أسرة مريم وميلادها

(١) النسب والميلاد والنذر

لا تورد الأناجيل الرسمية شيئًا عن أسرة مريم وميلادها وحياتها قبل الحمل بيسوع. فهي تظهر بشكلٍ مفاجئٍ، ودون مقدماتٍ، عند كلٍ من متَّى ولوقا اللذين قدما لنا قصتين مختلفتين عن مولد يسوع. يقول متَّى بعد روايته لنسب يوسف النجار ما يلي: «أَمَّا وِلَادَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ» (متَّى، ١: ١٨). أما لوقا الذي ابتدأ أولًا بسرد قصة زكريا ويحيى، فإنه يقول في سياق هذه القصة، وبعد أن يُخبرنا بحمل أليصابات زوجة زكريا: «وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، * إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. * فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ» (لوقا، ١: ٢٦–٢٨).

ولكن أناجيل الطفولة المنحولة، ولا سيما إنجيل يعقوب ومنحول متَّى، قد تطوعت لملء هذا الفراغ الذي تركته الأناجيل الرسمية، وهي التي تُقدِّم لنا مادةً غنية للمقارنة مع القرآن الكريم. فإنجيل يعقوب يُخبرنا أنَّ والد مريم المدعو يواكيم كان رجلًا واسع الثراء من قبيلة يهوذا، وكان يعتني بقطعان ماشيته الكثيرة العدد، ويُقدم قُربانًا مضاعفًا للرب من وفرة ثروته، لهذا فقد بارك الله في ماله وزاده. تزوج يواكيم من حنة بنت عساكر، وعاش معها مدةً طويلةً دون أن يُرزقا بأولاد. وفي أحد الأيام جاء إلى الهيكل ليقدِّم قربانه إلى الرب، ولكن الكاهن رفض القربان لأنَّ يواكيم لم يصنع له ذريةً في إسرائيل. فترك يواكيم الهيكل ومضى إلى البرية، فاعتكف وراح يصوم ويُصلِّي ويدعو ربه مدة أربعين يومًا، بينما كانت زوجته حنة تبكي في البيت وتندب عقمها أمام الرب. ثم إنَّ ملاك الرب ظهر لحنة وقال لها: «حنَّة، حنَّة، لقد سمع الرب صلاتك، ولسوف تحملين وتلدين وتلهج ألسنة المعمورة بذكر نسلك. قالت حنَّة: حيٌّ هو الرب، إذا ما أنجبت طفلًا، ذكرًا كان أم أُنثى، سوف أنذره للرب إلهي فيخدمه كل أيام حياته. ولما أكملت شهور حملها، وضعت حنة مولودها، فسألت القابلة: ماذا أنجبتُ؟ فقالت القابلة: إنها أُنثى. قالت حنة: لقد تعظَّمت روحي في هذا اليوم. ثم أسلمت نفسها للراحة. ولما أتمَّت أيام تطهُّرها طهَّرت نفسها وألقمت الطفلة ثديها، ودعتها بالاسم مريم.»

مقابل صمت الأناجيل الرسمية عن أصل مريم، ونسبها في الأناجيل المنحولة إلى أسرةٍ غنيةٍ وأبوين تقيَّين، فإن الرواية القرآنية تنسبها إلى أسرة نبويةٍ مُصطفاه، وتدعو الأب باسم عمران، بينما تسكت عن اسم الأم: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣ آل عمران: ٣٣–٣٦).

(١-١) التفسير

إن الله اصطفى آل عمران وفضَّلهم على العالمين، مثلما اصطفى من قبل آدم ونوحًا وإبراهيم وذريته.

إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي: أي إني نذرت أن أجعل لك مولودي القادم عتيقًا خالصًا من شواغل الدنيا، مكرسًا للعبادة والخدمة في بيتك المقدس (الهيكل).

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ: أي إنَّ امرأة عمران كانت تتوقع مولودًا ذكرًا لكي تفي بنذرها، لِأَنَّ الذكور عادة هم الذين يكرسون للعبادة والخدمة في الهيكل. ولكن الله أعلم بما وضعت، وهو يعرف الدور الذي سوف تؤدِّيه هذه الأنثى في المستقبل.

وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: أي إنَّ الشيطان لن يكون له سلطانٌ عليها، وعلى ابنها القادم عيسى.

على الرغم من الإيجاز الشديد للرواية القرآنية وقفزها فوق التفاصيل، إلا أنَّها تحتوي أهم العناصر الواردة في الرواية المنحولة على ما تبيِّنه المقارنة التالية:

إنجيل يعقوب سورة آل عمران
يواكيم يعتزل في البرية ويُصلي، وحنة تندب عقمها أمام الرب.
الملاك يُبشر حنة بالحمل.
قالت حنة للملاك: حي هو الرب. إذا ما أنجبتُ مولودًا، ذكرًا كان أم أنثى، سوف أنذره للرب فيخدمه. إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥)
ولما أكملت شهور حملها، وضعت حنة مولودها، وسألت القابلة: ماذا أنجبتُ قالت القابلة: إنها أنثى. فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى … (٣٦)
فقالت حنة: لقد تعظَّمت روحي في هذا اليوم. … وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ … (٣٦)
طهَّرت حنة نفسها وألقمت الطفلة ثديها، ودعتها بالاسم مريم. … وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ … (٣٦)

إنَّ في قول امرأة عمران: «وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» له ما يوازيه في الأناجيل الإزائية، وذلك في عجز الشيطان عن إغواء يسوع عندما راح في البرية يجربه مدة أربعين يومًا. كما له ما يوازيه في اللاهوت المسيحي، الذي اعتبر أنَّ مريم قد وُلدت مبرأةً من الخطيئة الأصلية ولا يدَ للشيطان عليها.

(٢) الوفاء بالنذر

بعد بضع سنواتٍ كان لا بدَّ من الوفاء بالنذر وتقديم الطفلة إلى الهيكل. وهنا تتابع الرواية القرآنية في سورة آل عمران قولها: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣ آل عمران: ٣٧).

إنَّ الرواية القرآنية تختصر هنا في بضع جُمل رواية الأناجيل المطوَّلة حول تقديم الطفلة مريم إلى الهيكل وحياتها هناك. وسوف نُتابع فيما يلي مراحل القصة كما وردت في سورة آل عمران وفي إنجيل يعقوب المنحول:

فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا … (٣ آل عمران: ٣٧).

«ومرَّت الشهور حتى أكملت الطفلة عامها الثاني. فقال يواكيم: لنأخذها إلى الهيكل حتى نفي بنذرنا، لكيلا يُطالبنا الرب به فتغدو تقدمتنا غير مقبولةٍ. قالت حنة له: دعنا ننتظر انقضاء عامها الثالث لكيلا تفتقد الطفلة أبويها. فقال يواكيم: فلننتظر.

وعندما أكملت الطفلة عامها الثالث قال يواكيم: ادعي لي فتياتٍ عبرانيات عذراوات، ولتحمل كل واحدةٍ بيدها مصباحًا مُتَّقدًا، لكيلا تلتفت الطفلة إلى الوراء وينصرف قلبها عن هيكل الرب. فتمَّ له ما أراد وساروا حتى أتوا هيكل الرب. وهناك تلقَّاها زكريا الكاهن الأعلى وقبَّلها قائلًا: لقد عظَّم الرب اسمك في كل الأجيال، ومن خلالك سيُظهر خلاصه لبني إسرائيل. ثم أجلسها على الدرجة الثالثة للمذبح. وأسبغ الرب عليها نعمته فراحت تقفز على رجليها. وأحبَّها كل آل إسرائيل» (إنجيل يعقوب).

كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٣٧).

«وعاد أبواها من الهيكل متعجبين وممجِّدين الرب، لِأَنَّ الطفلة لم تلتفت إلى الوراء. أما مريم فقد بقيت في هيكل الرب مثل حمامة تتلقَّى الطعام كل يومٍ من يدي ملاك» (إنجيل يعقوب).

وورد في منحول متَّى عن حياة مريم في الهيكل:

«لم تكن تبدو طفلةً بل كبيرةً ومشبعةً أعوامًا من فرط تفرغها للصلاة. وكان وجهها يسطع كالثلج بحيث لا يستطيع المرء أن يُطيل النظر إليه. وقد فرضت على نفسها نظامًا يوميًّا قوامه الدأب على الصلاة والضراعة منذ الصباح إلى الساعة الثالثة، ثم الانصراف إلى العمل اليدوي حتى الساعة التاسعة عندما يظهر لها ملاك الرب، وعندها كانت تتلقَّى الطعام من يده، وتوزع على الفقراء الطعام الذي كان الكهنة يسلمونها إيَّاه» (منحول متَّى).

(٣) القرعة على كفالة مريم بعد خروجها

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٣ آل عمران: ٤٢–٤٤).

اعتقد مفسرو القرآن الكريم أن القرعة الوارد ذكرها هنا هي قرعةٌ على كفالة مريم الطفلة عندما تمَّ تقديمها إلى الهيكل، قالوا إنَّ حنة لما وضعت طفلتها حملتها إلى المسجد، ووضعتها عند الأحبار وقالت لهم: دونكم هذه النذيرة. فتنافسوا فيها ثم اقترعوا عن طريق إلقاء أقلامهم (عصيهم) في الماء، فمن ثبت قلمه في الماء ثم صعد فهو أولى بها. فثبت قلم زكريا فأخذها.

ولكن الأناجيل المنحولة توضِّح لنا أنَّ القرعة قد جرت بشأن من يكفل مريم الصبية عندما حان وقت خروجها من المعبد إلى الحياة العامة. نقرأ في إنجيل يعقوب:

«ولما أتمَّت عامها الثاني عشر (وورد في منحول توما: عامها الرابع عشر) اجتمع الكهنة يتشاورون بشأنها. ثم توجَّهوا بالقول إلى الكاهن الأعلى زكريا: إنك من يرعى مذبح الرب، فهلَّا دخلت وصلَّيت من أجلها ولسوف نفعل كل ما يُوحيه الرب إليك. فدخل زكريا إلى قدس الأقداس فصلَّى من أجلها، فظهر له ملاك الرب وقال له: اذهب وادعُ إليك جميع الرجال الأرامل، وليجلب كل واحد معه عصًا، فمن يُظهر الرب آيته على عصاه يأخذ مريم زوجةً له. فانطلق المنادون يُنادون في جميع أرجاء اليهودية، وقُرع بوق الرب، واجتمع إليه كل الرجال. ويوسف النجار ترك قدومه وجاء بينهم. وحضر الجميع إلى زكريا حاملين معهم عصيَّهم، فجمع زكريا العصي ودخل إلى الهيكل فصلَّى، ثم أخذ العصي وردَّها إلى أصحابها، ولكن لم تظهر آية الرب على أيٍّ منها. ثم جاء دور يوسف، وكان الأخير، فما إن مدَّ يده لاستلام عصاه، حتى انطلقت منها حمامةٌ وحطت على رأسه. عند ذلك قال زكريا ليوسف: لقد تمَّ اختيارك بالقرعة لكي تأخذ عذراء الرب وتحتفظ بها.»

يوضح هذا المقطع من إنجيل يعقوب مسألة الاقتراع حول كفالة مريم في الرواية القرآنية، ولكن الروايتين تختلفان في هوية من وقعت عليه القرعة. وبما أنَّ الرواية القرآنية تتجاهل — جملةً وتفصيلًا — وجود يوسف النجار، فقد جعلت من زكريا الكاهن كفيلًا لمريم. ولهذا قالت الآية ٣٧ من سورة آل عمران، والتي اقتبسناها آنفًا: «… وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا …»، فهذه الكفالة لم تكن كفالة لمريم الطفلة؛ وإنما كفالة لمريم الصبية في حياتها العامة المقبلة. ويبدو أنَّ والدي مريم قد توفيا أثناء مدة إقامتها الطويلة في الهيكل.

(٤) مشكلة عمران

في البحث عن «عمران» القرآني، طابقَ بعض الباحثين بينه وبين «عمرام» التوراتي، والد كل من النبي موسى وأخيه هارون وأختهما مريم (راجع سفر الخروج، ٦: ٢٠؛ وسفر أخبار الأيام الأول، ٦: ٣)، لا سيما أنَّ الرواية القرآنية تضع على لسان قوم مريم قولهم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (١٩ مريم: ٢٨). وبالتالي فقد اعتقد هؤلاء بوجود مفارقةٍ تاريخيةٍ في القرآن عندما جعل أسرة عيسى وأسرة موسى تعيش في عصرٍ واحد.

وفي الحقيقة، إن دارس القرآن الكريم لا يلمح في أي موضع منه إشارةً تُفيد بوجود تزامنٍ بين عيسى وموسى، أو أنَّ السيدة مريم كانت أختًا شقيقة لكل من هارون وموسى. لقد أرادت الرواية القرآنية أن تكشف عن أصل مريم الغائم في الرواية الإنجيلية، وكشفت عن انتمائها إلى أسرةٍ نبويةٍ مُصطفاة على العالمين هي أسرة آل عمران، ثم إنها عادت بها القهقرى إلى أسرة عمران التوراتي، أو عمرام المذكور في التوراة على أنَّه ابن قهات بن لاوي ، ووالد كل من موسى وهارون ومريم النبية (الخروج، ١٥: ٢٠). ومريم النبيَّة هي الأخت الكبرى لموسى، وقد كان لها دورٌ في قصة إلقائه في الماء عقب ولادته وانتشال ابنة الفرعون له. وقد لُقبت بالنبية لأنَّ الله كلَّمها هي وهارون مثلما كلَّم موسى (راجع سفر العدد، ١٢: ١–٥). أما هارون، فإلى جانب الدور الذي قام به كمساعدٍ أول لموسى، فقد كان أول كاهنٍ في الديانة الموسوية. وصارت الكهانة بعد ذلك في أسرته ووقفًا على من تسلسل منه (راجع سفر الخروج، ٤٠: ١٢–١٥).

إلى عمران الأول هذا، وإلى أسرته النبوية والكهنوتية، ينتمي عمران الثاني، أبو السيدة مريم. وقد دُعي بهذا الاسم تيمنًا بعمران الأول؛ ثم إنَّه دعا ابنته مريم تيمنًا بمريم النبية. أما عن مُناداة النص القرآني والدة عيسى ﺑ «يا أخت هارون»، فليس المقصود منه تبيان قرابة الأخوَّة المباشرة، وإنما توكيد انتماء مريم إلى تلك الأسرة النبوية الكهنوتية العريقة. والمقصود هنا قوله: يا صنوَ هارون في التُّقى والصلاح، أو يا سليلة هارون؛ إذا كان المقصود أنَّ والدها كان من نسل هارون بن عمرام. وقد استعمل إنجيل لوقا مثل هذه الصيغة في الخطاب عندما أشار إلى أليصابات زوجة زكريا وأم يوحنا المعمدان على أنَّها من بنات هارون (لوقا، ١: ٥).

وهناك ثلاثة أسباب نستطيع استنتاجها لتجاهل الرواية القرآنية لسلسلة نسب يسوع الواردة عند متَّى ولوقا، واستبدال سلسلة نسبٍ أخرى بها؛ السبب الأول هو أنَّ السلسلتين كليهما تعتمدان على نسب يوسف النجار لا على نسب مريم التي سكت النص الإنجيلي عن أصلها وأسرتها. ويوسف النجار غائبٌ تمامًا عن الرواية القرآنية التي تفادت الإحراج الذي وقعت به الرواية الإنجيلية بسبب وجود يوسف النجار. والسبب الثاني هو أنَّه لا جدوى من سلسلة كهذه، لأنَّ مريم العذراء قد حملت من روح الله مباشرةً ودون أب بشريٍّ. فعيسى من حيث الجسد ينتمي لأمه فقط ولأسرتها وصولًا إلى عمران الأول، أما من حيث الروح فلا ينتمي إلا إلى الله وحده. أما السبب الثالث فيستدعي منَّا وقفة قصيرة.

إنَّ سلسلة نسب متَّى التي ترجع إلى الملك داود، ثم تتابع صعودًا إلى يهوذا بن يعقوب رأس السبط المعروف بسبط يهوذا، هذه السلسلة تمرُّ بامرأتين زانيتين. المرأة الأولى هي تامار كنَّة يهوذا، التي زنى بها حماها يهوذا وأنجبت له توأمين هما فارص وزارح (راجع سفر التكوين، ٣٨). ومن فارص ابن الزنى بالكنَّة تسلسل الملك داود، الذي زنى بدوره بالمرأة المدعوة بتشبع، التي كانت زوجة أحد ضباطه، ولكنه أُغرم بها وتسبَّب في مقتل زوجها لكي يستأثر بها. وعندما أخبرته بأنَّها حاملٌ ضمَّها إلى حريمه فأنجبت له سليمان (راجع سفر صموئيل الثاني، ١٢).١ ومن سليمان وبتشبع الزانية تسلسل يوسف النجار. وهنا لا نستطيع إلا أن نتساءل: كيف فات مؤلف إنجيل متَّى — وهو الضليع في مسائل العهد القديم — معنى الفقرة التشريعية الواردة في سفر التثنية: لَا يَدْخُل ابْنُ زِنًى فِي جَمَاعَةِ الرَّبِّ. حَتَّى الْجِيلِ الْعَاشِرِ (التثنية، ٢٣: ٢).
١  وعندما سمع النبي ناثان بما جرى، دخل على الملك داود وروى له قصة الرجل الذي كان يملك غنمًا وبقرًا كثيرة جدًّا، ومع ذلك فقد استولى على النعجة الوحيدة التي كان صديقه يملكها وقدمها ذبيحة لضيفه. ثم سأل ناثان داود عن حكمه في هذه المسألة، قال له داود إنَّه يحكم بقتل الرجل وبرد النعجة أربعة أضعاف، فقال له ناثان: أنت ذلك الرجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤