ميلاد عيسى

(١) مكانة عيسى في القرآن

أعطى القرآن الكريم ألقابًا لعيسى تزيد عمَّا أُعطي لأي شخصيةٍ دينيةٍ من شخصيات الماضي، فهو النبي، والمبارك: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). وهو رسول الله، وكلمة الله، وروح الله: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ … (٤ النساء: ١٧١). وهو قول الحق: ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلُ الْحَقِّ١ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (١٩ مريم: ٣٤). وهو آية ورحمة: … وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (١٩ مريم: ٢١). وهو مَثَلٌ: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٤٣ الزخرف: ٥٩). وهو وجيهٌ ومقرَّبٌ: … وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٣ آل عمران: ٤٥). وقد حفلت بأخباره ثلاث سورٍ كاملةٍ في المصحف الشريف، وهي آل عمران، والمائدة، ومريم؛ بالإضافة إلى ما ورد متفرقًا في سور أخرى عبر الكتاب.

وقد ورد ذكره في القرآن نحو ٣٥ مرة، إمَّا بصيغة عيسى، أو عيسى ابن مريم، أو المسيح ابن مريم، أو المسيح، أو المسيح عيسى ابن مريم. ولم يتفوقْ عليه في عدد المرات التي ذُكر فيها إلَّا إبراهيم وموسى.

من الصعب العثور على جذرٍ عربيٍّ للاسم عيسى، ومعظم مُفسري القرآن يرون أنَّه مشتقٌّ من الاسم الآرامي–السرياني «يشوع»، وهو ترجمةٌ للاسم العبراني «يُشو-وا» المختصر عن الاسم الكامل «يهو-شُوا» أي خلاص يهوه، أو يهوه مخلِّص. وإلى هذا المعنى أشار متَّى في إنجيله عندما قال: «فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ» (متَّى، ١: ٢١). وقد دُعي بالاسم يشوع عدد من شخصيات العهد القديم، أبرزهم يشوع بن نون خليفة موسى.

ومن الاسم يشوع جاءت التسمية اليونانية «ياسو»، أو «ياسوس» بعد إضافة حرف السين الذي يلحق أسماء الأعلام في اللغة اليونانية. ومن «ياسوس» جاءت التسمية Jesus المستخدمة في اللغة الإنكليزية، وأشكالها الأخرى في اللغات الأوروبية الباقية.

و«يسوع» هو الاسم المعتمد في الأناجيل الأربعة التي لم تطلقْ عليه اسم ابن مريم أو اسم المسيح. وهنالك إشارةٌ واحدةٌ إلى يسوع على أنَّه ابن مريم وردت في إنجيل مرقس، ولكن على سبيل التعريف به لا على سبيل التسمية. وهذا أمرٌ متوقعٌ من مرقس الذي لم يكن يعرف شيئًا عن يوسف النجار ولا عن قصة الميلاد، ولهذا فقد وضع على لسان أهل الناصرة قولهم في يسوع: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ، وَأَخُو يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَيَهُوذَا وَسِمْعَانَ؟ أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ ههُنَا عِنْدَنَا؟» (مرقس، ٦: ١–٣). أما متَّى الذي كان يعرف يوسف وابتدأ إنجيله بقصة الميلاد، فقد قال في الموضع نفسه: «مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ الْحِكْمَةُ وَالْقُوَّاتُ؟ * أَلَيْسَ هذَا ابْنَ النَّجَّارِ؟ أَلَيْسَتْ أُمُّهُ تُدْعَى مَرْيَمَ، وَإِخْوَتُهُ يَعْقُوبَ وَيُوسِي وَسِمْعَانَ وَيَهُوذَا؟ * أَوَلَيْسَتْ أَخَوَاتُهُ جَمِيعُهُنَّ عِنْدَنَا؟ فَمِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ كُلُّهَا؟» (متَّى، ١٣: ٥٤–٥٦). وأما لوقا صاحب الرواية الثانية في الميلاد، فقد قال: «وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ، وَيَقُولُونَ: أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ؟» (لوقا، ٤: ٢٢).

جريًا على ذلك، فإنَّ أسفار العهد الجديد الأخرى، وكذلك الأناجيل المنحولة، لم تُطلق على يسوع لقب ابن مريم، عدا إنجيل الطفولة العربي الذي استخدم اللقب خمس مراتٍ. ففي قصة الفتاة البرصاء التي شُفيت بعد اغتسالها بماء حمَّام يسوع الطفل، أعلنت الفتاة أنَّها قد شُفيت بفضل يسوع بن مريم؛ وفي قصة تحويل الأطفال إلى أكباش، ثم استعادتهم ثانيةً كما كانوا، صاحت أمهاتهم: يا يسوع، يا ابن مريم، أنت حقًّا راعي إسرائيل الصالح. وفي قصة الفتاة الممسوسة التي يتراءى لها الشيطان في صورة تنينٍ مرعبٍ، فقد شُفيت بعد أن عرضت أمام ناظريها قطعة قماشٍ من ثياب يسوع الطفل، وخرج الشيطان من جسدها وهو يصرخ: ماذا يوجد بيني وبينك يا يسوع ابن مريم، أين أجد ملاذًا منك؟

(٢) البشارة والحمل

وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * … إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (٣ آل عمران: ٤٥–٤٩).

وفي سورة مريم لدينا تنوُّعٌ آخر على قصة البشارة والحمل:

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (١٩ مريم: ١٦–٢١).

ولدينا في سورة الأنبياء وسورة التحريم إشارتان مختصرتان للقصة نفسها:

وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٩١). راجع أيضًا سورة التحريم: ١٢.

إذا انتقلنا إلى الرواية الإنجيلية، نجد أنَّ قصة البشارة لا تردُ عند متَّى، والملاك يأتي إلى يوسف، لا إلى مريم، لكي يُخبرَه بحقيقة أمر الحمل لا ليبشِّره به: «لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. * وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلَاكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلًا: يَا يُوسُفُ بْنَ دَاوُدَ، لَا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لِأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. * فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لِأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. * وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ * هُيَ ذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ٢ (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اللهُ مَعَنَا). * فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلَاكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ» (متَّى، ٢: ١٨–٢٤).

لوقا وحده هو الذي يسوق لنا قصة البشارة كاملةً: «وَفِي الشَّهْرِ السَّادِسِ أُرْسِلَ جِبْرَائِيلُ الْمَلَاكُ مِنَ اللهِ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ الْجَلِيلِ اسْمُهَا نَاصِرَةُ، * إِلَى عَذْرَاءَ مَخْطُوبَةٍ لِرَجُل مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ اسْمُهُ يُوسُفُ. وَاسْمُ الْعَذْرَاءِ مَرْيَمُ. * فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ. * فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلَامِهِ، وَفَكَّرَتْ: مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ! * فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ: لَا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لِأنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. * وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، * وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلَا يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ. * فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟ * فَأَجَابَ الْمَلَاكُ وَقَالَ لَها: الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. * وَهُوَ ذِي أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضًا حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا، وَهذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِرًا، * لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ. * فَقَالَتْ مَرْيَمُ: هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لوقا، ١: ٢٦–٣٨).

تحوي قصة لوقا هذه أهم العناصر التي تقوم عليها القصة القرآنية، على ما تبيِّنه المقارنة التالية:

إنجيل لوقا قرآن كريم
فَدَخَلَ إِلَيْهَا الْمَلَاكُ وَقَالَ: «سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهَا! الرَّبُّ مَعَكِ. مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ» (١: ٢٨). وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٣ آل عمران: ٤٢).
… فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٩ مريم: ١٧).
فَلَمَّا رَأَتْهُ اضْطَرَبَتْ مِنْ كَلَامِهِ، وَفَكَّرَتْ: مَا عَسَى أَنْ تَكُونَ هذِهِ التَّحِيَّةُ! (١: ٢٩). قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٩ مريم: ١٨).
فَقَالَ لَهَا الْمَلَاكُ: «لَا تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. * وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. * هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى (١: ٣٠–٣١). قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (١٩ مريم: ١٩).
… إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٣ آل عمران: ٤٥).
فَقَالَتْ مَرْيَمُ لِلْمَلَاكِ: «كَيْفَ يَكُونُ هذَا وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلًا؟» (١: ٣٤). قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (١٩ مريم: ٢٠).
فَأَجَابَ الْمَلَاكُ: الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ (١: ٣٥) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا … (٦٦ التحريم: ١٢).
لِأنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ (١: ٣٧). قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ … (١٩ مريم: ٢١).
فَقَالَتْ مَرْيَمُ: «هُوَ ذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (١: ٣٨). … وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (٦٦ التحريم: ١٢).

هذا وتُساهم الأناجيل المنحولة بدورها في إلقاء ضوءٍ على النصِّ القرآني، لا سيما مسألة «الحجاب» الذي ارتبط في سورة مريم بالبشارة: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (١٩ مريم: ١٦–١٧).

لقد اختلف مفسرو القرآن في تعيين المكان الذي انفردت فيه مريم، وماهية الحجاب المذكور. فقالوا في المكان إنَّه ناحيةٌ شاسعةٌ منتحيةٌ، أو منزلٌ منفردٌ تتعبَّد فيه أو مكانٌ ذهبت إليه لتستقي الماء، أو غرفةٌ شرقيةٌ في المنزل. وقالوا في الحجاب إنه ستارةٌ اختفت وراءها واستترت، أو ستارة أسدلتها مريم لتغتسل، وبعد أن انتهت ووضعت ثيابها ظهر لها الملاك. ولكننا اعتمادًا على الأناجيل المنحولة، ولا سيما إنجيل يعقوب، نفهم أنَّ المكان هو غرفتها في البيت (بيت زكريا في النص القرآني كما استنتجنا آنفًا. أو بيت يوسف النجار في النصوص الإنجيلية المنحولة). أما الحجاب فهو حجاب الهيكل الذي كانت تغزل خيوطه في غرفتها عندما ظهر لها الملاك بالبشارة. وحجاب الهيكل هذا هو ستارةٌ تفصل القسم الداخلي من المعبد المدعو قدس الأقداس عن القسم الأوسط. وقد كان من عادة الكهَّان أن يعهدوا إلى بعض العذارى غزلَ وحياكة حجابٍ جديدٍ للهيكل كلما بَلِيَ القديم. وفي هذه المرة وقع الاختيار على مريم بين سبع فتياتٍ أخرياتٍ لهذه المهمة، وأُعطيت اللون الأرجواني لتغزله، بينما وُزِّعت الألوان المتبقية على العذراوات الست، فأخذت مريم حصَّتها وعادت إلى البيت. وهنا نتابع في إنجيل يعقوب:

«شرعت مريم تغزل غزلها الأرجواني. وعندما حملت جرَّتَها وخرجت لتأتي بالماء، سمعت صوتًا يقول لها: السلام عليكِ يا مريم، أيتها الممتلئة نعمةً، الرب معك. مباركةٌ أنتِ بين النساء. فالتفَتت يمنة ويسرةً لترى من أين يصدر الصوت، وعندما لم ترَ أحدًا خافت وهرعت إلى البيت، فوضعت جرَّتها ثم جلست على الكرسي وسحبت خيط الغزل إليها. ولكن ملاك الرب ظهر أمامها قائلًا: لا تخافي يا مريم، فقد نلتِ نعمةً عند رب الكل، ولسوف تحبلين بكلمته.»

(٣) الميلاد

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (١٩ مريم: ٢٢–٢٦).

وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (٢٣ المؤمنون: ٥٠).

عندما بدأت دلائل الحمل تظهر على مريم، غادرت المنزل خشية القيل والقال. فآواها ربها إلى مرتفعٍ من الأرض (ربوة) فيه مُستقرٌّ يمكن الراحة عنده (قرار)، وفيه نبع ماءٍ جارٍ (معين)، وشجرة نخيلٍ، وعندما اشتدَّت عليها آلام المخاض لجأت إلى جذع النخلة وتمسَّكت به، وتمنَّت لو أنها ماتت دون أن تتعرضَ لهذه المحنة. فناداها جبريل مواسيًا، وقال لها إنَّ الله قد أجرى من أجلها جدول ماء (سريًّا)، وإن باستطاعتها أن تحصل على ثمر النخلة بهزِّ جذعها فتُساقط عليها من رُطبها. وعليها بعد الولادة ألا تحفل بالرد على أسئلة المُتسائلين، وتُمسك عن الكلام، لأَنَّ الله عازمٌ على إظهار آيةٍ تُبَرئُها عندما يتكلم وليدها وهو في المهد.

لا يورد إنجيل متَّى ولوقا أي تفاصيلٍ عن واقعة الولادة. فمتَّى الذي يجعل من بيت لحم موطنًا ليوسف ومريم يكتفي بالقول: «وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ» (متَّى، ٢: ١).

أما لوقا الذي يجعل من الناصرة موطنًا ليوسف ومريم، فيأتي بهما إلى بيت لحم من أجل الإحصاء السكاني، وهناك تضع مريم مولودها: «وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. * فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ»٣ (متَّى، ٢: ٦–٧).

ولكن الأناجيل المنحولة تطوَّعت لملء الفراغ الذي تركته الأناجيل الرسمية بخصوص واقعة الميلاد، وقدَّمت لنا قصةً مليئةً بالتفاصيل. ففي إنجيل يعقوب، ومنحول متَّى، والإنجيل العربي، تحدث ولادة يسوع داخل مغارة في مكانٍ منعزل على الطريق إلى بيت لحم، التي قصدها يوسف مع مريم من أجل الاكتتاب في الإحصاء السكاني. وبينما هما على الطريق شعرت مريم بآلام المخاض، فطلبت من يوسف أن يوقف الدابة. وهنا نتابع القصة في الإنجيل العربي لأنَّها الأكثر اختصارًا:

«قالت مريم ليوسف: لندخل هذه المغارة؛ لأنَّ زمن ولادتي قد حلَّ ولا أستطيع الوصول إلى المدينة. وكانت الشمس في لحظة الغياب. فأسرع يوسف في طلب امرأة تُعين مريم على الولادة، والتقى إسرائيلية عجوزًا كانت آتيةً من أورشليم، فقال لها مُحيِّيًا: ادخلي هذه المغارة حيث تجدين امرأة في وقت وضعها. وبعد غياب الشمس وصل يوسف مع العجوز إلى المغارة ودخلا، فإذا بالمغارة ساطعة بنورٍ يفوق مشاعل لا حصر لها، ويلمع أكثر من الشمس في منتصف النهار. وكان الطفل ملفوفًا بأقمطة وراقدًا في مذود يرضع من صدر أمه مريم.»

من مقارنة الرواية القرآنية مع هذه الروايات الإنجيلية، نلاحظ أنَّ الرواية القرآنية قد انفردت بعددٍ من العناصر التي لا نعثر على أثرٍ لها في الروايات الإنجيلية. فمريم كما هو متوقعٌ في ظل غياب شخصية يوسف النجار تلجأ إلى مكانٍ منعزلٍ لتلد ابنها وحيدةً. ولدينا أيضًا عنصر النخلة التي تمد مريم بالطعام، وعنصر النبع الذي يتفجَّر قربها لتشرب منه. فهل غابت هذه العناصر تمامًا عن الرواية الإنجيلية؟ في الواقع إنَّها لم تغب، وإنما اختفت من قصة الميلاد لتظهر في قصة السفر إلى مصر بعد ولادة يسوع. فقد ورد في منحول متَّى أنَّه في اليوم الثالث على الطريق إلى مصر، تعبت مريم وأرادات النزول للراحة، فرأت شجرة نخيلٍ وأحبَّت أن تستريحَ في ظلِّها. فلما نظرت إلى الأعلى ورأت ثمرها أعلنت عن رغبتها في تذوُّق بعضها. فقال لها يوسف إنَّ الشجرة عالية جدًّا، وإن ما يشغل باله أكثر هو قلة زادهم من الماء. كان يسوع الطفل جالسًا في حضن أمه منفرج الأسارير عندما سمع ذلك، فأمر النخلة أن تعطي أمه بعض رُطبها، فانحنت النخلة حتى لامست قدميها، فأخذت من ثمرها ما شاءت، ثم أمر يسوع النخلة أن ترتفع ثانيةً ففعلت، ثم أمرها أن تفتح مجرى للماء المخزون عند جذورها، فانبثق من هناك جدول ماءٍ فشربوا منه وسقوا حيواناتهم.

(٤) الاتهام والبراءة

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. (١٩ مريم: ٢٧–٣١).

لا تورد الأناجيل الرسمية شيئًا عن اتهام مريم وظهور براءتها. أما في الأناجيل المنحولة، فإن ذلك يحصل عقب ظهور دلائل الحمل عليها لا بعد الولادة، عندما ظنَّ الناس أنَّ يوسف قد دخل على مريم الموكلة إليه قبل أن يعقد قرانه عليها. عند ذلك يُؤتى بهما إلى المحكمة ويُوجه إلى مريم تقريع شبيه بما وردَ في الرواية القرآنية. نقرأ في إنجيل يعقوب: «فمضى الرسل وجلبوا معهم يوسف ومريم إلى مكان القضاء. قال الكاهن: لماذا دنَّستِ روحك ونسيت الرب إلهك؟ أنت يا من تربَّيت في قدس الأقداس تتلقين الطعام من يد ملاك … فبكت مريم بحرقةٍ قائلةً: حي هو الرب، إنني نقيةٌ أمامه ولم أعرف رجلًا. فالتفت الكاهن إلى يوسف قائلًا: لماذا فعلت ذلك يا يوسف؟ فقال يوسف: حيٌّ هو الرب إلهي، إنني نقيٌّ فيما يتعلق بها.» يلي ذلك إخضاعهما للشرب من ماء امتحان الرب، وظهور براءتهما.

أما عن العنصر الثاني في قصة الاتهام والبراءة القرآنية، وهو معجزة كلام يسوع في المهد وإعلانه براءة أمه، فإننا نعثر عليه في إنجيل الطفولة العربي، حيث نقرأ في مطلعه أن يسوع تكلَّم في المهد قائلًا لمريم: أنا الذي أنجبتِه، أنا يسوع، ابن الله، الكلمة، كما بشَّركِ بذلك الملاك جبرائيل، وأبي أرسلني لخلاص العالم.

وقد سبق للنبي زرادشت أن تكلَّم في المهد أيضًا، عندما أرسل الشيطان زبانيته لإهلاكه، ونطق بصلاة للرب طردت الشياطين، على ما تخبرنا به أسفار الأفيستا الزرادشتية.

١  هناك اختلافٌ في إعراب كلمة «قول» الواردة في هذه الآية، فالبعض يضبط آخر الكلمة بالفتح ويقرؤها «قولَ»، أي: أقول قولَ الحق. والبعض بضبط آخرها بالضم ويقرؤها «قولُ»، أي أنَّ عيسى هو قولُ الحق، بمعنى كلمة الله. وقد اخترت القراءة الثانية.
٢  إشعيا، ٧: ١٤.
٣  الفندق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤