نصائح إلى الشباب

إرنست همنجواي

ملاحظات للكاتب العظيم حول بعض القواعد الأساسية في الحياة والأدب.

يأتي إليَّ رجال ونساء في مقتبل أعمارهم، يطلبون النصيحة حول ما يصادفونه من مشاكل في ميادين الكتابة والحب، وأحاول دائمًا أن أكون كريمًا وطيب القلب فيما يختص بنصائحي.

وأحيانًا ما تأتي النصيحة متأخرة عن موعدها، بعد فوات الأوان، فنحن لا نجد حقائق الحياة العميقة، بل هي التي تجدنا.

عن فن الكتابة

الكتابة بلغة واضحة عملٌ صعب.

لم يتعلَّم أحدٌ الأدبَ من الكتب الموضوعة مطلقًا.

لم أدرس منهجًا في فن الكتابة قط، بل تعلَّمت الكتابة بالسليقة، وبمجهودي.

لم أنجح بالصدفة، بل نجحت بالعمل الدءوب الصعب.

واللغة الحاذقة لا تصنع كتابًا جيدًا.

إن كثيرًا من المؤلفين يهتمون بأسلوب كتابتهم، أكثر من اهتمامهم بالشخصيات التي يكتبون عنها. وهناك كثير من الكتَّاب يُفسدون أسلوبهم بالاعتداد بالنفس، والحشو في الكلام. أما التحكم البارع في ناصية اللغة، فلا يمتلكه إلا قليلٌ من المؤلفين العظام.

والصفة التي لا غنى عنها للكاتب الجيد هي أسلوب، يتميز بالوضوح والطلاوة. والكاتب الجيد يختار موضوعاتِه في حكمة، ويجمع مادتَه في استيعاب.

إن أول شيء يفعله الكاتب الجيد، هو أن يسيطر على إحساسه بالذات في كتابته.

والكاتب الجيد يجب أن يثق ثقة لا حدود لها في نفسه، وفي أفكاره.

والكتابة يجب أن تكون عملًا نابعًا عن حب، وإلا فلن تكون كتابةً طيبة.

والكاتب الجيد يعرف كيف يُنقِّب عن الحقائق الهامة من بين أكوام المعلومات، وأصعب شيء أمام الكاتب هو أن يحافظ على قوة خياله وخصوبته.

والكاتبُ الجيد صانعٌ حادُّ الوعي، يركَب الصعب، ويقتحم عديدًا من المخاطر بحثًا عن مادة كتابته.

سأشنُّها حربًا شعواء على أيِّ كاتب، يظهر الإهمال وعدم الاهتمام في عمله. وكثيرٌ من الكتَّاب يفشلون؛ لأنهم يفتقدون المؤهلات اللازمة للكاتب الأصيل، فهم متعصبون إلى أقصى حد، وأُفُقهم ضيق، رغم ما تلقَّوه من تعليم.

وكُتَّاب هذه الأيام يُنفقون طاقة كبيرة في أوجه نشاط ثانوية، مثل الحديث وكسب المال، وهذا لا يترك لهم سوى وقتٍ قليل للكتابة الحقة.

وقد أغرق البلادَ في يومنا هذا فيضٌ من الروايات الرخيصة، التي لا نفع فيها، والتي لا يقتصر خطرُها على اتجاهها العام المنافي للتثقيف، بل ويتعداه إلى اتجاهها الإيجابي نحو الهدم، فإن الرغبة في قراءة مثل هذه الكتب، له التأثير نفسه الهادر للخلق، مثل إدمان المخدرات.

والرواية، مثلها مثل ميدان المعركة، ففيها ينزل المؤلف إلى ساحة كفاحه الخالد بين الخير والشر.

على الروائي أن يمتلك ناصيةَ فنِّ إثارة الترقب؛ فالروايات المليئة بالتشويق، ذات العنفوان والفورات التي تزدحم بحيوية الأحداث والتفاصيل، هي أصعب الروايات في الكتابة.

الاستجابة العميقة لدى القارئ لا تكون للمنطق، بل للخيال، وليست للعقل، ولكنها للقلب. وكتابة المسرحية أسهل من كتابة الرواية، فهي بذلك أسهل الوسائل الأدبية، لكن قد يتطلب الأمر أسابيعَ وشهورًا قبل ذلك في الإعداد لها.

لقد كُتب على الشعراء الجدد أن يتجولوا في محيط قاحل، وسط الملايين الذين لا يعنون بالشعر الجيد.

وكم أودُّ لو أستطيع أن أُخرسَ أولئك الماديِّين الذين يحاجون بأنه ليس للكاتب من رسالة بين بني الإنسان.

أفضل الكتب ما كان منها بسيطًا، مباشرًا، غير فكري.

والشخص الخالق لا يمكن أن يكون سعيدًا، إذ يتكسَّب عيشه في عالم العمل، بينما يحاول أن يُخلق في عالمه الخاص.

عن النقد والنقاد

للذهن البشري عادات سيئة كثيرة، ومن أشد هذه العادات شرًّا القلق والتشاؤم، وعدم الأمانة والأنانية، وروح التفكير الباغي. وعادة النقد المتكرر أسوأ هذه العادات، وأشدها دمارًا وعدوى، وأقلها اعتدالًا.

والناقد المزمن إنْ هو إلا محكمة نصبَت نفسها بنفسها، وقاضٍ ومحلَّفون، واتهام وسجن، وكرسي كهربائي ذاتي، وهو لا يَني يُنقِّب عن أخطاء إخوانه، فوضويٌّ في مملكة الحقوق الفردية. ومثل هذا الناقد يشعر بأنه قد رُفع فوق زملائه ليأتمر فيهم بنفسه، وحجتُه في ذلك أن «الغاية تُبرر الوسيلة.» وهو يحطم حين يجب البناء، ويبثُّ الشكَّ وعدمَ الثقة في النفس، حين يجب أن تسودَ الشجاعةُ والأمل. والنقاد الذين وصلوا إلى حد معين من البلاغة، يكونون أحيانًا أضعف القضاة. فبإمكان الأبله، أن ينتقد أيَّ شيء وأي شخص، ولكن يجب على الإنسان أن يكون حكيمًا في تجربته، حتى يمكنَه الموافقة في ذكاء، وحتى يتمكن من فهم الأشياء فهمًا سليمًا.

لم يحدث أن عرض النقادُ من قبل أخطاء مؤلف أمريكي على الجمهور، كما عرضوا أخطائي، فقد هاجمني بعضٌ من أعمق النقاد الأدبيِّين في هذا القرن، غير أنني أبدو بعيدَ المنال؛ إنني أمتلك ما يبدو شيئًا غريبًا لدى النقاد: قلبًا طيبًا.

عن الحب والنساء

الحب هو أعظم تجربة في حياة الناس، والقلب هو أكثر نواحي الطبيعة البشرية نُبلًا، والعواطف هي أسمى عناصر الطبيعة الإنسانية، ولقد كنت أستمع ذات مرة إلى البعض يُثنون على جمال سيدة شابة، فسألتُ: «أي نوع من الجمال تعنون؟ أهو مجرد جمال الجسد أم جمال العقل أيضًا؟» فالكثير من الفتيات مثل الزهرة التي يعجبون بها لمنظرها الجميل، ويحتقرونها لرائحتها الكريهة. ومن الأفضل جدًّا أن يكتسب المرءُ الجمال عن أن يولد به.

الإنسان الحكيم لا يتزوج من أجل الجمال وحده؛ فقد يكون للجمال جاذبية قوية في البداية، ثم يثبت بعد ذلك عدم أهميته النسبية، والزواج من شخص وسيم بلا شخصية، وملامح جميلة لا تُزينها العاطفة ولا طبيعة طيبة، خطأ جدير بالرثاء. فكما يُحيل التعوُّدُ المنظرَ الطبيعي الجميل إلى شيء ممل، كذلك يتحول الوجه الجميل، إلا إذا كانت هناك طبيعة جميلة تُشرق من خلاله. فجمال اليوم يُصبح شيئًا عاديًّا غدًا، أما الطيبة التي تكمن في الملامح العادية فهي جميلة إلى الأبد. وهذا النوع من الجمال يتطور مع مرور الوقت، والزمن لا يُدمره، بل يُنضجه.

ولا يجب على الرجل أبدًا أن يُخضِع امرأةً ما للتحليل العميق، فالنساء أجهزة حساسة، ينفثُ الرجال عواطفهم من خلالها. والصمت يكون أحيانًا أفضل زينة للمرأة.

عن التعليم

أنا أعتبر الجهل ألد أعداء البشرية

العقل البشري يحمل في داخله أداةَ تدميرِ نفسه، بل هو أيضًا غبيٌّ بطبيعته، والجهل الذاتي هو حالته الطبيعية. وأشد الناس بلهًا في هذا العالم هو ذلك الذي لا يؤمن بشيء لا يراه أو يشعر به أو يذوقه، ذلك الذي لا مكان لديه للخيال أو الرؤى أو الإيمان.

وسرُّ الحياة، حتى على المستوى المادي، أن نتعلم قوانين الدنيا ونسلِّم أنفسَنا لها طواعيةً وعن جذل. وإنقاذ ما يمكن إنقاذه هو الطريقة المثلى لإنقاذ كل شيء. والحكمة العملية تنتج عن المنطق الفطري الذي تعمل الخبرةُ على تهذيبه وتُوحي به الطيبة. والحقيقة أن الطيبة تعني الحكمة إلى حد ما، الحكمة السامية. والإنسان قادر على أنواع مختلفة من التعليم، فهو يمتلك القدرات الجسمانية والاجتماعية والدينية والفكرية والأخلاقية، وكل قدرة منها تتطلب تعليمًا معينًا. والتعليم في جميع هذه القدرات يجعل من المرء شخصًا كاملًا، والتعليم في جزء منها يتركه عاجزًا. والإنسان المتعلم هو الإنسان الذي يستطيع عملَ شيء ما، ونوعُ عمله يُبيِّن درجة تعليمه.

وأفضل استثمار لرجل في مقتبل حياته هو الكتب الجيدة؛ فدراستها تُوسِّع من أُفُقه، وتُسلِّحه حقائقها بسلاح أفضل في حياته. ولكن لا تقتصر فائدة الكتب على المعلومات التي تُقدمها، فحتى الكتب التي لا تحوي تثقيفًا، تُرقِّي وتهذِّب.

وأفضل كسب في الحياة كتابٌ جيد، فهو يحفظ أفضل الأفكار التي تستطيع الحياةُ تقديمَها. والعالمُ الذي تدور فيه حياة الإنسان في قسمها الأكثر هو عالمُ أفكارِه الخاصة. والكُتب الجيدة إنْ هي إلا كنوز من الكلمات الطيبة والأفكار الذهبية التي تُصبح رفاق حياتنا وبلسم جراحنا حين نتذكرها ونعتنقها.

والاتصال بالآخرين مرغوبٌ فيه لتمكين الإنسان من التعرُّف على ذاته؛ فعن طريق الاختلاط الحر في العالم يمكن للإنسان أن يرسم فكرةً صحيحة عن قدرته الخاصة. وليس هناك من صحبة لا يتعلم منها المرء شيئًا ينفعه في حياته مهما بلغَت تلك الصحبة حدًّا من السوء.

وأنا أعتبر البيت هو المدرسة الحضارية العظمى من ناحية تأثيره، فهو أول وأهم مدرسة للشخصية، وفيه يتلقَّى كلُّ شخص متمدين أعظم دروسه الأخلاقية، أو أسوأها. والقانون ذاته إنْ هو إلا انعكاسٌ للبيت، فأوهن الآراء وأقلُّها مما يبذره البيت في رءوس الأطفال في الحياة الخاصة، يخرج بعد ذلك إلى الدنيا ويُشكل الرأي العام بها. والدول تخرج عن طريق غرف الأطفال. ولهؤلاء الذين يُمسكون بزمام الأطفال سلطة أعظم ممن يقودون أعنة الحكومات.

وغالبًا ما تكون مادة الحكمة ملقاةً أمام أبصارنا، في حين تبحث عنها عيوننا الحمقاء في آخر الدنيا. ومعرفة الطبيعة والهيام بها شيء أبسط وأسمى من معرفة جيولوجيا الصخور وكيمياء الأشجار.

عن إحراز النجاح

لا يمكن لنا أن نجوبَ في كل مكان؛ ولذلك يجب أن نُحرزَ نجاحًا في شيء واحد. ولا بد لنا أن نجعلَ عملَنا غرضَ حياتنا الأوحد الذي يتضاءل أمامه كلُّ غرض آخر. وأنا أكره العمل الذي يؤديه الإنسان على فترات، فإذا كان عملك طيبًا، فاعمله في جرأة، وإن كان سيئًا، فاتركه دون إنجاز.

لم يكن أبطال التاريخ يتطلعون إلى المرآة باستمرار ليتأكدوا من أنفسهم، بل كانوا يؤدون أعمالهم ويستغرقون فيها كليةً، فأنجزوها على أفضل وجه، حتى إن العالم يتعجب منهم ويعتبرهم عظماء ويُقننهم على هذا الاعتبار.

وإن عاش المرء على مثالٍ سامٍ، فقد عاش حياةً ناجحة. وما يجعل الإنسانَ قويًّا هو ما يسعى إلى إنجازه وليس ما أنجزه. لقد قيل: «اليقظة الدائمة ثمن الحرية.» ويمكن القول بنفس الصدق: «الجهد الدائب ثمن النجاح.» وإن نحن لم نعمل بكل قوتنا، فسيعمل آخرون بكل قواهم، ويتفوقون علينا في السباق، ويختطفون الجائزة من أيدينا. وقد أصبح النجاح يعتمد أقل الاعتماد على الحظ والمصادفة عن ذي قبل. وعدم الثقة في النفس هي سبب معظم نواحي فشلنا. والشخصية هي أعظم عون للنجاح وألزمها له، وما الشخصية إلا عادة متبلورة ونتيجة مران واقتناع. وتؤثر عوامل الوراثة والبيئة والتعليم في كل شخصية من الشخصيات. فإذا طرحنا هذه العوامل جانبًا، وإذا لم يصبح الإنسان هو صانع شخصيته بنفسه، فسينتهي به الأمر إلى أن يكون قدَريًّا، يخضع للظروف دون أية مسئولية من جانبه.

وبدلًا من أن نقول إن هذا الإنسان رهين الظروف، من الأسهل أن نقول إن هذا الإنسان صانع الظروف، فالشخصية هي التي تُشيد وجودًا كاملًا من الظروف.

وتُقاس قوَّتُنا بقوة التشكيل لدينا، فمن نفسِ المواد وعينِها يُشيِّد امرؤٌ قصورًا ويُشيِّد آخرون أكواخًا. والأحجار والأسمنت هي مجرد أحجار وأسمنت إلى أن يتمكن المهندس من إحالتها إلى شيء آخر. وأدوات المثابرة العظيمة هي: الاجتهاد والجدية والاقتناع.

التواضع هو سرُّ الحكمة والقوة والمعرفة، وسر النفوذ البساطة. وأفضل طريقة لكسب الكثير هو ألَّا ترغب في كسب الكثير جدًّا. وعظماء الرجال لا يعبئون بما لا يستطيعون الحصول عليه. وأنا أحب القصة التي تُروى عن الإسكندر الأكبر، أنه أمرَ وهو على فراش الموت ألَّا يلفُّوا يدَيه في قماش الكفن حين يقومون بدفنه كما هي العادة، بل يتركوهما خارج الكفن حتى يستطيع الناس أن يرَوهما، ويتحققوا أنهما فارغتان تمامًا.

عن السعادة

لم أكن أساسًا متشائمًا على الإطلاق، رغم أن كثيرًا من القُرَّاء يعتبرونني كذلك. ولقد أخذت الحياة على محمل الجد إلى درجةٍ جعلَتني أتَّجه دائمًا نحو التفاؤل. والتشاؤم مضيعة للجهد، وعقوبة للمرء الذي لا يعرف كيف يعيش.

والسعادة تكمن في العمل، وكل القوى خُلقت للعمل. ومن السياسات الطيبة أن تطرقَ الحديد وهو ساخن، ولكن من الأفضل أن تجعل الحديد يسخن بالطَّرق. ولقد وجدتُ دائمًا أنه أكثر إيلامًا للإنسان ألَّا يعملَ شيئًا على الإطلاق، من أن يعمل أي شيء. والبهجة والحماس من أكثر الفضائل نفعًا. والحماس يتوهج في الظروف المعاكسة عنه في الظروف السانحة. وتأتي الراحة من إحساس داخلي بالتفوق على البيئة المحيطة. وحكمة نعيش بها: «عش يومًا بيوم.» فنحن نُخطئ إذ نفترض أن الحكمة القائلة: «تطلَّع للأمام» إنما تعني أن نتطلع أمامنا في قلق. ومن السهل جدًّا على المرء أن ينظر إلى الأمام في أملٍ مثلما ينظر إلى الأمام في حزن. ولمَّا لم يكن متاحًا لنا في حياتنا إلا مسرات عظمى قليلة، فلا بد أن نزرع كمية ضخمة من المسرات البسيطة. والأنانية هي مصدر كلِّ الشرور والأحزان تقريبًا في هذه الدنيا، ونحن ندري ذلك، ولكننا نستمر على أنانيَّتنا. وحُكمنا على سعادة الآخرين أو شقائهم حكمٌ جائر، إن نحن قسناهم بأي مقياس يختلف عن المقياس الذي نقيس به أنفسنا. والشهرة الخالية من السعادة تكون في أحسن أحوالها كالنكتة السخيفة، والأشقياء دائمًا على خطأ.

عن الحياة الكريمة

من المستحسَن أن يكون للمرء سمعةٌ طيبة. ويجب ألَّا نحتقرَ رأي معارفنا وأخلَّائنا فينا، ولكن لا بد لكل إنسان أن يستحق السمعة التي تشيع عنه، وإلا كانت حياتُه زائفة، وسيقف إن عاجلًا أو آجلًا عاريًا أمام الدنيا.

وغالبًا ما يكون هناك فارق عظيم بين شخصية المرء وسمعته. فالسمعة هي ما يظنه الناس عنَّا فترة من الوقت، أما الشخصية فهي ما نحن عليه حقًّا، وقد تنسجم السمعة مع الشخصية، ولكنهما غالبًا ما يكونان متضادَّين كالنور والظلام، فكثير من الأوغاد لهم سمعة النبلاء، وثمة رجال من ذوي الشخصيات النبيلة أبعدَتهم سُمْعتُهم إلى صفوف الملوثين.

وتظهر شخصيةُ الإنسان الحقيقية دائمًا في بيته أكثر من أي مكان آخر، وتستبين حكمتُه العملية بطريقة أفضل من الطريقة التي يتعامل بها هناك عنها في شئون عمله في الحياة العامة. وقد يكون جُلُّ عقله مُركَّزًا في عمله، ولكنه يركِّز عاطفتَه كلَّها في بيته إن كان سعيدًا. فهناك تستبين صفاتُه الأصيلة، ويظهر صدقُه وحبُّه وعطفه وتقديرُه للآخرين واستقامته ورجولتُه، وبإيجاز … شخصيته. وأفضل الأسلحة التي يمكن أن يحصل عليها الشاب في معركة الحياة هي: ضمير، ومنطق فطري، وصحة جيدة.

فليس هناك من صديق أفضل من ضمير طيب، وليس هناك عدوٌ أكثر خطورة من ضمير سيِّئ، فالضمير يجعل منَّا ملوكًا أو عبيدًا. والضمير كالساعة المنبهة، فهو عند إنسان يدقُّ عاليًا للتحذير، وعند آخر يشير العقرب إلى الساعة في صمت ولا يدق.

وإن ما ندعوه المنطق الفطري هو — في معظم الحالات — نتاجُ الخبرة العامة، التي نمَت في حكمة، وليست القابلية الشديدة بضرورية لتحصيله كضرورة الصبر والدقة والانتباه.

والصحة الجيدة تعتمد على العادات العقلية، اعتمادها على العادات الجسمانية. فقد ساق القلق والحساسية والطباع المعينة كثيرًا من الرجال إلى حتفهم، ولولاها لكانوا لامعينَ في حياتهم.

والحياة في صحبة الأفكار الأنانية السقيمة العليلة وجوِّها تضرُّ بصحة المرء وأخلاقه، تمامًا كأنه يعيش في صحبة أناس فاسدين. والبحث الدائم عن المسرة الشخصية إن هو إلا أنانية في السلوك. والمبالغة الذاتية والأثرة والمباهاة، والرضا عن الذات، وتبرير الذات، والتواضع الزائف، كلها فروع لشجرة الأنانية التي تجري جذورها في كل الاتجاهات، يلتفُّ ويتشابك بعضها في البعض الآخر في التربة اللينة للنفس.

والغيرة هي أكثر أشكال الأنانية الإنسانية جنونًا، وهي تنشأ عن خوف أناني من الخسارة، أو من حلول شيء، أو شخص آخر في مكان المرء الذي يشعر بالغيرة.

والغضب جنون قصير، وفيه حسدٌ واحتقار، وخوف وأسف، وكبرياء وهوًى، وتهوُّر وسوء تقدير، وابتهاج بالشر ورغبة في إنزاله.

والطموح يدمر مسرَّات الحاضر في تطلعات مشوقة، وراء مستقبل خيالي. والازدراء انتقام بريء، أما العنف فهو التعبير الكامل عنه، والقلق سمُّ الحياة الإنسانية، وهو ربيبُ كثيرٍ من الشقاء.

والبخل يفصل الإنسان عن الكون، ويسجن الروح في نفسيتها السوداء. والمزاج القوي ليس بالضرورة مزاجًا سيئًا، ولكن كلما كان المزاج قويًّا في شخص ما، كلما ازدادت حاجتُه للتنظيم الذاتي والتحكم في النفس.

ونحن أغنياء بما نعطي، ونعيش حياتنا بقدرٍ يتناسب مع ما نشعر به من حب للغير، ونصبح فقراء بالنسبة التي ننغمس بها في الاهتمامات المحصورة في الذات، والكسب الشخصي.

والعمل الحق ضربٌ على وتر، يمتدُّ عبر الكون كله. والمرء الذي يحب الحق لا يمكن ألَّا يباليَ بالخطأ، أو أداء الخطأ، فإن كان يشعر بحرارة، فسيتكلم بحرارة جماع فؤاده.

ولا بد لنا أن نحذَرَ الازدراء المتعجل، ولَأفضل الناس جوانبهم المتعجلة، وغالبًا ما يكون المزاج الذي يجعل الإنسان جادًّا، هو ما يجعله متعصبًا أيضًا. وأندرُ الهبات العقلية هي الصبر الفكري، ومنتهى دروس الثقافة هي الإيمان في الصعوبات التي لا تَبين لأبصارنا.

والالتزام الوحيد النهائي لأي إنسان، هو السعي الشريف الجاد وراء الحقيقة.

عن التعصب

التعصب رقٌّ عقليٌّ طاغٍ جهول. وهو يحكم سلفًا، ويُصدر أحكامًا دون أدلة ودون قاضٍ أو محلَّفين. ويجب علينا أن نهرب منه؛ فهو شاهد زائف، غبيٌّ، خائن، قصير البصيرة. والتعصب مجلبة لكلِّ ما هو سيِّئ، فهو يفرِّق بين أعز الأصدقاء، ويعوق التقدم الإنساني، ويسد الطريق أمام المبادئ الطيبة، ويخلد استعباد الجسد والروح، ويشن الحرب على أفضل مقاصد البشرية أهميةً.

«عن الموت»

لا يترك الطفل أثرًا وراءه. وهكذا، لا يبقى من عظماء الرجال في العالم بعد مماتهم، ما يدل على أنهم كانوا أحياء في يوم من الأيام.

ما هو الموت؟ أهو خلع ثوب الجسد وارتداء ثوب الخلود؟ أهو المرور من الظلمة إلى النور الأبدي؟ أهو التوقف عن الحلم والبدء في الوجود اليقظ؟ أهو العودة إلى الله؟

لقد قال ملتون قديمًا: «مَن يقاسي أكثر، ينجح أكثر.» وقد أنجز أغلبية الرجال العظماء، الذين ألهمهم الواجب عملهم وسط المعاناة والتجارب والصعوبات. وقد صارعوا الموج، ووصلوا إلى الشاطئ منهكين، ليقبضوا على الرمال ويموتوا. لقد أدوا واجبهم، وأسعدهم أن يموتوا. ولكن ليس للموت سلطانٌ على هؤلاء الرجال، فذكراهم المباركة ما زالت باقية، تُهدئ من نفوسنا.

«عن الإيمان والمستقبل»

الشجاعة مرادفٌ آخر للإيمان. ونحن نسير بالإيمان أكثر مما نسير بالإبصار. ويتكون الجزء الأكبر من حياتنا اليومية من أشياء في حركة، تقسِّم نفسها إلى ما يسمَّى الثقة، الاقتناع، العقد، التفاؤل، الأمل، الشجاعة. وأول حركة في أي عمل عقلي هي دائمًا حركة الإيمان. وحيوية الإيمان لا نظير لها، وقوته فوق كل تقدير.

وكما تقوى الساق الضعيفة بالتمرين، كذلك يقوى الإيمان بكل مجهود يقوم به المرء، ليبسطَه نحو الأشياء التي لا يراها.

وما نحن إلا في مطلع مرحلة جديدة، ويمكننا أن نتصور الكشوفات التي ستتمتع بها الأجيال والعصور اللاحقة. فكما يفوق عرفان اليوم الحاضر كلَّ معارف العصور السابقة، كذلك ستتفوق معرفة عصور المستقبل على معارف اليوم.

نحن نعيش في صبيحة حقبة جديدة، وبين ضباب الفجر الباكر يسير الإنسان مضطربًا، ويرى رُؤَى غريبة، ولكن سيذوب هذا الضباب تحت أشعة الشمس التي خلقَته، وسيبين الحق صلدًا جميلًا مرة ثانية.

كل أمجاد الحياة، وكل جمال العيش، وكل مسرات الدنيا العميقة الحقة، كل البهاء والأسرار في متناول يدنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤