ظاهرة لوليتا

ترجع علاقة جيلي من القرَّاء العرب بفلاديمير نابوكوف وروايته «لوليتا» إلى الترجمة العربية التي صدرت في لبنان في أوائل الستينيات، وظهرَت في الأسواق عند «مدبولي» كما تعوَّدنا أن نقول، فاشتريناها وقرأناها ولم تُخلف فينا أثرًا كبيرًا، ولا أعرف إذا كان ذلك راجعًا للترجمة أم للضجة التي صاحبَت الرواية بأنها مجردُ نتاج آخر للأدب المكشوف، ثم سمعنا بعد ذلك أنها صودرت من الأسواق.

وفي خلال إقامتي في مدريد، كان من النادر الحديث عن نابوكوف أو روايته في ظل نظام حكم الجنرال فرانكو. ولكن حين بدأت غربتي في نيويورك عام ١٩٧٨، أخذتُ أتابع نابوكوف وأدبَه بطريقة أكثر تفصيلًا ومنهجية، ودُهشت للكم الوفير للكتب والدراسات التي تُخصص لهذا الكاتب، ناهيك بصدور العديد من الطبعات لأعماله، ثم كانت الواقعة التي بدَّدَت كلَّ شك، وهي اختيار ثلَّة من النقاد روايتَين من رواياته ضمن أعظم مائة رواية بالإنجليزية في القرن العشرين، وزاد من العجب أن احتلَّت لوليتا المركز الرابع من القائمة، قبل روايات د. ﻫ. لورانس وجون شتاينبك وهنري جيمس. كما جاءت رواية نابوكوف «نيران ذابلة» في المركز الثالث والخمسين.

ولا شك أن الضجة التي صاحبَت صدور لوليتا، وموضوعها الذي يشار إليه عادةً بأنه هيام رجل في أواسط العمر بفتاة في الثانية عشرة من عمرها، قد حجب عن عيون الكثيرين من القرَّاء القيمة الأدبية للرواية، وهي القيمة التي يُدركها جيدًا نقَّادُ الأدب ودارسوه. وقد تضافرت عدة عوامل تجمَّعَت في زمنٍ قصيرٍ على بعث ظاهرة لوليتا ونابوكوف إلى السطح بصورة مكثفة، منها هذا الاختيار لرواية لوليتا، الذي وضع مؤلفنا جنبًا إلى جنب، مع رواد الرواية الحديثة: جيمس جويس وسكوت فتزجيرالد وفرجينيا وولف. وثاني تلك العوامل هي النسخة الجديدة لفيلم لوليتا الذي أُنتج عام ١٩٩٨، وقد استغرق إعدادُ الفيلم فترةً طويلة وتكلَّف مبالغَ طائلة، وأخرجه «أدين لابن» عن سيناريو كتَبَه ستيفن شيف. وقد تعاقب على إعداد سيناريو الفيلم أسماءٌ لامعة؛ مثل هارولد بينتر ودافيد ماميت، ولكن المنتج والمخرج لم يقتنعا إلا بالسيناريو الذي كتبَه شيف. وقد امتدح ديمتري، ابن نابوكوف، الفيلم الجديد بوصفه تصويرًا شديدَ الحساسية لرواية والده، أبعد ما يكون عن عروض الإثارة الرخيصة، وأقرب ما يكون لروح الرواية. ورغم حرص هيئة الفيلم على قصِّ أية مشاهد قد تُثير الاعتراض، فإنه أثار زوبعةً من الانتقاد والإعجاب على السواء، نتج عنها عدم عرض الفيلم على نطاقٍ تجاريٍّ واسع حتى في أمريكا نفسها، وإن احتفى به النقاد السينمائيون وعَمِلوا على إصدار طبعة خاصة بسيناريو الفيلم ليكون في خدمة الدارسين لفنِّ السينما.

أما العامل الثالث فهو الاحتفال بمئوية مولد نابوكوف، التي تقع في أبريل ١٩٩٩، والتي سيُحييها عددٌ من المراكز العالمية في الدول التي ارتبطَت بالكاتب في مراحل مختلفة من حياته، وهي أساسًا روسيا والولايات المتحدة وسويسرا. وأول الأماكن التي ارتبط بها نابوكوف هي مدينة سان بطرسبرج (ليننجراد)، التي وُلد فيها في ٢٢ أبريل ١٨٩٩، وقد افتتحَت المدينة بالفعل متحفًا مؤقتًا للكاتب، في نفس المبنى الذي شهد مولده منذ مائة عام في أحد الأحياء الراقية بالمدينة، وقد نجا ذلك المبنى بأعجوبة من الحصار المدمر الذي قام به الألمان للمدينة خلال الحرب العالمية الثانية.

وقد عاش نابوكوف مع أسرته الثرية في روسيا حتى عام ١٩١٩، واشترك والده في الحكومة التي تألَّفت برئاسة كيرنسكي، ولكن بعد استيلاء السوفييت على السلطة، غادرَت الأسرة البلاد إلى المنفى الأوروبي، مثلها مثل الآلاف من الروس الذين استقروا في الخارج، وأصبحوا يُعرفون باسم «المهجَّرين». ويذكر نابوكوف حياته في بطرسبرج في مذكِّراته التي كتبها بعنوان «تكلَّمي يا ذاكرتي»، وصدرَت عام ١٩٥١، ثم صدرَت طبعتها المزيدة عام ١٩٦٧. وسوف يتم الاحتفال بنابوكوف في المدينة بالاقتران مع إحياء المئوية الثانية للشاعر الكبير بوشكين، وذلك انطلاقًا من عملية هذا الاحتفال المزدوج الذي سيسمح باستخدام متحف بوشكين الرحيب لذلك الغرض، وأيضًا لأن اسمَي الكاتبَين يقترنان نتيجة للترجمة الإنجليزية التي أعدَّها نابوكوف لرائعة بوشكين الشعرية «يوجين أونيجين»، ونتيجةً للمنفى الذي تعرَّض له كلا الكاتبَين. ويحتوي المتحف الروسي على بقايا ممتلكات أسرة نابوكوف في روسيا قبل رحيلها، بالإضافة إلى ما قدَّمه ديمتري، الابن الوحيد لنابوكوف، من تذكارات ومخطوطات.

أما الجهة الأخرى التي تحتفل بكاتبنا فهي جامعة كورنيل بالولايات المتحدة، وهي تحتلُّ مكانة بارزة في المحطات التي توقَّف عندها نابوكوف في حياته، فبعد رحيل أسرته عن روسيا، توجَّه نابوكوف إلى إنجلترا حيث التحق بجامعة كمبردج العريقة ليدرس بها الآداب الفرنسية والروسية، وتخرَّج فيها عام ١٩٢٣. وانضم بعد ذلك إلى أسرته في برلين، التي كان بها جالية روسية كبيرة حيث بدأ يكتب دراسات أدبية تحت اسم «سيرين»، بالإضافة إلى قيامه بأعمال جانبية أخرى كيما يُحسِّن بها دخله، وتزوج نابوكوف عام ١٩٢٥ من «فيرا»، وأنجبَا ابنًا وحيدًا هو ديمتري، الذي سيتولَّى بعد ذلك الإشراف على تراث أبيه بعد وفاته. وقد اضطر الكاتب وأسرته إلى الرحيل من ألمانيا بعد سيطرة النازيِّين على البلاد، فتوجهوا إلى باريس حيث كتب نابوكوف أول رواية له باللغة الإنجليزية مباشرة، بعنوان «الحياة الحقيقية لسباستيان نايت». وقد شجع اختيار الكاتب للإنجليزية لغةً لإنتاجه المقبل على هجرته بعد ذلك إلى الولايات المتحدة عام ١٩٤٠، في أعقاب سقوط فرنسا تحت الاحتلال النازي. وقد حصل هو وزوجته على الجنسية الأمريكية عام ١٩٤٥. وفي أمريكا، بالإضافة إلى نشاطه الأدبي الواسع تأليفًا وترجمة، التحق في عام ١٩٤٢ بالعمل مدرِّسًا للأدب الروسي في كلية «ولزلي» بولاية ماساشوستس؛ حيث ظل فيها إلى أن اختارَته جامعة كورنيل بولاية نيويورك عام ١٩٤٨ أستاذًا للآداب الروسية والأوروبية بها. ومن هنا أتى احتفال الجامعة في خريف العام الماضي بمرور خمسين عامًا على التحاقه للتدريس بها. وقد تركز الاحتفال في إقامة «مهرجان نابوكوفي»، شارك فيه أكثر من ٣٠ من الأكاديميين المتخصصين في أدب نابوكوف، ألقَوا محاضراتٍ عن الجوانب المختلفة من أدبه وإنتاجه، حضرها عددٌ كبير من المهتمِّين بالأدب والنقد والرواية. وتم أيضًا تقديم حوار مسرحي بين نابوكوف وإدموند ويلسون الناقد الأمريكي المشهور، الذي ساعد نابوكوف على نشرِ إنتاجه الأول في أمريكا، وكان من أخلص أصدقائه قبل أن يفترَ الودُّ بينهما في آخر أعوامهما. والحوار مسرحة للخطابات العديدة التي تبادلها الكاتبان، وقام بدور نابوكوف ابنُه ديمتري، الذي شارك على نحوٍ نشطٍ في كافة الاحتفالات. وصاحب تلك الأنشطة معرضٌ للمخطوطات والكتب النادرة، التي لدى الجامعة عن نابوكوف.

ولوليتا هي الرواية التي شهرَت اسم نابوكوف، وأدخلَته إلى عالم الأضواء والثراء، رغم أنها وُلدت ولادةً عسرة. فبعد أن أتمَّها مؤلِّفُها في ١٩٥٤، لم يجد أيَّ ناشر لها، حتى إنه فكَّر في أن يحرقَها لولا أن زوجته منعَته من ذلك. ولمَّا عرضَت مطبعة أوليمبيا الشهيرة أن تطبعَها في باريس، رحَّب بذلك دون أن يعلمَ أنها متخصصة في طباعة الكتب الإيروسية، وإن كانت بعض منشوراتها قد استحالَت الآن إلى كلاسيات أدبية. وكان هذا أيضًا هو مصير لوليتا؛ فرغم أن صدورها بالإنجليزية في باريس قد قوبل بالصمت، إلا أن تقييمَ الروائي الإنجليزي المعروف «جراهام جرين» لها بأنها واحدةٌ من أفضل ثلاث روايات لعام ١٩٥٦، أخرجها من دائرة كُتُب الإثارة وسلَّط عليها أضواء النقَّاد الجادين، وعندما نُشرت الرواية أخيرًا في أمريكا عام ١٩٥٨، لم تلقَ أيَّ مشاكل قانونية، بل قابلها القُرَّاء والنقاد بحماس شديد رفع من شأن مبيعاتها إلى الحد الذي قرر نابوكوف معه أن يستقيلَ من عمله في الجامعة، وأن يتفرغ للكتابة في مدينة مونترو بسويسرا.

وأهم ما يركِّز عليه النقاد المتحمسون لرواية لوليتا هو الأسلوب اللغوي الرفيع الذي كتب به نابوكوف روايتَه، المليء بالعديد من الإشارات والإحالات الأدبية والتاريخية، والبراعة الفنية التي رسم بها شخصيَّتَي همبرت ولوليتا بطلَي الرواية الرئيسيَّين، بالإضافة إلى الغور النفسي العميق الذي صوَّر به خواطر وأحلام وأوهام هاتين الشخصيَّتَين الفريدتَين، وهم يدفعون تهمةَ الإباحية عن مضمون الرواية، بقولهم إن الكثير يغفلون عن تصوير الرواية لأصل العقدة النفسية التي تسبَّبَت في هيام بطلها المرضيِّ بلوليتا الصغيرة، وهي الموت المفاجئ لحبيبته الصغيرة «أنابيل» حينما كانت في الخامسة عشرة من عمره، وهي العقدة التي لم تُفارقه، والتي جعلَته يبحث فيمن حوله عن صورة حبيبته التي انتُزعت منه انتزاعًا عنيفًا.

ولقد قال ديمتري نابوكوف، الابن، إنه بعد مرور عشر سنوات على وفاة أيِّ كاتب، إما أن يهويَ إلى قاع النسيان، أو أن يثبتَ في مكانه، أو يصعدَ حثيثًا إلى سمت مجمع الخالدين. ويبدو أن ما حدث الآن لنابوكوف ولوليتا، دليل على أنه من بين الفئة الثالثة المحظوظة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤