الطبيعة الفائقة ليسوع

(١) مفهوم المسيح: الأفكار التأسيسية

في الدراستين السابقتين تحدثنا عن ناسوت عيسى وطبيعته البشرية في كلٍّ من الرواية القرآنية والرواية الإنجيلية. وسوف نلتفت الآن إلى الحديث عن الطبيعة الفائقة لعيسى، كما تتبدى في أربعة ألقاب إنجيلية هي: المسيح، وابن الله، والابن، وابن الإنسان؛ وفي لقبين قرآنيين هما: روح الله، وكلمة الله. وبما أننا قد وجدنا أنَّ هذه الألقاب الإنجيلية تجد أصولها في كتاب العهد القديم، فسوف نبتدئ بمعالجة لقب «المسيح» انطلاقًا من تصورات العهد القديم حول هذا المفهوم المركزي في المعتقد التوراتي.

«المسيح» أو «المشيح» «وبالآرامية مشيحا» كلمة عبرانية مشتقةٌ من الفعل الثلاثي «مسح»، والتي تعني كما في العربية التمسيد الرفيق بالكفِّ. وبالمعنى الطقسي التوراتي فإنَّ المسيح هو الممسوح بزيت المعبد المقدس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه. هذا الزيت يُحضَّر من زيت الزيتون النقي ممزوجًا بأطيابٍ معينةٍ وفق مقادير خاصة، ويُدعى زيت المسحة، ولا يجوز استخدامه في الأغراض الدنيوية. فالمسح الطقسي، والحالة هذه، هو نوع من شعائر التعدية والعبور Initiation، ينقل الشيء أو الشخص الممسوح به من مجالٍ ما للناس إلى مجالٍ ما لله.

أول مسحٍ طقسيٍّ بالزيت يُصادفنا في كتاب التوراة، هو ما قام به في يعقوب في سفر التكوين (٢٨: ١٠–١٩) عندما نصب عمودًا حجريًّا وصبَّ عليه زيتًا في الموضع الذي تراءى له فيه الرب في الحلم، ودعا المكان «بيت إيل» أي بيت الله. وفي سفر الخروج (٣٠: ٢٣–٣٢) يُبيِّن الرب لموسى كيفية تجهيز زيت المسحة، ويأمره أن يمسح به تابوت العهد والأدوات الطقسية الأخرى، ويُحرِّم عليه استخدامه إلا في الأغراض الشعائرية. وبعد ذلك يأمره أن يمسح أخاه هارون وبنيه بالزيت ليصبحوا كهنة على إسرائيل. ومنذ ذلك الوقت صار مسح الكهنة طقسًا متبعًا. ولدينا مثالٌ واحدٌ عن مسح الأنبياء، وهو ما قام به النبي إيليا عندما مسح تلميذه أليشع نبيًّا بعده بأمر الرب.

عندما ابتدأ عصر الملوكية، صار طقس المسح بالزيت بمثابة تنصيبٍ رسميٍّ للشخص الذي اختاره الرب لحكم إسرائيل. وكان شاؤل أول من مُسح ملكًا بأمر الرب على يد النبي صموئيل، ودُعي بمسيح الرب. ومن الفقرة التالية في سفر صموئيل الأول، نفهم كيف يحوِّل طقس المسح الشخص الممسوح إلى شخصٍ جديد يحل عليه روح الرب، حيث نقرأ: «بَعْدَ ذلِكَ تَأْتِي إِلَى جِبْعَةِ اللهِ حَيْثُ أَنْصَابُ الْفلِسْطِينِيِّينَ. وَيَكُونُ عِنْدَ مَجِيئِكَ إِلَى هُنَاكَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَنَّكَ تُصَادِفُ زُمْرَةً مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَازِلِينَ مِنَ الْمُرْتَفَعَةِ وَأَمَامَهُمْ رَبَابٌ وَدُفٌّ وَنَايٌ وَعُودٌ وَهُمْ يَتَنَبَّئُونَ. * فَيَحِلُّ عَلَيْكَ رُوحُ الرَّبِّ فَتَتَنَبَّأُ مَعَهُمْ وَتَتَحَوَّلُ إِلَى رَجُلٍ آخَرَ. * وَإِذَا أَتَتْ هذِهِ الآيَاتُ عَلَيْكَ، فَافْعَلْ مَا وَجَدَتْهُ يَدُكَ، لِأَنَّ اللهَ مَعَكَ» (١٠: ٥–٧).

بعد أن غضب الرب على شاؤل غادره الروح، وحلَّ على داود بعد أن مسحه النبي صمويل ملكًا. وها هو داود يصف علاقته بإلهه بالكلمات التالية: «وَحْيُ دَاوُدَ بْنِ يَسَّى، وَوَحْيُ الرَّجُلِ الْقَائِمِ فِي الْعُلَا، مَسِيحِ إِلهِ يَعْقُوبَ، وَمُرَنِّمِ إِسْرَائِيلَ الْحُلْوِ: * رُوحُ الرَّبِّ تَكَلَّمَ بِي وَكَلِمَتُهُ عَلَى لِسَانِي» (٢ صموئيل، ٢٣: ١–٢). نلاحظ هنا كيف أن مسيح الرب يجمع بين الملوكية الدنيوية وبين النبوة والكهنوت، فهو يكلم الرب ويكلمه، ولسانه ينطق بوحي إلهه، وهو الوسيط بين عالم الألوهة وعالم البشر.

عندما شاخ داود واستلقى على فراش الموت، أوصى بالمُلك من بعده لابنه سليمان بمباركةٍ من الرب. وأمَر الكاهن صادوق والنبي ناثان أن يمسحا سليمان ملكًا. وهنا تستمر العلاقة المباشرة بين الرب ومسيحه، وهو يتراءى له في أحلامه ويكلِّمه من دون وسيط. نقرأ في سفر الملوك الأول: «فِي جِبْعُونَ تَرَاءَى الرَّبُّ لِسُلَيْمَانَ فِي حُلْمٍ لَيْلًا، وَقَالَ اللهُ: اسْأَلْ مَاذَا أُعْطِيكَ. * فَقَالَ سُلَيْمَانُ: … * فَأَعْطِ عَبْدَكَ قَلْبًا فَهِيمًا لِأَحْكُمَ عَلَى شَعْبِكَ وَأُمَيِّزَ بَيْنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ …» (١ ملوك، ٣: ٥–١٢). وأيضًا: «وَكَانَ لَمَّا أَكْمَلَ سُلَيْمَانُ بِنَاءَ بَيْتِ الرَّبِّ وَبَيْتِ الْمَلِكِ وَكُلَّ مَرْغُوبِ سُلَيْمَانَ الَّذِي سُرَّ أَنْ يَعْمَلَ، * أَنَّ الرَّبَّ تَرَاءَى لِسُلَيْمَانَ ثَانِيَةً كَمَا تَرَاءَى لَهُ فِي جِبْعُونَ. * وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: قَدْ سَمِعْتُ صَلَاتَكَ وَتَضَرُّعَكَ الَّذِي تَضَرَّعْتَ بِهِ أَمَامِي. قَدَّسْتُ هذَا الْبَيْتَ الَّذِي بَنَيْتَهُ لِأَجْلِ وَضْعِ اسْمِي فِيهِ إِلَى الأَبَدِ، وَتَكُونُ عَيْنَايَ وَقَلْبِي هُنَاكَ كُلَّ الأَيَّامِ. * وَأَنْتَ إِنْ سَلَكْتَ أَمَامِي كَمَا سَلَكَ دَاوُدُ أَبُوكَ بِسَلَامَةِ قَلْبٍ وَاسْتِقَامَةٍ، وَعَمِلْتَ حَسَبَ كُلِّ مَا أَوْصَيْتُكَ وَحَفِظْتَ فَرَائِضِي وَأَحْكَامِي، * فَإِنِّي أُقِيمُ كُرْسِيَّ مُلْكِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ إِلَى الأَبَدِ كَمَا كَلَّمْتُ دَاوُدَ أَبَاكَ» (١ ملوك، ٩: ١–٥).

بعد وفاة سليمان وزوال المملكة الواحدة المقدسة، التي انقسمت إلى مملكتين إحداهما عاصمتها السامرة، والأخرى عاصمتها أورشليم، تغير مضمون طقس المسح بالزيت، ولم يعد معبرًا عن مشيئة إلهيةٍ واختيار سماوي، بل تحوَّل إلى إجراءٍ روتينيٍّ يقوم به الكاهن من أجل تنصيب الملك الجديد الذي انتقل إليه المنصب بالوراثة أو بالاغتصاب. وفيما عدا قيام النبي أليشع بمسح القائد العسكري ياهو ملكًا على السامرة بأمر الرب، فإنَّ مراسم التنصيب كانت تجري في أجواء اعتياديةٍ، وغالبًا ما لا يذكر النص الكتابي عنها شيئًا، بل يكتفي بالقول إنَّ فلانًا الملك قد مات ومَلَك مكانه على أورشليم أو السامرة فلان.

على أنَّ كل ملوك السامرة قد حادوا عن الدين القويم وعبدوا الآلهة الفلسطينية التقليدية، وكذلك فعل معظم ملوك أورشليم. وهذا ما خلق لدى أنبياء العهد القديم، الذين كانوا يوبِّخون ملوكهم بشدةٍ على عدم أمانتهم ليهوه، رجاءً في ملكٍ مثاليٍّ قادمٍ ومسيحٍ حقيقي للرب. وشيئًا فشيئًا أخذ مفهوم المسيحانية الملوكية بالتغير، وبدلًا من التغنِّي بفضائل الملك المسيح المعاصر، راحت مزامير العهد القديم وأسفار الأنبياء تتطلع إلى الملك المسيح القادم، وتصف مجده وكفاحه وانتصاراته. وقد تكرَّس هذا الاتجاه بعد زوال مملكة إسرائيل–السامرة عام ٧٢١ق.م. وتحولها إلى ولايةٍ آشوريةٍ، ثم زوال مملكة يهوذا عام ٥٧٨ق.م. وتحويلها إلى ولايةٍ بابليةٍ ثم فارسية، وانتهاء ما يُدعى بعصر المملوكية في التاريخ العبري، والذي انتهى في كلا المملكتين بعمليات سبيٍّ واسعةٍ طالت الشرائح الحرفية والمتعلمة من الشعب. وبذلك تحول مسيح الرب من ملكٍ يحكم على شعب يهوه في الزمن الحاضر، إلى شخصيةٍ نبويةٍ رؤيوية سوف تظهر في المستقبل لتعيد العصر الذهبي لإسرائيل، وتجمع شتات المنفيين في الأقطار البعيدة وترجعهم إلى أورشليم.

وبما أنَّ سلالة الملك داود هي التي حكمت في أورشليم منذ وفاة سليمان إلى دمارها على يد البابليين، فإنَّ المسيح القادم سيكون أيضًا من نسل داود، لأنَّ الرب قد أعطى داود عهدًا بأنَّ نسله سوف يحكم في أورشليم إلى الأبد: «لَا أَنْقُضُ عَهْدِي، وَلَا أُغَيِّرُ مَا خَرَجَ مِنْ شَفَتَيَّ. * مَرَّةً حَلَفْتُ بِقُدْسِي، أَنِّي لَا أَكْذِبُ لِدَاوُدَ: * نَسْلُهُ إِلَى الدَّهْرِ يَكُونُ، وَكُرْسِيُّهُ كَالشَّمْسِ أَمَامِي» (المزمور ٨٩: ٣٤–٣٦). فهذا المسيح هو غصنٌ جديدٌ ينبت من شجرة نسب داود بن يسَّى، على ما نقرأ في سفر إشعيا: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، * وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ» (إشعيا، ١١: ١–٢). ونقرأ في سفر إرميا: «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأُقِيمُ لِدَاوُدَ غُصْنَ بِرٍّ، فَيَمْلِكُ مَلِكٌ وَيَنْجَحُ، وَيُجْرِي حَقًّا وَعَدْلًا فِي الأَرْضِ. * فِي أَيَّامِهِ يُخَلَّصُ يَهُوذَا، وَيَسْكُنُ إِسْرَائِيل آمِنًا، وَهذَا هُوَ اسْمُهُ الَّذِي يَدْعُونَهُ بِهِ: الرَّبُّ بِرُّنَا» (إرميا، ٢٣: ٥–٦).

هذا المسيح يُولد كطفلٍ خارقٍ، له من صفات الآلهة والبشر معًا، نقرأ في سفر إشعيا:

«الشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلَالِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ … * لِأنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيبًا، مُشِيرًا، إِلهًا قَدِيرًا، أَبًا أَبَدِيًّا، رَئِيسَ السَّلَامِ. * لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ، وَلِلسَّلَامِ لَا نِهَايَةَ عَلَى كُرْسِيِّ دَاوُدَ وَعَلَى مَمْلَكَتِهِ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ إِلَى الأَبَدِ» (إشعيا، ٩: ٢–٧). وهناك إشارةٌ واحدةٌ في الكتاب إلى ولادة هذا الطفل من عذراء: «وَلكِنْ يُعْطِيكُمُ السَّيِّدُ نَفْسُهُ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (إشعيا، ٧: ١٤). وهو يُدعى ربًّا وسيدًا، ويجلس عن يمين يهوه في آخر الأزمنة ليدين الأمم ويحاكمها وينتقم لشعبه: «قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ … * يَدِينُ بَيْنَ الأُمَمِ. مَلَأ جُثَثًا أَرْضًا وَاسِعَةً. سَحَقَ رُءُوسَهَا» (المزمور ١١٠). وهو يولد في مدينة بيت لحم: «أَمَّا أَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمِ أَفْرَاتَةَ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ أَنْ تَكُونِي بَيْنَ أُلُوفِ يَهُوذَا، فَمِنْكِ يَخْرُجُ لِي الَّذِي يَكُونُ مُتَسَلِّطًا عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَمَخَارِجُهُ مُنْذُ الْقَدِيمِ، مُنْذُ أَيَّامِ الأَزَلِ» (ميخا، ٥: ٢).

وبتأثير الأفكار الزرادشتية التي شاعت في المنطقة عقب استيلاء قورش الفارسي على المنطقة المشرقية ووراثته للإمبراطورية البابلية عام ٥٣٩ق.م. قامت الإيديولوجيا التوراتية بالمزاوجة بين فكرة المسيح القادم، وفكرة المخلِّص الزرادشتي. فوفق التعاليم الأصلية لزرادشت، يظهر في آخر الأزمنة مخلِّص البشرية الذي يقود المعركة الفاصلة الأخيرة ضد الشيطان ورهطه ويقضي عليه. عندها يقوم الله بتدمير العالم القديم الملوث بعناصر الشر، ثم يعمل على تجديده ليغدو فردوسًا يعيش فيه الأخيار الصالحون في زمنٍ مفتوحٍ على الأبدية. وفيما بعد أدخلت التطويرات اللاهوتية اللاحقة تنويعاتٍ جديدةٍ على فكرة المخلِّص الزرادشتي؛ فهذا المخلِّص المدعو ساوشيانط سوف يأتي من نسل زرادشت، عندما تحمل به عذراء تنزل إلى الاستحمام في بحيرة معينة، فتتسرب إلى رحمها بذور زرادشت التي حفظتها الملائكة في البحيرة إلى اليوم الموعود.

لقد أثرت فكرة نهاية الزمن هذه بقوة في فكرة ملكوت الرب القادم على الأرض في الفكر التوراتي، ولكن بعد تحويرها بما يتلاءم مع الإيديولوجيا التوراتية الشوفينية. فإذا كان التاريخ في المفهوم الزرادشتي يسير نحو استئصال الشر من العالم والارتقاء به وبالإنسانية إلى مستقبلٍ ماجد وجليلٍ في الأزمنة الأخيرة، فإن التاريخ في المفهوم التوراتي يسير نحو سيادة الإله يهوه الكاملة على الأرض ليحكمها بنفسه حكمًا مباشرًا، بعد أن يرسل مسيحه أمامه ليهيئ له الطريق، وليكسر شوكة أعداء إسرائيل ويعيد أمجاد أورشليم الضائعة. وفي هذا يقول النبي ملاخي: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ مَلَاكِي فَيُهَيِّئُ الطَّرِيقَ أَمَامِي. وَيَأْتِي بَغْتَةً إِلَى هَيْكَلِهِ السَّيِّدُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ، وَمَلَاكُ الْعَهْدِ الَّذِي تُسَرُّونَ بِهِ. هُوَ ذَا يَأْتِي، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ * وَمَنْ يَحْتَمِلُ يَوْمَ مَجِيئِهِ؟ وَمَنْ يَثْبُتُ عِنْدَ ظُهُورِهِ؟» (ملاخي، ٣: ١–٢).

إنَّ مراحل التاريخ السابقة لقيام ملكوت الربِّ، لا يوجهها صراع الخير والشر كما هو الحال في المعتقد الزرادشتي، بل صراع يهوه ضد الآلهة الأخرى، ومحاولته تنصيب نفسه معبودًا أوحدَ لدى الشعب الذي اختاره، ثم قيادة هذا الشعب ضد الأمم والشعوب الأخرى لإخضاعها وتحويلها إلى خدمٍ وعبيدٍ لدى بني إسرائيل، عند ذلك ينتهي التاريخ ويحلُّ ملكوت يهوه على الأرض، ملكوتٌ يُديره بنفسه.

يبتدئ ملكوت الرب بما تدعوه أسفار الأنبياء بيوم الرب. في ذلك اليوم يرسل يهوه إلى الأرض عددًا من الكوارث الطبيعية التي تمهِّد لهجومه الكاسح. فالسموات تُطوى كدرج من ورقٍ (إشعيا، ٣٤: ٤). الشمس والقمر يُظلمان والنجوم تحجز لمعانها (يوئيل، ٣: ١٥)، والأرض تنسحق وتتشقق وتترنَّح مثل السكران، وتنفتح عليها ميازيب من الأعالي (إشعيا، ٢٤: ١٧–٢٠)، ويعم الظلام والسحاب والضباب فيمشي الناس كالعُمي، وبنار غيرة يهوه تؤكل الأرض (صفنيا، ١: ١٤–١٨). بعد ذلك يتدخَّل يهوه شخصيًّا لإفناء الأمم من أعداء بني إسرائيل، أي كل شعوب الأرض: «فَاسْتَيْقَظَ الرَّبُّ كَنَائِمٍ، كَجَبَّارٍ مُعَيِّطٍ مِنَ الْخَمْرِ. * فَضَرَبَ أَعْدَاءَهُ إِلَى الْوَرَاءِ. جَعَلَهُمْ عَارًا أَبَدِيًّا» (مزمور ٧٨: ٦٥–٦٦)، ويجمع إليه الجيوش ويستعرض قواته (إشعيا، ١٣: ٣–٥)، ويبدأ هجومه بصرخة الحرب المُرَّة (صفنيا، ١: ١٤). بعد ذلك يُعمل السيف في الأمم حتى تمتلئ الأرض بالدماء: «اقْتَرِبُوا أَيُّهَا الأُمَمُ لِتَسْمَعُوا، وَأَيُّهَا الشُّعُوبُ اصْغَوْا. لِتَسْمَعِ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ نَتَائِجِهَا. * لِأَنَّ لِلرَّبِّ سَخَطًا عَلَى كُلِّ الأُمَمِ، وَحُمُوًّا عَلَى كُلِّ جَيْشِهِمْ. قَدْ حَرَّمَهُمْ، دَفَعَهُمْ إِلَى الذَّبْحِ. * فَقَتْلَاهُمْ تُطْرَحُ، وَجِيَفُهُمْ تَصْعَدُ نَتَانَتُهَا، وَتَسِيلُ الْجِبَالُ بِدِمَائِهِمْ» (إشعيا، ٣٤: ١–٣). بعد ذلك يجمع الربُّ جميع المنفيين من بني إسرائيل فيعيدهم إلى أرضهم. أما من نجا في يوم الرب من الأمم فلن تكون لهم حياة إلا بالانضمام إلى بني إسرائيل كخدمٍ وعبيد لهم: «وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ السَّيِّدَ يُعِيدُ يَدَهُ ثَانِيَةً لِيَقْتَنِيَ بَقِيَّةَ شَعْبِهِ، الَّتِي بَقِيَتْ، مِنْ أَشُّورَ، وَمِنْ مِصْرَ، وَمِنْ فَتْرُوسَ، وَمِنْ كُوشَ، وَمِنْ عِيلَامَ، وَمِنْ شِنْعَارَ، وَمِنْ حَمَاةَ، وَمِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ. * وَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ، وَيَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ، وَيَضُمُّ مُشَتَّتِي يَهُوذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ الأَرْضِ (إشعيا، ١١: ١١–١٢) … لِأَنَّ الرَّبَّ سَيَرْحَمُ يَعْقُوبَ وَيَخْتَارُ أَيْضًا إِسْرَائِيلَ، وَيُرِيحُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، فَتَقْتَرِنُ بِهِمُ الْغُرَبَاءُ وَيَنْضَمُّونَ إِلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ. * وَيَأْخُذُهُمْ شُعُوبٌ وَيَأْتُونَ بِهِمْ إِلَى مَوْضِعِهِمْ، وَيَمْتَلِكُهُمْ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ عَبِيدًا وَإِمَاءً» (إشعيا، ١٤: ١–٢) … «قُومِي اسْتَنِيرِي لِأنَّهُ قَدْ جَاءَ نُورُكِ، وَمَجْدُ الرَّبِّ أَشْرَقَ عَلَيْكِ … * وَبَنُو الْغَرِيبِ يَبْنُونَ أَسْوَارَكِ، وَمُلُوكُهُمْ يَخْدِمُونَكِ … * لِأَنَّ الأُمَّةَ وَالْمَمْلَكَةَ الَّتِي لَا تَخْدِمُكِ تَبِيدُ، وَخَرَابًا تُخْرَبُ الأُمَمُ … * وَبَنُو الَّذِينَ قَهَرُوكِ يَسِيرُونَ إِلَيْكِ خَاضِعِينَ، وَكُلُّ الَّذِينَ أَهَانُوكِ يَسْجُدُونَ لَدَى بَاطِنِ قَدَمَيْكِ» (إشعيا، ٦٠: ١–١٤).

بعد ذلك تدخل الأرض في حال فردوسيةٍ مهيأة لسعاة بني إسرائيل: «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سكَكًا، وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لَا تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. * بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينَتِهِ» (ميخا، ٤: ٣–٤) … وَتَقْطُرُ الْجِبَالُ عَصِيرًا، وَتَسِيلُ جَمِيعُ التِّلَالِ. * وَأَرُدُّ سَبْيَ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ فَيَبْنُونَ مُدُنًا خَرِبَةً وَيَسْكُنُونَ، وَيَغْرِسُونَ كُرُومًا وَيَشْرَبُونَ خَمْرَهَا، وَيَصْنَعُونَ جَنَّاتٍ وَيَأْكُلُونَ أَثْمَارَهَا. * وَأَغْرِسُهُمْ فِي أَرْضِهِمْ، وَلَنْ يُقْلَعُوا بَعْدُ مِنْ أَرْضِهِمُ الَّتِي أَعْطَيْتُهُمْ (عاموس، ٩: ١٣–١٥). في هذا العالم الفردوسي يتحول المسيح المحارب إلى حاكمٍ مسالمٍ ينطق بالحكمة ويحكم بالعدل. ويطالعنا سفر إشعيا بصورةٍ معبِّرة عن هذا المسيح المسالم: «هُوَ ذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلأُمَمِ. * لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّارِعِ صَوْتَهُ. * قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً خَامِدَةً لَا يُطْفِئُ. إِلَى الأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ. * لَا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقَّ فِي الأَرْضِ» (إشعيا، ٤٢: ١–٤) «… ابْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَ ذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ ووَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ. * وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلَامِ لِلأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ» (زكريا، ٩: ٩–١٠). كما تطال هذه الحالة الفردوسية عالم الطبيعة والحيوان: «فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. * وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلَادُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. * وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ» (إشعيا، ١١: ٦–٨).

إلى جانب هاتين الصورتين لمسيح آخر الأزمنة، وهما صورة الملك المنتقم المحارب، وصورة الملك الوديع الذي يدخل أورشليم على حمار، هنالك صورة المسيح المعذَّب المتألم التي ألمحنا إليها في معرض حديثنا عن «العبد البار». ونودُّ أن نضيف إليها هنا هذا الوصف من سفر الحكمة:

«فَإِنَّهُمْ بِزَيْغِ أَفْكَارِهِمْ قَالُوا فِي أَنْفُسِهِمْ: إِنَّ حَيَاتَنَا قَصِيرَةٌ شَقِيَّةٌ، وَلَيْسَ لِمَمَاتِ الإِنْسَانِ مِنْ دَوَاءٍ، وَلَمْ يُعْلَمْ قَطُّ أَنَّ أَحَدًا رَجَعَ مِنَ الْجَحِيمِ. إِنَّا وُلِدْنَا اتِّفَاقًا، وَسَنَكُونُ مِنْ بَعْدُ كَأَنَّا لَمْ نَكُنْ قَطُّ … فَتَعَالَوْا نَتَمَتَّعْ بِالطَّيِّبَاتِ الْحَاضِرَةِ، وَنَبْتَدِرْ مَنَافِعَ الْوُجُودِ مَا دُمْنَا فِي الشَّبِيبَةِ … لِنَجُرْ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلَا نُشْفِقْ عَلَى الأَرْمَلَةِ، وَلَا نَهَبْ شَيْبَةَ الشَّيْخِ كَثِيرِ الأَيَّامِ … وَلْنَكْمُنْ لِلصِّدِّيقِ (مسيح الرب)؛ فَإِنَّهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا يُقَاوِمُ أَعْمَالَنَا، وَيُقَرِّعُنَا عَلَى مُخَالَفَتِنَا لِلنَّامُوسِ، يَزْعُمُ أَنَّ عِنْدَهُ عَلِمَ اللهِ، وَيُسَمِّي نَفْسَهُ ابْنَ الرَّبِّ. وَقَدْ صَارَ لَنَا عَذُولًا حَتَّى عَلَى أَفْكَارِنَا. بَلْ مَنْظَرُهُ ثَقِيلٌ عَلَيْنَا، لِأَنَّ سِيرَتَهُ تُخَالِفُ سِيرَةَ النَّاسِ، وَسُبُلَهُ تُبَايِنُ سُبُلَهُمْ … فَلْنَنْظُرْ هَلْ أَقْوَالُهُ حَقٌّ؟ وَلْنَخْتَبِرْ كَيْفَ تَكُونُ عَاقِبَتُهُ؟ فَإِنَّهُ إِنْ كَانَ الصِّدِّيقُ ابْنَ اللهِ؛ فَهُوَ يَنْصُرُهُ وَيُنْقِذُهُ مِنْ أَيْدِي مُقَاوِمِيهِ. فَلْنَمْتَحِنْهُ بِالشَّتْمِ وَالْعَذَابِ، حَتَّى نَعْلَمَ حِلْمَهُ وَنَخْتَبِرَ صَبْرَهُ، وَلْنَقْضِ عَلَيْهِ بِأَقْبَحِ مِيتَةٍ؛ فَإِنَّهُ سَيُفْتَقَدُ كَمَا يَزْعُمُ. هذَا مَا ارْتَأَوْهُ فَضَلُّوا؛ لِأَنَّ شَرَّهُمْ أَعْمَاهُمْ، فَلَمْ يُدْرِكُوا أَسْرَارَ اللهِ». (سفر الحكمة، ٢: ١–٢٢).

(٢) مفهوم المسيح في الأسفار غير القانونية

في أواسط القرن الثاني قبل الميلاد اكتملت عملية تحرير الأسفار التوراتية، التي اعتُبرت فيما بعد قانونية. وبذلك تمَّ إغلاق باب الوحي، وأخذ الكتاب شكله النهائي تقريبًا، على الرغم من أنَّ هذه الأسفار لم تُجمع في كتابٍ واحدٍ، وإنما بقيت على شكل لفائف متفرقةٍ حتى عام ٩٠م عندما أقرَّها مجمع يمينا الكهنوتي، واعتبرها وحدها أسفارًا ملهمة، إلا أن اختتام عملية التحرير على المستوى الرسمي لم يكن ليُغلق باب الإلهام الديني في عالم هيلينستي موحَّد تتمازج فيه تياراتٌ ثقافيةٌ متعددة في حقبةٍ تُعدُّ من أخصب حُقبِ التاريخ الحضاري للمنطقة المشرقية؛ فمنذ القرن الثاني قبل الميلاد نشطت حركة إبداعٍ دينيٍّ داخل الديانة اليهودية تُعتبر بمثابة استمرارٍ للفكر النبوئي والرؤيوي التوراتي، استمرت بزخمٍ قويٍّ حتى نهاية القرن الثاني الميلادي، وأنتجت عددًا كبيرًا من الأسفار غير القانونية التي بقيت على هامش النص القانوني الرسمي. ولكن على الرغم من وضعها الثانوي هذا، فإنَّ هذه التركة الدينية قد مارست تأثيرًا لا يقلُّ عن تأثير الأسفار القانونية. فقد كان لها أعمق الأثر في ظهور الفرقة الفريسية في القرن الأول قبل الميلاد، وفي الفكر التلمودي الذي بدأ بالتبلور بعد دمار أورشليم الأخير على يد الرومان عام ١٣٥م وبناء مدينةٍ رومانيةٍ في موقعها تحت اسم إيليا كابيتولينا. كما كان لها تأثيرٌ على مؤلفي الأناجيل لا يقلُّ عن تأثير الأسفار النبوئية الرؤيوية القانونية، وبشكلٍ خاص فيما يتعلق بمفهوم المسيح، ومفهوم ابن الإنسان، ومفهوم ابن الله. وسوف نختار فيما يلي من هذه الأسفار بعضًا من أهم المقاطع ذات الصلة بمفهوم المسيح.

في سفر عزرا الرابع، تعرض لعزرا سبع رؤى متتابعة، وهو في مدينة بابل التي سيق إليها مسبيو يهوذا، يناجي فيها ربَّه ويطرح عددًا من الأسئلة عن أصل الشر في العالم، ومصير إسرائيل والبشرية، فتأتيه الأجوبة وصولًا إلى إبلاغه بأنَّ الساعة قريبة، وسوف تأتي في ميعادٍ دقيقٍ محسوبٍ عند رب العالمين. فكما لا يستطيع رحم المرأة الاحتفاظ بالجنين عندما يحلُّ الشهر التاسع ويأتي المخاض، كذلك الأرض التي أُتخمت بالموتى منذ بدء الخليقة سوف تلفظهم عندما تأتي ساعة مخاضها في اليوم الأخير. ولهذه الساعة علاماتها: ففي ذلك الوقت يتملك الناس ذعرٌ عظيمٌ، وتغيب سُبُل الحق، ويُفقد الإيمان في الأرض. الشمس تشرق في الليل والقمر يطلع في النهار، والدم ينبثق من الأشجار، والنجوم تُغيِّر مجراها وتتساقط على الأرض. تتشقق الأرض عبر المساحات الواسعة، وتندلع نيرانٌ لا تنطفئ. تجفُّ الحقول وتفرغ. ويختلط ماء الأرض الحلو بمائها المالح. يقوم الأصدقاء والإخوة ضد بعضهم ويتقاتلون بضراوةٍ. يُفقد الرشد والتفكير السليم، وتنسحب الحكمة إلى مخبئها فلا يجدها أحدٌ. عمل الناس لا يُعطي ثمارًا، وكدُّهم يذهب هباءً. بعد هذه العلامات يظهر المسيح ليُقيم مملكته على الأرض:

«هو ذا يومٌ يأتي بعد ظهور الإشارات التي أنبأتك عنها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن، ويُكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى عجائبي كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك بها. عندها سيظهر المسيح وكل الذي معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمئة سنة. ثم يموت المسيح وكل ذي نسمة حياةٍ معه، ويعود العالم إلى الصمت البدئي مدة سبعة أيام، كما كانت حالته قبل البدايات. بعد ذلك يستيقظ العالم النائم ويتلاشى منه ما هو قابل للفساد … فتلفظ الأرض الأجساد الثانوية فيها، وتُخرج ردهات المطهر ما عُهد إليها من أرواح، ويظهر العلي مستويًا على عرش الدنيوية … عندها تتعرى هاوية العذاب، ويبرز في مقابلها مقام النعيم؛ يُكشف عن أتون الجحيم، ويبرز في مقابله الفردوس المقيم.»

وفي موضع آخر هناك وصفٌ حيٌّ لقدوم المسيح وقتاله للأمم:

«بعد سبعة أيامٍ عرضت لي رؤيا جديدة وأنا نائمٌ في الليل. لقد هبَّت من البحر ريحٌ عاصفةٌ دفعت أمامها أمواجًا عاتية. فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسان يطلع من وسط البحر؛ ثم نظرت ورأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجَّة ورجفة، وكلما هدر صوته ذاب سامعوه مثلما يذوب الشمع المُسخَّن. ثم رأيت حشودًا تهبُّ من جهات الرياح الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر. ولكنه اقتطع جبلًا عظيمًا بيده وقذفه عليهم، فتملَّك الذعر تلك الحشود التي تجمَّعت للقتال، ولكنها عزمت على الهجوم. فلما رأى اقترابها منه لم يرفعْ يدًا ولم يمسك بحربة أو سلاح، ولكنه أطلق من فمه زفيرًا ناريًّا ومن لسانه عاصفةً من الشرر، فامتزج الاثنان في تيارٍ ملتهبٍ انصبَّ على الحشود المهاجمة، فأتت عليهم جميعًا، ولم يبق في مكان تجمعاتهم سوى الغبار والرماد وروائح الدخان. ثم رأيت الرجل يهبط من الجبل ويدعو إليه حشدًا آخر هادئًا ومسالمًا، فتقاطر إليه أناسٌ بعضهم فرحٌ وبعضهم حزين وبعضهم يرسف في الأغلال.»١

يطلب عزرا تفسير رؤياه فيأتيه الجواب:

«إنَّ الرجل الذي رأيته طالعًا من البحر هو الذي أخفاه العلي عصورًا عديدة، وبه سيُخلِّص خليقته ويقود من بقي منها. أما عن التيار الناري الذي يخرج من فمه وعدم حمله لحربة أو سلاح، وتدميره مع ذلك للحشود التي تجمعت لقتاله، فإليك بيان ذلك: سوف يأتي يوم أعدَّه العلي لتخليص سكان الأرض، ولكن يتبلبلون ويقومون لقتال بعضهم، مدينة ضد مدينة، وبلد ضد بلدٍ، وشعب ضد شعبٍ. عندما يحصل ذلك وتظهر العلامات التي أخبرتُك بها سابقًا، يظهر ابني مثلما رأيته في هيئة رجلٍ يخرج من البحر، عندها سيترك الجميع قتال بعضهم ويتجمَّعون لقتاله، ولكنه سوف يقف على ذروة جبل صهيون ويوبِّخ الأمم المحتشدة على سوء أفعالها، فتأتي كلماته على شكل تيارٍ ناريٍّ ويعذبهم بما يستحقون، ثم يدمرهم بلا جهد بواسطة الشريعة التي هي مثل النار. أما الحشد المسالم الذي رأيتَ الرجل يدعوه ويجمعه إليه، فإنهم الأسباط العشرة التي سباها وأخرجها من ديارها ملك آشور شلمنصَّر في أيام ملكها هوشع.» بعد ذلك يسأل عزرا عن مغزى طلوع الرجل من البحر، فيأتيه جواب العلي: «كما إنه لا أحد يستطيع اكتناه ما في أعماق البحر، كذلك لا أحد على الأرض يستطيع رؤية ابني ومن برفقته إلا عندما يأتي يومه ووقته.»

نلاحظ في هذا المقطع المقتبس عن سفر عزرا الرابع، ظهور فكرةٍ جديدةٍ تتعلَّق بالوجود السابق للمسيح قبل تجسده على الأرض، وذلك في قول العلي لعزرا: «هو الذي أخفاه العلي عصورًا عديدة.» ولكن هذا الوجود السابق ليس وجودًا فعليًّا، بل هو أقرب إلى وجود الفكرة في عقل الخالق، أو إلى وجود المثال في عالم المثل في الفلسفة الأفلاطونية.

وفي النص المعروف بعنوان «وصايا الأسباط» لدينا أكثر من إشارةٍ إلى الملك المسيح المنتظر. ففي وصية شمعون هنالك إشارةٌ إلى مسيحَين لا إلى مسيح واحد: الأول مسيحٌ كهنوتيٌّ يأتي من نسل لاوي، والثاني مسيحٌ سياسيٌّ من نسل داود. يقول شمعون في آخر وصيته لأولاده: «والآن يا أولادي أطيعوا لاوي ويهوذا ولا تعلوا أنفسكم فوق هذين السبطين، لأن الرب سيبعث من لاوي كاهنًا أعظم، ومن يهوذا ملكًا فيه من خصائص الإله والإنسان معًا، وهو الذي سيخلص الأمم ويخلص شعب إسرائيل.»

وفي وصية لاوي نقرأ عن هذا المسيح الكاهن في رؤيا لاوي التي قصَّها على أولاده: «… ثم غلبني النوم فرأيت جبلًا عاليًا رأيت نفسي على ذروته، والسموات انفتحت، وملاكٌ من عند الرب تكلَّم معي وقال: لاوي، ادخل. فعرجت إلى السماء الأولى حيث رأيت مياه الأعالي معلَّقة، ثم عرجت إلى الثانية فرأيتها أشد لمعانًا وأكثر بريقًا، ولم يكن لارتفاعها من نهاية، فقلت للملاك: لماذا هي على هذه الحال؟ فقال، لا تعجب لما رأيت لأنك سترى سماواتٍ بعدها أشد منها لمعانًا وأكثر بريقًا؛ وعندما ترتقي إلى هناك فإنك ستقف قريبًا من الرب، وتكون كاهنًا له تنقل أسراره إلى البشر، وسوف تعلن لهم عن الذي يُوشك أن يحرِّر إسرائيل. فمن خلالك وخلال يهوذا سيتراءى الرب للبشر ويخلِّص بنفسه كل الشعوب … نجمه سيسطع في السماء مثل نجم ملكٍ، فيُشعل نار المعرفة مثلما تضيء الشمس النهار، ويمحو الظلمات كلها تحت السماء … سوف يفتح أبواب الفردوس، ويزيل السيف الذي يحرسه منذ خروج آدم. سيعطي الأبرار ليأكلوا من شجرة الحياة ويحل روح القداسة عليهم؛ سيقيد الشيطان بالأغلال ويعطي السلطة لأبنائه فيطئون الأرواح الشريرة بأقدامهم. وسيفرح الرب بأبنائه إلى الأبد.»

وفي وصية يهوذا نقرأ: «لأجلكم سوف يبرز كوكب من يعقوب، ويقوم رجلٌ من نسلي مثل شمس العدل، مطَهرًا من الخطيئة، سائرًا مع الناس باللطف والعدل. ستنفتح السموات من فوقه ويحلُّ عليه الروح بركة من الآب القدوس … إنه غصن الرب العلي، ونبع الحياة للبشرية … ومن الغصن سيطلع قضيب العدل من أجل الشعوب، فيحاكم وينقذ كل الذين يذكرون الرب، فيكونون شعبًا واحدًا للرب ولغةً واحدةً للجميع، وستختفي روح الشيطان لأنه سيُرمى إلى النار الأبدية. الذين ماتوا في الحزن سيقومون في الفرح، والذين ماتوا في الفقر لأجل الرب سوف يبعثون في الغنى. أيائل يعقوب سوف تجري في فرحٍ، ونسور إسرائيل سوف تطير في حبور. ولكن الخطاة سيبكون، وستمجِّد الأمم كلها الرب إلى الأبد.»

ولعل الصلوات تُظهر أكثر من غيرها تطلعات الناس إلى ظهور المخلِّص الملك ابن داود. ولدينا العديد من الأمثلة على هذه الصلوات في مخطوطات البحر الميت وفي النص المعروف بعنوان «مزامير سليمان»، ومنها هذا المزمور المعبِّر، وهو المزمور رقم ١٧، الذي نقتبس فيما يلي بعض سطوره:

تحنن يا رب، وابعث إليهم ملكهم ابن داود،
في الوقت المعلوم لديك، ليحكم على عبدك إسرائيل،
وامنحه القوة لكي يسحق الحكام الفاسدين،
ويجمع إليه شعبًا مقدسًا ليحكمه بالعدل،
ويجعل الأمم الوثنية تحت نيره فتخدمه.
لن يكون هنالك ظلمٌ بينهم في أيامه؛
فالكل قدِّيسون وملكهم هو الملك مسيح الرب.

كما وترسَّخ الاعتقاد بأن الزمن الأخير سوف يُفتتح بعودة النبي إيليا الذي رُفع إلى السماء حيًّا بجسده (الملوك الثاني، ٢: ١–١١)، وذلك استنادًا إلى ما ورد في سفر التثنية من قول يهوه لموسى: «أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ» (التثنية، ١٨: ١٨)، وإلى ما ورد في سفر ملاخي: «ها أَنَا ذَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ مَجِيءِ يَوْمِ الرَّبِّ، الْيَوْمِ الْعَظِيمِ وَالْمَخُوفِ، * فَيَرُدُّ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى الأَبْنَاءِ، وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ» (ملاخي، ٤: ٥–٦). واعتقدت طوائف معينة، ومنها الأسينيون، بأن إيليا هو المسيح الكهنوتي الذي سيظهر قبل المسيح الداودي. وبناءً على هذا الاعتقاد فقد جرى تفسير بعض المزامير بما يخدم ذلك. فقد جاء في المزمور ٤٣: أرسل نورك وحقك هما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك. وقد فسِّرت كلمة «حقك» على أنها إشارة إلى نبيِّ آخر الأزمنة أو المسيح الكهنوتي، وفسِّرت كلمة «نورك» على أنها إشارة إلى المسيح الداودي.

هذا وقد ساعدت الأوضاع العامة في فلسطين، أثناء الفترة الانتقالية من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي، على إلهاب الاعتقاد بأنَّ نهاية التاريخ وشيكةٌ، وأن مسيح آخر الأزمنة قد قارب على الظهور. فقد وقعت فلسطين تحت الحكم الروماني عام ٦٣ق.م. وتمَّ إلغاء استقلال الدولة اليهودية التي أقامتها الأسرة المكابية بعد ثورةٍ عارمةٍ على الملوك السلوقيين الذين مارسوا الاضطهاد الديني على اليهود، وحاولوا تحويل هيكل أورشليم من مكانٍ لعبادة الإله يهوه إلى مكانٍ لعبادة الإله جوبيتر. وبعد مدةٍ من عدم الاستقرار السياسي وتبديل أشكال الحكم في فلسطين، وتنظيماتها الإدارية، عيَّن الرومان هيرودس الكبير ملكًا على مقاطعة اليهودية، وأتبعوا لحكمه كامل فلسطين وشرقي الأردن. وقد حكم هيرودس منطقته بقبضةٍ من حديدٍ منذ عام ٣٧ق.م. إلى عام ٤ق.م. ينتمي هيرودس إلى الذخيرة السكانية النبطية–الآدومية، ولهذا حمل لقب «هيرود العربي». وقد ورث الديانة اليهودية عن أبيه أنيباتر الذي تهوَّد لأسبابٍ سياسيةٍ تتعلق بوضعه كوزيرٍ في بلاط آخر ملكٍ مكابيٍّ. لهذا لم ينظر هيرودس إلى نفسه كيهودي مثلما لم يعتبره اليهود واحدًا منهم. كان محبًّا للثقافة اليونانية–الرومانية، وحاول قدر استطاعته إضفاء الطابع اليوناني على أورشليم وعلى المدن الفلسطينية. وعلى الرغم من إعادة بنائه لهيكل أورشليم وجعله واحدًا من أضخم المعابد في المنطقة المشرقية، إلا أنَّ توجهه العالمي قد دفعه إلى رعاية الأديان الأخرى وبناء المعابد لآلهتها. اشتهر هيرودس بالقسوة والطغيان، ولقي اليهود من قسوته وطغيانه ما لم تلقه بقية شعوب المنطقة. فقد كره ضيق الأفق عند اليهود، وعدم رغبتهم في التحديث والانفتاح على العالم، وكره الأصولية اليهودية، وحارب تنظيماتها وأعدم ما لا يحصى من أتباعها. وعندما كان على فراش الموت لم يتورَّعْ عن محاكمة وإحراق عشرات الأصوليين الذين أنزلوا عن بوابة المعبد شكلًا منحوتًا للنسر الروماني رمز الإمبراطورية.

عادت مقاطعة اليهودية بعد وفاة هيرودس إلى الحكم الروماني المباشر، وصارت تُدار من قِبل حكام رومانيين يرفعون تقاريرهم إلى والي سورية المقيم في دمشق. ومع تلاشي حلم الاستقلال اليهودي، وزيادة وطأة الضرائب التي تفرضها روما، ترسَّخ الاعتقاد بأن نهاية التاريخ أمست وشيكةً. وراحت جماعات من المهووسين الدينيين تبشِّر بحلول ملكوت الرب وقرب اليوم الذي ينتقم فيه من أعداء إسرائيل. بينما انتقلت جماعات أخرى من الزهَّاد والمتنسكين إلى البوادي لتصوم وتصلِّي باستمرار في انتظار ولادة مخلِّص إسرائيل المنتظر، وراح الجميع يُعيد قراءة وتفسير نبوءات الكتاب المقدس، ويطابق بين علامات نهاية الأزمنة الواردة فيها وما يجري علي الساحة في الوقت الحاضر. وبشكل خاص، فقد جرى على نطاقٍ واسعٍ تفسير نبوءة دانيال بخصوص مجيء المسيح وساعته، حيث نقرأ على لسان جبرائيل في خطابه لدانيال: «سَبْعُونَ أُسْبُوعًا قُضِيَتْ عَلَى شَعْبِكَ وَعَلَى مَدِينَتِكَ الْمُقَدَّسَةِ لِتَكْمِيلِ الْمَعْصِيَةِ وَتَتْمِيمِ الْخَطَايَا، وَلِكَفَّارَةِ الإِثْمِ، وَلِيُؤْتَى بِالْبِرِّ الأَبَدِيِّ، وَلِخَتْمِ الرُّؤْيَا وَالنُّبُوَّةِ، وَلِمَسْحِ قُدُّوسِ الْقُدُّوسِينَ» (دانيال، ٩: ٢٤)، على أنَّها تحدد المدة المنقضية منذ صدور أمر الملك قورش الفارسي بعودة سبي يهوذا إلى بلادهم عام ٥٣٩ق.م. وفسرت كلمة «سبعين» على أنَّها سبعون سنة، وكلمة «أسبوع» على أنَّها الرقم ٧. وعليه فإنَّ تعبير «سبعون أسبوعًا» يعني ٧٠ × ٧ = ٤٩٠ سنة. وبناءً على ذلك فإن ولادة الطفل الذي تحدث عنه النبي إشعيا عندما قال: «لِأنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْنًا، وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ …» (إشعيا، ٩: ٦) ستحدث عام ٤٩ق.م. أو بعده بقليل.

في هذا المناخ الفكري والنفسي، الذي لم يكن وقفًا على اليهود فقط بل على الطوائف الدينية الأخرى التي كانت متأثرةً بالأفكار الزرادشتية عن نهاية الزمن، جاءت ولادة يسوع نحو عام ٦ق.م. أثناء الهزيع الأخير من حكم هيرود الكبير.

(٣) مفهوم المسيح في العهد الجديد

في البحثين السابقين عرضنا الأفكار التأسيسية لمفهوم المسيح في الثقافة التي نشأ فيها يسوع ومؤلِّفو الأناجيل، وخرجنا بعدَّة صيغ لهذا المفهوم وهي:
  • (١)

    الملك الذي مسحه الرب لحكم مملكة إسرائيل.

  • (٢)

    المسيح الداودي السياسي الذي يُرسله الرب لجمع شتات المنفيين من آل إسرائيل، ويعيد أمجاد دولتهم القديمة وينتقم من أعدائهم.

  • (٣)

    المسيح الكهنوتي الذي يُبعث في آخر الأزمنة ليُصلح الدين وينشر تقوى الرب مجددًا.

  • (٤)

    المسيح المتألم، عبد يهوه، الذي يحمل خطايا الناس ويخلِّصهم من آثامهم.

فأي من هذه المظاهر كان غالبًا على تفكير مؤلفي الأناجيل؟ وكيف حاولوا أن يثبتوا أن يسوع هو المسيح؟ وما موقف يسوع من هذا اللقب؟

في قصص الميلاد لدى كلٍّ من متَّى ولوقا تظهر صورةٌ خافتةٌ للمسيح الداودي من خلال ابتكار المؤلفين سلسلة نسبٍ تعود بيسوع إلى الملك داود، ومن خلال توكيدهم على ولادة يسوع في بيت لحم، وذلك تحقيقًا للنبوءات الكتابية القديمة التي تقول إن المسيح يولد في هذه المدينة لا في غيرها (ميخا، ٥: ٢)، ومن خلال قصة الميلاد العذري التي تعيد إنتاج مقطع إشعيا المشهور «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (إشعيا، ٧: ١٤). وتبدو صورة هذا المسيح الداودي أكثر وضوحًا لدى لوقا، عندما يضع على لسان الملاك الذي جاء بالبشارة إلى مريم قوله: «وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، * وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ» (لوقا، ١: ٣١–٣٣). ومتَّى بدوره يفتتح إنجيله بالقول: «كِتَابُ مِيلَادِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بْنِ دَاوُدَ.» معتبرًا النسب الداودي ليسوع مسألةً مفروغًا منها منذ البداية.

إلى جانب هذه الشهادات التي تقدَّم بها الإنجيليون أنفسهم بخصوص المسيح الداودي، فقد عمدوا إلى وضع اللقب على لسان الآخرين: «وَفِيمَا يَسُوعُ مُجْتَازٌ مِنْ هُنَاكَ، تَبِعَهُ أَعْمَيَانِ يَصْرخَانِ وَيَقُولَانِ: ارْحَمْنَا يَا ابْنَ دَاوُدَ! … * حِينَئِذٍ لَمَسَ أَعْيُنَهُمَا قَائِلًا: بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا * فَانْفَتَحَتْ أَعْيُنُهُمَا. فَانْتَهَرَهُمَا يَسُوعُ قَائِلًا: انْظُرَا، لَا يَعْلَمْ أَحَدٌ!» (متَّى، ٩: ٢٧–٣٠). «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. * وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! ابْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا» (متَّى، ١٥: ٢١–٢٢). «وَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرِيحَا كَانَ أَعْمَى جَالِسًا علَى الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. * فَلَمَّا سَمِعَ الْجَمْعَ مُجْتَازًا سَأَلَ: مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ هذَا؟ * فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ مُجْتَازٌ. * فَصَرَخَ قَائِلًا: يَا يَسُوعُ بْنَ دَاوُدَ، ارْحَمْنِي!» (لوقا، ١٨: ٣٥–٣٨).

وعندما دخل يسوع إلى أورشليم هتفت له الجماهير على أنَّه ابن داود: «وَالْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَآخَرُونَ قَطَعُوا أَغْصَانًا مِنَ الشَّجَرِ وَفَرَشُوهَا فِي الطَّرِيقِ. * وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرُخُونَ قَائِلِينَ: «أُوصَنَّا٢ لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ!»» (متَّى، ٢١: ٨–٩). وفي هذا الموضع يُضيف مرقس: «مُبَارَكَةٌ مَمْلَكَةُ أَبِينَا دَاوُدَ الآتِيَةُ بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي!» (مرقس، ١١: ١٠). أما يوحنا فيقول: «أُوصَنَّا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا، ١٢: ١٣).

ويقترن لقب المسيح بلقب «ملك اليهود» أو «ملك إسرائيل»، حيث يتخذ لقب «ملك اليهود» طابعًا سياسيًّا، «وملك إسرائيل» طابعًا دينيًّا، وقد استخدم خصوم يسوع لقب «الملك» أو «ملك اليهود» بالمعنى السياسي المرافق له. فعندما ألقى اليهود القبض على يسوع وأتوا به إلى الحاكم الروماني اشتكوا منه قائلين: «إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ. فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ …» (لوقا، ٢٣: ١–٣). «فَصَرَخَ الْجَمْعُ وَابْتَدَءُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا كَانَ دَائِمًا يَفْعَلُ لَهُمْ. * فَأَجَابَهُمْ بِيلَاطُسُ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُطْلِقَ لَكُمْ مَلِكَ الْيَهُودِ؟» (مرقس، ١٥: ٨–٩). «وَكَانُوا يَجْثُونَ قُدَّامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ قَائِلِينَ: السَّلَامُ يَا مَلِكَ الْيَهُودِ! (متَّى، ٢٧: ٢٩). وَكَتَبَ بِيلَاطُسُ عُنْوَانًا وَوَضَعَهُ عَلَى الصَّلِيبِ. وَكَانَ مَكْتُوبًا: يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ مَلِكُ الْيَهُودِ. * فَقَرَأَ هذَا الْعُنْوَانَ كَثِيرُونَ مِنَ الْيَهُودِ … * فَقَالَ رُؤَسَاءُ كَهَنَةِ الْيَهُودِ لِبِيلَاطُسَ: لَا تَكْتُبْ: مَلِكُ الْيَهُودِ، بَلْ: إِنَّ ذَاكَ قَالَ: أَنَا مَلِكُ الْيَهُودِ!» (يوحنا، ١٩: ١٩–٢١). أما لقب ملك إسرائيل فقد استخدمه أتباع يسوع بالمعنى الديني المرافق له. قال له التلميذ نثنائيل: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» (يوحنا، ١: ٤٩).

على أنَّ السياق العام للأناجيل الأربعة لا يدلُّ على أنَّ يسوع كان ذا مطمعٍ سياسيٍّ، أو أنَّه كان مطالِبًا بعرش داود، أو أنَّه كان يُعدُّ لثورة ضد الحكم الروماني، على ما تُظهره القصة التالية: «ثُمَّ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ قَوْمًا مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالْهِيرُودُسِيِّينَ لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكِلْمَةٍ. * فَلَمَّا جَاءُوا قَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَلَا تُبَالِي بِأَحَدٍ، لِأنَّكَ لَا تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ، بَلْ بِالْحَقِّ تُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ. أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لَا؟ نُعْطِي أَمْ لَا نُعْطِي؟ * فَعَلِمَ رِيَاءَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي؟ ائتُونِي بِدِينَارٍ لِأَنْظُرَهُ. * فَأَتَوْا بِهِ. فَقَالَ لَهُمْ: لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟ فَقَالُوا لَهُ: لِقَيْصَرَ. * فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ. فَتَعَجَّبُوا مِنْهُ» (مرقس، ١٢: ١٣–١٧).

وبعد معجزة تكثير الخبز والسمك: «فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ الآيَةَ الَّتِي صَنَعَهَا يَسُوعُ قَالُوا: إِنَّ هذَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ النَّبِيُّ الآتِي إِلَى الْعَالَمِ! * وَأَمَّا يَسُوعُ فَإِذْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُزْمِعُونَ أَنْ يَأْتُوا وَيَخْتَطِفُوهُ لِيَجْعَلُوهُ مَلِكًا انْصَرَفَ أَيْضًا إِلَى الْجَبَلِ وَحْدَهُ» (يوحنا، ٦: ١٤–١٥).

وقد اتسم موقف يسوع من قبول لقب المسيح بالتردد وعدم الوضوح، لا سيما في الأناجيل الإزائية الثلاثة. فقد كان يُخرس الشياطين التي يخرجها من أجساد الممسوسين عندما كانت تتعرف عليه على أنَّه المسيح ولا يدعها تتكلم، فشفى كثيرين كانوا مرضى بأمراضٍ مختلفةٍ وأخرج شياطين كثيرة، ولم يدع الشياطين يتكلمون لأنَّهم عرفوه (مرقس، ١: ٣٤).

«وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ! فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ» (لوقا، ٤: ٤١). وعندما قال له بطرس: أنت المسيح. لم يُجبه بنعم أو لا، وإنما نهى تلاميذه أن يقولوا لأحد أنَّه المسيح. «ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ وَتَلامِيذُهُ إِلَى قُرَى قَيْصَرِيَّةِ فِيلُبُّسَ. وَفِي الطَّرِيقِ سَأَلَ تَلَامِيذَهُ قَائِلًا لَهُمْ: مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا؟ * فَأَجَابُوا: يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ. وَآخَرُونَ: إِيلِيَّا. وَآخَرُونَ: وَاحِدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ. * فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ! * فَانْتَهَرَهُمْ كَيْ لَا يَقُولُوا لأحَدٍ عَنْهُ. * وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ. * وَقَالَ الْقَوْلَ عَلَانِيَةً. فَأَخَذَهُ بُطْرُسُ إِلَيْهِ وَابْتَدَأَ يَنْتَهِرُهُ. * فَالْتَفَتَ وَأَبْصَرَ تَلَامِيذَهُ، فَانْتَهَرَ بُطْرُسَ قَائِلًا: اذْهَبْ عَنِّي يَا شَيْطَانُ! لِأنَّكَ لَا تَهْتَمُّ بِمَا للهِ لكِنْ بِمَا لِلنَّاسِ» (مرقس، ٨: ٢٧–٣٣). إن عتاب بطرس ليسوع هنا ناجمٌ عن سببين: الأول عدم اعتراف يسوع صراحةً بأنَّه المسيح اليهودي المنتظر، وهي الصورة التي كانت في ذهن بطرس تمامًا عندما وصفه بالمسيح؛ والثاني عدم قبول بطرس لاستبدال فكرة المسيح المنتظر المنتصر بفكرة المسيح المتألِّم الذي يُرفض من الناس ثم يُقتل. ولهذا ثارت ثائرة يسوع واتهمه بعدم الفهم وبأنَّه يُماشي عامة الناس في تصوراتهم عن المسيح.

فإذا انتقلنا إلى إنجيل لوقا في روايته للحادثة نفسها نجد رواية قريبةً من رواية مرقس مع حذف اعتراض بطرس: «فَقَالَ لَهُمْ: وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ أَنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ: مَسِيحُ اللهِ! * فَانْتَهَرَهُمْ وَأَوْصَى أَنْ لَا يَقُولُوا ذلِكَ لأَحَدٍ، * قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَتَأَلَّمُ كَثِيرًا، وَيُرْفَضُ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلُ، وَفِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ يَقُومُ» (لوقا، ٩: ٢٠–٢٢). أما متَّى فيستبدل المشادة التي حصلت بين يسوع وبطرس بمديح مطوَّل يوجهه يسوع إلى بطرس بعد اعترافه بأنَّه المسيح: «فَأَجَابَ سِمْعَانُ بُطْرُسُ وَقَالَ: أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ! * فَأجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ … * حِينَئِذٍ أَوْصَى تَلَامِيذَهُ أَنْ لَا يَقُولُوا لأَحَدٍ إِنَّهُ يَسُوعُ الْمَسِيحُ» (متَّى، ١٦: ١٣–٢٠). ونحن هنا أمام تناقض واضحٍ لا يمكن تفسيره إلا بأنَّ مقطع المديح هنا هو مداخلةٌ لاحقة من شأنها التخفيف من صدمة القارئ من عدم رغبة يسوع في توكيد أنَّه المسيح.

وحده إنجيل يوحنا يضع على لسان يسوع إجابةً مباشرةً تُفيد قبوله للقب المسيح دون تردد. ففي حواره مع المرأة السامرية عندما طلب منها شربة ماء عند البئر قالت له: «أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ. * قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ» (يوحنا، ٤: ٢٥–٢٦). وعندما كان يتمشَّى في رواق الهيكل: «احْتَاطَ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لَهُ: إِلَى مَتَى تُعَلِّقُ أَنْفُسَنَا؟ إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمَسِيحَ فَقُلْ لَنَا جَهْرًا. * أَجَابَهُمْ يَسُوعُ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ» (يوحنا، ١٠: ٢٤–٢٥). ومسيحانية يسوع عند يوحنا كانت بادية لمن له عينان للنظر. فقد تعرَّف عليه يوحنا المعمدان عندما نظره مُقبلًا إليه، فقال: «وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ وَشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ابْنُ اللهِ» (يوحنا، ١: ٣٤). والتلميذ أندراوس تعرَّف على يسوع منذ أول لقاء، ومضى إلى أخيه سمعان بطرس وقال له: «قَدْ وَجَدْنَا مَسِيَّا» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: الْمَسِيحُ) (يوحنا، ١: ٤١). وقالت له مرتا أخت لِعازر الذي أقامه من بين الأموات: «نَعَمْ يَا سَيِّدُ. أَنَا قَدْ آمَنْتُ أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، الآتِي إِلَى الْعَالَمِ» (يوحنا، ١١: ٢٧).

وفي يوم المحاكمة، عندما كان الكاهن الأعلى أو الحاكم الروماني يسأل يسوع: أأنت المسيح؟ أو: أأنت ملك اليهود؟ كان يتقدم بإجابة غامضةٍ. وغالبًا ما يقول: أنت تقول ذلك، أو أنت قلت. نقرأ عند لوقا: «وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ؛ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ * قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ، فَقُلْ لَنَا! فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونَ، * وَإِنْ سَأَلْتُ لَا تُجِيبُونَنِي وَلَا تُطْلِقُونَنِي. * مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ. * فَقَالَ الْجَمِيعُ: أَفَأَنْتَ ابْنُ اللهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا هُوَ» (لوقا، ٢٢: ٦٦–٧٠). وعند متَّى: «فَقَامَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هذَانِ عَلَيْكَ؟ * وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتًا. فَأَجَابَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ»» (متَّى، ٢٦: ٦٢–٦٤). مرقس وحده بين الإزائيين جعل يسوع يجيب رئيس الكهنة إجابة مباشرة: «فَسَأَلَهُ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ أَيْضًا وَقَالَ لَهُ: أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟ * فَقَالَ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ. (مرقس، ١٤: ٦١–٦٢). على أننا هنا يجب ألَّا نقلل من قيمة شهادات مخطوطاتٍ قديمةٍ لإنجيل مرقس تضع على لسان يسوع الإجابة الغامضة: «أنت تقول ذلك»، الأمر الذي يدلُّ على وجود لمسة تحريرٍ لاحقة على إنجيل مرقس في هذا الموضع.

بعد استجواب يسوع في دار رئيس الكهنة واتهامه بالتجديف، يجري تقييده وسوقه إلى الحاكم الروماني بيلاطُس. وفي دار الولاية يجري الحوار نفسه بين بيلاطُس ويسوع. ونقرأ في إنجيل متَّى: «فَوَقَفَ يَسُوعُ أَمَامَ الْوَالِي. فَسَأَلَهُ الْوَالِي قَائِلًا: أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ» (متَّى، ٢٧: ١١). ونقرأ في إنجيل مرقس: «فَسَأَلَهُ بِيلَاطُس: أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَ: أَنْتَ تَقُولُ» (مرقس، ١٥: ٢). ونقرأ في إنجيل لوقا: «فَقَامَ كُلُّ جُمْهُورِهِمْ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى بِيلَاطُسَ، * وَابْتَدَءُوا يَشْتَكُونَ عَلَيْهِ قَائِلِينَ: إِنَّنَا وَجَدْنَا هذَا يُفْسِدُ الأُمَّةَ، وَيَمْنَعُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ، قَائِلًا: إِنَّهُ هُوَ مَسِيحٌ مَلِكٌ. * فَسَأَلَهُ بِيلَاطُسُ قَائِلًا: أَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَأَجَابَهُ وَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ» (لوقا، ٢٣: ١–٣). في إنجيل يوحنا يعطي يسوع إجابة أكثر تفصيلًا: «مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ. لَوْ كَانَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هذَا الْعَالَمِ، لَكَانَ خُدَّامِي يُجَاهِدُونَ لِكَيْلَا أُسَلَّمَ إِلَى الْيَهُودِ. وَلكِنِ الآنَ لَيْسَتْ مَمْلَكَتِي مِنْ هُنَا. * فَقَالَ لَهُ بِيلَاطُسُ: أَفَأَنْتَ إِذَنْ مَلِكٌ؟ أَجَابَ يَسُوعُ: أَنْتَ تَقُولُ إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لِأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي. * قَالَ لَهُ بِيلَاطُسُ: مَا هُوَ الْحَقُّ؟ وَلَمَّا قَالَ هذَا خَرَجَ أَيْضًا إِلَى الْيَهُودِ وَقَالَ لَهُمْ: أَنَا لَسْتُ أَجِدُ فِيهِ عِلَّةً وَاحِدَةً» (يوحنا، ١٨: ٣٣–٣٨).

نلاحظ من قول بيلاطُس لليهود، في هذا المقتبس الأخير من يوحنا: «أنا لست أجد فيه علة»، أنَّ إجابة يسوع عن سؤال الآخرين عمَّا إذا كان المسيح أو ملك اليهود بقوله: «أنت تقول ذلك» لا تتضمن معنى الموافقة بأي حالٍ من الأحوال. والحقيقة هي أن بيلاطُس لو استشف الموافقة من يسوع وقبوله للقب المسيح أو ملك اليهود لاتَّهمه بالشغب السياسي وعدم الولاء للإمبراطور. ولكن مجرى سير المحاكمة وهزالة الأدلة التي قدَّمها اليهود على قيام يسوع بالتحريض السياسي، قد أوضحت عدم وجود أساس لهذه التهمة. فلا الأدلة كانت كافيةً لإدانته، ولا إجاباته عن أسئلة الكاهن الأعلى والحاكم الروماني كانت كافيةً أيضًا. فإجابته المقتضبة «أنت تقول ذلك»، إنما تضمر جملة أخرى بعدها هي: «لا أنا». وهذا ما دعا بيلاطُس إلى التعاطف معه ومحاولة إخلاء سبيله. ففي روايات الأناجيل الإزائية الثلاثة، إلى جانب رواية يوحنا، يقول بيلاطُس إنَّه لم يجد في الأدلة ما يستوجب الحكم على يسوع. يقول لوقا: «فَدَعَا بِيلَاطُسُ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَالْعُظَمَاءَ وَالشَّعْبَ، * وَقَالَ لَهُمْ: قَدْ قَدَّمْتُمْ إِلَيَّ هذَا الإِنْسَانَ كَمَنْ يُفْسِدُ الشَّعْبَ. وَهَا أَنَا قَدْ فَحَصْتُ قُدَّامَكُمْ وَلَمْ أَجِدْ فِي هذَا الإِنْسَانِ عِلَّةً مِمَّا تَشْتَكُونَ بِهِ عَلَيْهِ» (لوقا، ٢٣: ١٣–١٤). ويقول مرقس: «فَسَأَلَهُمْ بِيلَاطُسُ: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَازْدَادُوا جِدًّا صُرَاخًا: اصْلِبْهُ!» (مرقس، ١٥: ١٤). ويقول متَّى: «قَالَ لَهُمْ بِيلَاطُسُ: فَمَاذَا أَفْعَلُ بِيَسُوعَ الَّذِي يُدْعَى الْمَسِيحَ؟ قَالَ لَهُ الْجَمِيعُ: لِيُصْلَبْ! * فَقَالَ الْوَالِي: وَأَيَّ شَرٍّ عَمِلَ؟ فَكَانُوا يَزْدَادُونَ صُرَاخًا قَائِلِينَ: لِيُصْلَبْ! * فَلَمَّا رَأَى بِيلَاطُسُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ شَيْئًا، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَحْدُثُ شَغَبٌ، أَخَذَ مَاءً وَغَسَلَ يَدَيْهِ قُدَّامَ الْجَمْعِ قَائِلًا: إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا الْبَارِّ! أَبْصِرُوا أَنْتُمْ! * فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْب وَقَالُوا: دَمُهُ عَلَيْنَا وَعَلَى أَوْلَادِنَا» (متَّى، ٢٧: ٢٢–٢٥).

ولكن إذا كان يسوع قد ادَّعى المسيحانية، فكيف كانت فكرته عن المسيح؟ وما هي مضامين اللقب بالنسبة إليه؟ هذا ما سوف نتعامل معه فيما يلي.

(٤) يسوع ابن الإنسان

لقد كان تردد يسوع في قبول لقب المسيح، ولقب ملك اليهود، نابعًا من التداعيات السياسية لهذين اللقبين، وارتباطهما بالمطامح الاستقلالية لليهود الذين كانوا ينتظرون مسيحًا داوديًّا يُعيد أمجاد مملكة إسرائيل القديمة ويحارب أعداءها. ولكن هذا التردد لم يكن يعني أن يسوع لم يكن مُدركًا لدوره المسيحاني كمخلِّص للبشرية، لقد كان مسيحًا ولكن ليس الذي يتطلع إليه اليهود، ولذلك فقد اختار لقبًا يتطابق وطبيعة مهمته ورسالته وهو «ابن الإنسان»، الذي يحمل مضامين لاهوتية لا صلة لها بالهموم السياسية والنزاعات القومية. وفي كل مرة كان يُسأل عمَّا إذا كان هو المسيح المنتظر، كان يصرف نظر سائله عن لقب المسيح إلى اللقب الذي كان يفضله وهو «ابن الإنسان». ونحن إذا أردنا أن نفهم حق الفهم ما الذي كان يسوع يعنيه من وراء هذا اللقب علينا أن ننظر إلى أصوله في الأسفار التوراتية، القانونية منها وغير القانونية.

(٤-١) الأفكار التأسيسية

تعود التصورات الخاصة ﺑ «ابن الإنسان»، سواء في أسفار العهد الجديد أم في الأسفار التوراتية غير القانونية، إلى الصورة الحيَّة التي رسمها له سفر دانيال في العهد القديم، وهو آخر الأسفار القانونية من حيث تاريخ التدوين (١٦٠ق.م.) ففي الإصحاح السابع من هذا السفر تعرضُ لدانيال الحكيم رؤيا وهو في بابل، يرى فيها أربعة وحوشٍ مخيفةٍ تُمثِّل ممالك العالم القوية الأربع: بابل وميديا وفارس واليونان. يلي ذلك مشهدٌ يجلس فيه يهوه للقضاء، على هيئة رجلٍ أبيض الشعر متقدم في السن: «كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ وُضِعَتْ عُرُوشٌ، وَجَلَسَ الْقَدِيمُ الأَيَّامِ. لِبَاسُهُ أَبْيَضُ كَالثَّلْجِ، وَشَعْرُ رَأْسِهِ كَالصُّوفِ النَّقِيِّ، وَعَرْشُهُ لَهِيبُ نَارٍ، وَبَكَرَاتُهُ نَارٌ مُتَّقِدَةٌ. * نَهْرُ نَارٍ جَرَى وَخَرَجَ مِنْ قُدَّامِهِ. أُلُوفُ أُلُوفٍ تَخْدِمُهُ، وَرَبَوَاتُ رَبَوَاتٍ وُقُوفٌ قُدَّامَهُ» (دانيال، ٧: ٩–١٠). بعد ذلك يحكم الدَّيَّان على الوحش الرابع بالهلاك، وينزع عن الوحوش الثلاثة الأخرى سلطانها، ويمهلها إلى أجلٍ معلومٍ، ثم تأتي الرؤيا إلى ذروتها في مشهد ظهور كائنٍ متفوقٍ يُدعى ابن الإنسان يأتي على جناح الغمام: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. * فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لَا يَنْقَرِضُ» (دانيال، ٧: ١٣–١٤).

نلاحظ هنا أن فكرة مسيح آخر الأزمنة قد أُضفيت إليها فكرة «الحقيقة المسيحانية» القائمة مع الله قبل خلق العالم. فالمسيح هو حقيقةٌ كونيةٌ قائمةٌ في عالم المُثل سوف تتجسَّد في إنسانٍ يُولد من عذراء ليخلِّص العالم. وسوف نجد الأسفار التوراتية غير القانونية تعطي تنويعاتها على هذه الفكرة، مثل سفر أخنوخ الأول الذي دُوِّن في زمنٍ ما من أواسط القرن الأول الميلادي، أي قبل تدوين الأناجيل الرسمية. يضع كاتب السفر رؤياه على لسان أخنوخ بن يارد، وهو السَّلَف السادس بعد آدم، والذي يقول عنه سفر التكوين إنَّه رُفع حيًّا إلى السماء. فأخنوخ يُعرَج به إلى السماء، وتأخذه الملائكة في جولة تكشف له أسرار العالم العلوي، وصولًا إلى مواجهته مع ابن الإنسان:

«هناك رأيت الذي رأسه مبدأ الأيام (يهوه). كان شعره مُشتعلًا بياضًا مثل الصوف، ومعه كائنٌ آخر له مظهر الإنسان ووجهه ممتلئٌ نعمةً كملاكٍ قديس. فسألت الملاك المرافق له أن يكشف لي سر ابن الإنسان، من هو؟ ومن أين أتى؟ ولماذا يرافق مبدأ الأيام؟ فقال لي: هو ابن الإنسان الممتلئ بالخير والذي به يحيا الخير، لأنَّ رب الأرواح اختاره، وقدرُه خيرٌ كله أمام رب الأرواح إلى الأبد. إنَّ ابن الإنسان الذي رأيت سيرمي الملوك والجبابرة والأقوياء عن عروشهم وكراسيهم … سوف يخلع قلوب الأقوياء ويكسر أسنان الخُطاة، ويُخفض وجوه العُتاة ويمرِّغها بالعار، فيجعل الظلمة مسكنهم والديدان سريرهم، هناك يضطجعون ولا يقومون.» وفي رؤيا ثانية تتجدد مواجهة أخنوخ مع ابن الإنسان: «هناك رأيت ينبوع الخير الذي لا ينضب مَعينه، وحوله من كل ناحيةٍ كثيرٌ من ينابيع الحكمة ليشرب منها العطاش ويمتلئوا، فيعيشون مع الأخيار والقديسين والمختارين. في تلك الساعة سُمِّي ابن الإنسان أمام رب الأرواح وكان اسمه سابق الأيام (حرفيًّا: قبل بداية الأيام). قبل أن تُخلق الشمس وبروج السماء، قبل أن تُصنع نجوم السماء، دُعي اسمه أمام رب الأرواح، سيكون عصًا يتوكأ عليها الأبرار فلا يعثرون. سيكون نورًا تهتدي به الأمم وأملًا لجميع المحزونين. أمامه سيسجد أهل الأرض ويعبدونه، ويحمدون ويباركون رب الأرواح بالأناشيد. لأجل هذا تمَّ اصطفاؤه وحجبه في حضرة رب الأرواح من قبل خلق العالم وإلى نهاية الدهر. لكن حكمة رب الأرواح قد كشفت عنه للقديسين والأبرار، لِأنَّه حافظٌ للأبرار الذين نبذوا عالم الشر هذا، وكرهوا كل طرقه وأعماله، واعتصموا برب الأرواح الذي باسمه سوف يَخلصون وفقًا لمرضاته. في تلك الأيام سيُذل الملوك والمتنفذون جرَّاء ما اقترفته أيديهم، وفي يوم كربهم لن يستطيعوا إنقاذ أنفسهم. عندها سوف يُسلمون إلى أيدي المختارين، وسوف يحترقون مثل قشٍّ في نارٍ أمام وجه القديسين … في يوم كربهم ذاك سيحلُّ سلامٌ على الأرض، وهم يسقطون ولا يقومون.

«في تلك الأيام سوف تعيد الأرض أمانتها، وتلفظ الهادية ما أخذته إليها، ويسدد الجحيم دَينه. في تلك الأيام سيقوم المصطفى (ابن الإنسان) ويختار من بين الأموات المبعوثين الأبرارَ منهم والقديسين؛ لأنَّ يوم خلاصهم قد حان. في تلك الأيام سيجلس المصطفى على العرش وينطق فمه بأسرار الحكمة والموعظة الحسنة، لأنَّ رب الأرواح قد منحه إيَّاها ومجده. في تلك الأيام سوف تقفز الجبال مثل كباشٍ فرحة، وتنط التلال مثل حملانٍ رُويت حليبًا. يومئذ ستشع وجوه الملائكة حبورًا، وتبتهج الأرض بالأخيار، والمختارون يرتعون فيها، ورب الأرواح يحكم فوقهم. سوف يأكلون مع ابن الإنسان، وينامون ويستيقظون في كل يومٍ إلى أبد الآبدين. سيرفعون قاماتهم على الأرض ولا يخفضون رءوسهم أبدًا. عليهم عباءات مجدٍ، عباءات الحياة من رب الأرواح، عباءاتٌ لا تبلى مع الزمن، ولا يبلى مجدهم أمام رب الأرواح.»٣

(٤-٢) ابن الإنسان في العهد الجديد

هذه الشخصية/الفكرة الموجودة لدى الله قبل خلق العالم، والتي سوف تتجسَّد في إنسانٍ من لحمٍ ودم يأتي ليدين العالم ويفصل بين الأشرار والأخيار، ويحكم على مملكة الرب المقبلة، سيطرت على لاهوت إنجيل يوحنا منذ افتتاحيته الفخمة التي تفوح منها رائحة الفلسفة اليونانية: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ … * كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا، ١: ١–١٤).

وقد ورد تعبير «ابن الإنسان» في إنجيل يوحنا نحو إحدى عشرة مرة على لسان يسوع الذي كان يُشير إلى نفسه بهذا اللقب، بما ينطوي عليه من المعاني التي أسَّس لها سفر دانيال والأسفار غير القانونية، إضافةً إلى ظلال من مفهوم «المسيح المتألم»، عبد الرب البار، الذي يحمل خطايا البشر ويهبهم الخلاص بموته: «إِنْ كُنْتُ قُلْتُ لَكُمُ الأَرْضِيَّاتِ وَلَسْتُمْ تُؤْمِنُونَ، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ إِنْ قُلْتُ لَكُمُ السَّمَاوِيَّاتِ؟ * وَلَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، ابْنُ الإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ فِي السَّمَاءِ. * وَكَمَا رَفَعَ مُوسَى الْحَيَّةَ فِي الْبَرِّيَّةِ هكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُرْفَعَ ابْنُ الإِنْسَانِ، * لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ؛ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا، ٣: ١٢–١٥). والحية التي يُشير إليها يسوع هي حيَّة النحاس التي رفعها موسى على عصا بأمر الرب بعد أن سلَّط عليهم الحيَّات لتلدغهم، فكان من لدغته حيَّةٌ ينظر إلى حية النحاس فيشفى. فيسوع الذي سيُرفع على الصليب يشبه تلك الحية النحاسية، لأنَّ كل من يؤمن بالآثار الخلاصية لصلب يسوع يحصل على الحياة الأبدية.

«اعْمَلُوا لَا لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّذِي يُعْطِيكُمُ ابْنُ الإِنْسَانِ، لِأَنَّ هذَا اللهُ الآبُ قَدْ خَتَمَهُ» (يوحنا، ٦: ٢٧). «أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا يَسِيرًا بَعْدُ، ثُمَّ أَمْضِي إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (يوحنا، ٦: ٣٣). «أَنْتُمْ مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنْ هذَا الْعَالَمِ» (يوحنا، ٨: ٢٣). «مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ، فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ» (يوحنا، ٨: ٢٨). «فَقَالَ لَهُ الْيَهُودُ: لَيْسَ لَكَ خَمْسُونَ سَنَةً بَعْدُ، أَفَرَأَيْتَ إِبْرَاهِيمَ؟ * قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ أَنَا كَائِنٌ» (يوحنا، ٨: ٥٧–٥٨). «خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِ الآبِ، وَقَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَيْضًا أَتْرُكُ الْعَالَمَ وَأَذْهَبُ إِلَى الآبِ» (يوحنا، ١٦: ٢٨). «مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ» (يوحنا، ١٧: ٥).

هذا الوجود السابق لابن الإنسان على وجود العالم هو حالةٌ من الوجود المثالي غير المتحقق في صيغتهٍ ماديةٍ، انتقل إلى حالة الوجود المتحقق عندما حملت العذراء بيسوع. ولا يوجد في أقوال يسوع التي يوردها يوحنا، ولا في أي موضعٍ آخر من أسفار العهد الجديد، ما يدلُّ على أنَّ يسوع ابن الإنسان معادلٌ للآب في الجوهر أو مساوٍ له في القِدم، ويسوع في الأقوال التالية التي نقتبسها من إنجيل يوحنا، إنما يضع حدًّا فاصلًا واضحًا كل الوضوح بينه وبين الآب الذي يقول عنه إنه وحده الإله الحق:

  • «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (١٧: ٣).

  • «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا إلَّا مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ» (٥: ١٩).

  • «لأنَّ الَّذي أَرْسَلَهُ اللهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ اللهِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَيْلٍ يُعْطِي الله الرُّوح» (٣: ٣٤).

  • «هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي» (٥: ٣٦).

  • «لأنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لِأَعْملَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (٦: ٣٨).

  • «تَعْلِيمِي لَيْسَ لِي بَلْ لِلَّذِي أَرْسَلَنِي» (٧: ١٦).

  • «كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ» (٦: ٥٧).

  • «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي» (٨: ٣٨).

  • «فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ» (١٢: ٥٠).

  • «أَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ كَلَامَكَ، وَالْعَالَمُ أَبْغَضَهُمْ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْعَالَمِ، كَمَا أَنِّي أَنَا لَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (١٧: ١٤).

  • «وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ» (١٤: ٣١).

ويسوع يخاطب الآب بصيغة «إلهي». فقد قال للتلاميذ: «إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ» (يوحنا، ٢٠: ١٧). وقبل أن يلفظ الروح نادى الآب قائلًا: «إلهي! إلهي! لماذا تركتني؟» ومن كان الآب إلهه لا يمكن أن يكون مساويًا له في القِدم، أو معادلًا له في الجوهر.

فإذا انتقلنا إلى الأناجيل الإزائية الثلاثة: متَّى ومرقس ولوقا، نجد أنَّ يسوع كان يستخدم لقب ابن الإنسان لصرف النظر عن لقب المسيح واستبداله باللقب الذي يفضِّله. وفي جميع هذه المواضع فإنه يتحوَّل من فكرة المسيح الداودي إلى فكرة ابن الإنسان المتألم، فيتنبأ بموته وقيامته، ثم عودته في آخر الأزمنة على ظلال الغمام قاضيًا وديَّانًا. فعندما قال له بطرس: «أنت المسيح، انتهر التلاميذ وأخبرهم ألا يقولوا لأحدٍ عنه، وَابْتَدَأَ يُعَلِّمُهُمْ أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ كَثِيرًا، وَيُرْفَضَ مِنَ الشُّيُوخِ وَرُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ، وَيُقْتَلَ، وَبَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقُومُ» (مرقس، ٨: ٣١). «وَلِلْوَقْتِ بَعْدَ ضِيقِ تِلْكَ الأَيَّامِ تُظْلِمُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ لَا يُعْطِي ضَوْءَهُ، وَالنُّجُومُ تَسْقُطُ مِنَ السَّمَاءِ، وَقُوَّاتُ السَّمَوَاتِ تَتَزَعْزَعُ. * وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ» (متَّى، ٢٤: ٢٩–٣٠). «فَيُرْسِلُ حِينَئِذٍ مَلَائِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ الأَرْضِ إِلَى أَقْصَاءِ السَّمَاءِ». (مرقس، ١٣: ٢٧). «وَإِذْ كَانَ الْجَمِيعُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ كُلِّ مَا فَعَلَ يَسُوعُ، قَالَ لِتَلَامِيذِهِ: * ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلَامَ فِي آذَانِكُمْ: إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ سَوْفَ يُسَلَّمُ إِلَى أَيْدِي النَّاسِ» (لوقا، ٩: ٤٣–٤٤).

وفي يوم المحاكمة كان كلما سُئل عمَّا إذا كان هو المسيح، يراوغ في الإجابة ويصرف ذهن سائليه إلى مفهوم ابن الإنسان: «وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ اجْتَمَعَتْ مَشْيَخَةُ الشَّعْبِ: رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةُ، وَأَصْعَدُوهُ إِلَى مَجْمَعِهِمْ * قَائِلِينَ: إِنْ كُنْتَ أَنْتَ الْمسِيحَ، فَقُلْ لَنَا! فَقَالَ لَهُمْ: إِنْ قُلْتُ لَكُمْ لَا تُصَدِّقُونَ، * وَإِنْ سَأَلْتُ لَا تُجِيبُونَنِي وَلَا تُطْلِقُونَنِي. * مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٦–٦٩). فسأله رئيس الكهنة: أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟ * قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضًا أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ» (متَّى، ٢٦: ٦٣–٦٤).

فإذا انتقلنا إلى بقية أسفار العهد الجديد، نجد أن بولس لم يستخدمْ تعبير ابن الإنسان، بينما ورد مرةً واحدةً في سفر أعمال الرسل على لسان اسطفانوس، أول شهيدٍ في المسيحية، عندما كان يلعن اليهود وهم يرجمونه: «هَا أَنَا أَنْظُرُ السَّمَوَاتِ مَفْتُوحَةً، وَابْنَ الإِنْسَانِ قَائِمًا عَنْ يَمِينِ اللهِ» (أعمال ٧: ٥٦). كما ورد التعبير في سفر الرؤيا مرةً واحدةً أيضًا: «ثُمَّ نَظَرْتُ وَإِذَا سَحَابَةٌ بَيْضَاءُ، وَعَلَى السَّحَابَةِ جَالِسٌ شِبْهُ ابْنِ الإِنْسَانِ، لَهُ عَلَى رَأْسِهِ إِكْلِيلٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَفِي يَدِهِ مِنْجَلٌ حَادٌّ. * وَخَرَجَ مَلَاكٌ آخَرُ مِنَ الْهَيْكَلِ، يَصْرُخُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ إِلَى الْجَالِسِ عَلَى السَّحَابَةِ: أَرْسِلْ مِنْجَلَكَ وَاحْصُدْ، لِأنَّهُ قَدْ جَاءَتِ السَّاعَةُ لِلْحَصَادِ، إِذْ قَدْ يَبِسَ حَصِيدُ الأَرْضِ» (الرؤيا، ١٤: ١٤–١٦).

(٥) مفهوم «ابن الله»

(٥-١) الأفكار التأسيسية

يُعتبر لقب «ابن الله» الذي استخدمه مؤلفو أسفار العهد الجديد في الإشارة إلى يسوع، ولقب «الابن» الذي استخدمه يسوع في الإشارة إلى نفسه، من أهم النقاط الخلافية التي أثار القرآن الكريم بخصوصها جدلًا واسعًا مع اللاهوت المسيحي، علمًا بأنَّ الفجوة ليست واسعة بين القرآن والعهد الجديد فيما يتعلَّق بالمضامين الأصلية للقب. فما الذي كان يعنيه «العهد الجديد» عندما يصف يسوع بابن الله؟ لكي نفهم هذه النقطة لا بد لنا من العودة إلى الأصول.

في تقصينا للأفكار التأسيسية لمفهوم «ابن الله» سوف نتخطَّى الدائر الثقافية الفلسطينية إلى الدائرة الأوسع التي تنتمي إليها، وأعني الثقافة الكنعانية، حيث كان الملك يتمتَّع بلقب «ابن إيل» أي ابن الله، وحيث كانت مؤسسة الملوكية في الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية بمثابة صلة وصلٍ بين عالم الألوهة وعالم البشر. وسبيلنا إلى ذلك هو التركة الميثولوجية الغنية لحضارة مدينة أوغاريت السورية، التي بلغت أوج ازدهارها في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.

إنَّ أول ما يلفت نظرنا في الملاحم الأوغاريتية هو قدسية مؤسسة الملوكية والتداخل الواضح بين العالم الذي يعيش فيه أفرادها وعالم الآلهة. فالإله بعل في ملحمة أقهات يظهر لدانيال الحاكم العادل، ويعده بالتوسط لدى كبير الآلهة إيل ليُزيل عنه لعنة العقم ويهبه وليًّا للعهد، فيرزق بولد ويدعوه أقهات. وعندما يكبر أقهات ويبلغ مبلغ الشباب، يقوم إله الصناعة والحرف كوثر بزيارةٍ لأسرة دانيال، ويتناول الطعام على مائدتهم، ثم يهدي أقهات قوسًا عجيب الصنعة. بعد ذلك تقوم الإلهة عناة بزيارةٍ أخرى للأسرة، فتأكل على مائدتهم أيضًا، وتحصل مشادة بينها وبين أقهات بسبب رفضه إعطاءها قوسه هدية.

وولي العهد منذ ولادته يتخذ دور الابن المتبنى من كبير الآلهة إيل وزوجته عشيرة. وتبدأ صلته بعالم الألوهة عندما ترضعه أم الآلهة عشيرة وإلهة الخصب عناة. نقرأ في ملحمة كِرت في مشهد بشارة إيل للملك كِرت بولدٍ يرثه على العرش:

لقد اتخذتَ زوجةً يا كرت،
لقد جئت بزوجةٍ إلى بيتك.
سوف تلد لك سبعة أبناء،
سوف تُنجب لك الفتى «يصب»؛
الذي سوف يرضع حليب عشيرة،
ويمتصُّ من ثدي عناة:
مرضعتي الآلهة.

ولذلك فإننا نجد كبير الآلهة إيل يشير إلى الملك الأوغاريتي على أنه ابنه. ففي ملحمة كِرت، عندما كان الملك كِرت يتضرَّع إلى الآلهة كي تهبه ذرية، تجلَّى له إيل في الحلم وقال له:

لماذا يبكي كِرت؟
ولماذا تدمع عينا الطيب ابن إيل؟
هل يرغب في مُلك كمُلك أبيه الثور (إيل)؟
أم يبغي سلطانًا كسلطان أبي البشر؟

كما كان الآخرون يُشيرون إلى الملك على أنَّه ابن إيل، بمن فيهم أهل بيته الذين كانت لديهم قناعةٌ راسخةٌ بأبوه إيل للملك. فعندما مرض كِرت وشارف على الموت، وقف أحد أولاده أمام سريره وندبه قائلًا:

أبي، كنزي،
كيف يقولون إنَّ كِرت ابن الآلهة؟
وإنَّ كِرت من ذرية إله الرحمة؟
وإنَّه من أبناء القدوس؟
أوَهل تموت الآلهة يا أبي؟
وذرية إله الرحمة، ألن تعيش إلى الأبد؟
(ثم تدخل ابنته وتندبه بمثل ما تقدَّم، ثم تضيف:)
يبكيك يا أبي جبل صافون، جبل بعل.
تبكيك الرايات العظيمة المقدسة.
أليس كِرت من أبناء إيل؟
أليس كِرت من ذرية إله الرحمة،
ومن سلالة القدوس؟

هذا الوضع الخاص للملك الكنعاني يجعل منه صلة وصلٍ بين عالم الألوهة وعالم البشر، وضامنًا لخصوبة الأرض والطبيعة. فإذا خارت قوى الملك وألمَّ به مرضٌ، انعكس ذلك على مقدرته على تحقيق هذه الصلة مع القوى الإخصائية. لذلك فعندما استلقى المك كِرت على فراش الموت:

رفع الفلاحون رءُوسهم،
وانتصبت ظهور من يبذرون الحبوب.
لقد نفد الخبز من معاجنهم،
ونضبت الخمرة من دنانهم،
وفرغت قِرَبهم من السمن.٤

ولكن الإله إيل يتدخل شخصيًّا من أجل شفاء ابنه المتبنى، مثلما أسبغ عليه عنايته ورعايته عبر مراحل حياته المختلفة، فيُرسل إليه إحدى إلهات الشفاء التي تطير فوق السهول والجبال وتجمع أعشابًا شافية تحملها إلى كِرت وتداويه بها فيبلى من مرضه.

وفي الحقيقة فقد توافر لدينا من الأدلة النصيَّة الطقسية ما يدل على أنَّ ملوك أوغاريت قد أُلِّهوا بعد مماتهم، ولكن لم يتوافر لدينا دليلٌ على أنَّهم قد أُلِّهوا في حياتهم، أو أنَّهم كانوا أنصاف آلهةٍ ولدوا من زواج كائنٍ إلهي بامرأة بشرية. من هنا فإن صلة البنوة التي تجمع بين الملك والإله إيل ليست إلا صلة مجازية تعبر عن الوضع المميز للملك، وعن قدسية مؤسسة الملوكية الكنعانية، وترسم خطوط الحق الذي يحكمون بموجبه، وهو الحق الإلهي.

هذه الإيديولوجيا الملوكية الكنعانية كانت سائدةً في ممالك فلسطين، ومنها انتقلت إلى كتاب العهد القديم الذي كان يصف ملوك إسرائيل الأوائل بأبناء الله. فالملك المسيح، الذي اختاره الرب لحكم إسرائيل، هو ابن بالتبنِّي لله. وصلة الأبوَّة والبنوة التي تجمع بينهما هي نوعٌ من المجاز اللغوي الذي يعبر عن مكانة الملك (الذي كان يدعى بمسيح الرب) عند الله. وفي ظل العقيدة التوحيدية الصارمة لكتاب العهد القديم لا يوجد لدينا أي نصٍّ، سواء من الأسفار القانونية أو غير القانونية، يمكن أن نستشفَّ منه ألوهية أحدٍ من البشر.

نقرأ في المزمور الثاني على لسان داود الحديث التالي عن بنوته للرب: «إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ الرَّبِّ: قَالَ لِي: أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ. * اسْأَلْنِي فَأُعْطِيَكَ الأُمَمَ مِيرَاثًا لَكَ، وَأَقَاصِيَ الأَرْضِ مُلْكًا لَكَ» (المزمور ٢: ٧–٨). وفي المزمور ٨٩ نقرأ على لسان الرب فيما يخصُّ أبوته لداود: وَجَدْتُ دَاوُدَ عَبْدِي. بِدُهْنِ قُدْسِي مَسَحْتُهُ … * هُوَ يَدْعُونِي: أَبِي أَنْتَ، إِلهِي وَصَخْرَةُ خَلَاصِي. * أَنَا أَيْضًا أَجْعَلُهُ بِكْرًا، أَعْلَى مِنْ مُلُوكِ الأَرْضِ» (المزمور ٨٩: ٢٠–٢٧). وفي سفر صموئيل الثاني نقرأ على لسان الرب أيضًا بخصوص أبوته للملك سليمان: «أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا» (صموئيل الثاني، ٧: ١٤). وفي سفر أخبار الأيام الأُول: «هُوَ يَبْنِي لِي بَيْتًا وَأَنَا أُثَبِّتُ كُرْسِيَّهُ إِلَى الأَبَدِ. * أَنَا أَكُونُ لَهُ أَبًا وَهُوَ يَكُونُ لِيَ ابْنًا» (١ أخبار، ١٧: ١٢–١٣).

بعد زوال عصر الملوكية في إسرائيل، تحوَّل الفكر الديني من مفهوم الملك مسيح الرب الذي يحكم إسرائيل، إلى مسيح آخر الأزمنة مخلِّص إسرائيل الذي سيأتي من نسل داود، والذي سيحمل لقب ابن الله مثل ملوك إسرائيل الأوائل. وهذا ما يظهر بشكلٍ جليٍّ في الأسفار التوراتية غير القانونية. نقرأ في سفر مزامير سليمان على لسان مسيح آخر الأزمنة:

لقد جاء بي الروح إلى حضرة الرب.
ولأنني كنت ابن الإنسان،
فقد دعيتُ بالنور وبابن الله.
ولأني كنت الممجد بين الممجدين،
والأعظم بين العظماء،
عمَّدني الرب بكماله وصرت من المقربين؛
وانفتح فمي مثل غيمة ندى.
وتدفَّق من قلبي نبع من البر.

وفي سفر عزرا الرابع نقرأ في إحدى الرؤى التي تتابعت له:

«وأنا عزرا، رأيت على جبل صهيون حشدًا كبيرًا مُسالمًا لم أستطع عدَّه، وكلهم يمجِّدون الرب بالأناشيد. وفي وسطهم هنالك شابٌّ ذو قامةٍ فارعةٍ أطول من الجميع، كان يضع تاجًا على رأس كلٍّ منهم. فسألت الملاك عمِّن يكون هؤلاء، فقال لي: هؤلاء هم الذي نضوا عنهم ثوب الفناء ولبسوا ثوب الخلود وآمنوا باسم الله. وها هم يتوَّجون ويتلقون أغصان نخيل. فقلت للملاك: من هو الشاب الذي يضع التيجان على رءُوسهم ويقدم لهم أغصان النخيل؟ فقال لي: إنه ابن الله الذي آمنوا به في الحياة الدنيا.»

وفي رؤيا أخرى من سفر عزرا الرابع أيضًا، نقرأ على لسان الرب خبر مملكة ابنه هو ذا المسيح التي سوف تحل في آخر الأزمان:

«يومٌ يأتي بعد ظهور الإشارات التي أنبأتك بها، فتظهر المدينة التي لا أثر لها الآن، ويُكشف عن الأرض غير المنظورة الآن. عندها سيرى كل من نجا من الكوارث التي أخبرتك عنها عجائبي. عندها سيظهر المسيح ابني والذين معه، وسينعم الذين بقوا مدة أربعمئة سنة.»٥

وباختصار فإن المزمور الثاني الذي اقتبسنا منه آنفًا، يوضح طبيعة تعبير «ابن الله»، سواء في الأسفار القانونية أم غير القانونية. ففي قول الرب: أنت ابني أنا اليوم ولدتك. دلالهٌ لا لبس فيها على أن علاقة الأبوة والبنوة بين الطرفين ليست علاقةً قديمة بل حادثة، وأنها قد تأسست بعد المسح والاختيار، وما من علاقةٍ ميتافيزيقيةٍ من أي نوع تجعل مسيح الرب مشاركًا له في القدم أو الطبيعة.

ولقد جرى مسح يسوع عندما هبط عليه الروح في هيئةٍ جسميةٍ مثل حمامة بعد خروجه من ماء العماد، وصوتٌ من السماء قائلًا: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت.

وهذا ما ينقلنا إلى مفهوم ابن الله في العهد الجديد، وهو موضوعنا التالي.

(٦) «ابن الله» في العهد الجديد

من عرضنا السابق للطريقة التي استخدمت بها الأسفار التوراتية، وكتابات ما بين العهدين (الأسفار غير القانونية)، لقب «ابن الله»، توصلنا إلى نتيجةٍ مفادها أنَّ اللقب لا يعدو أن يكون مجازًا لغويًّا يُعبِّر عن حميمية العلاقة بين الله ومسيحه. وقد عبَّر مؤلفو العهد الجديد عن هذه الصلة أفضل تعبيرٍ، حيث ورد عند متَّى ولوقا القول التالي ليسوع: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إلَّا الآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الآبُ إلَّا الابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ» (متَّى، ١١: ٢٧؛ ولوقا، ١٠: ٢٢). فالابن يكشف عن أسرار الله، ويفتتح ملكوته على الأرض، ولهذا فهو أقرب بني البشر إليه وأكثرهم معرفةً له. وفي الحقيقة، فإنَّ طريقة استخدام مؤلفي الأناجيل الإزائية لهذا اللقب، تدلُّ على أنهم لن يُعنوا به أكثر مما عُني به مؤلفو أسفار العهد القديم وكتابات ما بين العهدين. فهو اللقب الذي يتَّصل عضويًّا بلقب المسيح ابن داود المنتظر الذي يفتتح ملكوت السموات. ولم يكن في ذهن بطرس غير هذه الصورة عندما قال ليسوع: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (متَّى، ١٦: ١٦). ولذلك فقد نهاهم أن يخبروا أحدًا بأنَّه المسيح. وهذه الصورة هي التي كانت في ذهن كبير الكهنة عندما سأل يسوع أثناء جلسة الاستجواب: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاللهِ الْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا، هَلْ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ؟» (متَّى، ٢٦: ٦٣)، أو: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» (مرقس، ١٤: ٦١). أما الحاكم بيلاطُس الذي لم يكن يعرف شيئًا عن لاهوت العهد القديم، ويركِّز اهتمامه على التداعيات السياسية لقضية يسوع، فقد كان يسأله: «أَأَنْتَ مَلِكُ الْيَهُودِ؟» (مرقس، ١٥: ٢).

كما نجد يسوع في الأناجيل الإزائية متحفظًا تجاه لقب ابن الله تحفُّظه تجاه لقب المسيح، وهو لم يستخدمْه في الإشارة إلى نفسه، وفي مناسبتين اثنتين أشار إلى نفسه بلقب «الابن». فإلى جانب المقتبس الذي أوردناه أعلاه حيث يقول: «لا أَحَد يَعْرِفُ مَنْ هُوَ الابْنُ إلَّا الآبُ، وَلَا مَنْ هُوَ الآبُ إلَّا الابْنُ»، هناك مناسبةٌ ثانية استخدم فيها يسوع لقب الابن، عندما أعلن لتلاميذه أنه لا يُشارك الله في علمه ومعرفته، وذلك في معرض حديثه عن موعد اليوم الأخير: «وَأَمَّا ذلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلَا يَعْلَمُ بِهِمَا أَحَدٌ، وَلَا الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ، وَلَا الابْنُ، إلَّا الآبُ (وحده يعرف)» (مرقس، ١٣: ٣٢؛ ومتَّى، ٢٤: ٣٦).

فيما عدا هاتين المناسبتين فقد كان لقب ابن الله يُطلق على يسوع من قبل جهةٍ أُخرى يضع مؤلفو الأناجيل على لسانها هذا القول: «فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ، وَإِذَا السَّمَوَاتُ قَدِ انْفَتَحَتْ لَهُ، فَرَأَى رُوحَ اللهِ نَازِلًا مِثْلَ حَمَامَةٍ وَآتِيًا عَلَيْهِ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّمَوَاتِ قَائِلًا: هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ» (متَّى، ٣: ١٧). وتتكرر المقولة نفسها في مشهد التجلِّي على الجبل: «فَجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلًا: هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ. لَهُ اسْمَعُوا. فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ» (متَّى، ١٧: ٥؛ ومرقس، ٩: ٧؛ ولوقا، ٩: ٣٥). وكانت الأرواح النجسة التي يُخرجها من أجسام الممسوسين تصرخ وتقول «أَنْتَ ابْنُ اللهِ» (مرقس، ٣: ١١؛ ومتَّى، ٨: ٢٩). وعندما رُفع يسوع على الصليب راح اليهود يهزءُون منه قائلين: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَانْزِلْ عَنِ الصَّلِيبِ» (متَّى، ٢٧: ٣٩–٤٠). وعندما رأى الضابط الروماني الظواهر الطبيعانية التي ترافقت مع موت يسوع، قال والذين معه: «حَقًّا كَانَ هذَا ابْنَ اللهِ» (متَّى، ٢٨: ٥٤).

في هذه المواضع التي ورد فيها لقب ابن الله في الأناجيل الإزائية، لا نستطيع أن نستشفَّ وجود نوعٍ من الوحدة بين الآب والابن. لقد قال الصوت السماوي: «هذا هو ابني الحبيب»، وتوجَّه يسوع إلى ربِّه قائلًا: «يا أبتاه»؛ ولكنه في الوقت نفسه قال للتلاميذ «أبي وأبوكم»، و«أبوكم السماوي.» فالله أب الناس جميعهم وكلهم أبناؤه، ولكن يسوع باعتباره صفوة بني البشر كان أقرب الناس إليه وابنه الأحبُّ إليه. ويجب ألَّا ننسى أنه قد ولد دون أبٍ بشريٍّ، وما من أبٍ له سوى الله. وعلى حد قول الملاك لمريم: «الروح القدس يحلُّ عليكِ، وقوة العلِّي تظللك. فلذلك أيضًا القدوس المولود منك يُدعى ابن الله.»

إذا انتقلنا إلى الإنجيل الرابع، إنجيل يوحنا، تواجهنا أقوالٌ مطوَّلة ليسوع لم تُرِد في الأناجيل الأخرى، الأمر الذي يجعل إنجيل يوحنا إنجيلًا فريدًا بين الأناجيل. ولطالما أُخذت هذه الأقوال على أنها إعلان من قبل يسوع لألوهيته، وعليها قامت بالدرجة الأولى عقيدة التثليث التي نسجها اللاهوت المسيحي اللاحق. فهل تحتمل أقوال يسوع في هذه الأناجيل ما حُمِّلته؟ سيكون مفتاحنا للإجابة على هذا السؤال هو الكيفية التي استخدم بها يسوع ومؤلف الإنجيل لقب «ابن الله»، واللقب الآخر وهو «الابن».

في إنجيل يوحنا يستخدم الآخرون لقب ابن الله في الإشارة إلى يسوع مثلما يستخدمه بحريَّة هو نفسه دون تردد، مثلما قَبِلَ لقب المسيح واستخدمه. وفي هذه المواضع يُستخدم اللقب كمرادفٍ للقب المسيح (كما هو الحال في الأناجيل الإزائية) الذي يأتي في نهاية الزمن قاضيًا وديَّانًا. فالمعمدان قد تعرَّف عليه منذ اللحظة الأولى باعتباره المسيح ابن الله: «إن الَّذِي تَرَى الرُّوحَ ينزِل عَلَيْهِ فَيَسْتَقِرُّ، هُوَ ذَاكَ الَّذِي يُعَمِّدُ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. * وَأَنَا رَأَيْتُه وَشَهِدْتُ بأَنَّهَ ابْنُ اللهِ» (١: ٣٣). وقال له التلميذ نثَنائيل: «يَا مُعَلِّمُ، أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ.» وقال له بطرس: «نَحْنُ قَدْ آمَنَّا وَعَرَفْنَا أَنَّكَ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ» (٦: ٦٩)، وعندما شُفي أعمى منذ الولادة قال له: «أَتُؤْمِنُ بِابْنِ اللهِ؟ * أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: ومَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُؤمِنَ بِهِ؟ * فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: قَدْ رَأَيْتَهُ، وَالَّذِي يَتَكَلَّمُ مَعَكَ هُوَ هُوَ!» (٩: ٣٥–٣٧). وعندما شفى مريضًا في يوم السبت شغبَ اليهود عليه فقال لهم: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ * فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَنْقُض السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللهِ» (٥: ١٧–١٨). وهو في دور المسيح المنتظر سوف يأتي في آخر الزمان قاضيًا وديانًا: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ وَهِيَ الآنَ، حِينَ يَسْمَعُ الأَمْوَاتُ صَوْتَ ابْنِ اللهِ، وَالسَّامِعُونَ يَحْيَوْنَ» (٥: ٢٥). «لَا تَتَعَجَّبُوا مِنْ هذَا، فَإِنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ فِيهَا يَسْمَعُ جَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْقُبُورِ صَوْتَهُ، * فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ فعَلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ» (٥: ٢٨–٢٩).

وينفرد إنجيل يوحنا عن الأناجيل الإزائية بلقب «الابن» الذي يعطيه منزلةً فوق كل منزلةٍ في سلم الخليقة، ويلقب «الابن الوحيد»: «اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ أخبر عنه» (١: ١٨). «لِأنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْلَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. * لِأنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ؛ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. * الَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لَا يُدَانُ، وَالَّذِي لَا يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ» (٣: ١٦–١٨). وبنوة بقية البشر لله لا تُعطى إلا من خلال يسوع: «آمِنُوا بِالنُّورِ (يسوع) لِتَكونوا أَبْنَاءَ النُّورِ» (١٢: ٣٦)، «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَا يَمْضِي أَحَدٌ إِلَى الآبِ إلَّا إذَا مرَّ بِي» (١٤: ١٦).

ويقرن يسوع بين لقب ابن الله ولقب ابن الإنسان. فعندما قال له التلميذ نثَنائيل: «أَنْتَ ابْنُ اللهِ! أَنْتَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ!» أَجَابَ يَسُوعُ: «هَلْ آمَنْتَ لأَنِّي قُلْتُ لَكَ إِنِّي رَأَيْتُكَ تَحْتَ التِّينَةِ؟ سَوْفَ تَرَى أَعْظَمَ مِنْ هذَا! * وَقَالَ لَهُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ الآنَ تَرَوْنَ السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَمَلَائِكَةَ اللهِ يَصْعَدُونَ وَيَنْزِلُونَ عَلَى ابْنِ الإِنْسَانِ» (١: ٤٩–٥١). وأيضًا: «فكما أنَّ الآب له سلطانٌ على الحياة فكذلك أولى الابن سلطانًا على الحياة، وأولاه القضاء لأنه ابن الإنسان» (٢٦–٢٧). ويسوع هنا في إشارته إلى ابن الإنسان، إنما يعني به الوجود السابق للمسيح في عالم الله، والذي أعدَّه منذ القدم لرسالةٍ معينةٍ على الأرض. فهو حقيقةٌ ميتافيزيقية خارج حدود الزمان والمكان، وفكرةٌ سوف تتحقق في المستقبل وتتجسَّد في شخص يسوع المسيح. هذا الوجود السابق للمسيح يتحدث عنه يسوع في عدد من أقواله التي سنورد بعضها فيما يلي، آخذين بعين الاعتبار ما ورد في سفر دانيال: «كُنْتُ أَرَى فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا مَعَ سُحُبِ السَّمَاءِ مِثْلُ ابْنِ إِنْسَانٍ أَتَى وَجَاءَ إِلَى الْقَدِيمِ الأَيَّامِ، فَقَرَّبُوهُ قُدَّامَهُ. * فَأُعْطِيَ سُلْطَانًا وَمَجْدًا وَمَلَكُوتًا لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ وَالأَلْسِنَةِ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ مَا لَنْ يَزُولَ، وَمَلَكُوتُهُ مَا لَا يَنْقَرِضُ.» وكذلك ما ورد في سفر أخنوخ الأول: «في تلك الأيام سُمِّي ابن الإنسان أمام رب الأرواح، وكان اسمه سابق الأيام (حرفيًّا: قبل الأيام) قبل أن تُخلق الشمس وبروج السماء، قبل أن تُصنع نجوم السماء، دُعي اسمه أمام رب الأرواح.»

قال يسوع: «لَيْسَ أَحَدٌ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ إلَّا الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، أعني ابْن الإِنْسَانِ» (٣: ١٣). «فَإِنْ رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِدًا إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلًا» (٦: ٦٢). «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: كنت قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ» (٨: ٥٨). «لأنِّي من الله خَرَجْتُ وَأَتَيْتُ» (٨: ٤٢)، «أَمَّا الآنَ فَإنَي ذاهبٌ إِلَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٦: ٥). «أَنْتُمْ (أي اليهود) مِنْ أَسْفَلُ، أَمَّا أَنَا فَمِنْ فَوْقُ. أَنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ، أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ مِنَ الْعَالَمِ» (٨: ٢٣). «نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لِأعْملَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي» (٦: ٣٨)، «أتيت من لدن الآب وجئت إلى العالم. أما الآن فإني أترك العالم وأمضي إلى الآب» (٦: ٢٨). «أتممت العمل الذي وكَّلته لي، فمجِّدني الآن يا أبتِ بما كان لي من المجد عندك قبل أن يكون العالم» (١٧: ٥).

هذا الوجود الميتافيزيقي السابق الذي ينسبه يسوع إلى نفسه، يُشبه في جوهره مفهوم «الكلمة المحمدية» أو «الحقيقة المحمدية» في الفكر الديني الإسلامي.٦ فقد شاع في أوائل عهد الإسلام القول بأزلية محمد — عليه السلام — أو بعبارةٍ أدق، بأزلية «النور المحمدي» أو «الحقيقة المحمدية». وهو قولٌ ظهر بين الشيعة أولًا ولم يلبث أهل السنة أن أخذوا به، واستند الكل في دعواهم إلى أحاديث الرسول مثل: «أنا أول الناس في الخلق»، «أول ما خلق الله نوري»، «كنت نبيًّا وآدم بين الماء والطين». وقد أفاض الشيعة في وصف هذا النور المحمدي، فقالوا إنه ينتقل في الزمان، وإنه هو الذي ظهر في صورة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء، ثم ظهر أخيرًا في صورة خاتم النبيين محمد — عليه السلام — وبهذا ارجعوا جميع الأنبياء إلى أصلٍ واحدٍ.
أما محيي الدين ابن عربي٧ فيرى في الحقيقة المحمدية أكمل مجلى خَلقي ظهر فيه الحق، بل هي الإنسان الكامل بأخصِّ معانيه. وإن كان كل موجودٍ هو مجلى خاصًّا لاسم إلهي، فإنَّ محمدًا انفرد بأنَّه مجلى للاسم الجامع وهو الاسم الأعظم: الله. والحقيقة المحمدية هي مبدأ خلق العالم وأصله، من حيث إنَّها النور الذي خلقه الله قبل كل شيءٍ وخلق منه كل شيء، وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود؛ ولذلك يدعوها بحقيقة الحقائق، وبالعقل الأول الذي يقف بين الحق والخلق، وبالقلم. هذه الحقيقة المحمدية التي هي النور المحمدي، والتي لها أسبقية الوجود على النشأة الجسدية لمحمد، لها ظهورٌ في كل نبيٍّ بوجه من الوجوه إلا أنَّ مظهرها الذاتي التام هو شخص محمد.

وعلى هذا فإنَّ مفهوم الحقيقة المحمدية، يتفق مع مفهوم «الكلمة»، التي هي «اللوغوس» أو «العقل» في لاهوت إنجيل يوحنا، وخصوصًا فيما يتعلق بعلاقتها بالعالم. فالحقيقة المحمدية هي النور الذي خلقه الله قبل كل شيءٍ وخلق منه كلَّ شيء. وكذلك «الكلمة»: «كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ … * وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا، ١).

إلا أنَّ الوجود الميتافيزيقي السابق على العالم للابن، لا يعني، وفق منطوق إنجيل يوحنا، القول بمعادلته بالآب في الجوهر أو مساواته له في القدم. وقد وصف يسوع في إنجيل يوحنا، وفي كل مناسبة، وضعَه بالنسبة إلى الآب، وهو وضع التابع له المنفذ لمشيئته، ورسم حدًّا فاصلًا بين الطبيعتين واضحًا كل الوضوح. قال يسوع:

  • «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَا يَقْدِرُ الابْنُ أَنْ يَعْمَلَ شيئًا مِنْ نَفْسِهِ إلَّا إذا رأى الآبَ يَعْمَلُه» (٥: ١٩).

  • «هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي» (٥: ٣٦).

  • «تَعْرِفُونَنِي وَتَعْرِفُونَ مِنْ أَيْنَ أَنَا، وَمِنْ نَفْسِي لَمْ آتِ، بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ حَقٌّ، الَّذِي أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ» (٧: ٢٨).

  • «وَالَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ مَعِي، وَلَمْ يَتْرُكْنِي الآبُ وَحْدِي، لِأَنِّي فِي كُلِّ حِينٍ أَفْعَلُ مَا يُرْضِيهِ» (٨: ٢٩).

  • «أَنَا أَتَكَلَّمُ بِمَا رَأَيْتُ عِنْدَ أَبِي» (٨: ٣٨).

  • «فَمَا أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهِ، فَكَمَا قَالَ لِي الآبُ هكَذَا أَتَكَلَّمُ» (١٢: ٥٠).

  • «أَيُّهَا الآبُ، أَشْكُرُكَ لِأَنَّكَ سَمِعْتَ لِي، * وَأَنَا عَلِمْتُ أَنَّكَ فِي كُلِّ حِينٍ تَسْمَعُ لِي» (١١: ٤١–٤٢).

  • «الَّذِي يُؤْمِنُ بِي، لَيْسَ يُؤْمِنُ بِي؛ بَلْ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٢: ٤٤).

  • «وَلكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالَمُ أَنِّي أُحِبُّ الآبَ، وَكَمَا أَوْصَانِي الآبُ هكَذَا أَفْعَلُ» (١٤: ٣١).

ولعل ما ينهي كل الجدل حول طبيعة العلاقة بين الابن والآب في إنجيل يوحنا هو قول يسوع:

  • «لَوْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي لَكُنْتُمْ تَفْرَحُونَ لِأَنِّي قُلْتُ أَمْضِي إِلَى الآبِ، لِأَنَّ أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي» (١٤: ٢٨).

  • «وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ» (١٧: ٣).

فإذا كان الآب أعظم من يسوع عند يوحنا، وكان الآب وحده هو الإله الحقيقي، فكيف نفسِّر بعض الأقوال التي وردت عند يوحنا على لسان يسوع، والتي تُوحي بالتماهي بين الآب والابن ووحدتهما في الجوهر؟ ومنها:

  • «أَنَا وَالآبُ وَاحِدٌ» (١٠: ٣٠).

  • «الآب فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (١٠: ٣٨).

  • «وَالَّذِي يَرَانِي يَرَى الَّذِي أَرْسَلَنِي» (١٢: ٤٥).

  • «الَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ» (١٤: ٩).

  • «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَالآبَ فِيَّ، وَإِلَا فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسِهَا» (١٤: ١١).

  • «لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا (التلاميذ) هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا» (١٧: ٢١).

في الحقيقة، لا يمكن تفسير هذه الأقوال إلا بافتراض أن يسوع كان يتفوَّه بها تحت ضغط حالة وجدٍ صوفيٍّ ميَّزت التجربة الصوفية المشرقية منذ القدم، واستمرت لدى المسلمين. وقد اصطلح على تسمية الأقوال الصادرة عن مثل هذه الحالة ﺑ «الشطح».

والشطح هو كلامٌ يُترجمه اللسان عن وجدٍ فاض عن النفس عندما تصبح في حضرة الألوهية، فتدرك أنَّ الله هي، وهي هو، ويتبيَّن لها وحدة الهويَّة فيما بين العبد الواصل والمعبود الموصول. وقد يصل هذا الوجد حدًّا من القوة في ظل إحساسٍ طاغٍ بوحدة الوجود، تجعل الواصل يتحدث كأنه الحق نفسه وينطق بلسانه، وذلك كقول أبو يزيد البسطامي: «سبحاني ما أعظم شأني.» لقد شعر أن المعبود هو الباطن وأن العبد هو الظاهر، وبعدها فنِي عن ذاته ولم يبق في الوجود سوى الله.

هذه المنزلة التي يبلغها الصوفي حين إعلان تبادل الأدوار هي منزلة التوحيد، وهي أن لا يُشهدك الحق نفسك ويطلعك على وجودك، بل يُطلعك على وجودٍ واحد ما عداه غير موجودٍ، فتفنى عن وجود ذاتك وعن وجود كل موجودٍ آخر سوى الله. ولهذا قال الحلَّاج عن علاقته بالحق:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بَدَنا
فإذا أبصرتني أبصرته
وإذا أبصرته أبصرتنا

وقال:

رأيت ربِّي بعين قلبي
فقلتُ من أنت؟ فقال أنت.

وأيضًا:

يا منية المتمني
أفنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى
ظننتُ أنك أنِّي

وأيضًا:

مزجت روحك في روحي كما
تُمزج الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسَّكَ شيءٌ مسَّني
فإذا أنت أنا في كل حال

وعندما تأججت في داخله شعلة الوجد وفاضت حتى لم يستطعْ لها كبحًا، صاح أمام الناس: «أنا الحق»، فأباح سر الصوفية، وهو القائل:

بالسر إن باحوا تُباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تُباحُ

فحُوكم الحلَّاج بتهمة الكفر وحُكم عليه بالموت على الصليب فمات ميتة المسيح التي تمنَّاها لنفسه سابقًا عندما أنشد:

ألا أبلغ أحبائي بأني
ركبت البحر وانكسر السفينة
على دين الصليب يكون موتي
فلا البطحا أريد ولا المدينة
ويشترك مع الحلَّاج في تجربة الشطح هذه أكثر من متصوفٍ إسلاميٍّ، منهم أبو يزيد البسطامي الذي يُؤثر عنه عددٌ من أقوال الشطح منها:
  • سبحاني ما أعظم شأني.

  • ما في الجبة إلا الله.

  • كنتَ لي مرآةً فصرت أنا المرآة.

  • انسلخت من نفسي كما تنسلخ الحية من جلدها ثم نظرت إلى نفسي فإذا أنا هو.

  • أشار سرِّي إليك حتى فنيتُ عني ودمتَ أنت.

  • محوتُ اسمي ورسم جسمي سألتَ عنِّي فقلتُ: أنت.

إنَّ مثل هذه الأقوال النابعة عن تجربةٍ صوفيةٍ فذَّة، لا تختلف في شكلها ولا في مضمونها عن أقوالٍ ليسوع مثل: «أنا والآب واحد» أو «من رآني رأى الآب»؛ ولكن الأساقفة المجتمعين في مجمع نيقية الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين عام ٣٢٥م، كانوا بعقليتهم اليونانية أبعد ما يكونون عن فهم أبعاد التصوف الشرقي، فأعلنوا لأول مرةٍ بشكلٍ رسميٍّ ألوهية السيد المسيح، ومساواته للآب في الجوهر، وذلك اعتمادًا على إنجيل يوحنا بشكلٍ رئيسيٍّ، حيث ورد في قانون إيمان نيقية: «نؤمن بإلهٍ واحد، آب ضابط للكل. خالق للسماء والأرض، ما يُرى وما لا يُرى. وبربٍّ واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الآب، الذي هو من جوهر الآب. إلهٌ من إلهٍ، نورٌ من نورٍ، إله حقٌّ من إله حق، مولودٌ من غير مخلوقٍ، مساوٍ للآب في الجوهر، به كان كل شيءٍ في السماء وعلى الأرض. الذي من أجل خلاصنا نحن البشر نزل من السماء وتجسَّد وصار إنسانًا.» وفي مجمع القسطنطينية عام ٣٨٠م أضاف المجتمعون إلى قانون نيقية بشكلٍ رسميٍّ عقيدة ألوهية الروح القدس. وبذلك تمَّ التأسيس لعقيدة التثليث.

(٧) الآب والابن والثالوث

لقد كان السبب في انعقاد مجمع نيقية عام ٣٢٥م، والذي أقرَّ بشكلٍ رسميٍّ ألوهية المسيح، خلافٌ استعر بين اثنين من اللاهوتيين الكبار هما آثناسيوس وآريوس، تأثَّرت به جميع الكنائس، التي وقف بعضها إلى جانب هذا والبعض الآخر إلى جانب ذاك. وقد تركَّز جوهر ذلك الخلاف على علاقة الابن بالكلمة، كلمة الله. ففيما يتفق الاثنان على أنَّ كلمة الله قد تجسَّدت واستقرت في الإنسان يسوع، إلا أنَّهما يختلفان في أمر طبيعة الكلمة. فقد اعتبر آثناسيوس أنَّ الكلمة التي تجسدت في يسوع هي أزليةٌ غير مخلوقةٍ وكائنة مع الله منذ البدء، أما آريوس فقد قال بأنَّ كلمة الله ليست أزليةً بل مخلوقة في الزمن، خلقها الله قبل خلق العالم، وأنَّ المتجسد في يسوع هو هذه الكلمة المخلوقة. ومثل هذا الجدل عرفه علم الكلام الإسلامي عندما استعر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة حول القرآن الذي هو كلام الله، وفيما إذا كان أزليًّا أم مخلوقًا. غير أنَّ عملية التصويت في مجمع نيقية قادت إلى انتصار أفكار آثناسيوس وتمَّ إقرار ألوهية المسيح، الذي اعتُبر: «من جوهر الآب، إلهٌ من إله، ونورٌ من نورٍ، إلهٌ حقٌّ من إلهٍ حق، مولود (متولد) غير مخلوقٍ.» وقد قاد القول بألوهية المسيح فيما بعد إلى القول بالتثليث كما أشرنا سابقًا.

وفي الحقيقة، فإن أفكار آريوس هي الأقرب إلى روح أقوال يسوع سواء في الأناجيل الإزائية أم في إنجيل يوحنَّا، وهي الأقرب إلى عقيدة أسفار العهد الجديد بخصوص طبيعة الابن وعلاقته بالآب.

ففيما يتعلَّق بفكر التثليث، لم يَرِدْ في أي موضعٍ من أسفار العهد الجديد ما يُشير إليها من قريبٍ أو بعيدٍ، وكلمة «ثالوث» غائبة تمامًا عن الكتاب المقدس المسيحي، وأول استعمال معروف لها في تاريخ المسيحية ورد على لسان ثاوفيلوس الإنطاكي عام ١٨٠م؛ وذلك رغم استخدام المؤلفين أحيانًا لصيغة: «الآب والابن والروح القدس»، كما هو واردٌ في صيغة العماد عند متَّى: «فَاذْهَبُوا وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ٢٨: ١٩). وفي رسالة بطرس الأولى لدينا نموذج عن السلام الذي تبادله المسيحيون الأوائل باستخدام الصيغة نفسها: «من بطرس رسول يسوع المسيح، إلى المختارين بسابق علم الله الآب، وتقديس الروح؛ ليطيعوا يسوع المسيح وينضحوا بدمه، عليكم أوفر سلام» (٧: ١–٢). إلا أنَّه لم يكن في ذهن متَّى ولا بطرس في ذلك الوقت أن الآب والابن والروح القدس هم ثلاثة في واحد.

ولسوف نتابع فيما يأتي العلاقة بين الآب والابن كما عبَّرت عنها بقية أسفار العهد الجديد، وننظر إلى النصوص بعينٍ محايدةٍ بعيدة عن التأثر بقرارات المجامع الكنسية، في محاولةٍ لاكتشاف أي أثرٍ لألوهة السيد المسيح في ثناياها. وسوف نبتدئ برسائل بولس الرسول، المؤسس الحقيقي للمسيحية.

يستخدم بولس لقب «الرب» ليسوع في معظم المواضع التي يذكره فيها. وقد شرحنا في موضعٍ سابقٍ تحت عنوان «يسوع الرب» الفرق بين الربوبية والألوهية بالمعنى اللغوي، وبالطريقة التي استخدمتها أسفار العهد الجديد: «لا يستطيع أحدٌ أن يقول يسوع رب إلا بإلهام من الروح القدس» (١ كورنثة، ٣). «فَإِنَّنَا لَسْنَا نَكْرِزُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبًّا» (فيليبي، ٢: ١١). «فإذا شهدت بلسانك أنَّ يسوع رب، وآمنت أنَّ الله أقامه بين الأموات نلت الخلاص» (رومية، ١٠: ٩).

ولكن إذا كانت الربوبية هي ليسوع، فإن الألوهية هي لله وحده، وبولس إنما يكرز بإلهٍ واحد هو الآب: «وأما عندنا نحن فليس إلا إلهٌ واحد هو الآب، وربٌ واحد هو يسوع المسيح» (١ كورنثة، ٨: ٦)، وهذا الإله الواحد هو إله البشر وإله يسوع المسيح: «تبارك إله ربنا يسوع المسيح وأبوه» (٢ كورنثة، ١: ٣). وأيضًا: «إنَّ إله الرب يسوع وأباه عالمٌ بأنِّي لا أكذب»٨ (٢ كورنثة، ٣١). وهو يرسم مراتبيةً للوجود لا ينتظم فيها الآب والابن في مرتبةٍ واحدةٍ. فمرتبة الابن فوق مرتبة كل البشر، ولكنها أدنى من مرتبة الآب: «وَلكِنْ أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ رَأْسَ كُلِّ رَجُلٍ هُوَ الْمَسِيحُ، أَمَّا رَأْسُ الْمَرْأَةِ فَهُوَ الرَّجُلُ، وَرَأْسُ الْمَسِيحِ هُوَ اللهُ» (١ كورنثة، ١١: ٣). «كل واحدٍ وله رتبته. فالمسيح أولًا لِأَنَّه البكر، ومن بعده الذين يكونون خاصة المسيح عند مجيئه (الثاني). ثم يكون المنتهى حين يسلم (المسيح) الملك إلى الآب بعد أن يبيد كل رئاسة وسلطان وقوة … ومتى أخضع له (أي المسيح) كل شيءٍ، فحينئذٍ يُخضع الابن نفسه لذاك الذي أُخضع له كل شيء، فيكون الله كل شيءٍ في كل شيءٍ» (١ كورنثة، ١٥: ٢٠–٢٨). ويسوع هو البكر لإخوة كثيرين سوف يكونون على صورته أبناءً لله من خلال الإيمان به: «فالذين اختارهم بسابق اختياره، أعدَّهم قديمًا لأن يكونوا على مثال صورة ابنه، ليكون هذا بكرًا لأخوة كثيرين» (رومية، ٨: ٢٨–٢٩). وأيضًا: «لأنكم جميعًا أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح» (غلاطية، ٣: ٢٦). كما ويعلن بولس أن يسوع لم يصبح ابنًا لله إلا بعد قيامته من بين الأموات: «من بولس عبد يسوع المسيح. دعاه الله ليكون رسولًا، واصطفاه ليبلغ بشارته … في شأن ابنه الذي ولد من ذرية داود من حيث أنَّه بشرٌ وجُعل ابن الله في القوة بقيامته من بين الأموات» (رومية، ١: ١–٤).

وتُظهر طبيعة الصلوات وآيات الحمد والتسابيح في رسائل بولس، أنَّها جميعًا موجَّهة للآب ولا حصة للابن فيها. من ذلك مثلًا:

  • «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَبِمَحَبَّةِ الرُّوحِ، أَنْ تُجَاهِدُوا مَعِي فِي الصَّلَوَاتِ مِنْ أَجْلِي إِلَى اللهِ» (رومية، ١٥: ٣٠).

  • «أَشْكُرُ إِلهِي فِي كُلِّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لَكُمْ فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١ كورنثوس، ١: ٤).

  • «أَشْكُرُ إِلهِي أَنِّي أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِكُمْ» (١ كورنثوس، ١٤: ١٨).

  • «وَهكَذَا تَصِيرُ خَفَايَا قَلْبِهِ ظَاهِرَةً. وَهكَذَا يَخِرُّ عَلَى وَجْهِهِ وَيَسْجُدُ للهِ، مُنَادِيًا أَنَّ اللهَ بِالْحَقِيقَةِ فِيكُمْ» (١ كورنثوس، ١٤: ٢٥).

  • «وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (١ كورنثوس، ١٥: ٥٧).

  • «وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ» (٢ كورنثوس، ٢: ١٤).

  • «وَأُصَلِّي إِلَى اللهِ أَنَّكُمْ لَا تَعْمَلُونَ شَيْئًا رَدِيًّا» (٢ كورنثوس، ١٣: ٧).

  • «نَشْكُرُ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَةِ جَمِيعِكُمْ، ذَاكِرِينَ إِيَّاكُمْ فِي صَلَوَاتِنَا، * مُتَذَكِّرِينَ بِلَا انْقِطَاعٍ عَمَلَ إِيمَانِكُمْ، وَتَعَبَ مَحَبَّتِكُمْ، وَصَبْرَ رَجَائِكُمْ، رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ، أَمَامَ اللهِ وَأَبِينَا» (١ تسالونيكي، ١: ٢–٣).

  • «يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَشْكُرَ اللهَ كُلَّ حِينٍ مِنْ جِهَتِكُمْ» (٢ تسالونيكي، ١: ٣).

  • «يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ … * لأنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ» (رومية، ١١: ٣٣–٣٦).

  • «للهِ الْحَكِيمِ وَحْدَهُ، بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ» (رومية، ١٦: ٢٧).

مثل هذه المقتطفات تبيِّن أنه عندما يتعلق الأمر بالجوهر الأساسي للفعالية الدينية الذي يتمثَّل في الصلوات وآيات الحمد والتسابيح، فإن الآب وحده هو المرجو والمخاطب، سواء بشكلٍ مباشرٍ أم من خلال وساطة يسوع المسيح، الابن الذي يقع في المرتبة الوسطى بين البشر وخالقهم.

وهنالك مقطعٌ إشكاليٌّ عند بولس في الرسالة إلى أهل رومية، يُفهم منه وجود إشارةٍ إلى ألوهية المسيح، حيث يقول: «أولئك الذين هم بنوا إسرائيل، ولهم التبنِّي والمجد والعهود والشريعة والعبادة والمواعد * والآباء ومنهم المسيح من حيث إنه بشرٌ. وفوق كل شيءٍ إلهٌ مبارك أبد الدهور. آمين» (رومية، ٩: ٤–٥).٩ ولكن هذا المقطع يتخذ معنيين حسب استخدامنا لعلامات التنقيط التي لم تكنْ مستخدمة في الكتابة اليونانية القديمة. فإذا وضعنا نقطة بعد جملةٍ «وهو فوق كل شيء» تغدو جملة التبريك الأخيرة موجَّهة للآب لا للابن: «ومنهم المسيح من حيث إنه بشرٌ، وهو فوق كل شيءٍ. الله مبارك أبد الدهور. آمين». وقد بقي الخلاف حول موضع هذه النقطة قائمًا، حتى حسمته الترجمات الإنكليزية الحديثة للكتاب المقدس، ومنها المعروفة بالترجمة المعيارية المعدلة (Revised Standard Version)، والترجمة الإنكليزية الجديدة (New English Bible)، وهي الآن الأوثق والأكثر اعتمادًا لدى الباحثين، حيث وضعت نقطة في الموضع المشار إليه أعلاه.
فإذا انتقلنا إلى الأناجيل الإزائية، فإننا نجد صورةً نابضةً بالحياة ليسوع كعابدٍ مخلصٍ لله يخصُّه بالصلاة والضراعة، ويتوجه إليه بلقب «آبا»، وهي كلمة آرامية تعني «أبي»، بما تحمله من معنى يفيد التبجيل والاحترام الممزوجين بالألفة والمودة. وقال: «يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِيَكُنْ لَا مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مرقس، ١٤: ٣٦). وكان يصلي منفردًا بعيدًا عن تلاميذه، سواء في البرية (مرقس، ١: ٣٥؛ لوقا، ٥: ١٥) أم على الجبل (مرقس، ٦: ٤٦؛ متَّى، ٢٦: ٣٩)، أم في بستان (مرقس، ١٤: ٣٥؛ متَّى، ٢٦: ٣٩؛ لوقا، ٢٢: ٤١). وعندما طلب منه التلاميذ أن يعلِّمهم الصلاة نصحهم أولًا بالصلاة الانفرادية بعيدًا عن الأعين، ثم أعطاهم كلمات الصلاة المسيحية: «فَصَلُّوا أَنْتُمْ هكَذَا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَوَاتِ، لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. * لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ. * خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ. * وَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا كَمَا نَغْفِرُ نَحْنُ أَيْضًا لِلْمُذْنِبِينَ إِلَيْنَا. * وَلَا تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ، لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ.١٠ لِأَنَّ لَكَ الْمُلْكَ، وَالْقُوَّةَ، وَالْمَجْدَ، إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (متَّى، ٦: ٩–١٣). قارن مع الصيغة الأقصر الواردة عند لوقا. ولا شك أنَّ يسوع نفسه كان يستخدم هذه الصيغة في الصلاة، ثم يستغرق في حالة التوحد الصوفي مع الآب. أما الصلاة اليهودية ذات الطقوس الشكلانية المترافقة مع تقديم القرابين الحيوانية، فلم يمارسْها يسوع، ولم يؤثرْ عنه في الأناجيل أنَّه صلى في محفلٍ أو كنيسٍ أو حتى في هيكل أورشليم.

في سفر أعمال الرسل الذي يُحدثنا عن الكنيسة الناشئة عقب صعود يسوع، نقرأ في الإصحاح الثالث على لسان بطرس تعبيرًا مُشابهًا لما قرأناه عند بولس الرسول (رومية، ١: ١–٤)، وهو أنَّ يسوع قد صار ربًّا ومسيحًا بعد صلبه وقيامته من الموت: «فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ اللهَ جَعَلَ يَسُوعَ، هذَا الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا» (أعمال، ٢: ٣٦). فهل سنجد في هذه الكنيسة ما يشير إلى أنَّ يسوع القائم من بين الأموات قد صار موضعًا للتأليه والعبادة؟

إن كل الشواهد النصيَّة تُشير إلى النفي. فقد ورد تعبير «ابن الله» مرةً واحدة في جميع إصحاحات سفر أعمال الرسل، وذلك على لسان بولس بعد أن اهتدى في دمشق ثم أخذ يُنادي من ساعته في المجامع بأنَّ يسوع هو ابن الله. وهو يعني بذلك أنَّه المسيح، لأنَّ كاتب السفر يُتابع قوله: «وَأَمَّا شَاؤلُ فَكَانَ يَزْدَادُ قُوَّةً، وَيُحَيِّرُ الْيَهُودَ السَّاكِنِينَ فِي دِمَشْقَ مُحَقِّقًا أَنَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ» (أعمال، ٩: ٢٠–٢٢). وهو في موضعٍ آخر يوضح بأنَّ أبوة الله ليسوع قد تمَّت بعد قيامته، مفسرًا ما ورد في المزمور ٢: «أَنْتَ ابْنِي، أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.» يقول بولس في الإصحاح ١٣ من سفر الأعمال: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَكْمَلَ هذَا لَنَا نَحْنُ أَوْلَادَهُمْ، إِذْ أَقَامَ يَسُوعَ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ أَيْضًا فِي الْمَزْمُورِ الثَّانِي: أَنْتَ ابْنِي أَنَا الْيَوْمَ وَلَدْتُكَ» (١٣: ٣٢–٣٣). وفي خطبة سمعان بطرس الافتتاحية يصف بطرس يسوع بأنَّه رجل أيَّده الله بآيات ومعجزات: «يَسُوعُ النَّاصِرِيُّ رَجُلٌ قَدْ تَبَرْهَنَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ بِقُوَّاتٍ وَعَجَائِبَ وَآيَاتٍ صَنَعَهَا اللهُ بِيَدِهِ فِي وَسْطِكُمْ، كَمَا أَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ. * هذَا أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ. * الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ نَاقِضًا أَوْجَاعَ الْمَوْتِ» (أعمال، ٢: ٢٢–٢٤).

فإذا نظرنا إلى العبادات والصلوات في سفر أعمال الرسل، لما وجدنا أثرًا لعبادة الابن فيها، والصلوات في الكنيسة المسيحية الأولى كانت موجهة للآب وحده. فعندما تمَّ إطلاق سراح بطرس ويوحنا بعد اعتقالهما من قبل الرؤساء الدينيين، رفع الجميع أصواتهم إلى الله بقلب واحد فقالوا: «أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنْتَ هُوَ الإِلهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا». (أعمال، ٤: ٢٤).

إنَّ خلاصة ما توصَّلنا إليه هذه في الوقفة المطولة عند الألقاب المتعلقة بالطبيعة الفائقة ليسوع في العهد الجديد (المسيح، ابن الإنسان، ابن الله، الابن) هي أنَّ يسوع يشغل المرتبة العليا في سلَّم الكائنات الأرضية، تقع على الحد الفاصل بين اللاهوت والناسوت، ولكنه دون الله، ولا يصل حد مشاركته في القدم أو الجوهر. وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم، الذي بقي ضمن الإطار العام لفكر العهد الجديد، من خلال الألقاب الخاصة بالطبيعة الفائقة ليسوع وهي: المسيح، وروح الله، وكلمة الله، مما سنبحثه في الفصل التالي.

١  هذه المقتبسات من الأسفار غير القانونية هي من ترجمتي عن:
J. H. Charlesworth, The Old Testament Pseudepigrapha, New York, 1983.
٢  أوصنا أو هوشعنا، هتاف للتحية والتمجيد.
٣  هذه المقاطع من سفر أخنوخ هي من ترجمتي عن:
J. H. Charlesworth, The Old Testament Pseudepigarapha, Doubleday, New York, 1983, pp. 13 ff.
٤  هذه المقاطع من الميثولوجيا الكنعانية هي من ترجمتي استنادًا إلى عددٍ من المراجع لباحثين بارزين في الأوغاريتيات.
٥  هذه المقتبسات من الأسفار غير القانونية هي من ترجمتي عن كتاب:
J. H. Charlesworth, The Old Testament Pseudepigrapha, Doubleday, New York, 1983.
٦  حول هذا المفهوم راجع تعليق أبو العلا عفيفي على كتاب «فصوص الحكم» لابن عربي، الصفحات من ٣١٩ إلى ٣٢٢.
٧  راجع: د. سعاد الحكيم، المعجم الصوفي، من ٣٤٧ وما بعدها.
٨  هذه الآية وسابقتها اقتباس عن الترجمة الكاثوليكية للعهد الجديد لعام ١٩٦٩م.
٩  عن الترجمة الكاثوليكية الجديدة للعهد الجديد، بيروت ١٩٦٩م.
١٠  الشيطان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤