معجزات يسوع وأقواله بين الإنجيل والقرآن

كما هو الحال في الأناجيل الرسمية، فإنَّ الرواية القرآنية تتوقف عن سرد أحداث طفولة وفتوة عيسى؛ لتلتقط خيط القصة مع بعثته ومباشرته التبشير مؤيدًا من الروح القدس، روح الله وقوته الفاعلة في العالم:

إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (٥ المائدة: ١١٠–١١١).

إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (٥ المائدة: ١١٢–١١٥).

إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ * … وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. (٣ آل عمران: ٤٥–٥٢).

تتخذ مظاهر دعوة يسوع في هذه الآيات شكل أعمالٍ وشكل أقوالٍ. وهذا ما سوف نُفصِّله فيما يلي:

(١) الأعمال

الأعمال التي قام بها عيسى هي عبارةٌ عن معجزاتٍ تُثبت نبوَّته وقدرة الله تعالى. فهي آياتٌ أيَّده بها الله تعالى يثبت من خلالها صدق رسالته. وتنقسم معجزات عيسى إلى نوعين: النوع الأول: معجزاتٌ خارقةٌ للطبيعة، مثل الكلام في المهد، وبث الحياة في الصور الطينية، وإحياء الموتى، والمائدة المنزَّلة من السماء؛ أما النوع الثاني فمعجزات شفاءٍ ذكر منها القرآن الكريم شفاء الأبرص وشفاء الأكمه (أي الأعمى منذ الولادة). وجميع هذه الأعمال لها متوازياتها في الرواية الإنجيلية، رسميةً كانت أم منحولة.

(١-١) الكلام في المهد

تحدثنا سابقًا عن معجزة كلام يسوع في المهد، وقارنَّا ذلك بما ورد في إنجيل الطفولة العربي. فقد نطق عيسى في المهد عقب ولادته مباشرةً من أجل إعلان براءة أمِّه، قائلًا: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١). وفي إنجيل الطفولة العربي ينطق يسوع في المهد أيضًا، حيث نقرأ في مطلع الإنجيل: «وُجد في كتاب الكاهن الأعلى يوسف، الذي عاش في زمن يسوع المسيح، أن يسوع تكلَّم حين كان في المهد قائلًا لأمه مريم: أنا الذي أنجبتِه، أنا يسوع، ابن الله، الكلمة، كما بشَّرك بذلك الملاك جبرائيل، وأبي أرسلني لخلاص العالم.» ونلاحظ هنا الاختلاف في وجهة اللاهوتية بين الروايتين: فعيسى يُطلق على نفسه في الرواية القرآنية لقب عبد الله، والنبي، والمبارك؛ أما يسوع فيُطلق على نفسه لقب ابن الله، والكلمة. ولسوف نفرد لاحقًا حيِّزًا خاصًّا من هذا البحث لدراسة الاختلافات اللاهوتية بين النصين، لنتواصل إلى نتيجةٍ مفادها أنها اختلافاتٌ في الشكل وطرائق التعبير لا في المضمون.

(١-٢) إحياء الصور الطينية

… أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٤٩). لم تردْ معجزة نفخ الحياة في الصور الطينية في الأناجيل الرسمية، ولكنها وردت في الأناجيل المنحولة باعتبارها من معجزات طفولة يسوع. نقرأ مثلًا في إنجيل توما الإسرائيلي:

«في أحد الأيام، وبعد هطول المطر، خرج يسوع من البيت ليلعب، حيث كان الماء يجري على الأرض … فجبل من الطين اثني عشر عصفورًا، وكان ذلك في يوم السبت. فجاء أحد الأطفال إلى يوسف وقال له: إن ابنك يلعب عند مجرى الماء، وقد صنع عصافير من الطين، وهذا لا يحلُّ في يوم السبت. فلما سمع يوسف ذلك، مضى إلى حيث كان يسوع وقال له: لماذا تفعل هذه الأشياء وتدنِّس السبت؟ ولكن يسوع لم يُجبْه وإنما التفت إلى العصافير وصاح بها: هيَّا طيري واذكريني في حياتك. ولسماعها ذلك طارت العصافير وحلَّقت في الجو. أما يوسف فقد وقف مذهولًا بما رأى.»

وورد في إنجيل الطفولة العربي:

«عندما أتمَّ يسوع عامه السابع، كان يلعب في أحد الأيام مع أطفال آخرين في مثل عمره، وكانوا يصنعون على سبيل التسلية صورًا من التراب المبلول لحيواناتٍ متنوعةٍ؛ ذئابًا وحميرًا وطيورًا، وكل واحدٍ منهم يُباهي الآخرين بعلمه. عندها قال يسوع للأطفال: إنِّي سآمر الصور التي صنعتها بالسير فتمشي. ثم أمرها بالسير فتحركت قُدُمًا على الفور، وأمرها بالعودة فعادت. وقد صنع أيضًا صور طيورٍ وعصافير دوري، كانت تطير حين يأمرها بذلك وتتوقف حين يأمرها بالتوقُّف. وعندما كان يُقدِّم لها شرابًا وطعامًا كانت تأكل وتشرب. وحين غادر الأطفال إلي منازلهم حدَّثوا أهاليهم بما رأوه، فقال لهم هؤلاء: ابتعدوا من الآن فصاعدًا عن مخالطته وكفُّوا عن اللعب معه لأنه ساحرٌ.»

ويتفق قول الأهل لأولادهم عن يسوع بأنَّه ساحرٌ مع قول الآية الكريمة: … فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٥ المائدة: ١١٠).

(١-٣) المائدة

… اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ … (٥ المائدة: ١١٤)، نلاحظ من قوله تعالى: «تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا» أنَّ معجزة إنزال المائدة من السماء قد اجتُرحت بمناسبة عيدٍ ما، أو أنَّها أسست لعيدٍ ما. وهذا ما يُحيلنا إلى قصة العشاء الأخير في الأناجيل الرسمية، عندما تناول يسوع مع تلامذته عشاء عيد الفصح اليهودي، الذي صار فيما بعد عيدًا مسيحيًّا بعد إعطائه مضامين لاهوتية مختلفةٍ. نقرأ في إنجيل متَّى: «وَفِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفَطِيرِ تَقَدَّمَ التَّلَامِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ؟ * فَقَالَ: اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، إِلَى فُلَانٍ وَقُولُوا لَهُ: الْمُعَلِّمُ يَقُولُ: إِنَّ وَقْتِي قَرِيبٌ. عِنْدَكَ أَصْنَعُ الْفِصْحَ مَعَ تَلَامِيذِي. * فَفَعَلَ التَّلَامِيذُ كَمَا أَمَرَهُمْ يَسُوعُ وَأَعَدُّوا الْفِصْحَ. * وَلَمَّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَّكَأَ مَعَ الاثْنَيْ عَشَرَ. * وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلَامِيذَ …» (متَّى، ٢٦: ١٧–٣٠).

ولكن قصة مائدة الفصح هذه لا تحتوي على أي معجزةٍ، وعلينا أن نبحث عن معجزة المائدة في قصةٍ إنجيليةٍ أخرى، لأن الرواية القرآنية على ما يبدو قد جمعت قصتين إنجيليتين في قصةٍ واحدةٍ. وهذه المعجزة نجدها في قصة تكثير الخبز والسمك، عندما أطعم يسوع آلاف الناس من خمسة أرغفة وسمكتين: «ولَمَا رَجَعَ الرُّسُلُ أخْبَرُوهُ بجميع مَا فَعَلُوا، فَأَخَذَهُمْ وَانْصَرَفَ مُنْفَرِدًا إلَى مَوْضِعٍ خَلَاءٍ لِمَدِينَةٍ تُسَمَّى بَيْتَ صيْدَا فَالجُمُوعُ إذْ عَلِمُوا تَبِعُوه، فَقَبِلَهُم وَكَلَّمَهُمْ عَنْ مَلَكُوتِ الله. والْمُحْتَاجُونَ إلى الشِّفَاء شَفَاهُم. فابْتَدَأَ النَّهَارُ يَمِيلُ. فَتَقَدَّمَ الاثْنَا عَشَر وقَالُوا لَهُ: اصْرِفِ الْجَمْعَ ليذهَبُوا إلى القُرَى والضِّيَاعِ حَوالينَا فيَبِيتُوا ويَجِدُوا طعَامًا، لِأَنَّنا هَا هُنَا في مَوْضِعٍ خلاءٍ. فقَال لهُم: أَعطُوهم أنتم ليأكُلُوا. فقالُوا: لَيسَ عندَنَا أكثرُ من خمسةِ أرغِفَةٍ وسَمَكتَين، إلا أنْ نذهبَ ونَبتاعَ طَعَامًا لهذا الشَّعبِ كلِّه. لأنَّهم كانوا نحوَ خمسةِ آلافِ رجُلٍ. فقالَ لتَلامِيذِه: أتَكِئُوهُم فِرَقًا خمسينَ خمسينَ ففعلُوا هكذَا، وأَتْكَئُوا الجَميعَ. فأخذَ الأرغِفَةَ الخمسةَ والسَّمَكتينِ، ورفع نظَره نحو السَّمَاءِ وبَاركَهُنَّ، ثم كسَّرَ وأعطَى التَّلاميذَ ليُقدِّمُوا للجمعِ فأكلُوا وشبِعُوا جميعًا. ثم رَفَع ما فَضَل عنهم منَ الكِسَر اثنَتَا عشْرةَ قُفَّةً» (لوقا، ٩: ١٠–١٧).

(١-٤) فأُحيي الموتى بإذن الله

لم تعطنا الرواية القرآنية أي تفاصيلٍ حول مُعجزات يسوع في إحياء الموتى، بينما أوردت الأناجيل الرسمية بالتفصيل خبر ثلاثٍ من هذه المعجزات. الأولى: إحياء ابنة رئيس المجمع (متَّى، ٩: ١٨–٢٦؛ مرقس، ٥: ٢١–٤٣؛ لوقا، ٨: ٤٠–٤٥)، والثانية: إحياء ابنة أرملةٍ من بلدة نايين (لوقا، ٧: ١١–١٧)، والثالثة: إحياء صديقه لِعازر، الفتى الذي كان يُكنُّ له محبَّةً خاصةً (يوحنا، ١١: ١–٤٤).

كما وردت في الأناجيل المنحولة قصة إحياء الطفل يسوع لزميل له. نقرأ في منحول توما: «بعد هذه الأمور، كان يسوع يلعب مع الأولاد على سطح بيتٍ مؤلف من طابقين. فدفع أحدهم رفيقه فسقط على الأرض ومات. فلما رأى الصبية ذلك هربوا جميعًا وبقي يسوع وحده واقفًا على السطح. ولما علم والدا الصبي بما حدث له جاءا يندبان، وشاهدا جثة ولدهما مطروحةً على الأرض ويسوع وحده واقفًا في الأعلى، فاعتقدا أن يسوع هو الذي دفعه، وراحا يشتمانه. فلما رأى يسوع ذلك قفز من أعلى السطح ووقف عند رأس الميت وقال له: زينو، أحقًّا أنا الذي دفعك؟ قُمْ وأخبرنا. وبهذه الكلمة قام الصبي وسجد ليسوع قائلًا: أيُّها الرب، أنت لم ترمني، ولكني كنت ميتًا فأحييتني.»

هذا وتستقل الرواية الإنجيلية بإيراد ثلاث معجزاتٍ خارقةٍ للطبيعة لم تُشِر إليها الرواية القرآنية، وهي: معجزة تحويل الماء إلى خمرٍ في عُرس قانا (يوحنا، ٢)، ومعجزة تسكين العاصفة التي كادت تُغرق مركبهم (مرقس، ٤)، ومعجزة السير على الماء (متَّى، ١٤).

(١-٥) معجزات الشفاء

… وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ … بِإِذْنِ اللهِ … (٣ آل عمران: ٤٩). كما الحال في معجزات إحياء الموتى، فإنَّ الرواية القرآنية لم تُقدِّم لنا أي تفاصيلَ فيما يخصُّ معجزات عيسى الشفائية، ولم تذكر منها سوى شفاء الأكمه، والأكمة هو فاقد البصر منذ الولادة، وشفاء الأبرص، وسكتت عن بقية المعجزات الأخرى الواردة في الأناجيل، ومنها: شفاء المُقعد، والمشلول، والمرأة النازفة، والممسوسين. وسنورد فيما يلي نموذجين عن شفاء العُمي والبُرص مما ورد في الأناجيل الرسمية:

«وَفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَانًا أَعْمَى مُنْذُ وِلَادَتِهِ، * فَسَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ قَائِلِينَ: يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هذَا أَمْ أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟ * أَجَابَ يَسُوعُ: لَا هذَا أَخْطَأَ وَلَا أَبَوَاهُ، لكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ اللهِ فِيهِ. * يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ الَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. * مَا دُمْتُ فِي الْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ الْعَالَمِ. * قَالَ هذَا وَتَفَلَ عَلَى الأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ التُّفْلِ طِينًا وَطَلَى بِالطِّينِ عَيْنَيِ الأَعْمَى. * وَقَالَ لَهُ: اذْهَبِ اغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ. الَّذِي تَفْسِيرُهُ: مُرْسَلٌ، فَمَضَى وَاغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيرًا. * وَفِي ذَهَابِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ اجْتَازَ فِي وَسْطِ السَّامِرَةِ وَالْجَلِيلِ. * وَفِيمَا هُوَ دَاخِلٌ إِلَى قَرْيَةٍ اسْتَقْبَلَهُ عَشَرَةُ رِجَال بُرْصٍ، فَوَقَفُوا مِنْ بَعِيدٍ * وَرَفَعُوا صَوْتًا قَائِلِينَ: يَا يَسُوعُ، يَا مُعَلِّمُ، ارْحَمْنَا! * فَنَظَرَ وَقَالَ لَهُمُ: اذْهَبُوا وَأَرُوا أَنْفُسَكُمْ لِلْكَهَنَةِ. وَفِيمَا هُمْ مُنْطَلِقُونَ طَهرُوا» (يوحنا، ٩: ١–٧)، و(لوقا، ١٧: ١١–١٤).

(٢) الأقوال

في الرواية القرآنية هناك أقوالٌ لعيسى يمكن مقارنتها بما ورد على لسان يسوع في الرواية الإنجيلية:

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا … (١٩ مريم: ٣٠–٣١).

إنَّ ألقاب: عبد الله، والنبي، والمبارك، التي أعطاها القرآن لعيسى هنا، سوف تُبحث بالتفصيل عندما نأتي إلى مسائل الجدال اللاهوتي بين القرآن والإنجيل، في موضعٍ لاحقٍ من هذه الدراسة.

وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ … (٥ المائدة: ٧٢). إِنَّ اللهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (٤٣ الزخرف: ٦٤).

وقد قال يسوع في إنجيل يوحنا للمجدلية بعد قيامته: «اذْهَبِي إِلَى إِخْوَتِي وَقُولِي لَهُمْ: إِنِّي أَصْعَدُ إِلَى أَبِي وَأَبِيكُمْ وَإِلهِي وَإِلهِكُمْ.» * فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلَامِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هذَا» (يوحنا، ٢٠: ١٧–١٨).

مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥ المائدة: ١١٧).

وقال يسوع في إنجيل يوحنا: «أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلَامَكَ. * وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ، * لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي قَدْ أَعْطَيْتُهُمْ، وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ، وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. * … * حِينَ كُنْتُ مَعَهُمْ فِي الْعَالَمِ كُنْتُ أَحْفَظُهُمْ فِي اسْمِكَ. الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي حَفِظْتُهُمْ، وَلَمْ يَهْلِكْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلَّا ابْنُ الْهَلَاكِ لِيَتِمَّ الْكِتَابُ. * أَمَّا الآنَ فَإِنِّي آتِي إِلَيْكَ …» (يوحنا، ١٧: ٦–١٦).

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ … (٦١ الصف: ٦).

وقال يسوع في إنجيل متَّى: «لَا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الَانْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لِأَنْقُضَ، بَلْ لأُكَمِّلَ» (متَّى، ٥: ١٧).

… أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٣ آل عمران: ٤٩).

اعتقد مفسرو القرآن الكريم أنَّ في قول عيسى هنا: «وأُنبئكم بما تأكلون وما تدَّخرون في بيوتكم»، عطفٌ على معجزاته التي كان يُعدد بعضها، مثل إحياء الصور الطينية، وإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. ولذلك قالوا إنَّ الله قد أعطى عيسى القُدرة على إخبار الناس بالمغيِّبات من أحوالهم، فكان يُخبر الشخص بما أكل وما ادَّخَر في بيته. والحقيقة أنَّ الأقرب إلى معنى هذه الآية ما ورد في إنجيل لوقا: «فَلَا تَطْلُبُوا أَنْتُمْ مَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَشْرَبُونَ وَلَا تَقْلَقُوا، * فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا أُمَمُ الْعَالَمِ. وَأَمَّا أَنْتُمْ فَأَبُوكُمْ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ. * بَلِ اطْلُبُوا مَلَكُوتَ اللهِ، وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ» (لوقا، ١٢: ٢٩–٣١). والأقرب إلى المعنى أيضًا ما ورد في إنجيل متَّى عن الادخار: «لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى الأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ السَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. * بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، * لِأنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا» (متَّى، ٦: ١٩–٢١).

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦١ الصف: ٦).

وقد وردت في إنجيل يوحنا، عدة مراتٍ، أقوالٌ ليسوع تُبشِّر المؤمنين بشخصيةٍ يدعوها النص ﺑ «البارقليط» تتابع عمل يسوع وتمكث مع تلاميذه وأتباعه. وقد تُرجمت هذه الكلمة اليونانية باعتبارها تعني «المؤيد» أو «المحامي» أو «المُعزِّي»:

«إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ، * وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَزِّيًا آخَرَ * لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، * رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لِأنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لِأنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ. * لَا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إِنِّي آتِي إِلَيْكُمْ» (يوحنا، ١٤: ١٥–١٨). «بِهذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدَكُمْ. * وَأَمَّا الْمُعَزِّي، الرُّوحُ الْقُدُسُ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» (يوحنا، ١٤: ٢٥–٢٦). «لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقَّ: إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ، لِأنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ» (يوحنا، ١٦: ٧).

في كلا النصين القرآني والإنجيلي، نحن أمام شخصيةٍ سوف تُرسل إلى الناس بعد ارتفاع المسيح من بينهم، يدعوها النص القرآني «أحمد»، ويدعوها النص الإنجيلي «البارقليط Paraqletos». وفي الحقيقة فإنَّ جميع دارسي العهد الجديد يعترفون بصعوبة ترجمة الكلمة اليونانية القديمة Paraqletos. أما مترجمو العهد الجديد إلى اللغات الحديثة فقد اختاروا أهون الشَّرَّين، بين ترك الكلمة على حالها (كما فعلت الترجمة السريانية) وبين إيجاد أكثر المعاني مناسبةً لسياق النصِّ، فقالوا «المُعزِّي». أما كلمة «أحمد» فتعني بالعربية «الأكثر حمدًا» و«الأكثر شهرة» و«الأكثر تمجيدًا». فهل من وسيلةٍ للتوفيق بين المعاني المتضمنة في الكلمتين القرآنية والإنجيلية؟ ربما.
هنالك من الباحثين من يعتقد أنَّ كاتب إنجيل يوحنا لم يستعمل في الأصل كلمة بارقليط Paraqletos، وإنما استعملَ كلمة بيريقليط Periqlytos المشتقَّة في اللغة اليونانية القديمة من جذرٍ يُفيد معنى التمجيد والحمد والثناء، وأنَّ الخلط بين الكلمتين Paraqletos وPeriqlytos قد جرى فيما بعد على أيدي النُّسَّاخ. فإذا كان الأمر كذلك، فإنَّ الكلمتين الإنجيلية والقرآنية تتفقان في المعنى.١

ولكن هل يُشير الاسم «أحمد» إلى نبي الإسلام «محمد»؟ وإذا كان الأمر كذلك، لماذا لم يستخدم النص القرآني هنا الاسم «محمد» الذي استخدمه في الإشارة إلى نبي الإسلام أينما وردت الإشارة إليه، وذلك كقوله تعالي: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ … (٣ آل عمران: ١٤٤). وأيضًا: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ … (٣٣ الأحزاب: ٤٠). وأيضًا: … وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ … (٤٧ محمد: ٢). وأيضًا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ … (٤٨ الفتح: ٢٩).

في الحقيقة نحن هُنا أمام واحدةٍ من إشكاليات النص القرآني لا تقلُّ غموضًا عن إشكالية النص الإنجيلي المتعلقة بالبارقليط، والتي لم يتوصل الباحثون في العهد الجديد إلى اتِّفاق بشأنها. وبما أنَّ الخوض في إشكاليات ومتشابهات النص القرآني ليس من أهداف هذا البحث، فإنني أكتفي بتقديم الملاحظات التالية:
  • (١)

    إنَّ الاسم الذي أُطلق على نبي الإسلام يوم مولده هو محمد. ولا صحة للأخبار التي تقول بأنَّ اسمه كان قثامة أو شيئًا من هذا القبيل. وهذه واقعةٌ تتفق بشأنها جميع كتب السيرة النبوية.

  • (٢)

    لم يكن الاسم محمد بالجديد على عرب الجاهلية، وهنالك العديد ممن سُمُّوا بهذا الاسم. أما الاسم أحمد فغير موثَّقٍ لدينا على الإطلاق.

  • (٣)

    لا يرد الاسم أحمد لدى مؤلفي السيرة النبوية في الإشارة إلى نبي الإسلام. فلا أفراد أسرته خاطبوه بهذا الاسم، ولا المقربون إليه ولا الغرباء. ولم يُروَ عن النبي في هذه السير أنَّه استخدمه في التعريف بنفسه.

  • (٤)

    لم يُطلق العرب على مواليدهم الاسم أحمد في صدر الإسلام، وأكثر من نعرفهم من حاملي هذا الاسم من مواليد أواخر القرن الأول الهجري أو أوائل القرن الثاني، عندما استقرَّ الرأي لدى المفسرين على المطابقة بين الاسم أحمد والاسم محمد. وإلى هذه الحقبة تعود الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي يذكر فيها الرسول عددًا من أسمائه وبينها أحمد.

اعتمادًا على هذه الوقائع يُمكننا القول إن كلمة أحمد هي صفةٌ وليست اسم علم. وعليه فإنَّ جملة «نبيٌ اسمه أحمد» يمكن أن تعني «نبيٌ اسمه مُمجَّد». وقد فُهم من «ماني» نبي الديانة المانوية كلمة «البارقليط» الواردة في إنجيل يوحنا بهذا المعنى، عندما أعلن في كتابه الإنجيل الحي: «أنَّه الفارقليط الذي بشَّر به المسيح، وأنَّه خاتم الأنبياء».٢

… وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ … (٣ آل عمران: ٥٠).

في هذا القول المختصر والموجز، تلخِّص الرواية القرآنية موقف يسوع من شريعة التوراة، وهو موقفٌ عبَّر عنه من خلال أعماله وأقواله التي حفلت بها الأناجيل الأربعة. لقد قال فعلًا إنَّه لم يأتِ لينقض بل ليُكمل، ولكن هذا القول لم يعنِ بالنسبة إليه قبول الشريعة التوراتية بقضِّها وقضيضها. لقد قبل بها باعتبارها صالحةً للأزمان الماضية، ولكنه تجاوزها مؤسسًا لرسالةٍ جديدةٍ كل الجدة تقوم على شريعة الروح لا على شريعة الحرف.

ولقد أحلَّ يسوع لتلاميذه كثيرًا من تحريمات شريعة موسى، ولا سيَّما ما تعلَّق منها بالمأكل والمشرب. فعندما انتقده اليهود لأنَّ تلاميذه يأكلون قبل غسل أيديهم قال لهم: «لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. * إِنْ كَانَ لِأَحَدٍ أُذْنَانِ لِلسَّمْعِ، فَلْيَسْمَعْ. * وَلَمَّا دَخَلَ مِنْ عِنْدِ الْجَمْعِ إِلَى الْبَيْتِ، سَأَلَهُ تَلَامِيذُهُ عَنِ الْمَثَلِ. * فَقَالَ لَهُمْ: أَفَأَنْتُمْ أَيْضًا هكَذَا غَيْرُ فَاهِمِينَ؟ أَمَا تَفْهَمُونَ أَنَّ كُلَّ مَا يَدْخُلُ الإِنْسَانَ مِنْ خَارِجٍ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، * لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ إِلَى قَلْبِهِ بَلْ إِلَى الْجَوْفِ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الْخَلَاءِ، وَذلِكَ يُطَهِّرُ كُلَّ الأَطْعِمَةِ. * ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الإِنْسَانِ ذلِكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ. * لِأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ …» (مرقس، ٧: ١٥–٢١).

١  للتوسع في موضوع البارقليط والبيريقليط، راجع: عبد الأحد داود، محمد في الكتاب المقدس، ترجمة فهمي شما، قطر، ١٩٨٥م.
٢  جيو ودنغرين، ماني والمانوية، ترجمة سهيل زكار، دمشق، ١٩٨٥م، ص١٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤