذا ما دعا الباحثين إلى الاستنتاج بأنَّ إنجيل مرقس هو تأليفٌ أصليٌّ مستقل، اعتمده كل من متَّى ولوقا في نظم مادته بشكلٍ خاص به. ولكن هذين الإنجيلين يحتويان على مادةٍ غير موجودة عند مرقس ومشتركة بينهما في معظم الحالات، رتَّبها كلٌّ منهما بشكل مختلف عن الآخر، وهي تتعلق بأقوال يسوع وتعاليمه لا بأحداث حياته. ومن دراسة هذه المادة وفرزها تشكَّلت نظرية «المصدر الآخر» التي تقول: إنَّ متَّى ولوقا اعتمدا إلى جانب إنجيل مرقس مصدرًا ثانيًا يضمُّ بين دفتيه مجموعة من أقوال يسوع، تشبه مجموعة الأقوال الواردة في إنجيل متَّى المنحول، الذي جمع فيه المؤلف ١١٤ قولًا ليسوع من غير ربطها بسيرة حياةٍ مُطَّردة. وقد درج أنصار هذه النظرية على الإشارة إلى هذا المصدر بالحرف Q، وهو الحرف الأول من الكلمة الألمانية Quella التي تعني المصدر، لأنَّ الباحثين الألمان كانوا أول من انتبه إلى هذه الظاهرة ودرسوها بعنايةٍ.

إنَّ الكلمات التي استخدمها مؤلفو الأناجيل الثلاثة في بناء الجمل التي تصف حادثةً معينةً، تتشابه إلى درجة تجعل من المُحال علينا أن نتصوَّر أنَّ كل مؤلف كان يعمل بشكلٍ مستقلٍّ. والمثال التالي من قصة شفاء يسوع للمفلوج (المُقعَد) يوضح ما نرمي إليه:

(١-١) إنجيل مرقس (٢: ٣–١٢)

«وَجَاءُوا إِلَيْهِ مُقَدِّمِينَ مَفْلُوجًا يَحْمِلُهُ أَرْبَعَةٌ. * وَإِذْ لَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَقْتَرِبُوا إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ الْجَمْعِ، كَشَفُوا السَّقْفَ حَيْثُ كَانَ. وَبَعْدَ مَا نَقَبُوهُ دَلَّوُا السَّرِيرَ الَّذِي كَانَ الْمَفْلُوجُ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ. * فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «يَا بُنَيَّ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * وَكَانَ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ هُنَاكَ جَالِسِينَ يُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ: * «لِمَاذَا يَتَكَلَّمُ هذَا هكَذَا بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟» * فَلِلْوَقْتِ شَعَرَ يَسُوعُ بِرُوحِهِ أَنَّهُمْ يُفَكِّرُونَ هكَذَا فِي أَنْفُسِهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِهذَا فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ لِلْمَفْلُوجِ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.» ثُمَّ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: * «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ سَرِيرَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَقَامَ لِلْوَقْتِ وَحَمَلَ السَّرِيرَ وَخَرَجَ قُدَّامَ الْكُلِّ، حَتَّى بُهِتَ الْجَمِيعُ وَمَجَّدُوا اللهَ قَائِلِينَ: «مَا رَأَيْنَا مِثْلَ هذَا قَطُّ!»

(١-٢) إنجيل متَّى «٩: ٢–٨»

«وَإِذَا مَفْلُوجٌ يُقَدِّمُونَهُ إِلَيْهِ مَطْرُوحًا عَلَى فِرَاشٍ. فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ إِيمَانَهُمْ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «ثِقْ يَا بُنَيَّ. مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * وَإِذَا قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَدْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: «هذَا يُجَدِّفُ!» * فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، فَقَالَ: «لِمَاذَا تُفَكِّرُونَ بِالشَّرِّ فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ، أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا.» حِينَئِذٍ قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «قُمِ احْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَقَامَ وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ. * فَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعُ تَعَجَّبُوا وَمَجَّدُوا اللهَ الَّذِي أَعْطَى النَّاسَ سُلْطَانًا مِثْلَ هذَا.»

(١-٣) إنجيل لوقا (٥: ١٧–٢٦)

«وَفِي أَحَدِ الأَيَّامِ كَانَ يُعَلِّمُ، وَكَانَ فَرِّيسِيُّونَ وَمُعَلِّمُونَ لِلنَّامُوسِ جَالِسِينَ وَهُمْ قَدْ أَتَوْا مِنْ كُلِّ قَرْيَةٍ؛ مِنَ الْجَلِيلِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَأُورُشَلِيمَ. وَكَانَتْ قُوَّةُ الرَّبِّ لِشِفَائِهِمْ. * وَإِذَا بِرِجَال يَحْمِلُونَ عَلَى فِرَاشٍ إِنْسَانًا مَفْلُوجًا، وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَدْخُلُوا بِهِ وَيَضَعُوهُ أَمَامَهُ. * وَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُونَ بِهِ لِسَبَبِ الْجَمْعِ، صَعِدُوا عَلَى السَّطْحِ وَدَلَّوْهُ مَعَ الْفِرَاشِ مِنْ بَيْنِ الآجُرِّ إِلَى الْوَسْطِ قُدَّامَ يَسُوعَ. * فَلَمَّا رَأَى إِيمَانَهُمْ قَالَ لَهُ: «أَيُّهَا الإِنْسَانُ، مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ.» * فَابْتَدَأَ الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ يُفَكِّرُونَ قَائِلِينَ: «مَنْ هذَا الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِتَجَادِيفَ؟ مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَغْفِرَ خَطَايَا إلَّا اللهُ وَحْدَهُ؟» * فَشَعَرَ يَسُوعُ بِأَفْكَارِهِمْ، وَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «مَاذَا تُفَكِّرُونَ فِي قُلُوبِكُمْ؟ * أَيُّمَا أَيْسَرُ: أَنْ يُقَالَ: مَغْفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ، أَمْ أَنْ يُقَالَ: قُمْ وَامْشِ؟ * وَلكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنَّ لابْنِ الإِنْسَانِ سُلْطَانًا عَلَى الأَرْضِ أَنْ يَغْفِرَ الْخَطَايَا»، قَالَ لِلْمَفْلُوجِ: «لَكَ أَقُولُ: قُمْ وَاحْمِلْ فِرَاشَكَ وَاذْهَبْ إِلَى بَيْتِكَ!» * فَفِي الْحَالِ قَامَ أَمَامَهُمْ، وَحَمَلَ مَا كَانَ مُضْطَجِعًا عَلَيْهِ، وَمَضَى إِلَى بَيْتِهِ وَهُوَ يُمَجِّدُ اللهَ. * فَأَخَذَتِ الْجَمِيعَ حَيْرَةٌ وَمَجَّدُوا اللهَ، وَامْتَلَئُوا خَوْفًا قَائِلِينَ: «إِنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا الْيَوْمَ عَجَائِبَ!»»

من مقارنة هذه المقاطع الثلاثة، نُلاحظ أنَّ متَّى قد حذف في القصة الجزء المتعلِّق بصعود حاملي المفلوج إلى السقف وإدلائهم له بعد إزاحة قطع الآجر، بينما أبقى لوقا على هذا الجزء. ولكن كما هو الحال في كل قصةٍ أخرى، فإنَّ الاثنين لم يتفقا على تفصيلٍ لا يَرد عند مرقس. أما يوحنا، فعلى عادته في إغفال ذكر معظم معجزات يسوع الشفائية، فإنَّه لم يتعرض لهذه القصة. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ هنا: لماذا كان متَّى، إذا كان شاهد عيان على الأحداث، أن يقتبس من مرقس الذي لم يرَ يسوع قط؟ ولماذا يُغفل يوحنا، وهو شاهد عيان أيضًا، معظم المعجزات التي جرت أمام سمعه وبصره؟

هنالك إجماع بين دارسي العهد الجديد اليوم على أنَّ هذه الأناجيل الأربعة قد عُزيت إلى أسماء بارزةٍ من تلاميذ يسوع أو من العصر الرسولي بعد تأليفها بزمنٍ طويلٍ، وذلك لإضفاء السلطة والمصداقية عليها؛ وأنَّ مؤلفيها لم يروا يسوع ولم يسمعوا منه مباشرةً، بل اعتمدوا على ذكريات ومعلوماتٍ غير مباشرة، وربما توفرت لهم مجموعة من أقوال يسوع دوَّنها مؤلفٌ مجهول الهوية، فقاموا بوضع مناسبات معينة لهذه الأقوال، ثم شبكوا هذه المناسبات إلى بعضها في سياقٍ كرونولوجي يُعطي الانطباع بسيرةٍ مطردة. ويسير بعض الباحثين خطوة أبعد من ذلك عندما يشكُّون بأنَّ هؤلاء المؤلفين عاشوا في فلسطين، لأنَّ بعض التفاصيل في رواياتهم تُظهر جهلًا بجغرافية وبيئة فلسطين.

وكما تتفق الأناجيل الإزائية في تقديمها لسيرةٍ موحدةٍ ليسوع في السنة الأخيرة من حياته، وهي جماع حياته التبشيرية، فإنَّها تتفق في تقديمها لوجهٍ موحَّد من رسالته، التي أعلن عن جوهرها في أول تعليم علنيٍّ له عندما قال: «قَدْ كَمَلَ الزَّمَانُ وَاقْتَرَبَ مَلَكُوتُ اللهِ، فَتُوبُوا وَآمِنُوا بِالإِنْجِيلِ» (مرقس، ١: ١٥). فيسوع هو المسيح الذي يأتي من نسل داود ليختم التاريخ ويفتح الزمان المقدس أو ملكوت الله، يتقدمه النبي إيليا في صورة يوحنا المعمدان، وذلك تحقيقًا للنبوءة التوراتية: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، * فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الَابْنَاءِ، وَقَلْبَ الَابْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ» (ملاخي، ٤: ٥–٦). ولذلك أجاب يسوع رسل يوحنا المعمدان الذين بعثهم من سجنه ليسألوه: «أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟ * فَأَجَابَ يَسُوعُ: اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا تَسْمَعَانِ وَتَنْظُرَانِ: * الْعُمْيُ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجُ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصُ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمُّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يَقُومُونَ، وَالْمَسَاكِينُ يُبَشَّرُونَ» (متى، ١١: ٢–٥). وهذه كلها من علامات ظهور المسيح في النبوءات التوراتية (راجع: إشعيا، ٢٦: ١٩، و٢٩: ٨، و٣٥: ٥).

فمفهوم مملكة الله، أو مملكة السماء، يتخذ مكانةً مركزية في تعاليم يسوع كما تبسطها الأناجيل الإزائية. ولا أدَلُّ على ذلك من أن هذا التعبير قد ورد فيها نحو ٨٠ مرة، بينما لم يَرِد في إنجيل يوحنا سوى مرة واحدة. كما تشغل المطالب الأخلاقية والسلوكية لدخول مملكة الله الجزء الأكبر من تعاليم يسوع. وعليه يمكن القول: إنَّ رسالة يسوع الإزائي هي رسالةٌ آخرويةٌ بالدرجة الأولى، تُركِّز على فكرة نهاية الزمن والتاريخ، وحلول اليوم الذي فيه ينتزع الله العالم من سلطة الشيطان. لقد اكتملت سلسلة الأنبياء عند يوحنا المعمدان واكتملت الأزمنة، وظهر يسوع في مجيئه الأول ليبشِّر بالملكوت، ثم صُلب ومات، وقام في اليوم الثالث ليتمجد مسيحًا كونيًّا يجلس عن يمين الآب. وأما في مجيئه الثاني، فسيأتي ديَّانًا ينهي العالم القديم ويقيم على أنقاضه عالمًا جديدًا يرثه المؤمنون. نقرأ في إنجيل متَّى: «فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يَأْتِي فِي مَجْدِ أَبِيهِ مَعَ مَلَائِكَتِهِ، وَحِينَئِذٍ يُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ عَمَلِهِ. * الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مِنَ الْقِيَامِ ههُنَا قَوْمًا لَا يَذُوقُونَ الْمَوْتَ حَتَّى يَرَوُا ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا فِي مَلَكُوتِهِ» (متَّى، ١٦: ٢٧–٢٨).

إذا انتقلنا إلى إنجيل يوحنا وجدناه ظاهرةً متفرِّدة بين الأناجيل. فإذا كانت الأناجيل الإزائية تتتبَّع الخطوط العامة نفسها لسيرة يسوع وتعاليمه، فإن إنجيل يوحنا يمتلك رؤيةً خاصةً به، وبنيةً عامة، وتحقيبًا زمنيًّا، ونسيجًا لاهوتيًّا، وأسلوبًا في أقوال يسوع، لا يوازيها شيءٌ في الأناجيل الأخرى. ففيما يتعلق بمدة حياة يسوع التبشيرية، فإن الإزائيين يعيِّنون سنةً واحدة لها، بينما يعيِّن يوحنا لها سنتين أو أكثر، وذلك بذكره لثلاثة أعياد فصح يهودية. والإزائيون يؤرِّخون حادثة صَلب يسوع في الخامس عشر من شهر نيسان في يوم الفصح، بينما يؤرِّخ يوحنا الحادثة في الرابع عشر من نيسان في اليوم السابق للفصح.

أما القواسم المشتركة بين يوحنا وبقية الإنجيليين فهي نادرةٌ، بحيث تقتصر على معجزة إطعامه لخمسة آلاف شخصٍ من خمسة أرغفة وسمكتين (٦: ١–١٣)، وسير يسوع على الماء لاحقًا تلاميذَه الذين سبقوه في سفينة إلى الضفة الأخرى من بحيرة طبريا (٦: ١٦–٢١). وهنالك قصصٌ أوردها يوحنا بشكلٍ معدَّل، ومنها قصة شفاء يسوع لخادم قائد روماني، وذلك بنطقه لأمر الشفاء عن بُعد، والتي حولها يوحنا إلى شفاء يسوع لابن موظفٍ عند هيرود أنتيباس ملك الجليل (متَّى، ٨: ٥–١٣؛ ولوقا، ٧: ١–١٠؛ ويوحنا ٤: ٤٦–٥١). وأيضًا قصة طرد يسوع للباعة والصيارفة من باحة الهيكل، التي وضعها الإزائيون في نهاية حياة يسوع التبشيرية (متَّى، ٢١: ١٢–١٣؛ ومرقس، ١١: ١٥–١٧؛ ولوقا، ١٩: ٤٥–٤٦)، بينما وضعها يوحنا في بداية حياته التبشيرية، وحمَّلها معاني لاهوتية عندما تصدَّى له اليهود قائلين: «أَيَّة آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هذَا؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: انْقُضُوا هذَا الْهَيْكَلَ، وَفِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أنا أُقِيمُهُ. * فَقَالَ الْيَهُودُ: فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ هذَا الْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟ * وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. * فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلَامِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ» (يوحنا، ٢: ١٨–٢٢). ومن القصص التي وردت معدَّلة عند يوحنا، قصة قيام مريم أخت لِعازر — الشاب الذي أقامه يسوع من بين الأموات — بدهن قدمي يسوع بزجاجة عطر فاخرةٍ ومسحهما بشعرها واعتراض يهوذا على ذلك (يوحنا، ١٢: ١–٧). راجع تنويعات الإزائيين على هذه القصة عند (متَّى، ٢٦؛ ومرقس، ١٤؛ ولوقا: ٧). وأيضًا قصة لقاء يسوع بيوحنا المعمدان، (يوحنا، ١. قارن مع مرقس، ١؛ ومتَّى، ٣؛ ولوقا، ٣).

وبينما أكدت الأناجيل الإزائية على أعمال يسوع الشفائية، وطرده للشياطين من أجساد الممسوسين، فإن هذا العنصر غائبٌ تقريبًا عن إنجيل يوحنا، الذي لم يورد من معجزات يسوع الشفائية التي أوردها الإزائيون إلا قصة شفائه لخادم موظف روماني، ثم أضاف من عنده معجزتين لم تردا عند الإزائيين، وهما شفاؤه لرجل مُقعد بكلمةٍ من فمه عندما قال له: «قُم. احْمِلْ سَرِيرَكَ وَامْشِ» (يوحنا، ٥: ٨)، وشفاؤه لأعمى منذ الولادة عندما طلى عينيه بعجينة من تراب الأرض الممزوج بلُعابه (يوحنا، ٩: ١–٧). وفيما عدا ذلك فقد أشار يوحنا بشكلٍ عام إلى أن يسوع كان يصنع آيات في المرضى (يوحنا، ٦: ٢). وربما يرجع السبب في ذلك إلى ارتباط هذه الظواهر الشفائية لدى الإزائيين بفكرة قرب حلول ملكوت الربِّ، التي لم تكن بالفكرة المحورية في لاهوت يوحنا.

ولكن يوحنا أكَّد في المقابل معجزات يسوع الخارقة للطبيعة، واعتبرها آياتٍ تَشفُّ عن أصله الماورائي. فإلى جانب معجزة تكثير خمسة أرغفة وسمكتين لإطعامه خمسة آلاف شخص، وسيْره على الماء، اللتين اشترك بهما مع الإزائيين، فقد انفرد يوحنا بمعجزة تحويل الماء إلى خمرٍ في عرس قانا (يوحنا، ٢: ١–١١)، وقصة إحياء الشاب لِعازر بعد موته بأربعة أيام (يوحنا، ١١: ١–٤٥).

كما انفرد يوحنا بذكر حادثتين تحملان دلالاتٍ بعيدة الأثر؛ الأولى عفوه عن الزانية التي جاء بها اليهود إليه ليمتحنوه وقالوا له: «يَا مُعَلِّمُ، هذِهِ الْمَرْأَةُ أُمْسِكَتْ وَهِيَ تَزْنِي فِي ذَاتِ الْفِعْلِ، * وَمُوسَى فِي النَّامُوسِ أَوْصَانَا أَنَّ مِثْلَ هذِهِ تُرْجَمُ. فَمَاذَا تَقُولُ أَنْتَ؟ فقَالَ لَهُمْ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلَا خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ!» (يوحنا، ٨: ١–٧). وبذلك يعلن يسوع عن سدى الشريعة اليهودية الشكلانية. والحادثة الثانية لقاؤه بالمرأة السامرية عندما مرَّ في أراضي السامرة منتهكًا العرف اليهودي بتجنب المرور في أراضي السامريين: «قالت له المرأةُ: يَا سَيِّدُ، أَرَى أَنَّكَ نَبِيٌّ! * آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لَا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلَا فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. * أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لَانَّ الْخَلَاصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. * وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلَاءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. * اللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا، ٤: ٤–٢٤). وفي هذا القول إعلانٌ من قِبَل يسوع عن زوال العبادات والطقوس الدينية القديمة، والتأسيس لعبادةٍ روحيةٍ جديدةٍ، عبادة القلب لا عبادة الحرف. في هذه العبادة لم يعد لهيكل أورشليم من مسوِّغ. لأنَّ الله سوف يُعبد في كل مكانٍ من دون ذبائح ولا محارق. وقبل ذلك يجب التخلُّص من اليهود ومن عباداتهم ومعتقداتهم البالية.

ومن أهم خصائص إنجيل يوحنا تركيزه على كراهية يسوع لليهود، وسعي اليهود لقتله منذ البداية والتخلص منه. وإذا كان الإزائيون قد جعلوا من النخبة اليهودية، المتمثِّلة بالفريسيين والكتبة والناموسيين علماءِ الشريعة، خصومًا ليسوع، فإنَّ يوحنا يُشير على الدوام إلى اليهود جملةً باعتبارهم خصومًا ليسوع يرومون هلاكه بداعي إفساده للعقيدة. وقد وصف يسوع اليهود بأبشع الأوصاف، منها: أولاد الأفاعي، وقتلة الأنبياء، وأولاد إبليس.

أمَّا عن رسالة يسوع، كما يراها مؤلف إنجيل يوحنا، فإنَّ الموضع الوحيد الذي ورد فيه ذكر «ملكوت الله» عنده، يوضح لنا مراميها المختلفة عن مرامي رسالته في الأناجيل الإزائية. نقرأ في يوحنا (يوحنا، ٣: ٣–٦) ما يلي: فقال يسوع: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنْ فَوْق لَا يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ. * قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ: كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَا يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. * الْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.» أي إن دخول الملكوت لا يكون في زمنٍ مقبلٍ، بل هو متيسِّرٌ هنا والآن إذا مات الإنسان عن نفسه وعاش في الله. ورسالة يسوع ليست رسالة آخروية، وإنما هي رسالة عرفان روحيٍّ يتحقق عن طريق معرفة الابن الذي هو تجسيدٌ للآب على الأرض، والإيمان بأنَّه ابن الله الذي حمل الخلاص للعالم بعد موته على الصليب. لهذا فإنَّ يوحنا لا يفتتح إنجيله بتتبع الأصل الأرضي ليسوع وعائلته ونسبه، وإنما بمقدمةٍ فلسفية تُشير إلى الأصل السماوي له باعتباره تجسيدًا للكلمة، الابن الذي كان عند الله منذ الأزل: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا.» ويكمِّل هذه المقدمة ما ورد على لسان يسوع في الإصحاح الثالث: «وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ … * لِأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا، ٣: ١٣–١٧). من هنا كان اللقب الذي فضَّل يوحنا استخدامه في الإشارة إلى يسوع هو لقب الابن، الابن الغريب عن هذا العالم: «فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يوحنا، ٨: ٢٣). وهذا بالفعل هو جوهر رسالة الإنجيل الرابع.

إلى هذه الرؤية اللاهوتية ينتمي لقب «حَمَل الله» الذي انفرد إنجيل يوحنا باستخدامه في الإشارة إلى يسوع: «هُوَ ذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!» (يوحنا، ١: ٢٩). وهذا اللقب الذي استخدمه يوحنا في بداية إنجيله سوف يتضح لنا معناه في آخر الإنجيل عندما يجعل صلب يسوع في اليوم السابق للفصح اليهودي، في اليوم الذي جرت فيه عادة اليهود على التضحية بحَمَل الفصح، ولكن على عكس حَمَل الفصح اليهودي الذي يطهِّر دمه اليهود من خطاياهم، فإنَّ حَمَل الله هذا سوف يحمل خطيئة العالم بأكمله، وذلك بموته على الصليب.

(٢) في بقية أسفار العهد الجديد

تؤلف الأناجيل الأربعة الأسفار الأولى من الكتاب المقدَّس المسيحي، أو «العهد الجديد». أما الأسفار الباقية وعددها ٢٤ سفرًا فهي التالية:

(٢-١) أعمال الرسل

يُعزى هذا السفر إلى مؤلف إنجيل لوقا نفسه، وهو موجه إلى الشخصية الغامضة نفسها التي يدعونها ثاوفيليوس، ويلتقط بداية أحداثه من حيث انتهى الإنجيل الثالث. فيقدم لنا وصفًا تفصيليًّا لنشاط الحركة المسيحية الأولى منذ نحو عام ٣٠م إلى أوائل ستينيات القرن الأول الميلادي في فلسطين وسورية، كما يصف رحلات بولس التبشيرية في آسيا الصغرى واليونان. وينهي سرده للأحداث مع القبض على بولس وسوقه سجينًا إلى روما في انتظار الفصل في قضيته من قبل القضاء الروماني، دون أن نعرف مصير بولس. ولكن الموروثات المسيحية تقول لنا إنَّه قد أُعدم في السنوات الأخيرة من عصر الإمبراطور نيرون الذي حكم من عام ٥٤ إلى عام ٦٨م.

(٢-٢) رسائل بولس الرسول

وصلنا من رسائل بولس ثلاث عشرة رسالة، ويُقال إنَّه كتب أكثر من ذلك ولكنه فُقِد. ورسالته الأولى إلى أهالي تسالونيكي هي أول أثرٍ مسيحيٍّ مكتوب، وكانت متداولة بين المسيحيين الأوائل قبل الإنجيل الأول بنحو ٤٠ سنة. يُعتبر بولس المؤسس الحقيقي للَّاهوت المسيحي، ولا سيما في رسالته إلى أهالي رومية، والتي بحث فيها في مسألةٍ من أهم مسائل العقيدة المسيحية، وهي: خلاص الناس بالإيمان بالسيد المسيح. كتب بولس رسائله باللغة اليونانية، وإنشاؤه فيها معقدٌ حينًا، وسلسٌ حينًا آخر. وعلى الرغم من ثقافته اليونانية العالية وعمق تفكيره، إلا أنَّ خطابه كان أقرب إلى خطاب علماء اليهود منه إلى الخطاب الفلسفيِّ العقلي اليوناني. ولهذا أخفق في المناظرة التي جرت بينه وبين متفلسفين أبيقوريين ورواقيين في أثينا، وانفضوا عنه قائلين له بتهذيب: سوف نسمع كلامك في هذا الشأن مرة أخرى (أعمال، ١٧: ١٦–٣٤).

وعلى الرغم من أنَّ الباحثين في «العهد الجديد» اليوم يَشُكُّون في نسبة بعض هذه الرسائل إلى بولس، إلا أنَّ أسلوبها وأفكارها تدلُّ على أنَّها من تأليف تلامذة مقربين منه. وعلى ذلك يمكن اعتبارها بمثابة تنويعٍ على أفكار المعلم وتطويرٍ لها، وقراءتها على أنَّها تعكس فكر بولس نفسه، وهذا ثبتٌ بالرسائل:
  • (١)

    إلى أهل رومية.

  • (٢)

    الأولى إلى أهالي كورنثوس.

  • (٣)

    الثانية إلى أهالي كورنثوس.

  • (٤)

    إلى أهالي غلاطية.

  • (٥)

    إلى أهالي إفسس.

  • (٦)

    إلى أهالي فيليبي.

  • (٧)

    إلى أهالي كولوسي.

  • (٨)

    الأولى إلى أهالي تسالونيكي.

  • (٩)

    الثانية إلى أهالي تسالونيكي.

  • (١٠)

    الأولى إلى تيموثاوس.

  • (١١)

    الثانية إلى تيموثاوس.

  • (١٢)

    إلى تيطس.

  • (١٣)

    إلى فِليمون.

  • (١٤)

    الرسالة إلى العبرانيين.

(٢-٣) الرسائل الأخرى (العامة)

أُطلق اسم الرسائل العامة على سبع رسائل. وسُمِّيت هكذا لأنَّ من كتبوها لم يخصُّوا بها أهل مدينةٍ واحدةٍ أو شخصًا بعينه، كما فعل بولس، بل وجههوها إلى المدن والأقطار جميعها دون تخصيصٍ. هذه الرسائل منسوبة إلى ثلاث شخصيات من العصر الرسولي. وهذا ثبتٌ بها:
  • (١)

    رسالة يعقوب.

  • (٢)

    رسالة بطرس الأولى.

  • (٣)

    رسالة بطرس الثانية.

  • (٤)

    رسالة يوحنا الأولى.

  • (٥)

    رسالة يوحنا الثانية.

  • (٦)

    رسالة يوحنا الثالثة.

  • (٧)

    رسالة يهوذا.

(٢-٤) رؤيا يوحنا

وهي السفر السابع والعشرون والأخير من أسفار العهد الجديد، وتُنسب إلى يوحنا الحبيب، كاتب الإنجيل الرابع والرسائل الثلاث الأخرى. وهي تُنسج على منوال رؤيا دانيال في العهد القديم، وعلى منوال عددٍ كبيرٍ من الرؤى في الأسفار التوراتية غير القانونية. ويتألف هذا العمل من سلسلةٍ من الرؤى المتتابعة تحتوي على الكثير من الرموز والإشارات التي جهد اللاهوتيون في تفسيرها وتبسيطها لعامة المؤمنين.

هذه الأسفار اﻟ ٢٧ لم تدخل في الكتاب المقدس المسيحي دفعةً واحدة، وإنما على مراحل امتدت عبر ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الكنيسة المسيحية، وذلك فيما بين أواخر القرن الثاني عندما تمَّ وضع أول كتالوج قانوني للعهد الجديد، وعام ١٥٤٦م عندما انعقد المجمع التريدنتي وأقرَّ الصيغة التي نعرفها اليوم للكتاب.

١  الكرازة: تعبير إنجيلي من الجذر كَرَزَ، الذي يُفيد معنى التبشير والوعظ والتعليم.
٢  العشار هو جابي ضريبة العُشر المفروضة من السلطات الرومانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤