الطبيعة الفائقة لعيسى في القرآن

على الرغم من تأكيد الرواية القرآنية ناسوتَ عيسى، من خلال ألقاب النبي، والرسول، وعبد الله، إلَّا أنَّ الطبيعة الفائقة لعيسى وتَمَيُّزه عن بقية بني البشر، تبدو واضحةً من خلال ألقاب المسيح، وروح الله، وكلمة الله مما سنبحثه فيما يلي.

(١) المسيح

يرتبط اسم عيسى في القرآن الكريم ارتباطًا عضويًّا بلقب المسيح، وهذا اللقب يرافقه عبر حياته الأرضية منذ الولادة، وعبر حياته الثانية منذ ارتفاعه إلى السماء وحتى قدومه الثاني في آخر الأزمنة. وقد دُعي بعيسى المسيح في النص سبع مرات، وبالمسيح مجردًا ثلاث مرات، وبالمسيح ابن مريم أربع مرَّات (ونحن هنا لا نحصي بقية الصيغ التي ورد بها اسم عيسى؛ مثل: ابن مريم، وعيسى ابن مريم، وعيسى مجردًا).

وعلى الرغم من أنَّ آيات القرآن لا تفيدنا مباشرةً في معرفة دلالة اللقب، إلا أنَّ مضمون قصة عيسى يشير إلى ثلاث خصائص يشترك فيها مسيح القرآن مع مسيح الإنجيل، وهي: المسيح المبارك، والمسيح الصاعد إلى السماء، والمسيح الراجع في الأزمنة الأخيرة.

(١-١) المسيح المبارك

إذا كان لقب المسيح مستمدًّا من كلمة «المشيح» العبرانية أو «مشيحا» الآرامية، فإنَّ هذه الكلمة تدلُّ — كما أشرنا في موضعٍ سابقٍ — إلى الممسوح بزيت المعبد المقدَّس من أجل تبريكه وإسباغ طابع القداسة عليه، وإلى مباركة الله للملك أو الكاهن أو النبي الممسوح. وهذا المعنى مُتضمَّن في الآية التي يقول عيسى فيها: إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ … (١٩ مريم: ٣٠). كما أنَّ في المسح بالزيت المقدس دلالةً رمزيةٌ على اختيار الله للممسوح، وتفضيله واصطفائه على الناس طُرًّا؛ ‎وهذا المعنى متضمَّن في الآية: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣ آل عمران: ٣٣). والمسح يدل أيضًا على حلول روح الربِّ في الممسوح ووقوفه إلى جانبه عبر جميع مراحل حياته؛ وهذا المعنى متضمَّن في الآية: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ (٢ البقرة: ٢٢).

(١-٢) المسيح الصَّاعد إلى السماء

من أهم سمات مسيح العهد الجديد أنَّه يصعد إلى السماء؛ ليجلس عن يمين الله: «وَأَنَا إِنِ ارْتَفَعْتُ عَنِ الأَرْضِ أَجْذِبُ الْجَمِيعَ إِلَيَّ» (يوحنا، ١٢: ٣٢). «مُنْذُ الآنَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ قُوَّةِ اللهِ» (لوقا، ٢٢: ٦٩). «وَفِيمَا هُوَ يُبَارِكُهُمُ، انْفَرَدَ عَنْهُمْ وَأُصْعِدَ إِلَى السَّمَاءِ» (لوقا، ٢٤: ٥١). وقد ورد في القرآن: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (٤ النساء: ١٥٧–١٥٨).

(١-٣) مسيح الأزمنة الأخيرة

تعتبر عودة المسيح في العهد الجديد علامةً من علامات حلول يوم الرب، عندما يرجع المسيح إلى الأرض قاضيًا وديَّانًا. فبعد وقوع الكوارث العامة التي تمهِّد لليوم الأخير: «وَحِينَئِذٍ تَظْهَرُ عَلَامَةُ ابْنِ الإِنْسَانِ فِي السَّمَاءِ. وَحِينَئِذٍ تَنُوحُ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ، وَيُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِيًا عَلَى سَحَاب السَّمَاءِ بِقُوَّةٍ وَمَجْدٍ كَثِيرٍ. * فَيُرْسِلُ مَلَائِكَتَهُ بِبُوقٍ عَظِيمِ الصَّوْتِ، فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ، مِنْ أَقْصَاءِ السَّمَوَاتِ إِلَى أَقْصَائِهَا» (متَّى، ٢٤: ٣٠–٣١).

والقدوم الثاني للمسيح عقيدةٌ راسخةٌ في الإسلام، وهي مرتبطةٌ كما في العهد الجديد بعقيدة رفعه إلى السماء، وذلك على الرغم من الإشارة المقتضبة إليه في موضعين فقط. نقرأ في الموضع الأول: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ * وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ * إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * … وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٥٧–٦١). والمعنى هو أنَّ رجوع عيسى علمٌ يُعلم به مجيء الساعة، وأمارةٌ وعلامةٌ من علاماتها، وشرطٌ من أشراطها التي حددها القرآن الكريم والحديث الشريف.

ونقرأ في الموضع الثاني: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (٤ النساء: ١٥٩). والمعنى هنا أنَّ عيسى في قدومه الثاني سوف يجعل الدين كله واحدًا، وأنَّ أهل الكتاب من اليهود الذين أنكروه سوف يؤمنون به قبل موتهم.

هذه الإشارات الموجزة إلى دور عيسى في آخر الزمان لا تقترن في الكتاب بمزيدٍ من التفاصيل، ولكن الحديث الشريف قد توسَّع وأفاض في مسألة القدوم الثاني لعيسى. فقد أخبر الرسول الكريم بعودة عيسى المرفوع إلى السماء في آخر الزمن: «لا تقوم الساعة حتى تكون عشر آيات: طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، والدخان، والدابة، ويأجوج ومأجوج، وخروج عيسى ابن مريم — عليه السلام — … إلخ.»

وعلى ما نفهم من عددٍ آخر من الأحاديث، فإنَّ القدوم الثاني للمسيح يسبقه ظهور الدجَّال الذي يأتي من بلاد المشرق، فيدَّعي الصلاح ثم يدَّعي النبوة ويقول إنه المسيح، ثم يدَّعي الألوهية ويُجري معجزاتٍ عظيمة، فيتبعه المنافقون والمرتابون وينجو من حيله المؤمنون. بعد ذلك يبعث الله عيسى ابن مريم، فينزل في المنارة البيضاء في دمشق واضعًا كفَّيه على أجنحة ملاكين؛ إذا طأطأ رأسه قطر وإن لم يصبْه بلل، وإذا رفعه تحدَّر منه لؤلؤٌ كالجمان. عند ذلك ينفخ على الكفار فيبيدهم، ونفخته النارية هذه تصل أينما تلفت إلى حيث ينتهي بصره. بعد ذلك يحكم عيسى البشر بالعدل والقسطاس، وتدخل الأرض في حالة فردوسيةٍ ردحًا من الزمن ينتفي فيه الشر من الوجود، فتتوقف الحروب، وتتحوَّل السيوف إلى مناجل، وتتلاشى العلل والأمراض، ويحرسُ الذئب الغنم فلا يضرُّها، ويراعي الأسد البقر فلا يضرُّها، ويلعب الصبي بالثعبان فلا يؤذيه. بعد ذلك تموت كل نفسٍ حيَّةٍ وتعود إلى بارئها.

نلاحظ من هذا الوصف لعودة المسيح امتلاءه بالأفكار الواردة في المصادر الإنجيلية: ففيما يتعلق بظهور المسيح الدجَّال قبل ظهور عيسى المسيح، فإنَّ يسوع نفسه قد أخبر عن ظهور مُسَحاءَ كَذَبة في أثناء أحداث الساعة: «حِينَئِذٍ إِنْ قَالَ لَكُمْ أَحَدٌ: هُوَ ذَا الْمَسِيحُ هُنَا! أَوْ: هُنَاكَ! فَلَا تُصَدِّقُوا. * لِأَنَّهُ سَيَقُومُ مُسَحَاءُ كَذَبَةٌ وَأَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ وَيُعْطُونَ آيَاتٍ عَظِيمَةً وَعَجَائِبَ، حَتَّى يُضِلُّوا لَوْ أَمْكَنَ الْمُخْتَارِينَ أَيْضًا» (متَّى، ٢٤: ٢٣–٢٥). وبولس يصف الدجَّال بأنَّه أخو الإلحاد وابن الهلاك، والخصم الذي يظهر قبل يوم الرب: «لا يخدعنكم أحدٌ بشكلٍ من الأشكال. فلا بد أن يكون ارتداد الدين وأن يظهر أخو الإلحاد ابن الهلاك * والخصم الذي يناصب كل ما يحمل اسم الله أو كان معبودًا، حتى إنَّه يجلس في هيكل الله ويظهر نفسه إلهًا» (٢ تسالونيكي، ٢: ٣–٤).١ ويصوِّر سفر الرؤيا في العهد الجديد الدجَّال على هيئة وحشٍ يُضل أهل الأرض بما أُوتي من معجزاتٍ (١٣: ١١–١٧)، ولكن المسيح الذي يظهر على هيئة فارسٍ يمتطي جوادًا أبيض ويخرج من فمه سيفٌ مرهفٌ سوف يتغلب عليه ويلقيه في مستنقعٍ من نارٍ وكبريت متقد (١٩: ١١–٢١).

وفيما يتعلق بنفخة عيسى النارية التي تصل أينما تلفَّت إلى حيث ينتهي بصره، والتي يُبيد بواسطتها الكفار، فإننا نجد ما يوازيها في سفر عزرا الرابع (راجع فصل المسيح في الأسفار غير القانونية): «فنظرت ورأيت من قلب الريح شكل إنسانٍ يطلع من وسط البحر. ورأيت ذلك الإنسان يطير مع الغيوم في الأعالي، وأينما أدار وجهه حدثت رجَّة ورجفة … ثم رأيت حشودًا تهبُّ من جهات الريح الأربع لتقاتل الرجل الطالع من البحر … ولكنه أطلق من فمه زفيرًا ناريًّا ومن لسانه عاصفة من الشرار، فامتزج الاثنان في تيارٍ ملتهبٍ انصبَّ على الحشود المهاجمة فأتت عليهم جميعًا.»

وفيما يتعلق بالحالة الفردوسية التي تئول إليها حال العالم بعد انتصار عيسى المسيح، فإننا نعثر على شبيهٍ لها في سفر إشعيا، حيث يتحدث عن حال الأرض بعد قيام مملكة المسيح: «وَيَخْرُجُ قَضِيبٌ مِنْ جِذْعِ يَسَّى، وَيَنْبُتُ غُصْنٌ مِنْ أُصُولِهِ، * وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ. * وَلَذَّتُهُ تَكُونُ فِي مَخَافَةِ الرَّبِّ، فَلَا يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلَا يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، * بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ، وَيَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ. * وَيَكُونُ الْبِرُّ مِنْطَقَةَ مَتْنَيْهِ، وَالأَمَانَةُ مِنْطَقَةَ حَقْوَيْهِ. * فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. * وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلَادُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. * وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ» (إشعيا، ١١: ١–٨). وفيما يتعلق بتحويل السيوف إلى مناجل، نقرأ في سفر ميخا: «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا، وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لَا تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ. * بَلْ يَجْلِسُونَ كُلُّ وَاحِدٍ تَحْتَ كَرْمَتِهِ وَتَحْتَ تِينِهِ» (ميخا، ٤: ١–٥).

(٢) روح الله

لا يوجد معنى واحد في القرآن لكلمة «روح»، وإنما تتخذ معناها من الكلمة أو الضمير المضاف إليها، ومن سياق النص. وسوف نوضِّح فيما يلي المعاني المتعددة للكلمة:

(٢-١) الروح القُدُس/جبريل

عندما تضاف كلمة «الروح» إلى «القدس»، فإنَّ تعبير الروح القدس يعني الملاك جبرائيل ناقل الوحي الإلهي إلى محمد وإلى الأنبياء. والدليل على ذلك قوله:
  • «قُلْ نَزَّلَهُ٢ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا …» (١٦ النحل: ١٠٢).
  • نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (٢٦ الشعراء: ١٩٣–١٩٥).
  • قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢ البقرة: ٩٧).
  • إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ … (٥ المائدة: ١١٠).

والروح القدس هذا، أي جبريل، هو المقصود أيضًا في الآيات التالية التي ترد فيها كلمة «الروح» غير مضافةٍ إلى «القدس»:

  • إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٩٧ القدر: ١–٥).
  • تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٧٠ المعارج: ٤).
  • يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (٧٨ النبأ: ٣٨).

(٢-٢) الروح/الوحي

وتأتي كلمة «الروح» بمعنى الوحي المُلقى في قلب النبي دون واسطةٍ، وأيضًا بمعنى الوحي الذي تأتي به الملائكة. والمعنى الأول هو المقصود من قوله:
  • … يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (٤٠ غافر: ١٥).
  • وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ … (٤٢ الشورى: ٥١)، ثم يقول: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ … (٤٢ الشورى: ٥٢).

    والمعنى الثاني، أي الوحي بواسطة رسول، هو المقصود في قوله:

  • يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ … (١٦ النحل: ٢).

(٢-٣) روح الله

إذا أضيفت كلمة «الروح» إلى الضمائر المتصلة لتصبح: روحي، روحه، روحنا؛ فإنَّ المقصود بها هو «روح الله»، وكذلك تعبير «وروح منه» الذي يعني روح الله، أي قوة الله الفاعلة في العالم، وقد كانت هذه الروح فاعلةً عندما جرى خلق آدم:

  • وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ … (٣٢ السجدة: ٧–٩).
  • وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حمأٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (١٥ الحجر: ٢٨–٢٩).
كما كانت روح الله فاعلةً بالطريقة نفسها فيما يخصُّ خلق عيسى، ذلك أنَّ كلًا من آدم وعيسى قد خُلق من روح الله مباشرةً، وعيسى بشكلٍ ما هو آدم الثاني. والآيات التالية تستحضر في الذهن قول الملاك لمريم عندما جاءها بالبشارة في إنجيل لوقا: «الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ» (لوقا، ١: ٣٥). وكذلك قول الملاك ليوسف: «يَا يُوسُفُ بْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لِأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ١: ٢٠):
  • وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (٦٦ التحريم: ١٢).
  • وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١).
  • إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ … (٤ النساء: ١٧١).
وعلى عكس ما جاء به كل مفسري القرآن الكريم فيما يخص طبيعة «الروح» في هذه الآيات، حيث رجَّحوا أنَّه جبريل/الروح القدس، فإنَّ المقصود هنا هو «روح الله» الذي حدَّث عنه تعالى في سياقٍ آخر عندما قال: … وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (١٢ يوسف: ٨٧). والسياق اللغوي، كما البنية النحوية التي وردت فيها كلمة الروح، واضحة كل الوضوح، وهي تشير إلى «روح الله» لا إلى «روح من عند الله» أي جبريل. والشيء نفسه ينطبق على قوله تعالى في مشهد بشارة مريم:
  • … فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩ مريم: ١٧–١٩).

فالكائن النوراني الذي ظهر لمريم ليس واحدًا من الملائكة، بل هو روح الله نفسه، أي حضور الله القادر والفعَّال في العالم المخلوق، وقد اتخذ هنا هيئةً بشرية ليكون قادرًا على التواصل مع مريم. فروح الله هو الوسيط بين عالم الألوهة الخافي وعالم الإنسان والظواهر الطبيعية، ومن خلال هذا الروح خلق العالم ويعمل على حفظه وتسييره.

إنَّ روح عيسى، وفق ما تفيدنا به الآيات، هي قبسٌ من روح الله. وهنالك نوعٌ من علاقة الأبوَّة والبنوة بينهما، ولكنها ليست علاقةً بيولوجية، فالله لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (١١٤ الإخلاص: ٣–٤). ولقد اشتعلت روح عيسى من روح الله كما تُشعل شمعة من أخرى، لا كما يلد كائنٌ حيٌّ كائنًا آخر.

(٢-٤) كلمة الله

يُدعى عيسى في الكتاب بكلمة الله، أو كلمة من الله في المواضع الآتية:

  • إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ … (٤ النساء: ١٧١).
  • إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٣ آل عمران: ٤٥).
  • (يا زكريا) … أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ٣ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣ آل عمران: ٣٩).
  • ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ٤ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (١٩ مريم: ٣٤).

وقد ذهب المفسرون في معنى «كلمة الله» مذاهب شتَّى، ولكن أكثرهم قال إنَّ عيسى سُمِّي بكلمة الله، لأنَّه وُجد بكلمة الله التي هي «كن». وقال البعض إن الله سمَّاه «كلمة» من حيث أن ذكره قد ورد في توراة موسى وغيرها من كتب الله التي بشَّرت سابقًا بظهوره. فهو الإنسان الذي تكلم بأمره وأخبر به في ماضي كتبه المنزلة.

أما في العهد الجديد فقد ورد ذكر «الكلمة» ثلاث مرات، وذلك في رسالة يوحنا الأولى، حيث نقرأ: «الَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ، الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا، الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا، مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ» (رسالة يوحنا الأولى، ١: ١)، وفي سفر الرؤيا: «ورأيت السماء قد انفتحت، وإذا فرس أبيض يُدعى الذي ركب عليه الأمين والصادق، يقضي ويحارب بالعدل … واسمه كلمة الله» (١٩: ١١–١٣). وأما في مقدمة إنجيل يوحنا التي أسست للاهوت الكلمة فنقرأ: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ. * هذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. * كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. * فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، * وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ …» (يوحنا، ١: ١–١٤). وفي سفر أعمال يوحنا المنحول، وهو من الأدبيات المسيحية الغنوصية، وردت «الكلمة» بين ألقاب يسوع: «المجد لك أيها الكلمة، المجد لك أيها النعمة، المجد لك أيها الروح …»

إن مفهوم الكلمة في العهد الجديد، يقوم على مفهوم «اللوغوس» الأفلاطوني الذي قال به فيلو الإسكندري اليهودي، عندما اعتبر أن اللوغوس هو «العقل» الذي فاض عن الله وصار وسيطًا بين الله وما سواه، وبه خلق الله العالم. وفيلو هنا إنما يطور مفهوم «الحكمة» في العهد القديم. نقرأ في سفر الأمثال: «أَنَا الْحِكْمَةُ أَسْكُنُ الذَّكَاءَ، وَأَجِدُ مَعْرِفَةَ التَّدَابِيرِ … * الرَّبُّ قَنَانِي (أو حازني) أَوَّلَ طَرِيقِهِ، مِنْ قَبْلِ أَعْمَالِهِ، مُنْذُ الْقِدَمِ. * مُنْذُ الأَزَلِ مُسِحْتُ، مُنْذُ الْبَدْءِ، مُنْذُ أَوَائِلِ الأَرْضِ. * إِذْ لَمْ يَكُنْ غَمْرٌ أُبْدِئْتُ. إِذْ لَمْ تَكُنْ يَنَابِيعُ كَثِيرَةُ الْمِيَاهِ. * مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقَرَّرَتِ الْجِبَالُ، قَبْلَ التِّلَالِ أُبْدِئْتُ … * لَمَّا ثَبَّتَ السَّمَوَاتِ كُنْتُ هُنَاكَ أَنَا. لَمَّا رَسَمَ دَائِرَةً عَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ … * كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعًا، وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ، فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ» (الأمثال، ٨: ١٢ و٢٢–٣٠).

في القرآن الكريم تتخذ «كلمة الله» معنى مشابهًا لمعنى «الكلمة» عند يوحنا ولمعنى «الحكمة» في العهد القديم، فهي الوسيط بينه وبين العالم، وهي وسيلة الخلق. وبذلك يتطابق في القرآن، وعلى عكس العهد الجديد، مفهوم الكلمة مع مفهوم «روح الله». ولا أدلُّ على ذلك من مقارنة الموضعين التاليين في الكتاب، حيث يُستخدم تعبير روح الله وكلمة الله «كن»، بشكل تبادلي:
  • وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * … ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ (٣٢ السجدة: ٧–٩).
  • إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣ آل عمران: ٥٩).

(٣) نتيجة

إنَّ خلاصة الموضوع فيما يتعلَّق بالطبيعة الفائقة لعيسى في القرآن الكريم، هو أنَّ الرواية القرآنية قد رفعت عيسى إلى المرتبة العالية نفسها التي رفعته إليها أسفار العهد الجديد. ولكن المنظور اللاهوتي في كلا النصَّين لم يرفعْهُ إلى مستوى الألوهية الذي أوصلته إليه قرارات المجامع الكنسية.

وهذا ما يحيلنا إلى مسألة الجدل اللاهوتي الذي أقامه القرآن مع العقائد المسيحية فيما يخص مسألة «ابن الله» ومسألة «التثليث».

١  عن الترجمة الكاثوليكية الجديدة للعهد الجديد، بيروت، ١٩٦٩م.
٢  أي القرآن.
٣  وقد ألمحنا في موضع سابق إلى أنَّ جملة «مصدقًا بكلمة من الله» تعني هنا مصدقًا بعيسى المسيح، على اعتبار أنَّ بعثة يحيى قد سبقت بعثة عيسى، وأنَّه مهَّد له الطريق وأعلن عن قدومه.
٤  وقد ألمحنا في موضع سابق إلى كلمة «قول» يمكن أن يضبط آخرها بالفتح، ويكون المعنى «أقول قول الحق»، ويمكن أن يضبط آخرها بالضم، ويكون المعنى أن عيسى هو قول الحق، أي كلمة الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤