ألبير كامي رجل حميد

تأليف: تشارلز رولو

«تشارلز رولو» ناقدٌ وكاتب، تلقَّى تعليمَه في أكسفورد، وكان عضوًا بارزًا في هيئة الاستعلامات البريطانية إبَّان الحرب. وقد كتب «مهاجمو ونجيت»، وحرَّر «عالم إيفيلين وو»، وهو قارئ يتصف ذوقُه بالعالمية والتميز.

***

«قال١ الرجل العدمي٢ للإنجليزي: إن حريَّتي مطلقة، فليس هناك ما يمنعني من أن أضربَك على أنفك لو أنا رغبت في ذلك. وردَّ الإنجليزي: كلَّا … بل هناك ما يمنعك؛ فإن حريتك تنتهي حيث يبدأ أنفي.» وهذه الفكرة — أن حرية كل فرد تحدُّها حرية الأفراد الآخرين — هي المحور الذي تدور عليه القيم الإنسانية، التي أخذ ألبير كامي يُعيد إحياءَها، ويُعيد المناداة بها فيما يتفق مع القالب الفكري لأوروبا المعاصرة. وقد عرفنا كامي في البداية كروائي له صلة غير واضحة بأدب اليأس الفرنسي، وهو في الوقت الحاضر٣ الناقد الأول في أوروبا للنظريات التي يجد أساسها ضاربًا في أعماق اليأس، النظريات التي تعتبر الإنسان عبدًا للمجردات، مثل التاريخ، والدولة، أو الصراع الطبقي.
وقد وُلد كامي ونشأ في الجزائر، «على ضفاف بحر جميل»؛ ولذلك فهو يقابل الشمال الفرنسي المجنون وشياطينه المنادين بالمطلَق، بفكر منطقة البحر الأبيض الشمسي، الأفكار الهيلينية عن المقاييس والنسب والأبعاد. ويعتبر كامي «نيميسيس»٤ أكثر الآلهة تثقيفًا، إلهة للاعتدال وليست إلهة للانتقام. كما يعتقد بأنه «لا يوجد هناك موقف لا يشوبه أيُّ خطأ ما» حتى يحتمَ على الناس اتِّباعه، ويقول في هذا الصدد «كفانا أناسًا يموتون من أجل الأفكار، إن ما يُثير اهتمامي مَن يعيش ويموت من أجل ما يحبُّه.»
وألبير كامي هو ثاني مَن يُمنح جائزة نوبل في سنِّ الشباب، فقد حصل عليها «رديارد كبلنج» في الثالثة والأربعين، وحصل عليها كامي في الرابعة والأربعين، وينتمي كامي إلى الجيل الذي «نشأ على دقات طبول الحرب العالمية الأولى، ولم يكن تاريخه سوى قتل وظلم وعنف.» وقد تعرَّض المفكرون الأوروبيُّون الذين اتصلوا عن قرب بهذا العصر لمجموعة كبيرة من دواعي الإفساد: الفاشية، الشيوعية، الانهزامية، التعاون مع العدو،٥ القومية الرجعية، وقليل منهم مَن خرج منها سالمًا. وكان ألبير كامي واحدًا من هذه القلة، فهو يمثِّل — كالمرحوم جورج أورويل — نموذجًا رنَّانًا للدماثة، مفكرًا للتكامل المتنافر والاستقلال النشط، وباختصار، إنه رجل طيب.

ويكره كامي أن يدعوَه أحدٌ قوةً أخلاقية، فهو يمقت إبراز الذات، ويرفض أن يُعَد ضمن الواعظين، وقد قال مرة متأففًا، إنه لو حدث أن اغتُصبت جدته في حديقة عامة، لوجد الشخص الذي يدافع عن هذا باعتباره عملًا أخلاقيًّا.

وقد أصبح كامي يمثِّل ضميرَ عصره في نظر معجبيه العديدين في أنحاء القارة الأوروبية، رغم ما يمكن أن تُثيرَ فيه هذه التسمية من الضيق. وفي خطبة جائزة نوبل، كرَّمت الأكاديمية السويدية، هذه الهيئة المحاذرة، كامي وهو الملحد جهرًا، ولم يقتصر سببُ تكريمها له على «إنتاجه الأدبي الهام»، بل أيضًا لتنويره «مشكلات الضمير في عصرنا الحاضر.» وقبل ذلك بسنوات، حين ظهر كتاب «المتمرد» لأول مرة في أوروبا، كتب سير هربرت ريد، يقول: «بنشر هذا الكتاب، بدأت تنزاح سحابةٌ أثقلَت كاهلَ العقل الأوروبي لأكثر من قرن.»

ومن الدلائل الأخرى على أهمية كامي، أنه قد نُشرَت ستُّ دراسات نقدية على الأقل عن أعماله. ويمثِّل الكتابان اللذان نُشرا عنه بالإنجليزية — «فكر ألبير كامي وفنه» لتوماس حنا، و«ألبير كامي» لفيليب تودي — يمثِّلان عملَين تفسيرَين رائعَين، لا بد وأن يُساهما في تفهُّم أعمال كامي في هذه الناحية من الأطلنطي.

وقد قال لي أحد الروائيِّين الأمريكيِّين حديثًا: «إذا كانت النية قد اتجهت لمنح جائزة نوبل لفرنسي، فلماذا لم تُعطَ «لمالرو» أو «لسارتر»؟ إني لا أستطيع تبيُّن العظمة التي تكمن في كامي.» وليس غريبًا أن بعضَ القرَّاء الأمريكيِّين يتشكَّكون في قَدْر كامي. فأول الأشياء العظيمة فيه استعماله للغة الفرنسية، وكثير من الكتَّاب يُفقدونها طلاوتها في الترجمة. ويُشكِّل نثر كامي صعوباتٍ جمةً أمام المترجم، بجمعه بين الصفاء والغنائية، وبعاطفيته المقيدة، وبالانعطافات اللمَّاحة للجمل، وأمثاله الجذابة، مما يجعل ترجمته أشبه بترجمة الشعر. وقد كانت «جوستين أوبرين» مخلصة للغاية (وأكثر من اللازم أحيانًا) في ترجمة الكلمات، وتركيب العبارات في الأصل، ولكن لم يسلم الأمر من ضياع مسحة من الرونق عند النقل إلى اللغة الأجنبية. ورغم أن جميع كتب كامي الهامة قد تم نشرها جميعًا بالإنجليزية، فإن ستة كُتُب نثرية ومسرحيَّتَين — أي نصف إنتاجه تقريبًا — لم تُترجم بعد، وكلها تكشف مظاهر هامة عن الإنسان وعن تفكيره لا نعرفها نحن. ولا يعرف الأمريكيون كامي حقَّ المعرفة إلا عن طريق رواياته، وأحيانًا ما يكون بالغ الإبهام في فنه الروائي. وقد فشل أحدُ النقاد الماهرين في أمريكا فشلًا تامًّا في فهم «الغريب»، حتى إنه حكم على كامي بأنه كاتبٌ غليظ الشعور من نوع «جيمس م. كين»، كما أن معظم النقاد يعترفون صراحةً أنهم يجدون كتابه «السقوط» شبيهًا باللغز. وسبب تلك المتاعب أن أعمال كامي الإبداعية لا يمكن استيعابها تمامًا دون التمكن من فكره الفلسفي. وقد عرض هذا الفكر في كتابَين نثريَّين؛ «أسطورة سيزيف» و«المتمرد» — وهما ليسا بواسعَي الانتشار بين الأمريكيِّين — وكذلك في بعض المقالات والافتتاحيات التي لم تُترجَم بعدُ إلى الإنجليزية. وقد تحسس كامي — الذي يعتبر نفسه فنانًا وليس فيلسوفًا — تحسَّس طريقَه إلى الفلسفة، مسترشدًا بالانفعالات التي تحكمه كفنان مبدع، ويؤكد «توماس حنا» — وهو على صواب — في دراسته عن كامي، أن «التشابك بين اهتماماته الفلسفية والأدبية هو سببُ ثراء وقيمة كتاباته إلى حدٍّ كبير.»

ومثل كثير من كُتَّاب هذا القرن، تقبَّل كامي في ألمٍ صورةَ العالم بدون إله وبدون قِيَم لها ما يُبررها، وهو العالم كما خلَّفه لنا تقدُّم العلوم في القرن التاسع عشر. وقد زاد سخاء الطبيعة والمسرات المادية الثاقبة التي نشأ كامي وسطها، من إحساسه بعبثية الكون. وقد بدَت الشمس والبحر لكامي الشاب دعوة ملحة إلى السعادة، كما يخبرنا بنفسه في كتابَيه الأولين: «الظهر والوجه»، و«أفراح». فالأجساد العارية على الشاطئ، وحسية الرفقاء الشباب الصافية في المراقص، كلُّ ما يحوطه في الحقيقة كان يمجِّد الحياة المادية على أنها الحقيقة الوحيدة، ويُعلن قِصر أمدها في الوقت نفسه. وقد كتب في العشرينات من عمره، يقول: «إني أعلم أنْ لا سعادةَ هناك فوق المستوى البشري … إن العالم جميل، وليس هناك من سبيل للخلاص بعده … ولا يعني هذا أنه لا بد للإنسان أن يكون حيوانًا، ولكني لا أجد معنًى في سعادة الملائكة.» وقد رفض كامي — مخلصًا لهذه التجربة — أن يبحث عن أيِّ معنًى على أي مستوى فوق المستوى البشري. وقد أوجز طلبه في جملة واحدة معبِّرة: «إني أريد أن أعلم ما إذا كان في استطاعتي أن أعيشَ على ما أعرفه، على ما أعرفه فقط.» وإن ما يجعل مسلك كامي في هذا الطلب أصيلًا للغاية هو — كما قال «فيليب تودي» في فطنة — امتلاكه لإحساسات الرجل العادي وعقل المفكر. وفي إحساساته ولعٌ متميز بالآخرين، وفي عقله سورة شاذة غير طبيعية نحو الصفاء.

وحين بلغ كامي أشدَّه، كانت روحُ عصرِه قد تحدَّرَت إلى براثن اليأس. وفي السنوات التي تلَت ذلك، عاش في «عدمية، وتضاد، في عنف ودمار طائش». لقد كان يشارك الشعور السائد، بأن الإنسان يحيا في منفى روحي وسط عالم عدائي، ولذلك وجد أنه من الضروري أن يخلقَ بيدَيه الأساسَ المنطقي الخاص به للأخلاق التي تجري في دمه. وقد قال: «إن من السهل على المرء أن يكون منطقيًّا، غير أنه من المستحيل عليه أن يكون منطقيًّا على طول الخط إلى النهاية.» وحين يتمسك كامي بالمنطق على طول الخط إلى النهاية، يصور — في أكثر أشكاله مغالاةً — استحالةَ تبرير القيم الأخلاقية. وعلى هذا الأساس من الشك المنهجي، شرع في إقامة مذهب إنساني خاص به، شبيه بالتقليد الإنساني القديم الذي ذهب.

وكامي فنان يشوب رواياتِه ومسرحياتِه عنصرٌ شخصيٌّ قوي، رغم أنه مشتبك في مشكلات عصره المحيِّرة. وقد حذَّرنا من التعرف عليه في شخصيات أبطاله، أو اعتبار مُحاجاتهم نصًّا حرفيًّا لأفكاره، وقد كتب في مقال نُشر في مجلة «أطلانطيك»: «إني لستُ رسامًا للعبث … لم أفعل سوى أن عكستُ فكرةً وجدتُها ذائعةً في الطرقات. أما إنني قد ساندتُ هذه الفكرة كبقية الجيل الذي عشتُ فيه، فهذا شيء طبيعي، غير أنني قد احتفظتُ بنفسي على بُعدٍ من هذا الموضوع حتى يكون في إمكاني معالجته وتقرير منطقيته … غالبًا ما يحدث أن يتتبع الإنسان تاريخ أشواقه وتجاربه، ولكنه لا يتتبَّع تاريخ حياته الذاتية على الإطلاق.» ويمدُّنا كامي هنا بمفتاح هام لتفهُّم أعماله، ويمكن وصفُ طريقته كفنان بالطريقة التجريبية، مَثَلُه في ذلك مثَلُ «أندريه جيد»، فهو يتناول فكرةً ما (تمثِّل عنده عنصرًا من الشوق أو التجربة) ويسيرُ بها — عن طريق الرواية أو المسرحية — إلى نهايتها المنطقية، ويترك للقارئ الحكمَ عليها بما تجرُّه من نتائج، وهكذا يستبين في خلق كامي الأدبي كله نمطٌ استكشافيٌّ وتطوريٌّ محدد. ويمكن تصوير هذه الفكرة على أحسن الحالات بتقديم تاريخ حياته مع تقدُّمه الفني.

وُلد ألبير كامي في مدينة «موندوفي» الجزائرية في ٧ نوفمبر ١٩١٣، عن أمٍّ إسبانية وأبٍ «ألزاسي» يعمل في الزراعة، وقد قُتل في معركة «مارن». وقد كتب كامي في كتابه الأول يقول: «لم يكن الفقر كارثة بالنسبة لي؛ فقد كان يوازنه دائمًا غِنى النور … وقد ساعدَتني الظروف. وفي محاولتي لتصحيح عدم الاكتراث الطبيعي الذي أتَّصفُ به، وضعتُ نفسي في منتصف الطريق بين الشقاء والشمس. وقد منعني الشقاء من الاعتقاد بأن كل شيء سليم تحت الشمس، وعلَّمَتني الشمس أن التاريخ ليس كلَّ شيء.» وقد ظل كامي على ارتباطه القوي بنشأته الأولى بشمال أفريقيا عالم المظلومين اجتماعيًّا، وبإسبانيا بلد والدته، وقد شعر بنفسه مستغرقًا لأُذُنَيه في الحرب الأهلية الإسبانية، وبعدها بمدة طويلة، في عام ١٩٥٢، استقال من «منظمة اليونسكو»٦ احتجاجًا على قبول دكتاتورية «فرانكو».
وقد ساعد أحد المدرسين كامي في الحصول على منحة دراسية في المدارس الثانوية، وقد موَّل كامي تعليمه الجامعي باشتغاله بكثير من الأعمال المختلفة؛ فقد عمل في خَتْم رُخَص القيادة في الولاية، وفي ملاحظة الضغط البارومتري في معهد الأرصاد الجوية، وفي بيع قطع غيار السيارات، وعَمِل مع أحدِ سماسرة السفن، وقادَه أحدُ إعلانات الصحف إلى المسرح، وهو ما كان مقدَّرًا له أن يكون من أعظم اهتماماته في الحياة، وتقدَّم ليشغلَ وظيفةَ البطل في إحدى الفِرَق المسرحية الجوَّالة وحصل عليها، وتجوَّل طيلة أسبوعَين متواصلَين في أنحاء الجزائر لتمثيل المسرحيات الفرنسية الكلاسية. وبعد أن دعَّم نفسه بهذه التجربة، كوَّن فرقتَه المسرحية الخاصة المسماة «ليكيب L’ÉQUIPE»، وأعد «الأخوة كرامازوف»٧ و«بروميثيوس مقيدًا»٨ للمسرح، وكان قد كتب في هذا الحين أربع مسرحيات، وترجم وأعدَّ للمسرح كُتُبًا من تأليف «كالدرون» و«لوب دي فيجا» و«وليام فوكنر»، وقد مُثِّلت مسرحيتُه لرواية فوكنر «قداس الراهبة» مدة ثلاثمائة ليلة في باريس. ويقوم كامي عادةً بإخراج مسرحياته وما يعدُّه للمسرح من روايات، كما يجد متعتَه في مشاركة الممثلين في بروفاتهم. وفي إحدى المرات، حين أُصيب أحدُ ممثلي «قداس الراهبة» في حادثة، قام كامي بتمثيل الدور بنفسه. وقد مُثِّلت مسرحياتُه كلُّها في باريس، ولكن لم تثبت فاعليةُ أيٍّ منها على المسرح سوى واحدة، وهي «كاليجولا». وقد اشتكى النقاد أن مسرحيات كامي مشحونة «بالذكاء أكثر من اللازم»، وأنها تُضحي «بجمال» العرض في سبيل المضمون.

وهناك صفةٌ موروثة أخرى ظاهرة في شباب كامي، وهي حماسُه لكرة القدم، وهي الرياضة التي مارسها كثيرًا من السنين، وظل يتردد على مباريات الكرة في أيام الآحاد، وهو يعتقد أن قوانين الرياضي الجيد دروسٌ طيبة في دماثة الخُلق. وقد قال مرة: «إني لم أتعلَّم دروسَ الأخلاق إلا في ميدان اللعب.»

وحين كان كامي في جامعة الجزائر، هاجمه مرضُ السل بشدة، ورغم ذلك أكمل تعليمَه، وحصل على الماجستير برسالة عن العلاقة بين الهيلينية والمسيحية. وكان كتابُه الأول الذي كُتِب بلغةِ الجوَّالين، نتاج رحلاته إلى إيطاليا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا، وقد تَبِعه سريعًا كتابه «أفراح»، وهو مقالات عن عالم البحر الأبيض، الذي سبقَت الإشارة إلى موضوعاته. وشُغِل كامي في بداية الحرب٩ بالدفاع عن حقوق العرب في صحافة الجزائر. وذهب إلى باريس عام ١٩٤٠، وأنشأ بعدها الصحيفة السرية «كوميا»، التي أصبحت على رأس أصوات حركة المقاومة الفرنسية. وفي هذه الأثناء، في عام ١٩٤٢، كان «جاليمار» قد نشر الكتابَين اللذَين كان لهما الفضل في شهرة كامي: «الغريب» و«أسطورة سيزيف». ويمثِّل هذان العملان، بالإضافة إلى «كاليجولا» ومسرحية أخرى تسمَّى «سوء تفاهم» (كُتبت حوالي سنة ١٩٣٨ وسنة ١٩٤٢)، تمثِّل جانبًا من أعمال كامي، يمكن إيجازه بأنه استكشاف العبث.
ويبدأ تحليل كامي للعبث بملاحظة أن الإنسان يجد من السهل على نفسه عادةً قبول الروتين اليومي، ولكن يحدث أن تبرز أمامه في أحد الأيام كلمة «لماذا»؟ يبرز سؤال عمَّا إذا كان للحياة أيُّ معنًى. يجد المرءُ نفسَه «في كونٍ خالٍ من النور ومن صور الوهم … مجرد أجنبي غريب.» وتبدو الطبيعة، بل الأشخاص الآخرون، يبدون أعداءً ولا إنسانيِّين. وتتخذ الحركات العادية، حركات شفتَي أحد الرجال بلا صوت، وراء الباب الزجاجي لكابين تليفون، تتخذ مظهرَ «الايماءات التي لا معنى لها»، ثم يملأ النفسَ في النهاية إحساسٌ مرعب بالموت كيقينٍ حسابي. ومصدرُ هذا الانهيار أن العقلاني لا يتمكن من إرضاء «اشتياق الإنسان الوحشي» للمعنى في عالم لا عقلاني، «ولا يوجد شيء هناك وراء العقل.» إذن، فالعبث هو نتيجة التفكير في «الحالة الإنسانية»، والعبث هو كل هذه الأشياء: استحالة التوفيق بين الموت والرغبة في الخلود، بين الشقاء والرغبة في السعادة، بين الانفصالية والرغبة في التوحُّد، بين ألغاز الوجود جميعه والرغبة في الوضوح. وقد لمس «مالرو» و«سارتر» وآخرون خطَّ الفكر هذا قبل كامي، ولكن أصالته كانت تكمن في أنه أول مَن وجد أن عبثية العالم ليست سببًا لليأس، بل على العكس، حافزًا للسعادة. وفي رأيه أن الموت والمعاناة١٠ التي لا سبب لها — وهي أكثر ما يشغل باله من موضوعات — ترفع في الواقع من قيمة الحياة، فهي تدعو الإنسان إلى عيشها بكثافة أشد.

وقد رفض كامي كذلك أن يقبل الاستنتاج العدمي الذي يُنادي بأنه لمَّا كان العالم لا عقلانيًّا، تكون اللاعقلانية هي المبدأ المنطقي الوحيد للسلوك، وهذا هو موضوع مسرحيته كاليجولا، فحين يكتشف الإمبراطور أن العالم عبث، يتصور أن بإمكانه تغييره إلى الأفضل بأن يُصبح داعيةً للعبثية المطلقة، ويبدأ في حكمه الهوائي المرعب وأخلاقياته الهدامة، يكافئ المجرمين والمفسدين ويعاقب الأبرياء. وما يعطي المسرحية توتُّرها المثير للقلق أن كاليجولا — بوسائله المخيفة هذه — يُوقظ حقيقةَ عبثيةِ الحياة في صدر أتباعه. ولم يتمكن كامي في هذه المرحلة من أعماله أن يُثيرَ أيَّ قِيَم يمكن إدانة كاليجولا بها. وعلى الرغم من ذلك، يُطيح بكاليجولا تمرُّدٌ جاء نتيجة الإقرار الغريزي بأن سلوكه قد «فاق» عبثيةَ الحياة.

وفي كلٍّ من «كاليجولا» و«سوء تفاهم»: أكثر أعمال كامي كآبةً، تسود روحٌ من التمرد ضد مظاهر عبثية العالم. وفي «الغريب» يتوجه التمرد ضد المقاييس التي أقامها الإنسان للأخلاقية المطلقة. وقد كُتبت هذه الرواية القصيرة بأسلوب يبدو فيه أثر «همنجواي» في أول كتاباته، فكل جملة مفردة تشكِّل كلًّا مطويًّا في نفسه، ونتيجته تصوير الحياة كإحساسات متتابعة لا معنى وراءها، وهدف كامي من ذلك هو استيلاء «شعور» بالعبثية في نفوسنا، فما من شيء يقدِّم تقريرًا له.

وبطل الغريب — ميرسو — موظف بأحد المكاتب الجزائرية، وهو رجل لا يكترث بأيِّ شيء على الإطلاق سوى إحساساته المادية الفورية، فالعبثية في دمه دون أن يشعر بها، ولا يشكل موت أمه، أو تقديم علاوة له، أو حب الفتاة التي برفقته، لا يشكِّل ذلك «أيَّ اهتمام» بالنسبة له. ومع الوقت يُساق إلى موقف يَقتل فيه — وقد بهر عينَيه توهُّجُ ضوءِ الشمس — أحدَ العرب الذي بدَا كأنما يُهدِّده بمُدْيتِه. ويؤكد محاميه إمكانَ حصوله على حكمٍ بالبراءة لو قبل أن يُدلِّل بحالة الدفاع عن النفس، ويعبِّر عن الإحساسات المناسبة في هذه الحالة. ولكن ميرسو يعجز عن التظاهر بإحساسات لا يشعر بها حقًّا. وقد أظهرَته صراحتُه التامة أثناء المحاكمة بمظهر الوحش، فحُكم عليه بالموت على المقصلة. ويؤدي به الاقتراب من الموت إلى شعوره بما سبق أن آمن به دون دليل: الحياة لا معنى لها. وبعد أن «يخلو من كل أمل» يتحقق أنه كان سعيدًا، وأنه «ما زال سعيدًا.» وميرسو شخصية بعيدة عن الواقع، ويصبح أحيانًا شخصية لا تُطاق، ولكن الرقة الساخرة التي صوَّره بها كامي بدقة تكسَب عطفنا.

وهي قطعة قصصية ممتازة، لكلِّ تفصيلٍ تأثيرٌ فيها. و«الغريب» تسخر من العقيدة القائلة بأنه يمكن الحكم على السلوك الإنساني تبعًا لمقاييس أخلاقية ثابتة، وليس قتل العربي هو ما يدين «ميرسو»، ولكنه اتُّهم لأنه كان غريبًا على المطلَقات الأخلاقية التي تؤمن بها المحكمة، وهذا دليل يؤدي إلى اتهام بني الإنسان جميعًا.

وتُشبِّه أسطورة سيزيف مصير الإنسان بمصير بطل الأسطورة، الذي حُكم عليه بأن يدفع إلى الأبد حجرًا هائلًا إلى أعلى الجبل، مع يقينه بأنه سيتدحرج ثانيةً إلى أسفل. وقد أعلن كامي في بداية الكتاب أنه «لا توجد إلا مشكلة فلسفية جادة واحدة، وهي الانتحار.» ويجد الجواب على هذه المشكلة في موقف سيزيف الذي يواجه حالته دون خداع للنفس، ولكن دون يأس، ويتغلَّب على العبثية عن طريق التحدي المتمرد الذي يجلب معه الألم والحرية. وينتهي المقال بأن «الكفاح نحو الذُّرَى كفيلٌ بأن يملأ قلب الإنسان. ولا بد أن يتصور المرء سيزيف سعيدًا بذلك.»

ومعالجة كامي لهذه الأسطورة هي صورة مبدئية لمذهب التمرُّد الميتافيزيقي المتأصل في روح الإنسان العادي، الذي يقوِّي نفسَه في وجه مصيره دائمًا وفي كل مكان، بعلاج «لا يتناوله المريضُ وهو راقد». وقد قال كامي في مقدمة الطبعة الأمريكية من «سيزيف»، والتي لم تظهر إلا عام ١٩٥٥: «هذا الكتاب، الذي وُضع عام ١٩٤٠، أثناء الكارثة الفرنسية والأوروبية، يُعلن أنه في الإمكان التقدم إلى ما وراء العدمية، حتى في نطاق إبعاد العدمية الخاصة.»

وكانت الخطيئة الكبرى عند كامي دائمًا هي اليأس، وقد بحث هذه النقطة في «خطابات إلى صديق ألماني»، وهي خطابات موجهة إلى صديق ألماني متخيَّل، نُشرَت أصلًا عن طريق المطبعة السرية، وتعرض وجهة النظر التي غذَّتها تجاريب كامي في المقاومة أن بني الإنسان بتمرُّدهم على الظلم يُثبتون أن هناك قيمةً ما تجمعهم معًا، ويقيمون بهذا «التضامن» الإنساني، وقد تحولت هذه النظرة إلى عمل درامي في «الطاعون».

ورواية كامي الرئيسية حتى الآن — «الطاعون» — تصف وباءً يجتاح مدينة وهران، وهي أليجورية١١ عن مصير الإنسان: «الطاعون … هو الحياة». وتصور كلُّ شخصية في الرواية طريقةَ استجابةٍ معينة لمشكلة الشقاء والشر. فالطبيب «ريو» (الذي لا نكتشف أنه هو راوية القصة إلا في النهاية، فكامي يحب بعض اللمسات من الغموض)، يكرِّس كلَّ طاقاته لمحاربة الوباء، وكذلك يفعل «تارو» وهو من الثوار السابقين، وترهص قواه الإدراكية بما سيجيء من نقدٍ للعنف في كتاب «المتمرد». وتصور بعض الشخصيات الأخرى كيف تساعد الراحة البورجوازية على التعذيب الاقتصاصي وتُحرِّض عليه. وهناك أحد المناظر يرفض فيه التسليم المسيحي بالمعاناة على أنها تكفير عن الذنوب، وفي هذا المنظر يهاجم «ريو» الأب «بانيلو» — بعد أن رأى طفلًا يتعذَّب ويموت بسبب الطاعون — لأنه كان يُبشر بالإذعان لإرادة الله.

ومع ذلك يعترف ريو أنه في صفٍّ واحد مع القس، صف «الضحايا»، وقد قال كامي إن أكثر ما يشغل باله هو: كيف يسلك الإنسان في حياته؟ ويتضح جوابه عن هذا السؤال — هذا الجواب الذي سيبقى كما هو فيما بعد — في رواية الطاعون: إننا لا يمكننا التأكد من فعلنا للخير، ولكن نستطيع أن نكون على حذر دائمًا ألَّا نفعلَ شيئًا يزيد في المعاناة، ويتضمن هذا أيضًا التسامح مع أيِّ شيء سوى المعاناة نفسها. وتتسم رواية الطاعون بمزاج لا بطولي؛ «فريو» و«تارو» — حين يعرِّضان نفسَيهما لمخاطر جريئة — ليسَا سوى «منطقيَّين»، فقد أدركا أن مقاومة التعذيب الاقتصاصي هو مهمةُ كلِّ شخص. والرجل الذي يُشار إليه في أحد أجزاء القصة على أنه بطل الرواية هو موظف صغير بالبلدية يسجل إحصائيات الوباء، ويُمضي وقتَ فراغه بلا انقطاع في كتابة الجملة الأولى لرواية يؤلِّفها. ومن خلال هذه الشخصية البلهاء إلى حدٍّ ما (واسمه «العظيم»، وهذه إحدى الأشياء الساخرة الإيحائية التي يحفل بها هذا العمل الفني)، يعبِّر كامي عن حبِّه واحترامه للإنسان العادي، الذي لا يضرُّ أحدًا بشذوذه، والذي يجعل منه إخلاصه في العمل سيزيف آخر صامتًا، لا يسمع به أحد.

ومن الواضح أن «الطاعون» يحمل رسالةً ما، مما لا يساعد على احتسابها رائعةً فنية، ولكن من المؤكد أنها واحدةٌ من أهم أجود ست روايات نُشرت منذ الحرب العالمية الثانية، وقد جاءت كتابتُها رشيقة حية، ونغماتها القصصية مستحوذة على الانتباه، وهي مزجٌ فريد بين عواطف الفضول والانفعالات والتحكُّم الساخر. وتنتقل توجيهات الرواية الأخلاقية من خلال بلاغة رصينة.

وسبق كتاب «المتمرد» مسرحية مقتبسة من «الطاعون» بعنوان «حالة حصار»، ومسرحية أخرى هي «العادلون». ويعتبر كتاب المتمرد تبيان كامي الكامل لمذهب التمرد الميتافيزيقي وتطبيقاته في السياسة والفن، وكان قد خلَّف وراءه مرحلة التمرد العقيم — المنعزل إلى حد ما — لدى سيزيف، إلى إثبات أنه عن طريق التمرد «في وجه الطغيان أو مجرد القدر»، يخرج الإنسان من عزلته الروحية، ويَصِل إلى الإحساس بالوحدة والمعنى، هذا الإحساس الذي تُنكره عبثية العالم عليه. ويستنتج كامي من هذا أن الإنسان بطبيعته «حيوان متمرد»: «المخلوق الوحيد الذي يرفض أن يكون على ما هو عليه»، وهذا التمرد الميتافيزيقي متجانس مع الحرية والإبداعية، وأن أعلى مثل على المتمرد الميتافيزيقي هو الفنان الخلَّاق، فهو مشغول دائمًا بمواجهة العبثية — والعالم هو مادته الخام التي يصوغها — وبالتمرد على هذه العبثية، عن طريق فرض الشكل الفني المنظم.

وقد شرع كامي عن طريق تحليله السياسي إلى البحث عن السبب، الذي أدى بالتمردات التي حدثت في مدى قرن من الزمان، إلى خلق أنواع من الطغيان وتبريرات للطغيان أشد ضراوةً من الشرور الأصلية التي قام التمرد لمحاربتها. وكان من تفسيرات كامي لذلك الموقف أن «هيجل» وغيره من دعاة المثالية المطلقة حوَّلوا روح التمرد إلى عكسها، إلى روح الثورة. والتمرد هو الاحتجاج ضد القوة المطلقة، وغايته المعتدلة هي التقليل من مقدار المعاناة. أما الثورة فتسعى في طلب القوة المطلقة، وهي تُطالب بالحرية المطلقة في إنزال المعاناة والشقاء حتى تتمكن من الوصول إلى غاياتها المتطرفة.

وتتطلب روحُ التمرد أن يحتفظ كلُّ إنسان بحريته في التمرد، ولن تُحلل تلك الروح مظاهرَ العنف في أي ظرف من الظروف. وإذا اضطر المتمرد إلى القتل فيجب عليه — حتى لو كان مَن قتله طاغية — أن يرضى بالموت حتى يُقيمَ البرهان على أن القتل واحد من الحدود، التي لا يمكن تجاوزها سوى مرة واحدة.

ويتردد في المقال صدى الاعتقاد بأن الإنسان لا يمكن أن يحيَا على مجردات مستخلَصة من التأمل في التاريخ؛ فالنظريات تعمل على الإفساد، والنظريات المطلقة تعمل على الإفساد أيضًا، وليس التاريخ الذي يُسكر الناس بالأحلام هو المبحث الصحيح للإنسان، بل هي الطبيعة التي تُعيد إليهم اتزانهم، بتنبيههم إلى الحدود التي يقفون عندها. وما أمراض عالم اليوم السياسية إلا النتيجة المنطقية لطوبية يائسة، تجد الأخطاء تسود الدنيا بطريقة مخيفة، حتى إنها تجفل — لا عن خوف — عن أي محاولة لتغييرها، وتعمَى عن حقيقة أنه لا يوجد أيُّ شيء يستطيع تحويل العالم إلى جنة أرضية. ولمَّا كان كتاب المتمرد يقف بشدة ضد روح الاستسلام، وتتشبع سطورُه بروح التمرد، فإنه يُعد بمثابة تصريح فريد مثير لفلسفة الاعتدال.

وبعد فترة من نشر «المتمرد»، حدثَت جفوة بين سارتر وكامي، وكانَا قد أصبحَا صديقَين خلال الحرب، فعلى الرغم من أن سارتر كان يؤكد اختلافه عن الشيوعيِّين، فقد وقف فترة من الزمن في صفٍّ موازٍ لهم في كثير من القضايا، ومنها الفكرة التي تقول بإجرامية توجيه النقد إلى روسيا، وقد نشرت صحيفة «الأزمنة» هجومًا على كتاب المتمرد، كتبه تلميذٌ من حَواريي سارتر، وقد أيَّده سارتر في ذلك فيما بعد، وقد قالا عن كامي إنه هروبي، لا يستطيع المجازفة بتلويث طهارته بالاتصال بالتاريخ، واتهماه بمساعدة الرجعيِّين والعمل في سبيل راحتهم. وقد أجاب كامي على ذلك بأن الوجوديِّين يدَّعون أنهم يمجدون الحرية، وهم «اليوم يمجدون العبودية … «قائلين» إن الشيئَين واحد، وهذا غير صحيح.» وكان يُضيف على ذلك لأصفيائه: «لقد كانوا يبدون لي دائمًا مثل كوكب المريخ.» وكانت الجفوة بين كامي وسارتر عنيفة ومريرة، وهما لا يتقابلان الآن على الإطلاق.

وتعد الطبيعة التي تبدو في أعداء كامي مقياسًا لدماثته؛ فقد تعرَّض لهجوم أنصار حكومة فيشي١٢ والرجعيِّين الآخرين، كما هاجمه أيضًا اليساريون وأتباعهم، ومع ذلك فقد ذكر بعض النقاد المسئولين أنه من السهل العثور على متناقضات وإغفالات مزعجة في تفكيره؛ فمثلًا هو لم يُشِر إلى الثورة الأمريكية — التي لم يعقبها أيُّ نوع من الطغيان — في بحثه عن الثورات، كما أنه من الصعب أن نُعادلَ رفْضَه جوازَ القتل في أيِّ ظرفٍ من الظروف مع قوله: «إنني لستُ بالمسالم.» ومن الاعتراضات الأخرى عليه، أن فلسفته للحدث السياسي قد تصلح ميثاقًا للصليب الأحمر الدولي، ولكن مجال تطبيقها في محيط السياسة ضئيل، هذا المحيط الذي يندر أن يسمح بوجود اختيار واضح بين العمل على زيادة المعاناة أو العمل على التقليل منها، ويستطيع كامي أن يدفع بحق الانتقاد الأول بإيضاح أنه لم يدَّع قط أنه مفكر منهجي، والانتقاد الثاني بالقول (كما فعل في «الطاعون»): إنه يوجد في الوضع الراهن للمشكلات الدولية جانبٌ يتمثل في «عدم اتخاذ أي جانب».
انقضت تسع سنوات بين «الطاعون» وبين الرواية التالية لكامي: «السقوط» (١٩٥٦)، التي وجدها القرَّاء أشدَّ كتبه غموضًا، وهو كتاب كامي الوحيد الذي اتخذ له الشمال «أمستردام» مكانًا للحوادث، وهو يحكي اعترافاتِ محامٍ باريسي، ويعرضها عرضًا رائعًا كقصة فلسفية مثيرة، وقد عبر راوي القصة أزمةً روحية بأن صار ما يسميه «قاضيًا تائبًا»، واستعاد إحساسه بالرفعة، وهو يتمكن من إشباع حاجته إلى السيطرة على الآخرين باعترافه هنا وهناك بأنه أحقر الحقراء، دافعًا سامعيه بهذا إلى الحكم على أنفسهم وتحقيرهم لهم. وقد وصف كامي راوية القصة: «جين باتيست كليمنس» (يوحنا المعمدان، الصوت الداوي) وصفَه بأنه «بطل عصرنا»، وقد قال في إجماله لهذا الراوي: «لم يَعُد الأوروبيون بمؤمنين، فهم إما لا أدريون١٣ أو كافرون، (ولست أعارض في ذلك؛ فإنني وثنيٌّ تقريبًا)، ولكنهم لم يتخلصوا من شعورهم بالذنب، ولا يمكنهم التخلص من هذا الحمل عن طريق الاعتراف الديني، ولهذا يشعرون بالحاجة إلى التصرف، فيعمدون إلى إصدار أحكام قاسية على الناس، ويضعونهم في معسكرات الاعتقال، ويقتلونهم.» و«بطلي» هذا هو التصوير الدقيق لأحد الضمائر المذنبة، فهو يُذعن للشعور بالذنب بذلك التسليم الأوروبي، وهو يقصد بالسقوط، العنوان، الفشل في التمرد، وهذا ما يجعل من كليمينس بذرة فساد. ولما كان كامي نفسه قد حذر من أيِّ تفسيرٍ بسيطٍ للرواية، فمن المحتمل أن يكون مقصده هو — رغم انعزاله الساخر — التعبير عن «أشواقه وتجاربه» التي عرفها من قبل.

وكتابه الأخير، «المنفى والمملكة»، مجموعة من ست قصص تتنوع تنوُّعًا مدهشًا في أسلوبها وموضوعاتها، ولكن يربط بينها منهجٌ عام؛ فجميعها يهتم بطريقةٍ ما بإحساس الإنسان بالنفي والحنين إلى الوحدة. وقصة «المارق» تعبِّر عن عبادة القوة، التي تجعل الإنسان يتحول ناحية الفلسفات العدمية، وقد قدَّمها المؤلف على شكل مونولوج مرعب لرجل يموت، وهو واحد من المبشرين ممن يعبدون القوة، خرج في سبيل هداية بعض البرابرة المتوحشين، ثم أصبح العبد الذليل لصنمهم بعد أن استعذب العذاب الذي كان ينزل به باسم هذا الصنم. وتعكس قصة «الضيف» إحساساتِ كامي تجاه المشكلة الجزائرية، وفيها يحاول أحد المدرسين الذين يمثِّلون المظهر المتمدين الإنساني للإدارة الفرنسية — وهو يحب الجزائر ويشعر بانتمائه إليها — يحاول بلا فائدة إنقاذ أحد العرب من الوقوع في أيدي الشرطة، ولكن يؤدي الجو السائد إلى إساءة فهم محاولته هذه، حتى إن رفاق العربي يُعلنون عزمهم على الانتقام منه. وتسجل قصة «فنان يعمل» بطريقة مسلية عمليةَ الإفساد التدريجي لرسام كرَّس نفسَه لمهنته، بعد أن هاجمه التطفل والتشتت الذي يصاحب النجاح عادة، وترمي إلى تبيان أنه عن طريق العزلة يصل الفنان إلى التضامن مع عصره الذي يعيش فيه، ويعتبر هذا الرأي بمثابة لطمة على إصرار «سارتر» على فكرة «الالتزام».

ويعيش كامي الآن في باريس، في إحدى الشقق بالقرب من حدائق لكسمبرج. وهو يكتب في الصباح إما واقفًا إلى جانب مكتب، أو مستلقيًا، ويعمل بعد الظهيرة عند جاليمار كمحرر لسلسلة كتب تقدِّم الكتَّاب الناشئين، وهو متزوج «من عازفة بيانو»، وله توءمان فتًى وفتاة.

وكامي — مثل فوكنر — يكره التطفل على خلوته، ويرفض أن يعاملَه أحدٌ كمشاهير الناس، أو أن يلعبَ الدور الاجتماعي المتوقع من قائد فكري في باريس. ويقول عن باريس إنها مكانٌ غير طيب بالنسبة للفنان؛ لأنها خشبة مسرح تفرض عليه أن يتكلَّف وضعًا معينًا، ومع أن الباحثين عن المشاهير والفضوليِّين لا يتمكنون من الوصول إلى كامي، فإنه يرحب بالزوار القادمين من الجزائر، ويفتح بابَه للطلبة.

وهو رجل متوسط الطول، نحيف، أسمر، عضلي، يمتلك حيوية حادة مكبوحة، وهذا يُعطيه مظهرًا خارجيًّا يتسم بالهدوء، وهو قادر على أن يظل صامتًا وسط مجموعة من الناس مدةً طويلة، كما يستطيع أن يملأ غرفة مزدحمة بالناس بمرحه وسحره، ويعطيه معطفَه العسكري المتهدل دومًا، وسيجارته المتدلية من ركنِ فمه مَظهرًا بروليتاريًّا مما يتمشَّى مع مشاركاته الوجدانية.

وكانت الحادثة التي أثَّرَت أكثر ما أثَّرَت في كامي منذ الحرب هي التمرُّد المجري؛ فقد «أطاح بأكبر أكذوبة في القرن، ونثرها في الرياح»، وستكون هذه الحادثة النقطة الختامية في الرواية التي بدأ كتابتها، وتحكي قصة أحد الأشخاص، وقد اختار لها عنوانًا مبدئيًّا «الإنسان الأول»، ويستبين منها آمالٌ كبار، وعلى الرغم من صِغَر سنِّ كامي النسبي، فقد توصَّل إلى بعض المآثر الحسنة كفنان، أما بالنسبة إلى كونه مفكرًا، فقد قطع شوطًا بعيدًا في هذا الميدان.

وقد صارع كامي العدمية طويلًا بضراوة، ولا يمكن اتهامه بالتفاؤل الطَّيِّع حين يقول: «هناك في الإنسان أشياء تدعو للإعجاب أكثر مما تدعو للاحتقار»، أو حين يتحدث عن الأمل في «نهضة» أوروبية، أو حين يُعلن: «في وسط الشتاء، اكتشفتُ أن هناك صيفًا لا يُقهر في نفسي.»

لقد عثر ألبير كامي على صوته الحقيقي.

١  نُشر هذا المقال في مجلة «أطلانطيك» الأمريكية، عام ١٩٥٨.
٢  Nihilism: مذهب ينادي بعدم الإيمان بأيِّ شيءٍ على الإطلاق، ويقوض المبادئ والأفكار السائدة، ويُترجم أحيانًا ﺑ «النهلستية».
٣  كُتب هذا المقال قبل وفاة ألبير كامي في حادث سيارة عام ١٩٦٠.
٤  Nemesis: إلهة الانتقام في الأساطير اليونانية القديمة.
٥  Collaboration.
٦  منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة للأمم المتحدة.
٧  Brothers Karamazov، تأليف فيودور دستويفسكي.
٨  Prometheus Bound، تأليف إيخيلوس.
٩  يقصد الحرب العالمية الثانية.
١٠  Suffering.
١١  Allegory: نوع من الكتابة الأدبية، انتشر إبان القرون الوسطى، يستخدم الكاتب فيه مجرداتٍ ورموزًا ليعبِّر بها عن غرضه.
١٢  حكومة فرنسية شكَّلها المارشال بيتان الفرنسي داخل فرنسا، إبان الاحتلال النازي، وكانت متعاونة مع النازيِّين.
١٣  Agnotiscs.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤