الفصل السادس

صناعة ابن الرومي

قولا لمن عاب شعر مادحه
أما ترى كيف رُكِّب الشجرُ؟
رُكِّب فيه اللحاء والخشب الـ
ـيابس والشوك دونه الثمرُ
وكان أَولى بأن يُهذَّب ما
يخلق رب الأرباب لا البشرُ

يتفق لقارئ الشعر أن يعرض له في مطالعاته بيت غير منسوب إلى صاحبه، فينسبه إلى شاعر معروف عنده، ثم يجد بعد البحث أن فراسته قد صدقت، وأن البيت لذلك الشاعر بغير خلاف، ولكنه قد يعلم السبب الذي دعاه إلى نسبة البيت إليه، وقد يتعذر عليه أن يرد ظنه إلى سبب غير البداهة التي لا تعلل؛ لأن سمات الشعراء التي تبدو في قصائدهم وأبياتهم بعضها ظاهر يسهل تتبعه والاستدلال عليه، وبعضها خفي يجري في الكلام مجرى الملامح في الوجوه، تعرفها وتعرف بها الأبناء والآباء، ولكنك لا تردها إلى سبب محدود.

وليس كل الشعراء ذوي ملامح واضحة يعرفهم بها القراء، ففي العربية مثلًا ألوفٌ من الشعراء لا تعد منهم مائة بين أصحاب الملامح الواضحة التي تعرفهم بها في القصيدة الواحدة، بله البيت الواحد، وفي طليعة هؤلاء من الشعراء المحدثين — غير ابن الرومي — المتنبي والمعري والشريف الرضي، والبقية درجات في هذه الخصلة تعرفهم بسهولة حينًا، ولا تعرفهم حينًا إلا بعد جهد وتحقيق.

بعض هذه الملامح أو العلامات نفسيٌّ لا نعود إليه في هذا الفصل؛ لأنه سبق في مواضع متفرقة من الفصول المتقدمة، وبعضه لفظي يرجع إلى الصياغة وأسلوب التعبير والنزعة الفنية التي ينفرد بها الشاعر بين الشعراء، وإن تساووا في الإجادة، كما ينفرد الجميل بين ذوي الجمال بسِمَةٍ خاصة تستحب فيه، وإن تساووا كلهم في الجمال. وهذا الذي نعنيه بالصناعة، ونتمُّ به مباحث هذا الكتاب.

فالعلامات البارزة في قصائد ابن الرومي هي طول نفسه، وشدة استقصائه المعنى واسترساله فيه، وبهذا الاسترسال خرج عن سنة النظَّامين الذين جعلوا البيت وحدة النظم، وجعلوا القصيدة أبياتًا متفرقة يضمها سمط واحد قل أن يطرد فيه المعنى إلى عدة أبيات، وقل أن يتوالى فيه النسق تواليًا يستعصي على التقديم والتأخير، والتبديل والتحوير، فخالف ابن الرومي هذه السنة، وجعل القصيدة «كلًّا» واحدًا لا يتم إلا بتمام المعنى الذي أراده على النحو الذي نحاه؛ فقصائده «موضوعات» كاملة تقبل العناوين، وتنحصر فيها الأغراض، ولا تنتهي حتى ينتهي مؤداها، وتفرغ جميع جوانبها وأطرافها، ولو خسر في سبيل ذلك اللفظ والفصاحة.

ولا ريب أن هذا الاستقصاء كان سببًا من أسباب الإطالة، ولكنه لم يكن كل السبب؛ لأن ابن الرومي كان يطيل القصائد حفاوة بالممدوحين، وإكبارًا لشأنهم، وإظهارًا لعنايته بإرضائهم، وكان يرى فرضًا عليه للممدوح أن يستصعب ولا يستسهل، فإذا طرق القوافي السهلة اعتذر من تقصيره، كما قال لعبيد الله بن عبد الله من قصيدة نيفت على سبعين ومائتي بيت:

كل مدح في غيركم فمثاب
ما أثيبت عبادة الأوثان
هاكها، لا أقول ذاك مدلًّا
قول ذي نخوة بها وامتنان
بين أثنائها مديح نفيس
من لبوس الملوك والفرسان
ذو قواف كأنها حلق الأصد
اغ في البيض من خدود الغواني
راق معنى ورق لفظًا فيحكي
رائق الخمر في رقيق الصحان
إن تكن سهلة القوافي فليست
في المعاني بسهلة الوجدان
فابتذلها في يوم لهوك واعلم
أنها بعدُ من ثياب الصيان
وابسط العذر في ارتخاص القوافي
واتباعي سهولة الأوزان
أنت ألجأتني إلى ما تراه
بالذي فيك من فنون المعاني
أي وزن وأي حرف رويٍّ
لهما بالمديح فيك يدان
ضاق عن مأثراتك الشعر إلا
فاعلات مفاعل فاعلان
ليس مدحٌ يفي بمدحك إلا
صلوات المليك في القرآن
لا ولا حمد كفء نعماك إلا
حمد سبعٍ من الكتاب مثان

أو كما قال لأبي القاسم التوزي الشطرنجي من قصيدة ناهزت مائة وخمسين بيتًا:

ولك العذر مثل قافيتي فيـ
ـك اتساعًا فإنها كالفضاء
وتأمل فإنها ألف المـ
ـد لها مدة بغير انتهاء

وله رأي في إطالة الشعراء وإطالته يقول فيه:

كل امرئ مدح امرأً لنواله
وأطال فيه فقد أراد هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
عند الورود لما أطال رشاءه
غيري فإني لا أطيل مدائحي
إلا لأوفي من مدحت ثناءه
وأعد ظلمًا أن أقل مديحه
عمدًا وأسخط إن أقل عطاءه

على أنه كان يستريح إلى الإطالة كما يستريح الجواد الكريم إلى سعة المضمار؛ لأنها تشبه لذة القدرة على النظم، والتمكن من اللغة، وتنفي ظِنَّة العُجمة التي كانوا يعيرونه بها، ويتهمونه في شعره من أجلها. فلِغبْطة في نفسه — لا لإرضاء الممدوح وحده — كان يركب القوافي الصعبة، ويتعمد رياضة الحروف العصية، فيذل له أعصاها حتى الثاء والخاء والذال والزاي والظاء والغين والهاء، وغيرها من الحروف النادرة في الروي الناقصة في شعر أقدر الشعراء، وكانت فيه غيرة القول، ونخوة المنافسة، وهمة الوثوب إلى الغاية، فكان هذا الجواد الكريم يأرن للسباق كلما مرت به خيل السباق، فإذا سمع الكلام الجيد لم يبرح أن يعارضه بكلام من بحره وقافيته ومعناه، ولم ينس أن يجرب قوته إلى جانب كل قوة، ويحرك شاعريته إلى جانب كل شاعرية؛ ففي ديوانه معارضات كثيرة للنابغة وأبي مسلم وأبي نواس والحمدوني ودعبل وغيرهم ممن تروى لهم الأبيات المستحسنة والحكم المأثورة، ومثل هذا لا يقصر في المضمار إذا نشطت القريحة، وتفتحت أشواط الكلام.

وحبه هذا للمعارضة وتجربة القدرة هو الذي كان يدعو إلى النظم في هذا المعنى أو ذاك من المعاني الطريفة التي كانت تروقه في شعر بعض الشعراء؛ كالمتأنق المغرم باللبس الجميل يستملح الكساء على لابسه، فيود لو يكون له كساء من طرازه وصنفه، ولكنه لا يفكر في سرقته واغتصابه، مثال ذلك: قال أبو تمام:

غرَّبته العُلى على كثرة الأهـ
ـل فأضحى في الأقربين جنيبا

فأعجب هذا المعنى ابن الرومي فقال فيه:

رب أكرومة له لم نخلها
قبله في الطباع والتركيب
غربته الخلائق الزهر في النا
س وما أوحشته بالتغريب

وقال:

أعاذك أنس المجد من كل وحشة
فإنك في هذا الأنام غريب

وقال:

فآنس الله نفسًا أنت صاحبها
فإنها من معاليها بمغترب
… … … … …
… … … … …
لولا عجائب لطف الله ما نبتت
تلك الفضائل في لحم ولا عصب

وقال:

وحيدٌ فريد في المحامد آنس
بوحدته مستأثر بالفضائل

وقال:

الله يكلؤه والله يؤنسه
فإنه بمعاليه قد اغتربا

ويروي صاحب الأغاني بيتًا آخر نظر إليه ابن الرومي مثل هذه النظرة؛ إذ يقول إبراهيم بن العباس:

لفضل بن سهل يد
تقاصر عنها الأمل
فباطنها للندى
وظاهرها للقبل

فيقول ابن الرومي:

أصبحت بين خصاصة ومذلة
والمرء بينهما يموت هزيلا
فامدد إليَّ يدًا تعود بطنها
بذل النوال وظهرها التقبيلا

وجاء في الجزء الثالث من زهر الآداب أن الحسين بن الضحاك أنشد أبا نواس قوله:

كأنما نصب كأسه قمر
يكرع في بعض أنجم الفلك

فنعر نعرة منكرة، فقال له الحسين: ما لك؟ فقد رُعْتني! قال: هذا المعنى أنا أحق به منك، ولكن سترى لمن يروى، ثم أنشده بعد أيام:

إذا عب فيها شارب القوم خلته
يُقبِّل في داجٍ من الليل كوكبا

قال صاحب زهر الآداب: وقال ابن الرومي فكأن أحسن منهما:

أبصرته والكأس بين فم
منه وبين أنامل خمس
فكأنها وكأن شاربها
قمر يقبل عارض الشمس

فهذه المآخذ القليلة جدًّا في شعره تعاب، ولكنها أخلق بأن تعد من المعارضة والمسابقة، ولا تعد من السرقة والغصب، أو هي على كل حال ليست من سرقة المعدم الذي لا رزق له إلا رزق غيره؛ لأنها لو سقطت من شعره جملة، وسقط معها عشرة أضعافها لما نقصت ثروته، ولا مُست قدرته على التوليد والابتكار أقل مساس، ولو جازت المقاصة في هذا الباب لكان ابن الرومي دائنًا طالبًا، ولم يكن مدينًا مطلوبًا؛ لأن ما أخذ من الشعراء أقل بكثير مما أخذه منه الشعراء.

وهناك المعاني الشائعة والنكات الشعبية العامة التي ليست لأحد، ولكنها لكل أحد؛ أي التي يأخذ منها كل إنسان، ويضيف إليها كل إنسان، أو التي هي كالهواء يتساوى منه نصيب من يشاء، فمن هذه المعاني الشائعة حتى في هذا الجيل، وحتى بين الأميين الذين لا يقرءون الشعر والأدب، أن اللحية تشبه بالمخلاة، وينسب إلى سعيد بن وهب في كتاب الوزراء والكتاب أنه قال في قصة لا محل لذكرها هنا:

قل لمن رام بجهل
مدخل الظبي الغرير
بعدما علَّق في خد
يه مخلاة الشعير
ليته يدخل إن جا
ء من الباب الكبير

وفي كنايته عن اللحية «بمخلاة الشعير» على هذه الصيغة ما يفيد أن النكتة «معهودة»، وأن الإشارة إليها على هذا النحو غمزة مفهومة، فمن الخطل في النقد أن يقال: إن ابن الرومي عمد إلى بيت سعيد بن وهب فسرقه حين قال:

علَّق الله في عِذَاريك مخلا
ة ولكنها بغير شعير

فإن سعيد بن وهب وابن الرومي في هذا الاقتباس يستويان، ويزيد ابن الرومي بتصرف جديد في المعنى، وهو أن المخلاة فارغة.

وقد يلحق بهذا قول صاحب الصناعتين بعدما أورد البيتين الآتيين مثلًا للمبالغة في الهجاء:

يقتر عيسى على نفسه
وليس بباق ولا خالد
فلو يستطيع لتقتيره
تنفس من منخر واحد

فهو يقول: «والناس يظنون أن ابن الرومي ابتكر هذا المعنى، وإنما أخذه مما حكاه أبو عثمان … أن بعضهم قبر إحدى عينيه وقال: إن النظر بهما في زمان واحد إسراف.» فصاحب الصناعتين أصاب حين نفى ابتكار ابن الرومي للمعنى، ولكن من تراه أولى منه بفضل الابتكار؟ ولقد كان ابن الرومي يخطئ لو أنه عدل عن نظم معناه هذا لأن أبا عثمان سبقه بتلك الحكاية، فحسبه منه أنه تصرف فيه، وأنه مسح المبالغة عنه؛ لأنه لم يقل: إن «عيسى» يتنفس من منخر واحد، ولكنه قال: إنه لو استطاع لفعل!

لكن الحذلقة التي لا يقاس إليها شيء من هذا هي زعم بعض النقاد أن ابن الرومي سرق البيتين اللذين أنشأهما قبيل وفاته؛ وهما:

غلط الطبيب عليَّ غلطة مورد
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلحون الطبيب، وإنما
خطأ الطبيب إصابة المقدار

فأبو عبد الله بن عبدوس الجهشياري صاحب «كتاب الوزراء والكتاب» يروي عن علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — أنه قال: «إذا نقصت المدة كان الهلاك في العدة.» ثم يزعم أن ابن الرومي سرق البيتين من هذه الكلمة، وصاحب زهر الآداب يزعم أنه أخذهما من يحيى بن خالد حين «دخل على الرشيد فأخبر أنه مشغول فرجع، فبعث إليه الرشيد: خنتني فاتهمتني، فقال: إذا نقصت المدة كان الحتف في الحيلة، والله ما انصرفت إلا تخفيفًا.»

ولا نظن أن عصرًا مضى من عصور الإسلام خلا من أناس يؤمنون بأن الحذر لا يغني من القدر، أو يقول عامتهم كما يقول العامة في زماننا: «وقت القضا يعمى البصر.» فقول ابن الرومي: إن «خطأ الطبيب إصابة المقدار» إنما هو عقيدته لا يزعم أحد أنه سرقها، إلا إذا زعم أن المسلم في هذا العصر يسرق عقائده من المسلمين في العصور السابقة! ثم يبقى بعد ذلك أن قوله: «خطأ الطبيب إصابة المقدار.» هو أبلغ تعبير جديد عن ذلك المعنى القديم. وما كان النقاد ليتورطوا في مثل هذا النقد لولا أن التعسف في إظهار السرقات كان في زمن من الأزمان — أو في زمن الجمع والتأليف — آيتهم على سعة الرواية والعلم بأقدار الشعراء.

•••

وتلاحظ في صناعة ابن الرومي لازمة الأفعال المزيدة والمشتقات التي يستخدم منها من جميع الصيغ والأوزان: فأسماء الفاعل والمفعول والزمان والمكان، وصيغ التفضيل والمبالغة والصفات المشبهة والمصادر تكثر في شعره كثرة لم نلاحظها في شعر غيره، ونحسب أن الإفراط في استخدام المشتقات والأفعال المزيدة هو الوسيلة التي لا بد منها للشاعر العربي الذي يريد أن يتناول المعنى من جميع نواحيه، ويتدرج به في مختلف درجاته؛ إذ ليس في اللغة العربية ظروف كالظروف التي يشتقها الإفرنج من معظم الصفات والأسماء بإضافة صغيرة في أول الكلمة أو في آخرها فتدل على المعنى المقصود، وتدل كذلك على اختلاف الدرجة والقوة في أداء ذلك المعنى؛ فإذا أراد الشاعر العربي أن يلتفت إلى هذه الفروق، فلا بد له من الاستعانة على ذلك بالمشتقات والأفعال المزيدة كما كان يفعل ابن الرومي، إلا أنه كان يسرف في جمعها معًا حتى تنبو بها الأذن في بعض الأبيات كقوله:

صاغة صوَّاغة صيغًا
بدعًا لم تلق في خلد

أو قوله:

أبصر بيضاء في القذال فلا
نفرٌ كنفر رأيته نفره

أو قوله:

يترك بالحول حوَّل حولها
وهو سواء وموق مائقها

أو قوله:

قلت: إن تغلبوا بغالب مغلو
ب فحسبي بغالب الغلاب

وهي ركاكة منه كان ينساها في استطراده، وربما كان يهونها عليه وسواسه؛ لأن طبيعة الموسوس لا تنفر من التكرار كما تنفر منه سائر الطبائع، على أنه كان يجمع بعض المشتقات والحروف المتشابهة المخارج فتساغ — وقد تستحسن — في أصعب القوافي، كما قال في الجيمية:

سلام وريحان وروح ورحمة
عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت ربه
يرف عليه الأقحوان المفلج

فإن للراء والحاء راحة في القلب تزداد بالتكرار، وتمهد لما بعدها من الظل الممدود، والتضعيف المقبول في هذه القافية العصية، أو كما قال من قافية الخاء:

يا صارخًا في جموع ليس تصرخه
للظالمين غدًا في النار مصطرخ

أو من قافية الفاء:

ومنعم كالماء يشفي ذا الصدى
كشفائه ويشف مثل شفيفه

ويوقعه الاستطراد — ولك أن تقول: الاستغراق في المعنى — تارة في إهمال اللفظ، وتارة أخرى في الأساليب النثرية التي لا ينفسح غيرها للإسهاب والإطناب والتفصيل والتفريع والمراجعة والاستدراك، فينظم في هذه الحالة وكأنه ينثر، إلا أنه لا يخلو من الشاعرية، ولا يسف إلى طبقة «المتن» المنظوم و«الألفيات» التي ليس فيها من الشعر إلا أنها موزونة مقفاة.

ومع هذا تستطيع أن تقول: إنه لم يجعل اللفظ شغلًا شاغلًا في صناعته، ولم يحفل به إلا لأداء المعنى الذي يريده، فيخيل إليك وأنت تطرد في قراءته أنه يرتجل القصائد ارتجالًا، ويفيض بها فيضًا لمطاوعة لفظه وغزارة مدده، فهو يجيد في تركيب أبياته وإحكام قوافيه، ولكنه لا ينتزع الإجادة بالجهد والترويض، وما عليه إلا أن يعني ما يقول، فيقول ما يعني بغير إخلال ولا التواء، وما عليه إلا أن يرسم فيجيء البناء على ما رسم، وتقوم الأركان على ما دعم.

ومن الشعراء من تلمح له الكلمة في قصيدة وكأنها تمن على الشاعر بفضل وتستطيل بدالة؛ لأنها أطاعته ولبت رجاءه، ورضيت بمقامها في حظيرته، فإذا بحثت عن أمثال هذه المفردات والتراكيب في قصائد ابن الرومي، فلست واجدها هناك؛ لأن كلماته تقبل إلى مواضعها، وكأنها تعلم أن الفضل في مقامها للشاعر لا لها، وأن الدالة في اختيارها له لا عليه، ومن ثم لم يشغل باللفظ، ولم يبد على معناه أثر الجهد فيه، وبهذا سلم من لعب الجناس اللفظي والمحسنات المموهة مع أنه نشأ في العصر الذي نشأت فيه هذه المحسنات. وعجيب هذا منه وهو المتطير الذي كان يلقي باله إلى أقل تجانس في الكلمات، وأضعف تشابه في الحروف؛ ليستخرج منه النذر والبشائر، ويعلق عليه القنوط والأمل، ولكنه عجيب في الظاهر دون الحقيقة؛ لأنه إنما كان يبالي بالكلمات حين كان يأخذها مأخذ المتطيرين، وهي حينئذ لها معنى عنده، ومن ورائها نبأ، وفيها شعور، فليست هي خواء ولا تمويهًا، ولا بهرجًا زائفًا كبهرج العابثين والمزوقين، إنما كان يجانس لمعنًى يراه هو، ويراه من يتطير مثله، ولا يجانس لتزويق فارغ ولهو سخيف، فإذا لم يكن متطيرًا فلا جناس ولا اكتراث باللفظ إلا لما فيه من معنى ظاهر مستقيم، وما له من فصاحة ونضارة، أو يتفق له جناس اللفظ كما كان يتفق للشاعر الجاهلي والشاعر المخضرم قبل عهد التنميق والصناعة، فلا غرابة في أن نجد له أو لشاعر مخضرم مثل هذا البيت:

فيسبيك بالسحر الذي في جفونه
ويصبيك بالسحر الذي هو نافثه

أو مثل هذا البيت:

تصيبك إن حكمت وإن طلبنا
لديك العرف كنت حيًا تصوب

أو مثل هذا البيت:

ليس ينفك طيرها في اصطحاب
تحت أظلال أيكها واصطخاب

وهكذا كان في كل تجنيسه الذي لا تعسف فيه، وليس هو بالكثير البارز في ديوانه الكبير، فإذا جنس في غير ذلك فهو عابث متعمد للعبث، وليس بملفق محسنات ولا بطالب تزويق كما قال:

لو تلفَّفت في كساء الكسائي
وتلبَّست فروة الفَرَّاء
وتخللت بالخليل وأضحى
سيبويه لديك رهن سباء
وتكوَّنت من سواد أبي الأسـ
ـود شخصًا يُكنَى أبا السوداء
لأبى الله أن يُعِدك أهل الـ
ـعلم إلا من جملة الأغبياء

فالذي يقرؤه هنا لا يخطر له بتة أنه يزوق ويزخرف، ولا يشك لحظة في أنه يعبث ويهزل، وأنه لا يحاول أن يبيع الناس بهرجًا بثمن ذهب، وعرضًا بثمن جوهر.

أما ما يستشهد به البديعيون من كلامه كقوله في غير الجناس:

آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم
في الحادثات إذا دَجَونَ نجوم
فيها معالم للهدى ومصابح
تجلو الدجى والأخريات رجوم

فهو أقرب إلى التقسيم الفلسفي منه إلى محسنات اللفظ وترصيعاته.

وغني عن القول أننا لم نقصد بما تقدم أن ابن الرومي كان على سذاجة الجاهليين والمخضرمين في صوغ الشعر، وفهم فنون البلاغة، فإن هؤلاء كانوا يأتون بالقول البليغ ولا يعرفون علته، وكانوا يطربون للشعر ولا يتوخون مذاهب نقده، وليس في وسع شاعر عباسي أن يكون كذلك بعدما أولع القوم بالبحث في جميع العلل والأسباب، واصطلحوا في البلاغة على الحدود والأسماء، وخرجوا من حالة «العفو» إلى حالة «الوعي»، ومن سهو الجنة التي كانوا غافلين فيها عن النعيم والعذاب والخجل والعيب إلى يقظة الدنيا التي يؤخذون فيها بالتكاليف، ويدركون فيها المحاسن والعيوب، وابن الرومي أولى ألا يكون على تلك السذاجة الجاهلية أو المخضرمة، وألا يسهو عن محاسن كلامه وعيوبه، وهو الذي لم يسهُ قط عن شيء فيه، ولم يكن له من همٍّ إلا أن يحصي خطرات ذهنه وخلجات فؤاده، فهو شاعر ناقد، وبليغ له مذهب في البلاغة، ورأي في المعاني، وحجة في الاختيار، ونوادره في ذلك قليلة، ولكن النادرة التي ننقلها بعدُ كافية للإبانة عن وجود هذه الملكة فيه، وعملها في نقد كلامه ونقد كلام غيره؛ قيل: إنه سمع هذه الأبيات:

أيها الظبي المليح الـ
ـقد مجدول مهفهف
أنا من ميلك في مشـ
ـيك مرعوب مخوَّف
لا تميلن فإني
خائف أن تتقصف
وهي لابن أبي فنن،١ فقال في البيت الآخر: إنما أراد منه أن يميل من لينه ونعمة أعضائه، فأسرف حتى أخطأ، وذلك أنه جعل اللين المفرط يتقصف، وإنما كان ينبغي أن يقول: لو عقد لانعقد من لينه، فضلًا عن أن يميل وهو سليم من التقصف، ثم أسرع إلى معارضة القائل بهذين البيتين:
أيها القائل: إني
خائف أن تتقصف
ليس هذا الوصف إلا
وصف مصلوب مجفف

فملكة الابتكار في ابن الرومي كانت مصحوبة بملكة الانتقاد، وفصاحته كانت فصاحة الذي يحاسب نفسه ويحمل تكليفه، لا فصاحة غير المكلفين في جنة السهو والتوفيق!

كذلك لا يفهم من سهولة شعره وتدفُّقه، وأخذ بعضه بأطراف بعض أنه كان قليل التهذيب له والرجعة إليه، فربما فرغ من القصيدة وأفضى بها إلى ممدوحه، ثم عاد إلى تنقيحها والزيادة عليها، وردها مرة أخرى، كما فعل في المهرجانية التي تتبعها، وأطالها وكتب في ذلك يعتذر إلى عبيد الله بن عبد الله.

قصيدة كرَّها مُثقِّفُها
عليك إن ثقفت على مهل
أعجلها الوقت عن رياضتها
فأقبلت ريضًا على عجل
… … … … …
… … … … …
لم أحتشم كرَّها عليك ولا
سدِّيَ منها مواضع الخلل
لأنني عالمٌ بأنك لا
تعتب فيما أصلحت من عمل
وليس مثلي ينام عن خلل
في مدح ممدوحه ولا زلل

على أنه — لطول رياضة الكلام الموزون — قد أسلست له طريقة في النظم يقسر بها المعنى على الظهور، ولو اضطر إلى الحشو واللف والاعتراض، فلا تشعر إلا وقد استدار له البيت على أحسن تركيب، وأصبح الحشو في يديه حسنًا يزيد المعنى ولا يعيبه؛ فإذا أراد أن يقول: لا تكذب الأخبار بالهوى، ولم يساعده الوزن، قال:

لا تكن بالهوى تكذب بالأخبار
ر حتى تهين ما لا يهان

فأكسب المعنى قوة لم تكن له في عبارته البسيطة؛ لأنه حين صاغ البيت هذه الصياغة كأنما ينهى عن «خلق» التكذيب لا عن «فعل» التكذيب مرة واحدة أو مرات، فمعنى «لا تكن مكذبًا الأخبار بالهوى» غير معنى «لا تكذب الأخبار بالهوى»؛ لأن العبارة الأولى: تفيد زيادة في النفي لا تدخل في مدلول العبارة الثانية؛ تفيد النهي عن «طبيعة» التكذيب، أو عن أن «يكون» الإنسان مكذبًا، ولا تقتصر على استنكار التكذيب في هذه الحادثة أو في تلك.

وإذا أراد أن يقول: إن البوم أفشل الطير، وحال الوزن دون هذا المعنى البسيط قال:

واعتبر أن أفشل الطير في الطير
وفينا كروسات البوم

فبلغ في إظهار فشل البومة ما لا تبلغه العبارة الأولى؛ لأنه بين فشلها بالنظر إلى مقاييس الطير، وبالنظر إلى مقاييس بني الإنسان، فهي فاشلة كما يراها نظائرها في عالم الطيور، وفاشلة كما نراها نحن في عالمنا الإنساني، وذلك معنى لا تجده في قول من يقول: إن البومة أفشل الطوائر، وتلك كانت طريقته في الحشو «المبارك» المقبول، وفي تدوير النظم حتى يستدير له على أحسن تقويم.

•••

وقد كان ابن الرومي كأبناء عصره يقدم الغزل بين يدي مدحه ووصفه جريًا على سُنة لم يكن في ثقافة عصره ما يدعوه إلى استغرابها، والنظر في تنقيحها، إلا أنه يُعمل هذه السنة ويتصرف في تقديم الهجاء بالغزل، فلا يقصره على الوصف والمديح، فيخرج بذلك بعض الخروج من حكم التقليد والمحاكاة العمياء، ويختار لصناعته بعض الاختيار.

ألم تر أنني قبل الأهاجي
أقدم في أوائلها النسيبا
لتخرق في المسامع ثم يتلو
هجائي محرقًا يكوي القلوبا

وقد يتصرف غير هذا التصرف كما قال:

واشغل قريضك بالنسيب
وبالفكاهة والمزاح

كذلك كان يحكي أبناء عصره في تصعيب اللفظ وتعمد الغريب حين كان ينظم في الطرد، ووصف الأسد وما إليه؛ لأن الشعراء العباسيين جعلوا الطرد خاصة معرضًا للبداوة الشعرية، والفحولة العربية، فكانوا في ذلك على حد ما يقال عربًا أكثر من العرب، وجاهليين أكثر من الجاهليين.

أما لفظه من حيث هو صحيح وخطأ، فلفظ عالم بالنحو مطلع على شواهد العربية ولا سيما في القرآن، ومن هنا لم يذكر كلمة «أشياء» إلا ممنوعة من الصرف، وهي مصروفة في قول بعض القياسيين من النحاة؛ لأنها جمع شيء، فهي أفعال جمع فعل، وليست فعلاء مؤنث أفعل التي تمنع من الصرف، فمن المواضع التي وردت فيها الكلمة قوله: «حرمت بالمشيب أشياء حلت.» وقوله: «قبحًا لأشياء يأتي البحتري بها.» وقوله:

فيك أشياء لو وجدن قديمًا
نظمتها الملوك في التيجان

وقوله:

فيك أشياء من يواليك مسر
ور بها والعدو منها مغيظ

وقوله:

وإليك الشكاة منها ومن أشـ
ـياء تبتز ذا الحجا معقولهْ

وقوله:

يا حور ما للحبيب يفعل بي
أشياء لا يستحلها الحرج

وقوله:

وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول

وإنما تابع المفسرين في هذا ولم يتابع القياسيين من النحاة؛ لأن كلمة أشياء وردت في سورة المائدة ممنوعة من الصرف، إذ جاء في الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ بفتح الهمزة في أشياء، وتعليل المفسرين لذلك «أن أشياء هنا اسم جمع كطرفاء، غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء، وقيل: أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء كهين أو شيء كصديق فخفف.» وهذه المخالفة للنحاة القياسيين هي كما ترى أدل على العلم منها على الخطأ، فلم يكن ابن الرومي ممن يسهل وقوعهم في الخطأ النحوي، وإلا ظهر منه ذلك في مواضع شتى مع إطالته وإكثاره، وجرأته على تذليل النحو لمراده، ونقول: جرأته لأننا لا نعد من خطأ الجهل قوله:

دعني وإيَّا أبي علي
الأعور المعور الخبيث

إذ لا يخفى على المبتدئ أن «إيا» ضمير فصل يتصل بالضمائر الموصولة، ولا يتصل في الكلام الفصيح بالأسماء، فابن الرومي إذا وصل الضمير المفصول بالاسم لا يفعل ذلك جهلًا بالقاعدة التي يعلمها المبتدئون، وإنما يفعله وهو مجترئ عليه عالم بمكان هذه الكلمة من الخطأ والصواب. وعلى ذكر التجوز في صرف الممنوع ومنع المصروف نقول: إن ابن الرومي كان من أقل الشعراء تجوزًا في «عروضه»، وأكثرهم حرصًا على أوزانه، ولا بأس بأن نذكر له هنا بيتين قالهما في مرض وفاته، ورواهما عنه أبو عثمان الناجم؛ وهما:

أبا عثمان أنت قريع قومك
وجودك للعشيرة دون لومك
تمتع من أخيك، فما أراه
يراك ولا تراه بعد يومك

فقد ذكرهما المعري في رسالة الغفران، فعاب عليهما أنهما مقيدان وقال: «وما علمت أنه جاء عن الفصحاء هذا الوزن مقيدًا إلا في بيت واحد يتداوله رواة اللغة، والبيت:

كأن القوم عشوا لحم ضأن
فهم نعجون قد مالت طلاهم

وهذا البيت مؤسس، والذي قاله ابن الرومي من غير تأسيس.»

والحق أنه لا خلل في وزن البيتين من حيث العروض، وإنما كان المعري في نقده هذا أشبه بالفقهاء منه بالأدباء، ولو اختل البيتان أشد خلل لما قيست بهما صناعة ابن الرومي في جميع شعره؛ لأن المرء لا يقاس بنظم مرتجل يلقى به إلقاءً وهو يجود بنفسه.

•••

وقد تلاحظ على ابن الرومي تعبيرات كالتي تسمى في عصرنا هذا بالتعبيرات الإفرنجية في مثل البيت:

كما لو هجاكم شاعر حل قتله
كذاك فأوفوا مادحًا دية القتل

وقد يلاحظ ذلك في إكثاره الهتفات مثل قوله: «ضلة! ضلة»، «سوأة، سوأة»، و«في سبيل الشيطان منك نصيبي» إلى أشباه ذلك من اللفظات الكثيرة في تعبيرات اللغات الأوروبية، فيرد على الخاطر أنه كان لهذا يعرف الإغريقية ويتأثر بها في أسلوبه، أو يرد على الخاطر أن هذه التعبيرات من أثر العجمة في سليقته، والعادة في لسانه، ولكنها ملاحظة لا تستلزم هذه النتيجة، ولا نستطيع أن نعززها بملاحظات أخرى من قبيلها، ومن السهل جدًّا أن نقول: إن أمثال تلك التعبيرات القليلة سرت إلى ابن الرومي من دراسة الكتب المترجمة، ومعالجة التدليلات المنطقية في كلامه ومساجلاته، وإن الهتفات مألوفة فيمن كان له مزاج كمزاجه المتوفز، عربيًّا كان أو أعجميًّا بلا خلاف؛ ذلك أسهل من القول باللغة الأعجمية الذي استضعفناه فيما تقدم من الكلام على تعليم الرجل ومعلوماته.

•••

في أي باب من أبواب الشعر كان ابن الرومي يجيد خاصة؟

سؤال لا بد أن يخطر لنا في معرض الكلام على صناعته وأسلوبه، وأرى أن الكثيرين سيقولون — أو قد قالوا: إنه هو باب الهجاء؛ لأنه اشتهر به وشاع أنه مات بسببه، فلنعلم إذن أنهم مخطئون في هذا الحكم؛ لأن ابن الرومي كان يجيد في أبواب الشعر كلها على حد سواء، ويعطي قصائده جميعًا بمقدار واحد من عنايته وإتقانه.

وخذ مثلًا أقواله في الحكمة، وهي أقل ما اشتهر به، تجد له مئات من الأبيات التي تسير مسير الأمثال، وتخرج من عداد تلك الأفكار المطروقة التي يتفيهق بها من يحبون الاشتهار بالبيت الحكيم والمثل السائر، ولو أننا رجعنا إلى أبياته التي مرت بنا في هذا الكتاب لما ألفينا بينها تفاوتًا في الطبقة بين غرض وغرض، وباب وباب، وإنما اشتُهر بالهجاء لأن الهجاء أشهر وأسير؛ لا لأنه يجيد فيه أكثر من إجادته في المديح أو في الغزل أو الصفات، فلو أن الألسن تتساير بالوصف البارع كما تتساير بالهجاء اللاذع لغطى وصف ابن الرومي على هجائه؛ لكثرة ما قال وأجاد في الوصف حتى خلال قصائد الهجاء.

وأغرب من هذا الاستواء في طبقة القول أنك تقرأ الأبيات التي مرت بك في هذا الكتاب فتحسب أنها نظمت كلها في عمر واحد، ولا تدري أيها شعر الشباب وأيها شعر الكهولة والشيخوخة، إلا ما يندب فيه شبابه ويتبرم بسنه، فانظر مثلًا إلى الأبيات التالية:

قل لأيوب والكلام سجالُ
والجوابات ذات يوم تدالُ
اسكتوا بعدها فلا تذكروا الشؤ
م، حياءً، فأنتمُ الآجالُ
إن شؤمي فيما تقولون عزَّا
لٌ، ولكنَّ شؤمكم قتَّالُ
بالذي أدرك المؤيد منكم
وابن سعدان تُضرَب الأمثالُ
زُرْتموه والصالحاتُ عليه
مقبلاتٌ فأدبر الإقبالُ
حين درت له أفاويق دنيا
ه دلفتم له فكان الفصالُ
إن شؤمًا حلت به عقدة الملـ
ـك لشؤم تزول منه الجبالُ
ليس بدعًا من الحوادث أن يُعـ
ـزل والٍ وتخفق الآمالُ
إنما البدع أن تزول أمورٌ
لم يكن يهتدي إليها الزوالُ
كالذي حاق بالمؤيد منكم
بعدما نوطت به الآمالُ
ذلك الشؤم يا بني أم شيخ
يمكن القائلين فيه المقالُ
ذاك شؤم فيه سمام الأفاعي
ناجز النقد، ليس فيه مطالُ
ذاك شؤم كالسيل عفَّى على الفطـ
ـر جلال كما يكون الحلالُ
ذاك شؤم لو جاور البحر يومَيـ
ـنِ لأمسى وليس فيه بلالُ

فهذه قطعة نظمها في نحو الثلاثين من عمره؛ لأنها نظمت في نكبة «المؤيد»، فقابل بينها وبين القطعة التالية التي نظمها وهو في الخامسة والخمسين:

كبرت وفي خمس وخمسين مكبر
وشبت، فألحاظ ألمها عنك نُفَّر
إذا ما رأتك البيض صدت وربما
غدوت وطرف البيض نحوك أصور
وما ظلمتك الغانيات بصدها
وإن كان من أحكامها ما يجور
أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا
بعينيك عنك الشيب فالبيض أعذر
إذا شنئت عين الفتى وجه نفسه
فعين سواه بالشناءة أجدر

أو قابل بينهما وبين هذه القطعة التي نظمها قبيل وفاته على لسان العزير:

أيادي بني الجراح عندي كبيرة
وأكبر منها أنها لا تكدر
هم القوم ينسون الأيادي منهم
عليك، ولكن المواعيد تذكر
وإن كنت قد أهملت بعد رعايةٍ
وأغفلت حتى قيل: أشعث أغبر
وقلدتُ شغلًا ضرُّه لي معجَّلٌ
سريع، وأما نفعه فمؤخر
أروح وأغدو فيه أنصب عامل
وأصفره كفًّا، فكم أتصبر؟!
… … … … …
… … … … …
أيعطش أمثالي وواديك فائض
ويجدب أمثالي وواديك أخضر؟!
أبى ذاك أن الطول منك سجية
وأنك بيت الحمد بالطول تعمر
وأنك لم تؤثر على الحق لذةً
بحكم هوى، فالحق عندك مؤثر
وما زلت تختار الأمور بحكمة
فأفضلها الأمر الذي تتخير

فانظر حين تقرن هذه الأبيات بعضها ببعض هل ترى بينها من تفاوت في الصناعة، أو اختلاف في روح الشعر، ونسج الكلام، وطريقة التركيب، وتناول المفردات؟ فهي وغيرها من قصائده التي نظمت من العشرين إلى الستين طبقة واحدة من هذه الناحية، لا تستطيع أن تتحقق فيها مزية سن على سن، ولا فترة على فترة، وتعليل ذلك صعب في الشعراء المطبوعين غير ابن الرومي. أما هو فلا صعوبة في تعليل هذا الاستواء في تركيبه، والتشابه في روحه ونسجه؛ لأنه ينسج من غزل واحد وبضاعة واحدة، وهي الشعور الجديد أو شعور الطفولة الفنية التي لازمته في حياته من المبدأ إلى النهاية، فلم يتغير فيه إلا القليل بعدما درس نصيبه من اللغة والعلم، واستوفى مادته من الفن والصياغة، وكأنه الشجرة التي نضجت مبكرة، وبلغت تمامها، ورسخت في تربتها، فثمرتها اليوم كثمرتها بعد سنوات عشر أو بعد عشرين وثلاثين. ولا عيب في ذلك إلا أن تكون الثمرة بُسْرًا لا خير فيه. أما إذا كانت ثمرة جنية كأطيب الثمر في النضرة والحلاوة، فالتبكير إذن أصلح من التأخير، والبقاء على طبقة واحدة أحب وأكمل من التغيير.

فالكلمة الأولى والأخيرة في هذا العبقري النادر أنه كان شاعرًا في جميع حياته، حيًّا في جميع شعره، وأن الشعر كان لأناس غيره كساء عيد وحلة موسم، ولكنه كان له كساء كل يوم وساعة، بل كان له جسمًا لا تكون بغيره حياة.

خاتمة

بالكلام عن صناعة ابن الرومي تمت الصورة التي استخرجناها له من مجموعة شعره، ومتفرق أخباره، وحسبنا أن نتمم هذه الصورة لنكون قد بلغنا الغاية من وضع هذا الكتاب، وأقمنا — في عرض الطريق — أوضح الأدلة المحسوسة على وحدة المقاييس بين تعبيرات الشعر وتعبيرات الحياة. ونحسب أننا قد أقمنا هذا الدليل في وقت الحاجة إليه عند قراء الأدب الغربي بيننا قبل قراء الأدب العربي وحده بفرعيه من قديم وحديث؛ لأننا نعيش في عصر شاع فيه بين كثير من الأوروبيين أن الشعر شيء بمعزل عن خوالج الحياة، وأننا لا ينبغي أن ننتظر منه مطلبًا آخر غير الرونق والطلاوة، وما إلى ذلك من ظواهر قسامة لا تتجاوز البشرة إلى ما وراءها من قلوب ونفوس وضمائر.

وغير عجيب أن يشيع هذا الرأي الفائت بين الأوروبيين في العصر الذي نحن فيه، وهو عصر السآمة و«الفردية» وآداب الصالونات والمجالس، إذ ماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان قد سئم المثل العليا، وكذَّب بالأغراض الرفيعة، وفترت فيه قوة العقيدة؟ وماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان تفرض عليه «الفردية» أن يظل فردًا معزولًا بين أفراد معزولين؟ وماذا تنتظر من شعر يقرؤه إنسان أنيق لا يريد أن يسمع من جليسه في الصالون أو النادي أو القهوة إلا شقشقة لسان وأحاديث فراغ؟ إنك لا تنتظر من هذا الإنسان أن يتطلب في الشعر ما يتطلبه الإنسان الذي تنشط نفسه للعقيدة، ولو نشاط المكافحة والثوران، أو يطلبه الإنسان الذي تتصل بينه وبين الأحياء من حوله وشائج دم لا تزال تنقل منه إليهم كما تنقل إليه، أو يتطلبه الإنسان الذي يحس أن الكون مجال حياة وأسرار يولد فيه مخلوقًا حيًّا عريق الأصول في آباد ليس لها نهاية، لا عضوًا في «صالون»، أو جليسًا في قهوة، أو سميرًا في سهرات مجون.

كلا، إنك لا تنتظر من إنسان السآمة والفردية والصالون أن يقرأ شعرًا كالذي يقرؤه إنسان النشاط القلبي والوشائج الآدمية والكون الأبدي المستهول الوضوح والخفاء على السواء، فغير عجيب — كما قلنا — أن يشيع رأي أصحاب الرونق والطلاء في هذا العصر، وما بقي فيه للإنسان من مطلب عزيز متفق عليه غير مطلب الراحة الملساء والهدوء الناعم من مزعجات الجهاد.

فإذا كنا — مع استخراج صورة ابن الرومي من شعره — قد وفقنا لإظهار الوحدة العامة بين الشعر والحياة، أو بين الفن والحياة كلها، فذلك حسبنا من مقصد جدير بالالتفات، خليق أن يتقرر بيننا قبل أن يشيع في أذواقنا رأي السأم والأثرة وأناقة المتبطلين.

لكننا نرجو أن نكون قد وفقنا لإرضاء التاريخ إلى جانب إرضاء التصوير، وإرضاء الوحدة بين الشعر والحياة، وحسبنا في هذا أيضًا أننا سندع ترجمة ابن الرومي هنا خيرًا مما تسلمناها من شتات الماضي صحةً في الأخبار، ورجحانًا في الاحتمالات. ومن هذه الأخبار أخبار تتعلق بمولده ووفاته، وأخبار أخرى تتعلق بأخلاقه ومعيشته، ومنها أخبار تلقاها الناقلون بالتسليم وجرت في التراجم مجرى المقررات، ولا مصدر لها إلا خطأ عارض في طبع بعض التواريخ، كالخبر الذي ينقل عن ابن خلكان ويقال فيه: إن المتنبي روى عن ابن الرومي شعره، وبينهما ما بينهما من بعدي الزمان والمكان، فيأخذه الناقلون ويقبله منهم من يقبل، ويحار فيه من يحار، وإنما هو اسم «المسيبي» حرفه الطابعون إلى اسم «المتنبي»، فسرى الخطأ سريانه في الكتب الحديثة بلا شذوذ … وغير ذلك كثير ليس يغنينا في صدد هذه الخاتمة أن تحصيه، وما شاكله ونحا نحوه في جميع المصادر والمنقولات؛ لأننا نقصد إلى تصحيح ما لاح لنا خطؤه، ولا نقصد إلى إحصائه على المخلصين.

•••

وبعد فمن تمام التعريف بابن الرومي أن نختم كتابنا بمختارات له لم نعتمد فيها الدلالة التاريخية التي توخيناها في شواهد الفصول السابقة، ولا ريب أن هذه الشواهد معرض حسن تبدو فيه شاعرية المترجم في نواحٍ كثيرة منوعة، ولكننا نعتقد أن المختارات التي تُقرأ لذاتها لا لموقعها من الترجمة أحرى أن تتمم المعرفة بشاعريته من جميع نواحيها، وها هي أولاء تلك المختارات معروضة فيما يلي؛ لتدل على معدن شعره لا على أحسن ما فيه:

(١) الطبيعة والحياة

الربيع شباب الطبيعة

ضحك الربيع إلى بكى الديم
وغدا يسوي النبت بالقمم
ما بين أخضر لابسٍ كممًا
خضرًا، وأزهر غير ذي كمم
متلاحق الأطراف متسقٌ
فكأنه قد طُمَّ بالجلم٢
متبلج الضحوات مشرقها
متأرج الأسحار والعتم
تجد الوحوش به كفايتها
والطير فيه عتيدةُ الطعم
فظباؤه تضحى بمنتطح
وحمامه تضحى بمختصم
والروض في قطع الزبرجد والـ
ـياقوت تحت لآلئٍ تؤم
طلٌّ يرقرقه على ورقٍ
فكأنه دُرٌّ على لمم
حشد الربيع مع الربيع له
فغدا يهزز ثابت الجمم٣
والدولة الزهراء والزمن المز
هار حسبك شافيَيْ قرم
إن الربيع لكالشباب وإنْ
نَ الصيف يكسعه لكالهرم
أشقائق النعمان بين رُبى
نعمان! أنت محاسن النعم
غدت الشقائق وهي واصفةٌ
آلاء ذي الجبروت والعظم
ترفٌ لأبصار كحلن بها
ليرين كيف عجائب الحكم
شغلٌ تزيدك في النهار سنًا
وتضيء في محلولك الظلم
أعجب بها شعلًا على فحم
لم تشتعل في ذلك الفحم
وكأنما لمع السواد إلى
ما احمرَّ منها في ضُحَى الرَّهم٤
حدق العواشق وُسِّطت مقلًا
نهلت وعلت من دموع دم
هاتيك أو خيلان غاليةٍ
أضحت بها الوجنات في ذمم
يا للشقائق إنها قِسَمٌ
تزهى بها الأبصار في القسم
ما كان يُهدي مثلها تحفًا
إلا تطوَّل بارئ النسم

السحاب

متهللٌ زجلٌ، تحن رواعد
في حجزتيه، وتستطير بروق
سدت أوائله سبيل أواخر
لم يدر سائقهن كيف يسوق
فسجا، وأسعد حالبيه بدرةٍ
منه — سواعد ثروة وعروق
وتنفست فيه الصبا فتبجَّست
منه الكلى، فأديمه معقوق
حتى إذا قضيت لقيعان الملا
عنه حقوقٌ بعدهن حقوق
طفقت رواياه تجرُّ مزادها
فوق الربى، ومزادُها٥ مشقوق
وتضاحك الروض الكئيب لصوبه
حتى تفتق نوره المرتوق
وتنسَّمت نفحاؤه فكأنه
مسكٌ تضوَّع، فأرُه مفتوق
وتغرد المكاء فيه كأنه
طرب تعلل بالغناء مشوق

روضة

وروضة عذراء غير عانسةْ
جادت لها كل سماء راجسةْ
رائحة بالغيث أو مغالسة
فأصبحت من كل وشي لابسة
خضراء ما فيها خلاة يابسة
ضاحكة النوار غير عابسة
كأنها معشوقة مؤانسة
فيها شموس للبهار وارسة
كأنها جماجم الشمامسة
تروقك النورة منها الناكسة
بعين يقظى وبجيد ناعسة
لؤلؤة الطل عليها فارسة
وخُرم٦ في صيغة الطيالسة
يحكى الطواويس غَدتْ مطاوسة
كأنما تلك الفروع المائسة
تغمسها في اللازورد غامسة
وصفوةُ النعمان والقوابسة
من ناصع الحمرة ريًّا قالسة٧
تكاد تحت الظلمات الدامسة
تهوي إليها كل كف قابسة

النرجسي

يا حبذا النرجس ريحانة
لأنف مغبوقٍ ومصبوح
كأنه من طيب أرواحه
ركب من رَوحٍ ومن روح
يا حسنه في العين يا حسنه!
من لامحٍ للشرْب ملموح
كأنما الطلُّ على نوره
ماء عيون غير مسفوح

الهاجرة في الصحراء

وهاجرة بيضاء يعدي بياضها
سوادًا كأن الوجه منه محمَّمُ
أظلُّ إذا كافحتها وكأنني
بوهَّاجها دون اللثام ملثم
بديمومة لا ظل في صحصحانها
ولا ماء لكن قورُها٨ الدهر عُوَّم
ترى الآل فيها يلطم الآل مائجًا
وبارحُها المسموم للوجه ألطم

خابط الليل في الفيافي

وليلٍ — غشا ليلٌ من الدجن فوقه —
فليس لنجم في غواشيه منجم
عفا جلبُه آي الهدى من سمائه
وأعلامه من أرضه فهي طُسَّم
لبست دجاه الجون ثم هتكته
بوجناء ينميها غرير وشدقم٩
عذافرةٌ تنقض من كل زجرةٍ
كما انقض مردي١٠ المنجنيق الململم
يخوض عليها لجة الهول راكب
هو السيف إلا أنه لا يثلم
نجيبٌ من الفتيان فوق نجيبة
من العيس، في بهماء والليل أيهم
فريدين، يمضيها وتمضيه في الدجى
كسمراء يمضيها وتمضيه لهذم
يريها الهُدى حدسًا، وتنجو برحله
ودون الهدى سدٌّ من الليل مبهم
على ظهر مَرْت١١ ليس فيه معرج
ولكن مخبٌّ للركاب ومسعم١٢
ينوح به بومٌ وتعزف جِنَّة
فيعوي لها سيدٌ ويضبح سمسم١٣
يخال بها من رز هذا وهذه
إذا اختلف الصوتان عرسٌ ومأتم
تعسَّفته إما لخفض أناله
وإما سآم الخفض، والخفض يسأم

الأسفار

أذاقتني الأسفار ما كرَّه الغنى
إليَّ، وأغراني برفض المطالب
فأصبحت في الإثراء أزهد زاهدٍ
وإن كنت في الإثراء أرغب راغب
حريصًا جبانًا أشتهي ثم أنتهي
بلحظي جناب الرزق لحظ المراقب
ومن راح ذا حرصٍ وجبنٍ فإنه
فقير أتاه الفقر من كل جانب
تنازعني رغبٌ ورهبٌ كلاهما
قويٌّ وأعياني اطلاع المغايب
فقدمت رجلًا رغبةً في رغيبة
وأخَّرت رجلًا رهبة للمعاطب
أخاف على نفسي وأرجو مفازها
وأستار غيب الله دون العواقب
ألا من يريني غايتي قبل مذهبي!
ومن أين والغايات بعد المذاهب

سفر البر

ومن نكبةٍ لاقيتها بعد نكبةٍ
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكب
وصبري على الإقتار أيسرُ محملا
عليَّ من التغرير بعد التجارب
لقيت من البر التباريح بعدما
لقيت من البحر ابيضاض الذوائب
سقيتُ — على ريٍّ — به ألف مطرة
شغفت لبغضيها بحب المجادب
ولم أسقها، بل ساقها لمكيدتي
تحامق دهر جد بي كالملاعب
إلى الله أشكو سخف دهري؛ فإنه
يعابثني، مذ كنت، غير مطايب
أبى أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمت
برحلي أتاها بالغيوث السواكب
سقى الأرض من أجلي فأضحت مزلة
تمايل صاحيها تمايل شارب
لتعويق سيري أو دحوض مطيتي
وإخصاب مزورٍّ عن المجد ناكب
فملتُ إلى خان مرثٍّ بناؤه
مميل غريق الثوب لهفان لاغب
فلم ألق فيه مستراحًا لمُتعَب
ولا نُزُلًا، أيَّان ذاك لساغب؟
فما زلت في خوف وجوع ووحشةٍ
وفي سهر يستغرق الليل واصب
يؤرقني سقف كأني تحته
من الوكف تحت المدجنات الهواضب
تراه إذا ما الطيب أثقل متنه
تصر نواحيه صرير الجنادب
وكم خانٍ سفرٍ خانَ فانقض فوقهم
كما انقض صقر الدجن فوق الأرانب
ولم أنس ما لاقيت أيام صحوه
من الصرِّ فيه والثلوج الأشاهب
وما زال ضاحي البر يضرب أهله
بسوطيْ عذاب جامد بعد ذائب
فإن فاته قطرٌ وثلجٌ؛ فإنه
رهينٌ بسافٍ تارة وبحاصب
فذاك بلاء البر عندي شاتيًا
وكم لي من صيف به ذي مثالب!
ألا ربَّ نارٍ بالفضاء اصطليتها
من الضحِّ يودي لفحها بالحواجب
إذا ظلت البيداء تطفو إكامُها
وترسب في غمر من الآل ناضب
فدع عنك ذكر البر، إني رأيته
لمن خاف هول البحر شرَّ المهارب
كِلا نُزليه صيفه وشتاؤه
خلافٌ لما أهواه غير مصاقب
لهاث مميت تحت بيضاء سخنةٍ
وريٌّ مفيتٌ تحت أسحم صائب
يجف إذا ما الريق أصبح عاصبًا
ويغدق لي والريق ليس بعاصب
فيمنع مني الماء واللوح جاهد
ويغرقني والريُّ رطب المحالب
وما زال يبغيني الحتوف مواربًا،
يحوم على قتلي، وغير موارب
فطورًا يغاديني بلصٍّ مصلت
وطورًا يمسِّيني بورد الشوارب
إلى أن وقاني الله محذور شره
بعزته، والله أغلب غالب
فأفلت من ذؤبانه وأسوده
وخرَّابه إفلات أتوب تائب

السفر بحرًا بدجلة

وأما بلاء البحر عندي فإنه
طواني على روع من الروح واقب١٤
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بعضه
ولكنه من هوله غير ثائب
ولِمْ لا؟ ولو ألقيتُ فيه وصخرة
لوافيت منه القعر أول راسب
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص والمضعوف غير مغالب
فأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب!
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على نفس راكب
أظل إذا هزته ريح ولألأت
له الشمس أمواجًا طوال الغوارب
كأني أرى فيهنَّ فرسان بهمة
يليحون نحوي بالسيوف القواضب
فإن قلت لي: قد يركب اليم طاميًا
ودجلة عند اليم بعض المذانب١٥
فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها
وفي اللجة الخضراء عذرٌ لهائب
فإن احتجاجي عنك ليس بنائم
وإن بياني ليس عني بعازب
لدجلة خب ليس لليم إنها
تراءى بحلم تحته جهل واثب
تطامن حتى تطمئن قلوبنا
وتغضب من مزح الرياح اللواعب
وأجرافها رهنٌ بكل خيانة
وغدر ففيها كل عيب لعائب
يرانا إذا هاجت بها الريح هيجة
تزلزل في حوماتها بالقوارب
نُوائلُ١٦ من زلزالها نحو خسفها
فلا خير في أوساطها والجوانب
زلازل موج في غمار زواخر
وهدَّات خسف في شطوط خوارب
ولليمِّ أعذار بعرض متونه
وما فيه من آذيه المتراكب
ولست تراه في الرياح مزلزلًا
بما فيه — إلا في الشداد الغوالب
وإن خيف موجٌ عيذ منه بساحل
خليٍّ من الأجراف ذات الكباكب
ويلفظ ما فيه، فليس معاجلًا
غريقًا بغتٍّ يزهق النفس كارب
يعلل غرقاه إلى أن يغيثهم
بصنع لطيف منهم خير صاحب
فتلقى الدلافين الكريم طباعها
هناك رعالًا عند نكب النواكب
مراكب للقوم الذي كبا بهم
فهم وسطه غرقى وهم في مراكب
وينقض ألواح السفين فكلها
منجٍّ لدى نوب من الكسر نائب
وما أنا بالراضي عن البحر مركبًا
ولكنني عارضت شغب المشاغب

(٢) الطرد والقنص

صبر الطير

وقد أغتدي للطير والطير هجَّعٌ
ولو أوجست مغداي ما بتن هجَّعا
بخِلَّين تما بي ثلاثة إخوةٍ
جسومهم شتى وأرواحهم معا
مطيعين أهواءً توافت على هوًى
فلو أرسلت كالنبل لم تعدُ موقعا
إذا ما دعا منا خليل خليله:
بأفديك، لبَّاه مجيبًا فأسرعا
كأن له في كل عضو ومفصلٍ
وجارحة قلبًا من الجمر أصمعا
فثاروا إلى آلاتهم فتقلَّدوا
خرايط حمرا تحمل السم منقعا
محملة زادًا خفيفًا مناطه
من البندق الموزون قل وأقنعا
وقد وقفوا للحائنات١٧ وشمروا
لهن إلى الأنصاف ساقًا وأذرعا
وجدَّت قسيُّ القوم في الطير جدَّها
فظلت سجودًا للرماة وركعا
فظل صحابي ناعمين ببؤسها
وظلَّت على حوض المنية شُرَّعا
طرايح من سودٍ وبيضٍ نواصع
تخال أديم الأرض منهن أبقعا
نؤلف منها بين شتى، وإنما
نشتت من ألَّافها ما تجمَّعا
فكم ظاعن منهنَّ مزمع رحلةٍ
قصرنا نواه دون ما كان أزمعا!
وكم قادم منهن مرتاد منزل
أناخ به مِنَّا منيخٌ فجعجعا!
كأن بنات الماء في صرح متنه
إذا ما علا روق الضحى فترفعا
زرابيُّ كسرى بثها في صحانه
ليحضر وفدًا أو ليجمع مجمعا
تريك ربيعًا في خريف وروضة
على لجة بدعًا من الأمر مبدعا

(٣) أدوات القتل

الرماة

لهم عدةٌ تكفيهم كلَّ عدة
بنات المنايا والحنيُّ الموتر
يزلون عن أكباد كل حنيَّة
خفافًا مع الآجال تعلو وتقصر
نواها نواهم في المنايا كأنما
مواقعها فيما يشاءون تقدر
لها ألسنٌ ما تستفيق لهاتها
يكاد لعابُ الموت منهنَّ يقطر

سيف

خير ما استعصمت به الكف عضبٌ
ذكرٌ حدُّه، أنيث المهزِّ
ما تأملته بعينيك إلا
أرعدت صفحتاه من غير هز
مثله أفزع الشجاع إلى الدر
ع فعالى به على كل بز
ما يبالي أصممت شفرتاه
في محزٍّ أو جازتا عن محز

(٤) مجالس الشراب واللهو

القيان والأتراك «في مجلس القاسم»

أظل إذا شاهدت يوم نعيمه
كأني في الفردوس فوق الأرايك
بمرأى من الدنيا جميلٍ ومسمع
لدى ملك بالحق، لا متمالك
تحثُّ الحسان المحسنات كئوسه
بمدحٍ له قد سار جمَّ المسالك
من الوضَّح اللُّعس الشفاه كأنما
يفهن بأفواه الظباء الأوارك
يرفعن أصواتًا لدانًا وتارةً
ينمنمن وشيًا غير وشي الحوائك
كفلن لنا لما اصطففن حيالنا
بترحيل أضياف الهموم السوادك١٨
فما برحت تهدى إلينا عجائبٌ١٩
عجائب تصبي كل صابٍ وناسك
فتاة من الأتراك ترمي بأسهمٍ
يصبن الحشا في السلم لا في المعارك
كأن زمير القاصبات أعارها
شجاه وسجع الباكيات الضواحك
ظللنا لها نُصْبًا تشك قلوبنا
بذاك الشجا الفتان لا بالنيازك
وما «جُلَّنارٌ» بالمقصِّر شاؤها
ولا المتعدِّي قصد أهدى المسالك
لطيفةُ قدِّ الثدي تسند عودَها
إلى ناجمٍ في ساحة الصدر فالك
تطامن عن قدِّ الطوال قوامُها
وأربى على قد القصار الحواتك
ورقاصة بالطبل والصنج كاعبٌ
لها غنج مخناثٍ وتكريه فاتك
أتيح لها في جسمها رِفْد رافدٍ
وإن نالها في خصرها نَهْكُ ناهك
إذا هي قامت في الشفوف أضاءها
سناها فشفَّت عن سبيكة سابك
سبايا إليهنَّ استباءُ عقولنا
ممالكُ مُلكن اقتدار الممالك

السوداء الحسناء «في مجلس عبد الملك بن صالح»

… … … … …
… … … … …
سوداء لم تنتسب إلى برص الـ
ـشقر ولا كلفةٍ ولا بَهَق
ليست من العُبَّس الأكفِّ، ولا الـ
ـفلح الشفاه الخبائث العرق
بل من بنات الملوك ناعمة
تنشر بالدلِّ ميِّت الشبق
في لين سمورةٍ تخيَّرها الفراء
أو لين جيِّد الدلق٢٠
تذكرك المسكَ والغواليَ والـ
ـسك ذواتَ النسيم والعبق
هيفاء زينت بخمص محتضن
أوفى عليه نهودُ معتنق
غصنٌ من الأبنوس أُلِّف من
مؤتزر معجب ومنتطق
يهتز من ناهديه في ثمر
ومن دواجي ذراه في ورق
أكسبها الحب أنها صبغت
صبغة حب القلوب والحدق
فانصرفت نحوها الضمائر والـ
أبصار يعنقن أيَّما عنق
يَفترُّ ذاك السواد عن يققٍ
من ثغرها كاللآلئ النسق
كأنها والمزاح يُضحِكها
ليلٌ تفرَّى دجاه عن فلق
سمحاء كالمهرة المطهمة الدَّ
هماء تنضو أوائل السبق

الشراب في الخمائل

وصفراء بكرٍ لا قذاها مغيبٌ
ولا سرُّ من حلتْ حشاه مكتَّم
ينمُّ على الأمرين فرطُ صفائها
وسورتها حتى يبوح المجمجم
هي الورس في بيض الكئوس وإن بدت
لعينك في بيض الوجوه فعَنْدم
مذاق ومسرى في العروق كلاهما
ألذ من البرء الجديد وأنعم
إذا نزلت بالهم في دار أهله
غدا الهم وهو المرهقُ المتهضِّم
أقامت ببيت النار تسعين حجة
وعشرًا يصلَّى حولها ويُزمزم
سقتني بها بيضاءُ فوها وكأسها
شبيها مذاقٍ عند من يتطعَّم
لدى روضة فيها من النور أعينٌ
ترقرق دمعًا بل ثغور تبسَّم
يضاحك روق الشمس منها مضاحكٌ
مدامعه من واقع الطل سُجَّم
كمستعبرٍ مستبشرٍ بعد حزنه
لبين خليط قوَّضوا ثم خيَّموا
يغازلني فيها غزالان منهما
ربيب الفيافي والربيب المتوَّم
إذا نصبا جيديهما فكلاهما
سواءٌ وأبريق لديَّ مقدم٢١
ثلاثة أظبٍ نجرها غير واحدٍ
لذى اللهو فيها كلها متنعم
غزال وأبريق رذومٌ وغادةٌ
تحرك من أوتارها وتنغم

(٤) الموسيقى والغناء

في وحيد المغنية

يا خليليَّ تيمتني وحيدُ
ففؤادي بها معنًى عميد
غادة زانها من الغصن قدٌّ
ومن الظبي مقلتان وجيد
وزهاها من فرعها ومن الخدَّ
يْنِ ذاك السواد والتوريد
أوقد الحسنُ نارَه في وحيدٍ
فوق خد ما شانه تخديد
فهي بردٌ بخدِّها وسلام
وهي للعاشقين جهد جهيد
لم تضِر قط وجهها وهو ماء
وتذيب القلوب وهي حديد
ما لما تصطليه من وجنتيها
غير ترشاف ريقها تبريد
مثل ذاك الرضاب أطفأ ذاك
الوجد لولا الإباء والتصريد٢٢

•••

وغريرٌ بحسنها قال: صِفها!
قلت: أمران هيِّن وشديد
يسهل القول: إنها أحسن الأشـ
ـياء طرًّا ويعسر التحديد
شمس دجنٍ كلا المنيريْن — من
شمس وبدر — من نورها يستفيد
تتجلى للناظرين إليها
فشقيٌّ بحسنها وسعيد
ظبية تسكن القلوب وترعا
ها وقمرية لها تغريد
تتغنى كأنها لا تغني
من سكون الأوصال وهي تجيد
لا تراها هناك تجحظ عين
لك منها ولا يَدِرُّ وريد
من هدوٍّ وليس فيه انقطاع
وسجوٍّ وما به تبليد
مدَّ في شأو صوتها نفس كا
فٍ كأنفاس عاشقيها مديد
وأرقَّ الدلال والغنج منه
وبراه الشجا فكاد يبيد
فتراه يموت طورًا ويحيا
مستلذ بسيطه والنشيد
فيه وشيٌ وفيه حليٌ من النغْـ
ـم مصوغ يختال فيه القصيد
طاب فوها وما تُرجِّع فيه
كل شيء لها بذاك شهيد
ثغبٌ٢٣ ينقع الصدى وغناءٌ
عنده يوجد السرورُ الفقيد
فلها الدهر لاثمٌ مستزيد
ولها الدهر سامع مستعيد
في هوى مثلها يخفُّ حليم
راجح حلمه، ويغوي رشيد
ما تُعاطي القلوب إلا أصابت
بهواها منهن حيث تريد
وتر العزف في يديها مضاهٍ
وتر الرجف فيه سهمٌ شديد
وإذا أنبضته للشرب يومًا
أيقن القوم أنها ستصيد
معبد في الغناء وابن سريجٍ
وهي في الضرب زلزل وعقيد
عيبها أنها إذا غنت الأحرا
ر ظلوا وهم لديها عبيد
واستزادت قلوبهم من هواها
برقاها، وما لديهم عبيد

•••

وحسان عرَّضن لي قلت: مهلًا
عن وحيدٍ فحقُّها التوحيد
حسنها في العيون حسن وحيد
فلها في القلوب حبٌّ وحيد
ونصيح يلومني في هواها
ضل عنه التوفيق والتسديد
لو رأى من يلوم فيه لأضحى
وهو المستريث والمستزيد
ضلة للفؤاد يحنو عليها
وهي تزهد حياته وتكيد
سحرته بمقلتيها فأضحت
عنده والذميم منها حميد
خلقت فتنةً غناءً وحسنًا
ما لها فيهما جميعًا نديد
فهي نعمى يميد منها كبير
وهي بلوى يشيب منها وليد
لي حيث انصرفت منها رفيق
من هواها، وحيث حلت قعيد
عن يميني وعن شمالي وقدامي
وخلفي، فأين عنه أحيد؟
سد شيطانُ حبِّها كلَّ فجٍّ
إن شيطان حبها لمَريد
ليت شعري إذا أدام إليها
كرة الطرف مبدئ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه؟
أم لها كل ساعة تجديد؟
بل هي العيش لا يزال متى استعـ
ـرض يُملي غرائبًا ويفيد
منظرٌ، مسمعٌ، معانٍ من اللهـ
ـو، عتاد لما يحب عتيد
لا يدب الملال فيها، ولا ينـ
ـقض من عقد سحرها توكيد
حسنها في العيون حسن جديد
فلها في القلوب حب جديد

•••

أخذ الله يا وحيد لقلبي
منك ما يأخذ المديل المقيد
حظ غيري من وصلكم قرة العيـ
ـن، وحظي البكاء والتسهيد
غير أني معللٌ منك نفسي
بعدات خلا لهن وعيد
ما تزالين نظرة منك موت
لي مميت، ونظرة تخليد
نتلاقى فلحظة منك وعد
بوصالٍ، ولحظة تهديد
قد تركت الصحاح مرضى يميدون
نحولًا وأنت خوط يميد
ضافني حبك الغريب، فألوى
بالرقاد النسيب فهو طريد
عجبًا لي إن الغريب مقيم
بين جنبي، والنسيب شريد
قد مللنا من ستر شيء مليح
نشتهيه فهل له تجريد؟!
هو في القلب وهو أبعد من نجـ
ـم الثريا فهو القريب البعيد

رثاء بستان المغنية

إنا إلى الله راجعون لقد
غال الردى سيرة من السير
ما أولع الدهر في تصرفه
بكل زين له ومفتخر
يعدو على نفسه فيسلبها
إلا عتاد المعد ذي النمر
كم ملبس لا يعاب هتكه
عن جلدةٍ منه شثنة الوبر٢٤
أودى ببستان وهي حُلَّته
فقد غدا عاريًا من الحبر
أطار قمرية الغناء عن الأرض
فأيَّ القلوب لم يُطر
لله ما ضُمنت حفيرتها
من حسن مرأى وطهر مختبر
أضحت من الساكني حفائرهم
سكنى الغوالي مداهن السُّرر
مطيَّبي كل تربة خبثتْ
ومؤنسيها بشر مجتور
يا حر صدري على ثلاثة أمـ
ـواهٍ هريقت في الترب والمدر
ماء شباب ونعمةٍ مُزجا
بماء ذاك الحياء والخفر
لو يعلم القبر من أتيح له
لا نحفر القبر غيرَ محتفر
أو لأباها فصان حينئذ
عن رمسه درةً من الدرر
إنَّ ثرًى ضمها لأفضل محـ
ـجوجٍ لصبٍّ وخير معتمر
أقسمتُ بالغنج من ملاحظها
وسحر ذاك السجوِّ والفتر
لو عُقرت حول قبرها بقر الـ
أنس مكان القلاص والمهر
والدر نظمٌ على الترائب منـ
ـهن وأشكاله من العتر
وانتحرت في فنائه بُهم الـ
ـحرب وصيد الملوك من مضر
ثم سقيت الدماء تربتها
لم أشف ما في الفؤاد من وحر
نفسك يا نفس فانحري أسفًا
فإن هذا أوان منتحر
ما حسنٌ أن تذوب مهجتها
ومهجتي لم تُرَق ولم تمر
لا ينكر الدهر بعد مهلكها
هلك ذوات الجلال والخطر

•••

بستانُ يا حسرتا على زهرٍ
فيك من اللهو، بل على ثمر
بستان لهفي لحسن وجهك
والإحسان صارا معًا إلى العفر
بستان أضحى الفؤاد في ولهٍ
يا نزهة السمع منه والبصر
بستان ما منك لامرئ عوضٌ
من البساتين لا ولا البشر
بستان أُسقيتَ من مدامعنا الدَّ
مع، وأعقبت عقبة المطر
بل حقُّ سقياك أن تكون من الصـ
ـبهاء صهباء حمص أو جدر
بل من رحيق الجنان يُقطب بالـ
ـمسك، سلالاته، بلا عكر
بل من نجيع القلوب يمزج بالـ
ـعطف وصفو الوداد لا الكدر
يا نعمة الله في برِيَّته
أصبحت إحدى فواقر الفقَر
يا غضة السن يا صغيرتها
أمسيت إحدى المصائب الكبر
أنَّى اختصرت الطريق يا سكني
إلى لقاء الأكفان والحفر
أنَّى تجشَّمت في الحوادث ما
جشمت من كره ذلك السفر
أحميك من مورد قصدت له
لا ينتهي ورده إلى صدر
يا شمس زهر الشموس، يا قمر الـ
أقمار حسنًا يا زهرة الزهر
أبعد ما كنت باب مبتهجٍ
للنفس أصبحت باب معتبر
أصبحت كالترب غير راجحةٍ
به وقد ترجمين بالبدر
أصابنا الدهر فيك أكمل ما
كنت، فما رزؤنا بمجتبر
لم تقتحمك العيون من صغرٍ
ولا قلتك النفوس من كبر
فكيف تسلوك والأسى أبدًا
في كبر، والسُّلوِّ في صغر
كل ذنوب الزمان مغتفر
وذنبه فيك غير مغتفر
تَبتَّل العود عند فقدكمُ
وازدُجر اللهو كلَّ مزدجر
وغاب عنا السرور بعدكمُ
واحتُضر الهمُّ حين محتضر
وفاض ماء النعيم يتبعكم
وانهمر الدمعُ كلَّ منهمر
فإن سمعنا لمزهرٍ وترًا
حنَّ، فهاتيك عولة الوتر
أما ولؤم البلى وقسوته
لقد محا منك أحسن الصور
يا بشرًا صاغه المُصوِّر من
نورٍ على سنةٍ من الفطر
بل من شعاع العقول حين ترى الـ
ـغيب بعين الذكاء والعبر
لا تحسبوني عنيت بعدكمُ
إلى هديل الحمام في الشجر
لا تحسبوني أنست بعدكمُ
عنكم بشمس الضحى ولا القمر
لا تحسبوني استرحت بعدكمُ
إلى نسيم الشمال بالسحر
لا تحسبوا العين بعدكم سرحت
في مسرح من مسارح النظر
يأبى لها ذاك أن ناظرها
في شغل بالسهاد والعبر
وكيف بالنوم للمباشر أطـ
ـراف حمات الحياة والأبر
سقيًا ورعيًا لعيشةٍ معكم
أصبحت من عهدها بمفتقر
أمتعني دهرها بغبطته
على الذي كان فيه من قصر
كانت لياليه كلها سحرًا
وكان أيامهنَّ كالبُكر
لهو أطفنا ببكر لذته
وما فضضنا خواتم العذر
ولم ننل من جناه نهمتنا
وإن حظينا بمونق الزهر
كم قد شربتُ الرضاب في قُبلٍ
كانت، ولكن شربت بالغمر٢٥
جدوى فم فيه لؤلؤ وجنى
نحل بماء السحاب في النقر
غناؤه يشتكي حرارته
وريقه يشتكي من الخصر
كنتم لنا فتنة من الفتن الـ
ـغر بلا شهرة من الشهر

•••

كأنني ما طلعت مقبلةً
عليَّ يومًا بأملح الطرر
في كفك العود وهو يؤذن بالـ
إحسان إيذان صادق الخبر
إذ مشيكم مُذكري غناءكم
مشى الهوينى سواكن البقر
وإذ فسادي بكم يُذكِّرني
«لنفسدن الطواف في عُمر»٢٦
كأن عيني ما أبصرتك ضحًى
في مجلسي، والوشاة في سقر
كأنها ما رأتكِ كالملك الـ
أصيد في التاج يوم مبتهر
يا أحسن العالمين حاسرةً
وأكمل الناس عند معتجر
كأنها ما رأتكِ صادحةً
والصُّدَّح الوُرقُ عُكَّف الزُّمر
يسمعن أو يستفدن منك شجًا
والتمر يُمتار من قُرى هَجَر
كأنني ما اقترحت ما اقترحت
نفسي، فساعفتني بلا زَوَر٢٧
كأنني ما استعدت مقترحي
يومًا فكررته بلا ضجر
وصنتِ خدًّا كساه خالقُه الـ
ـحسنَ، فصعَّرتِه عن الصعر
ولو تكبرتِ كنتِ مُعْذَرة
والمسك ما لا يعاف بالذفر
كأنني ما نعمت منك بمر
تاح نعيمٍ ولا بمبتكر
رضيت من منظر بطيفِ كرًى
يعرو، ومن مسمع بمدَّكَر
لولا التعزي بذاك آونةً
لانفطر القلب كلَّ منفطر٢٨

•••

ما انتهك الدهر قبلكم لذوي الـ
ـلهو حريمًا في البدو والحضر
أبكيك بالدمع والدماء بل التـ
ـسهاد بل بالمشيب في الشعر
بل بنحول العظام محتقرًا
ذاك وإن كان غير محتقر
بل باجتناب الشفاء بل بتوخِّـ
ـي النَّفْس ما يُتَّقَى مِنَ الضرر

•••

لا أسأل الله حسن مصطبرٍ
فإنه عنك لؤم مصطبر
وحزْن نفسي عليك من كرمٍ
وهْو على من سواك من خور
وقد يُعزَّى الفؤاد أنك في
جنة عدن غدًا وفي نهر
سيشفع الحور فيك أنك منـ
ـهنَّ بذاك الدلال والحور

هجاء أبي سليمان المغني

ومسمع لا عدمت فرقته
فإنها نعمةٌ مِنَ النِّعم
يطول يومٌ إذا قرنتُ به
كأنني صائمٌ ولم أصُم
إذا تغنى النديم ذكَّره
أخذ السياق٢٩ الحثيث بالكظم
يفتح فاه من الجهاد كما
يفتح فاه لأعظم اللقم
مجلسه مأتم اللذاذة والـ
ـقصف، وعرس الهموم والسدم٣٠
ينشدنا اللهو عند طلعته:
«من أوحشته البلاد لم يُقمِ»٣١
كأنني طولَ ما أشاهده
أشرب كأسي ممزوجة بدمي
تشهده فرط ساعتين فيُنـ
ـسيك عهودًا لم تؤت من قدم
يريك ما قد عهدت في أم سك الـ
أدنى كشيء في سالف الأمم
عشرته عشرة تبارك في الـ
أعمار لولا تعجُّل الهرم
إذا الندامى دعوه آونةً
تنادموا كأسهم على ندم
نبرد حتى يظلَّ ينشدنا:
هل بالديار الغداة من صمم!
يستطعم الشرب أن يقال له:
«أحسنت!» والقوم منه في وكم٣٢
وكيف للقوم بالتصنع؟ لا
كيف ولو صوَّروا من الكرم
يُظهر في وجهه إساءتهُ
كأنها مسحةٌ من الحمم
يسودُّ من قبح ما يجيء بهِ
حتى كأنْ قد أسفَّ بالفحم
يرتاح منه إلى الأذان كما
يرتاح ذو شقة إلى علم
يشدو بصوتٍ يسوء سامعه
تبارك الله بارئ النسم
أبح فيه شذور حشرجةٍ
منظومةٍ في مقاطع النغم
نبرتُه غصة وهزتُه
مثل نبيب التيوس في الغنم
لو قدس الله ذو الجلال به
لم يرفع الله طيب الكلم
يُفزَّع الصبيةُ الصِّغار به
إذا بكى بعضهم ولم ينم
يقسو له القلب حين يسمعه
على أحبَّائه بلا جرم
أحلف بالله لا شريك له
فإنها غاية من القسم
ما عرف الله قبله أحدًا
ما فضل نعمائه على النِّقَم

هجو شنطف

شنطف يا عوذة السموات والـ
أرض وشمس النهار والقمر
إن كان إبليس خالقًا بشرًا
فأنت — عندي — من ذلك البشر
صوَّرَك الماردُ اللعين فأعـ
ـطتك يداه مقابح الصور

هجو كتيزة

شاهدتُ في بعض ما شاهدتُ مسمعةً
كأنما يومُها يومان في يوم
تظل تلقي على من ضم مجلسُها
قولًا ثقيلًا على الأسماع كاللوم
لها غناء يُثيب الله سامعَه
ضِعفَي ثواب صلاة الليل والصوم
ظللت أشرب بالأرطال لا طربًا
عليه بل طلبًا للسكر والنوم

(٦) مناعم الخوان

طلاب المآدب

(قصيدة فيها وصف ودعابة قالها في أبي شيبة بن الحاجب، وكان قد دعاه واستتر عنه.)

نجاك يا ابن الحاجب الحاجبُ
وأين ينجو منِّيَ الهاربُ؟!
أبَعْد إحرازك إيماننا
هارَبْتَنا واعتذر الحاجبُ؟
يا عجبًا إذ ذاك من حالة
دافِعُنا فيها هو الجاذبُ
حقًّا لقد أوليتنا جفوة
يَمحَل منها البلد العاشب
انظر بعين العدل تبصر بها
أنك عن منهاجه ناكب

•••

لهفي وقد جاءتك جفَّالة
كلُّ مغذ ساغب لاغب
من كل شذان الحشا لهسم٣٣
يأكل ما لا يأكل الحاسب
فكاه كالعصرين من دهره
كلاهما في شأنه دائب
ذي معدة ثعلبها لاحس
وتارة أرنبها ضاغب
تعلوه حمَّى شرهٍ نافض
لكنَّ حمَّى هضمه صالب
كأنما الفرُّوج في كفه
فريسة ضرغامها دارب
وإن غدا الشبوط قرنًا لهم
فخَد شبوطهم التارب
أقسمت لو أنك لاقيتهم
نابك من أضراسهم نائب

•••

أبشر بِكَرٍّ عاجلٍ إنني
بالثار في أمثالها طالب
لا تحسبني عنك في غفلة
عودي وشيك أيها الصاحب
قلت لصحبي حين راوغتهم:
لا تحزنوا، قد يشهد الغائب
سيصنع الله لنا في غد
إن كان أكدى يومنا الخائب
كرُّوا على الشيخ بتطفيلة
عن عزمة كوكبها ثاقب
وإن زواه منكمُ جانب
فلا يفتكم ذلك الجانب
جوسوا عليه الأرض واستخبروا
حتى يروح الخبر العازب
لا تَنجوَنْ مِنكمْ فراريجه
لا وهَبَ المَنجَى لها الواهب
لا تُفلِتَنْ مِنكمْ شبابيطه
لا أفلت الطافي ولا الراسب
جدُّوا فقد جدَّ بكم لاعبًا
وقد يجدُّ الرجل اللاعب
وليكن الكرُّ على غِرة
والصيد في مأمنه سارب
مقالة قمت بها خاطبًا
وقد يصيب الغرة الخاطب

•••

فاعتزم القوم على غارة
ساند فيها الراجلَ الراكب
يهدي أبو عثمان كردوسها٣٤
هذاك، ذاك الطاعن الضارب
يرقل والراية في كفه
قد حفَّها الرامح والناشب

•••

والقوم لاقوك فأعدد لهم
ما يرتضي الآكل والشارب
يسر فراريجك مقرونةً
بها شبابيطك يا كاتب
تلك التي مخبرها ناعم
تلك التي منظرها شاحب
واذكر بقلب غير مستوهل
يعروه من ذكرى القرى ناخب
أنك من جيران قُطربُّلٍ
وعندك اللقحة والحالب
فاسقِ حليب الكرْم شُرَّابه
إذ ليس من شأنهمُ الرائب
أحضرهم البكر التي ما اصطلت
نارًا، فكل خاطب راغب
تلك التي ما بايتت راهبًا
إلا جفا قنديله٣٥ الراهب
تلك التي ليس لها مشبه
في الكاس إلا الذهب الذائب
أو أمُّها الكبرى٣٦ التي لم يزل
لليل من طلعتها جانب
حققها بالشمس أن ربيت
في حجرها، والشبه الغالب
أَعجِبْ بتلك البكر محجوبةً
مكروبةً يُجلَى بها الكارب
مغلوبةً في الدنِّ مسلوبة
لها انتصارٌ غالب سالب
بينا تُرى في الزق مسحوبةً
إذ حكمتْ أن يسحب الساحب
تقتصُّ من واترها صرعةً
ليس لها باكٍ ولا نادب
إلا حمامُ الأيك في أيكة
أو عازفٌ للشرب أو قاصب
ذات نسيم مِسكُه فائح
وذات لون ورسُه خاضب
هاتيك هاتيك على مثلها
حامَ ولابَ الحائم اللائب
والنقل والريحان من شأنهم
فلا يَعِبْ فقْدَهما عائب
ولا تنم عن نرجسٍ مؤنس
يضحك عنه الزمن القاطب
ريحان روحٍ مُنْهِبٌ عطرَه
والروحُ إذ ذاك هو الناهب
لم يقلح الصيفُ له صفحة
ولا سقاه عوده الشاسب٣٧
وزَخرفِ البيت كما زخرفت
روضة حَزْن جادها هاضب
واجلب لهم حسناء في شدوها
لكل ما سرَّهُمُ جالب
محسنةً ليست بخطاءة
طائرها الهادل لا الناعب
بيضاء خودًا ردفُها ناهدٌ
غيداء رودًا ثديُها كاعب
مملوكة بالسيف مغصوبةً
لها دلالٌ مالكٌ غاصب
تستوهب الجيد إذا أتلعت
من ظبيةٍ أفزعها طالب
نعيم من نادمها دائمٌ
وبُرْح من فارقها واصب
كأنها والبيت مستضحكٌ
والعود في قبضتها صاخب
أدمانةٌ تنزب في روضةٍ
جاوبها خشفٌ لها نازب٣٨
واصبب عليهم تحفًا جمةً
يُحمى بهن الموعدُ الكاذب
واغرمْ لهم من بعد ذا كلِّه
ما نقلَ الملاحُ والقارب
وتب من الذنب الذي جئتَه
فقد يُقال٣٩ المذنب التائب
كيما يقولوا حين تُرضيهمُ:
يا حبذا المنهزم الثائب

•••

أعتِبْ بيومٍ صالحٍ فيهمُ
ليس على أمثاله عاتب
ولا يكن يومًا إذا ما انقضى
صيح به: لا رَجَعَ الذاهب
عجِّل لهم ذاك ولا تَهْجُهم
ولا يَثِبْ منك بهم واثب
فليس من يأدب إخوانه
مؤدبًا للقوم بل آدب
أخلفَنا نوءك موعوده
فلا تُصِبْنا ريحُك الحاصب
حاشاك أن يلقاك مستمطر
ومُزنُك الصاعق لا الصائب

اللوزينج «وهو حلواء تشبه القطائف تؤدم بدهن اللوز»

لا يخطئني منك لَوْزِينَج
إذا بدا أعجب أو عجبا
لم تغلق الشهوة أبوابها
إلا أبتْ زُلفاه أن يحجبا
لو شاء أن يذهب في صخرةٍ٤٠
لسهل الطيب له مذهبا
يدور بالنفخة في جامه
دورًا ترى الدهن له لولبا
عاون فيه منظرٌ مخبرًا
مستحسن ساعد مستعذبا
كالحسن المحسن في شدوه
تمَّ فأضحى مطربًا مضربا
مستكثف الحشو ولكنه
أرق قشرًا من نسيم الصبا
كأنما قدت جلابيبه
من أعين الفطر الذي قببا
يخال من رقة خرشائه٤١
شارك في الأجنحة الجندبا
لو أنه صُوِّر من خبزه
ثغرٌ لكان الواضح الأشنبا
من كل بيضاء يحب الفتى
أن يجعل الكف لها مركبا
مدهونة زرقاء، مدفونة
شهباء، تحكي الأزرق الأشهبا
مَلَذُّ عينٍ وفمٍ، حُسِّنت
وطُيبت حتى صبا من صبا
ذيق لها اللوز فلا مُرةٌ
مرَّت على الذائق إلا أبى
وانتقد السكَّرَ نقادُه
وشاوروا في نقده المذهبا
فلا إذا العين رأتها نبتْ
ولا إذا الضرس علاها نبا

الشبوط

فلا يبعد الشبوط من متلبِّسٍ
ظهارته الحسنى، ومن متجرِّد
إذا نشَّ في سفُّوده عند نضجه
وأخرج من سرباله المتورِّد
فتيٌّ رعى مرعًى بدجلة مخصبًا
أبى أن يراه زائد غير محمد
إلى أن أصابتهُ من الدهر نوبةٌ
وقد صار أقصى منيةَ المتجود
فأصدره الصياد عن خير موردٍ
وأورده الشواء أخبث مورد
وجاء به الحمَّال أطيب مطعمٍ
إلى الطيب المنفاق غير المصرد
ويا حبذا إمعاننا فيه ناضجًا
كما جاء من تَنُّوره المتوقد
وإني لمشتاقٌ إلى عود مثله
وإن كنت أُبدي صفحةَ المتجلد

الدجاجة

وسميطةٍ صفراء ديناريةٍ
ثمنًا ولونًا زفها لك حَزْوَرُ٤٢
عظمت فكادت أن تكون إوَزَّة
ونوت فكاد إهابها يتفطر
ظَلْنَا نُقشر لحمها عن جلدها
وكأن تبرًا عن لجينٍ يُقشَر

(٧) الفواكه

فواكه أيلول

لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت
من كل نوعٍ ورقَّ الجو والماء
إذَن لما حفلت نفسي متى اشتملت
عليَّ هائلة الجالين غبراء

الموز

إنه «الفوز» مثلَ ما فَقْده «المو
تُ» لقد بان فضلُه لا خفاء
ولهذا التأويل سمَّاه «موزًا»
من أفاد المعاني الأسماء
رب فاجعله لي صبوحًا وقيلًا
وغبوقًا وما أسأت الغذاء
وأرى — بل أبتُّ — أن جوابي:
لا تغالط، فقد سألتَ البقاء
نكهةٌ عذبةٌ وطعمٌ لذيذٌ
شاهدا نعمةٍ على نعماء
لو تكون القلوب مأوى طعام
نازعته قلوبنا الأحشاء
إنني للحقيق بالشبع السَّا
ئِغ من أكله وإن كان ماء

كرمة العنب الرازقي

ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
لم يبقَ منه وهَج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
لو أنه يبقى على الدهور
قرَّط آذان الحسان الحور
له مذاق العسل المشور
ونكهة المسك مع الكافور

وبرد مسِّ الخَصر المقرور

باكرته والطير في الوكور
وعذر اللذات في البكور
بفتيةٍ من ولد المنصور
أملأ للعين من البدور
حتى أتينا خيمة الناطور
قبل ارتفاع الشمس للذرور
فانقضَّ كالطاوي من الصقور
بطاعة الراغب لا المجبور
ثم جلسنا مجلس المحبور
على حفافي جدولٍ مسجور٤٣
أبيض مثل المهرق المنشور
أو مثل متن المنصل المشهور
ينساب مثل الحية المذعور
بين سماطَي شجرٍ مسطور
فنيلت الأوطار في سرور
وكل ما نقضي من الأمور
تَعِلَّةٌ عن يومنا المنظور
ومتعةٌ من متع الغرور

(٨) المرأة والحب

النساء

أجنَتْ لك الوجدَ أغصانٌ وكثبانُ
فيهن نوعان تفاح ورمانُ٤٤
وفوق ذيْنِك أعناب مُهدَّلة
سود لهن من الظَّلماء ألوان٤٥
وتحت ذلك عُناب تلوح به
أطرافهن قلوب القوم قنوان٤٦
غصون بانٍ عليها — الدهرَ — فاكهة
وما الفواكه مما يحمل البان
ونرجس بات ساري الطلِّ يضربه
وأقحوان منير النور ريان٤٧
ألِفْن من كل شيء طيبٍ حسنٍ
فهن فاكهة شتى وريحان
ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها
لكنها حين تبلو الطعم خطبان٤٨
بل حلوة مرة، طورًا يقال لها:
شهد، وطورًا يقول الناس: ذيفان٤٩
يا ليت شعري، وليتٌ غير مجديةٍ
إلا استراحة قلبٍ وهو أسوان
لأي أمرٍ مرادٍ بالفتى جمعت
تلك الفنون فضمتهن أفنان؟
تجاورت في غصونٍ لسنَ من شجر
لكنْ غصونٌ لها وصل وهجران
تلك الغصون اللواتي في أكمَّتها
نُعْم وبُؤس وأفراح وأحزان
يبلو بها الله قومًا كي يَبِين له
ذو الطاعة البرُّ ممن فيه عصيان
وما ابتلاهم لإعنات ولا عبثٍ
ولا لجهلٍ بما يحويه إبطان
لكن ليُثبت في الأعناق حُجتَه
ويحسن العفو، والرحمن رحمن
ومن عجائب ما يُمنَى الرجال به
مستضعفات لنا منهن أقران
مناضلات بنبل لا تقوم له
كتائب الترك يُزجيهن خاقان
مستظهرات برأيٍ لا يقوم له
قصير عمرو، ولا عمرو ووردان
من كل قاتلة قتلى، وآسرةٍ
أسرى، وليس لها في الأرض إثخان
يولين ما فيه إغرام وآونة
يولين ما فيه للمشغوف سلوان
ولا يَدُمن على عهد لمعتقدٍ
أنَّى وهن كما شبهن بستان؟
يميل طورًا بحملٍ ثم يعدمه
ويكتسي ثم يُلفى وهو عريان

امتزاج روحين

أعانقها، والنفس بعد مشوقة
إليها، وهل بعد العناق تدان؟
وألثم فاها كي تموت حزازتي
فيشتد ما ألقى من الهيمان
وما كان مقدار الذي بي من الجوى
ليشفيه ما ترشف الشفتان
كأنَّ فؤادي ليس يَشفي غليلَه
سوى أن يرى الروحين تمتزجان

لمحة التوديع

رب كعابٍ في حجابٍ لم تزل
مثل الغزال عنقًا ومُكتحَل
لم تكتحل مقلتُها سوى الكحل
ولا تحلى جيدُها سوى العطل
ما زلت منها في مطال وعلل
حتى إذا ما قدر البَيْن نزل
خلست منها نظرة على وجل
آخرها أولها من العجل
ثم أجنتها غيابات الكلل

الشباب الراحل

أبَينَ ضلوعي جمرة تتوقَّدُ
على ما مضى أم حسرة تتجددُ؟
خليليَّ ما بعد الشباب رزية
يجمُّ لها ماء الشئون ويعتد
فلا تلحيا إن فاض دمعٌ لفقده
فقلَّ له بحرٌ من الدمع يُثمد
ولا تعجبا للجَلد يبكي، فربما
تفطَّر عن عين من الماء جلمد
شباب الفتى مجلوده وعزاؤه
فكيف وأنى بعده يتجلد؟
وفقد الشباب الموت، يُوجد طعمه
صراحًا، وطعم الموت بالموت يفقد
رزئت شبابي عودة بعد بدأة
وهن الرزايا بادئات وعوَّد
سلبت سواد العارضين وقبله
بياضهما المحمود إذ أنا أمرد
وبدلت من ذاك البياض وحسنه
بياضًا ذميمًا لا يزال يسود
لشتان ما بين البياضين معجبٌ
أنيقٌ، ومشنوء إلى العين أنكد
تضاحك في أفنان رأسي ولحيتي
وأقبح ضحاكين شيبٌ وأدرد٥٠
وكنت جلاءً للعيون من القذى
فقد جعلت تقذى بشيبي وترمد
هي الأعين النُّجْل التي كنت تشتكي
مواقعها في القلب، والرأس أسود
فما لك تأسى الآن لما رأيتها
وقد جعلت مرمى سواك تعمَّد
تشَكَّى إذا ما أقصدتك سهامها
وتأسى إذا نكَّبن عنك وتكمد
كذلك تلك النبلُ من وقعَت به
ومن صرفت عنه من القوم مُقصد٥١
إذا عدلت عنا وجدنا عدولها
كموقعها في القلب، بل هو أجحد
تنكَّب عنا مرة، فكأنما
مُنكبُها عنا إلينا مسدِّد
كفى حَزَنًا أن الشباب معجَّلٌ
قصير الليالي، والمشيب مخلَّد
إذا حلَّ جارَى المرء شأو حياته
إلى أن يضم المرءَ والشيب ملحد
أرى الدهر أجرى ليله ونهاره
بعدلٍ، فلا هذا ولا ذاك سرمد
وجار على ليل الشباب فضامه
نهارُ مشيبٍ سرمد ليس ينفد
وعزَّاك عن ليل الشباب معاشرٌ
فقالوا: نهار الشيب أهدى وأرشد
وكان نهار المرء أهدى لسعيه
ولكنَّ ظِل الليل أندى وأبرد
أأيام لهوي هل مواضيك عُوَّدٌ؟
وهل لشبابٍ ضل بالأمس منشد؟
أقول وقد شابت شواتي، وقُوستْ
قناتي، وأضحت كدنتي٥٢ تتخدد
ودب كلالٌ في عظامي أدبَّني
جنيب العصا أنآد أو أتأيَّد
وبورك طرفي، فالشخوص حياله
قرائن — من أدنى مدًى — وهْي فُرَّد
ولذَّت أحاديثي الرجال وأعرضت
سليمى وريَّا عن حديثي ومهدد
وبُدِّل إعجاب الغواني تعجبًا
فهن روان يعتبرن وصُدَّد
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
لأفسح مما كان فيه وأرغد؟!
إذا أبصر الدنيا استهلَّ كأنه
بما سوف يلقى من أذاها يُهدَّد
وللنفس أحوالٌ تظل كأنها
تشاهد فيها كل غيبٍ سيشهد

•••

لعبت بأولى الدهر، فاغتال شِرَّتي
بأخرى حقودٍ، والجرائم تحقد
فصبرًا على ما اشتد منه، فإنما
يقوم لما يشتد من يتشدد
يذيق الفتى طَورَي رخاءٍ وشدةٍ
حوادثُه والحولُ بالحول يطرد
وما لي عزاء عن شبابي علمته
سوى أنني من بعده لا أُخلد
وأن مشيبي «واعد» بلحاقه
وإن قال قوم إنه «يتوعد»

دمعة على الشباب

لا تَلْحَ من يبكي شبيبته
إلا إذا لم يَبكِها بدم
عيب الشبيبة غول سكرتها
مقدار ما فيها من النعم
لسنا نراها حق رؤيتها
إلا زمان الشيب والهرم
كالشمس لا تبدو فضيلتها
حتى تُغشَّى الأرض بالظلم
ولَرُب شيءٍ لا يُبيِّنه
وجدانه إلا مع العدم

حلم زائل

رأيت سواد الرأس واللهو تحته
كليل وحلم بات رائيه ينعم
فلما اضمحلَّ الليل زال نعيمه
فلم يبقَ إلا عهده المتوهَّم

(٩) الأحداث السياسية

مصرع أبي الحسين يحيى من أحفاد علي

أمامك فانظرْ أيَّ نهجيك تنهج
طريقان شتى: مستقيم وأعوج
ألا أيُّهذا الناس طال ضريركم
بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
أكل أوان للنبي محمد
قتيلٌ زكي بالدماء مضرج
تبيعون فيه الدين شر أئمةٍ
فلله دين الله قد كان يمرج٥٣

•••

بني المصطفى! كم يأكل الناس شلوكم؟
لبلواكمُ — عما قليلٍ — مفرَّج
أما فيهم راعٍ لحق نبيه
ولا خائفٌ من ربه يتحرج
لقد عمهوا ما أنزل الله فيكمُ
كأن كتاب الله فيهم مُمجمج٥٤
ألا خاب من أنساه منكم نصيبَه
متاعٌ من الدنيا قليلٌ وزبرج

•••

أبَعْد المكنى بالحسين شهيدكم
تضيء مصابيح السماء فتسرج
لنا وعلينا، لا عليه ولا له،
تسحسح أسراب الدموع وتنشج
وكيف نُبكِّي فائزًا عند ربه
له في جنان الخلد عيشٌ مُخرفج٥٥
وقد نال في الدنيا سناءً وصيتةً
وقام مقامًا لم يَقُمه مزلج٥٦
فإن لا يكن حيًّا لدينا فإنه
لدى الله حيٌّ في الجنان مزوَّج
وكنا نُرجِّيه لكشف عمايةٍ
بأمثالِه أمثالُها تتبلَّج
فساهمَنا ذو العرش في ابن نبيه
ففاز به والله أعلى وأفلج
أيحيى العلى لهفي لذكراك لهفةً
يباشر مكواها الفؤاد فينضج
لمن تستجدُّ الأرض بعدك زينةً
فتصبح في أثوابها تتبرَّج؟
سلامٌ وريحان ورَوح ورحمة
عليك وممدود من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت جاره
يرفُّ عليه الأقحوان المفلج
ويا أسفي ألا تردَّ تحية
سوى أرج من طيب رمسك يأرج
ألا إنما ناح الحمائم بعدما
ثويت وكانت قبل ذلك تهزج
ألا أيها المستبشرون بيومه
أظلت عليكم غمةٌ لا تفرَّج!
أكلكم أمسى اطمأنَّ مهاده
بأن رسول الله في القبر مزعج؟!
فلا تشمتوا وليخسأ المرء منكمُ
بوجهٍ كأن اللون منه اليرندج٥٧
فلو شهد الهيجا بقلب أبيكمُ٥٨
غداة التقى الجمعان والخيل تمعج
لأعطى يدَ العاني، أو ارتدَّ هاربًا
كما ارتدَّ بالقاع الظليم٥٩ المهيَّج
ولكنه ما زال يغشى بنحره
شبا الحرب حتى قال ذو الجهل: أهوج
وحاشا له من تلكمُ غيرَ أنه
أبى خطة الأمر الذي هو أسمج
وأين به عن ذاك؟ لا أين إنه
إليه بعرقيه الزكيين مُحرج
كأني به كالليث يحمي عرينه
وأشباله لا يزدهيه المهجهج
كدأب عليٍّ في المَواطن قبله
أبي حسن والغصن من حيث يخرج
كأني أراه والرماح تنوشه
شوارع كالأشطان تدلى وتخلج
كأني أراه إذ هوى عن جواده
وعُفِّر بالترب الجبينُ المشجَّج
فحبَّ به جسمًا إلى الأرض إذ هوى
وحب بها روحًا إلى الله تعرج
أأرديتمُ يحيى؟! ولم يُطوَ أيطل٦٠
طرادًا ولم يُدبر من الخيل منسج
تأتتْ لكم فيه مُنى السوء هينةً
وذاك لكم بالغيِّ أغرى وألهج
تمدون في طغيانكم وضلالكم
ويُستدرَج المغرور منكم فيدرج
أجنوا بني العباس من شنآنكم
وأوكوا٦١ على ما في العياب وأشرجوا٦٢
وخلوا ولاة السوء منكم وغيَّهم
فأحرِ بهم أن يغرقوا حيث لجَّجوا
نظار لكم أن يُرجع الحق راجعٌ
إلى أهله يومًا فتشجوا كما شجوا
على حين لا عذرى لمعتذريكمُ
ولا لكمُ من حجة الله مخرج
فلا تلقحوا الآن اللواقح بينكم
وبينهمُ إن اللواقح تنتج
غررتم لأنْ صدَّقتُمُ أن حالةً
تدوم لكم والدهر لونان أخرج
لعلَّ لهم في منطوي الغيب ثائر
سيسمو لكم والصبح في الليل مولج
بمجرٍ تضيق الأرض من زفراته
له زَجَل ينفي الوحوش وهزمج٦٣
إذا شيم بالأبصار أبرقَ بيضُه
بوارقَ لا يسطيعُهنَّ المحمَّج٦٤
توامضه شمس الضحى فكأنما
يرى البحر في أعراضه يتموج
يؤيده ركنان ثبتان: رجله
وخيل كأرسال الجراد وأوثج٦٥
عليها رجال كالليوث بسالةً
بأمثالها يُثنى الأبي فيعنج٦٦
تدانوا فما للنقع فيهم خصاصة
تُنفِّسه عن خيلهم حين تُرهج
فلو حصبتْهم بالفضاء سحابةٌ
لظل عليهم حصبُها يتدحرج
كأن الزِّجاج اللهذمياب فيهمُ
فتيلٌ بأطراف الرُّدينيِّ مسرج
يودُّ الذي لاقَوه أن سلاحه
هنالك خلخال عليه ودُملج
فيدرك ثأرَ الله أنصارُ دينه
ولله أوسٌ آخرون وخزرج
ويقضي «إمام الحق» فيكم قضاءه
تمامًا وما كل الحوامل تخدج
وتظعن خوفَ السبي بعد إقامةٍ
ظعائنُ لم يُضرَب عليهن هودج
مهٍ! لا تعادوا غرةَ البغي بينكم
كما يتعادى شعلةَ النار عرفج٦٧
أفي الحق أن يمسوا خماصًا، وأنتمُ
يكاد أخوكم بطنةً يتبعَّج
تَمَشَّون مختالين في حجراتكم
ثقالَ الخُطى أكفالكم تترجرج
وليدُهمُ بادي الضوى، ووليدُكم
من الريف ريان العظام خدلج
بنفسي الألى كظَّتهمُ حسراتكم
فقد عَلِزُوا قبل الممات وحشرجوا٦٨
وعيَّرتموهم بالسواد ولم يزل
من العَرَب الأمحاض أخضر أدعج
ولكنكم زُرقٌ يزين وجوهكم
بني الروم! ألوانٌ من الروم نعَّج
أبى الله إلا أن يطيبوا وتخبثوا
وأن يَسبقوا بالصالحات ويفلجوا
وإن كنتمُ منهم وكان أبوكم
أباهم فإن الصفو بالرنق يمزج

•••

لعمري لقد أغرى القلوبَ ابنُ طاهرٍ
ببغضائكم ما دامت الريح تنأج٦٩
سعى لكم مسعاةَ سوءٍ ذميمةً
سعى مثلَها مستكرهُ الرِّجل أعرج
فلن تعدموا ما حنت النيبُ فتنةً
تحشُّ كما حشَّ الحريق المؤجِّج
وقد بدأت لو تُزجَرون بريحها
بوائجُها من كل أوب تبوج٧٠

•••

بني مُصعب! ما للنبي وأهله
عدوٌّ سواكم، أفصحوا أو فلجلجوا
دماءُ بني عباسكم وعليِّهم
لكم كدماء الترك والروم تهرج
يلي سفكها العوران والعرج منكمُ
وغوغاؤكم جهلًا بذلك تبهج
وما بكمُ أن تنصروا أولياءكم
ولكنْ هناتٌ في القلوب تنجنج٧١
ولو أمكنتكم في الفريقين فرصةٌ
لقد بيَّنت أشياء تلوي وتحنج
إذَن لاستقدتم منهما وتر فارسٍ،
وإن ولَّياكم فالوشائج أوشج
أبى أن تحبُّوهم يد الدهر ذكركم
لياليَ لا ينفك منكم متوَّج
وإني على الإسلام منكم لخائفٌ
بوائق شتى بابها الآن مرتج
وفي الحزم أن يستدبر الناس أمركم
وحبلُهم مستحكم العقد مدمج

•••

نَظارِ فإن الله طالب وتره
بني مصعبٍ! لن يسبق الله مدلج
لعل قلوبًا قد أطلتم غليلها
ستظفر يومًا بالشفاء فتثلج

(١٠) شخصيات وأعلام

بطل الشطرنج «في أبي القاسم التوزي الشطرنجي»

يا أخي يا أخا الدماثة والرقَّـ
ـة والظُّرف والحجى والدهاء
أترى الضربة التي هي غيب
خلف خمسين ضربةً في وحاء
ثاقب الرأي نافذ الفكر فيها
غير ذي فترة ولا إبطاء
ويلاقيك سبعةٌ فيظلو
ن على ظهر آلةٍ حدباء
تهزم الجمع أوحديًّا وتلوي
بالصناديد أيَّما إلواء
وتحطُّ الرخاخ بعد الفرازيـ
ـن فتزداد شدةَ استعلاء
ربما هالني وحيَّر عقلي
أخذُك اللاعبين بالبأساء
ورضاهم هناك بالنصف والربع
وأدنى رضاك في الإرباء
واحتراسُ الدهاة منك وإعصا
فُك بالأقوياء والضعفاء
عن تدابيرك اللطاف اللواتي
هن أخفى من مُستسرِّ الهباء
بل من السر في ضمير محب
أدَّبته عقوبة الإفشاء
فإخال الذي تدير على القو
م حروبًا دوائر الإرحاء
وأظن افتراسك القرن فالقر
ن منايا وشيكة الإرداء
وأرى أن رقعة الأدم الأحـ
ـمر أرضٌ علَّلتها بدماء
غلطَ الناسُ لست تلعب بالشطـ
ـرنج لكن بأنفُس اللُّعباء
أنت جِدِّيُّها، وغيرك مَن يلـ
ـعب إن الرجال غير النساء
لك مكرٌ يدبُّ في القوم أخفى
من دبيب الغذاء في الأعضاء
أو دبيب المَلال في مستهامَيـ
ـن إلى غايةٍ من البغضاء
أو مسير القضاء في ظُلَم الغيـ
ـب إلى من يريده بالتَّواء
أو سرى الشيب تحت ليل شبابٍ
مستحيرٍ في لمة سحماء
دب فيها لها، ومنها إليها
فاكتست لون رثةٍ شمطاء
تقتل الشاه حيث شئت من الرقـ
ـعة طبًّا بالقتلة النكراء
غير ما ناظرٍ بعينيك في الدسـ
ـت ولا مقبلٍ على الرسلاء
بل تراها وأنت مستدبر الظهـ
ـر بقلب مصوَّرٍ من ذكاء
ما رأينا سواك قِرنًا يولِّي
وهو يردي فوارس الهيجاء
رُب قومٍ رأوك ريعوا فقالوا
هل تكون العيون في الأقفاء
والفؤاد الذكي للمطرق المعر
ض عينٌ يرى بها مِن وراء
تقرأ الدست ظاهرًا فتؤدِّيـ
ـه جميعًا كأحفظ القراء

(١١) طبائع وشمائل

في يحيى بن علي المنجم

رُب أكرومةٍ له لم نخلها
قبله في الطباع والتركيب
غرَّبته الخلائقُ الزهر في النَّا
س، وما أوحشته بالتغريب
ألمعيٌّ يرى بأول ظنٍّ
آخِر الأمر من وراء المغيب
لا يُروِّي ولا يُقلب كفًّا
وأكُفُّ الرجال في تقليب
يدرك الطِّلب بالبديهة دون الـ
ـعقب، قبل التصعيد والتصويب
حازم الرأي ليس من طول تجريـ
ـب، لبيب وليس عن تلبيب
ليِّنٌ عطفُه فإن رِيمَ منهُ
مكسرُ العود كان جدَّ صليب

في القاسم

عجبت لمن حزمه حزمه
تكون يداه يدَي حاتمِ
عجبت لمن جوده جوده
تكون له عقدة الحازم
عجبت لمن حلمه حلمه
تكون له صولة الصارم
عجبت لمن حدُّه حدُّه
تكون له رأفة الراحم
أرى كل ضدٍّ إلى ضدِّه
من الخير في طبعه السالم

(١٢) رسائل استعطاف وعتب

عتب على سوء مقابلة

قرأت في وجهك عنوانَا
آذنني بالغدر إيذانَا
تالله أنسى ما ذكرتُ الصِّبَا
بل ما ذكرت الله لهفانا
يوم التقينا فتجهَّمتني
تجهُّم المديون دَيَّانا
وكيف أنسى ذاك مستيقظًا
ولست أنسى ذاك وسْنانا
طلعت من بُعدٍ فأوهمتني
أنك قد عاينت شيطانا
لاقيتَني ساعةَ لاقيتَني
أثقلَ خلق الله أجفانا
كأنما كنت تضمنتَ لي
ردَّ شبابي كالذي كانا
أو طمَّ بحر الصين في طرفةٍ
أو كسْح أروند وثهلانا
أو كل ما لم يستطع فعله
عيسى ولا موسى بن عمرانا
يا حسن الوجه لقد شنته
فاضمم إلى حسنك إحسانا
أنت ملولٌ حائلٌ عهده
تصبغك الساعات ألوانا
تصرم ذا الوصل وتضحى إلى
من يحتوي وصلك ظمآنا
حتى إذا واصَلَ صارمتَه
أو سُمْتَه صدًّا وهجرانا
وتستلينُ الدهر ذا خشنةٍ
فظًّا، وتستخشنُ من لانا
وتعقد الوعد، فإنجازه
خُلفٌ إذا إنجازه آنا
حتى إذا أنجزته مرةً
مننتَه سرًّا وإعلانا
وما أحبَّ الواعديُّ مُخلفًا
كلا ولا الممتنَّ منانا
حذرتني الناس فقد أصبحتْ
نفسي لا تألف إنسانا
أهنتني جدًّا فأعززتني
رُب امرئٍ عزَّ بأن هانا

إلى آل وهب

تخذتكمُ درعًا وترسًا لتدفعوا
نبال العدى عني فكنتم نصالها
وقد كنت أرجو منكمُ خير ناصرٍ
على حين خذلان اليمين شمالها
فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي
ذمامًا فكونوا لا عليها ولا لها
قفوا موقف المعذور عني بمعزلٍ
وخلُّوا نِبالي والعدا ونِبالها
هي النفس إما أن تعيش بغبطةٍ
وإلا فغنمٌ أن تزول زوالها
طلبت لديكم بالعتاب زيادةً
وعطفًا فأعتبتم بإحدى البوائق
فكنت كمستسقٍ سماءً مخيلةً
حَيًا، فأصابته بإحدى الصواعق
أأحييتني بالأمس ثم تُميتني
برفضي وإقصائي، وحقيَ أن أُدنى
ولو أنني أحييتُ مَيْتًا عشقته
لحسن الذي أثَّرتُ فيه من الحسنى

(١٣) هجاء

شيء ليس له وجود

قل لابن بوران إن كان ابنَ بوران
فإن شكِّيَ فيه جلُّ إيماني
يا باطلًا أَوهَمَتْنيهِ مخايله
بلا دليل ولا تثبيت برهان
ما أنت إلا خيالٌ طاف طائفه
وما هجائيك إلا هجر وسْنان
قد كنت أحسبه شيئًا فأهجوه
حتى أزاح يقيني فيه حسباني

في إسماعيل بن بلبل

صبرًا أبا صقر فكم طائر
خرَّ صريعًا بعد تحليق
زُوِّجت نعمى لم تكن كُفْأَها
فصانها الله بتطليق
وكل نعمى غير مشكورة
رهن زوال بعد تمحيق
لا قدست نعمى تسربلتها
كم حجة فيها لزنديق!

كيمياء الجد

عجب الناس من أبي الصقر إذ وُلِّـ
ـيَ بعد «البطالة» الديوانا
ولعمري ما ذاك أعجب من أن
كان علجًا فصار من شيبانا
إن للجد كيمِياءً إذا ما
مسَّ كلبًا أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء، كما شا
ء، متى شاء، كائنًا ما كانا

تأبين!

أقول إذ هتف الداعي بمصرعه:
لبيك! لبيك! من داعٍ بتبيين
نعيت من جمدت غزر العيون له
فلم تفض عبرة من عين محزون
ومن يقلُّ له الداعي بمغفرة
وينشد الناس فيه بيت يقطين
فإن تصبك من الأيام جائحة
لم نبكِ منك على دنيا ولا دين
يا منكرًا ونكيرًا أوجعاه فقد
خلوتما بقليل الخير ملعون
بُعدًا وسُحقًا له من هالك نطف
مُشوَّه الخلق من نسل الشياطين

اعتزال الهجاء

يا من قسا لما شكو
تُ إلى تطوُّله زماني
واعتدَّني — لما رخصت
عليه — من سقط المعاني
سأصون مالك عن يدي
وأصون عرضك عن لساني
آليتُ لا أهجو طوا
ل الدهر إلا من هجاني
لا بل سأطرح الهجا
ء وإن رماني من رماني
أمِنَ الخلائقُ كلهم
فليأخذوا مني أماني
حلمي أعز عليَّ من
غضبي إذا غضبي عراني
فلأصبرن وأكظمن
وإنْ لظى غيظي كواني
لكنني سأحب نفـ
ـسي إذ قلاني من قلاني
وأريدها كل الإرا
دة إذ أباني من أباني
وأرى مكاني إن تعا
مَهَ من تعامَهَ عن مكاني
حتى يراني الله كيـ
ـف صيانتي قدري وشاني
ويعولني فعيالتي
حقٌّ عليه كما يراني
وليغذوني بالكرار
مة إنه قدمًا غذاني
وسأستعين على الفرا
ق الصبر إنْ شوقٌ دعاني

(١٤) صور ممسوخة

يصف نفسه

من كان يبكي الشباب من جزعِ
فلست أبكي عليه من جزعِ
لأن وجهي بقبح صورته
ما زال بي كالمشيب والصلع
إذا أخذت المرآة، سلمني
وجهي — وما مُتُّ — هول مطلعي
شغفت بالخُرَّد الحسان وما
يصلح وجهي إلا لذي ورع
كي يعبد الله في الفلاة، ولا
يشهد فيه مساجد الجمع

أكول

وأما يد البصري في كل صفحة
فأقلعُ من سيل وأغرف من رفش٧٢
أأوعده بالشعر وهو مسلَّطٌ
على الإنس والجنان والطير والوحش؟
ألم أرَه لو شاء بَلْعَ تهامة
وأجبالها، طاحت هناك بلا أرش!٧٣
على أنه ينعي إلى كل صاحبٍ
ضروسًا له تأبى على الثور والكبش
يُخَبر عنها أن فيها تثلُّمًا
وذلكمُ أدهى وأوكد للجرش
ألم تعلموا أن الرحا عند نقرها
وتجريشها تأتي على الصلب والهش
فلا تقبلوا ذاك التفارق، واحذروا
شباه، ولو أمسى مسجًّى على نعش

مقارنة

وجهك يا عمرو فيه طول
وفي وجوه الكلاب طول
مقابح الكلب فيك طرًّا
يزول عنها ولا تزول
وفيه أشياء صالحات
حماكها الله والرسول
والكلب وافٍ وفيك غدرٌ
ففيك عن قدره سفول
وقد يُحامي عن المواشي
وما تُحامي ولا تصول
وأنت من بيت أهل سوء
قِصَّتهم قصةٌ تطول
وجوههم للورى عظاتٌ
لكنَّ أقفاءهم طبول
نستغفر الله قد فعلنا
ما يفعل المائق الجهول
ما إن سألناك ما سألنا
إلا كما تسأل الطلول
صمَّت وعيَّت فلا خطاب
ولا كتابٌ ولا رسول
مستفعلنٌ فاعل فعول
مستفعلنٌ فاعلٌ فعول
بيتٌ كمعناك ليس فيه
معنى سوى أنه فضول

الغث السمين

لنا صديق كلا صديقٍ
غثٌّ على أنه سمين
من أقبح الناس، لا أحاشي
من كان منهم ومن يكون
إذا بدا وجهه لقوم
لاذت بأجفانها العيون
كأنه عندهم غريمٌ
حلت عليهم له ديون
وهْو على ما وصفتُ منه
متَّهم ودُّه ظنين

كبرياء الحُجاب

وكم حاجب غضبان كاسر حاجب
محا الله ما فيه من الكسر بالكسر!
عبوس إذا حيَّيته بتحية
فيا لك من كبر ومن منطق نزر
يظل كأن الله يرفع قدره
بما حطَّ من قدري وصغَّر من أمري
إذا ما رآني عاد أعمى بلا عمًى
وصم سميعًا ما بأُذْنَيه من وقر
ومن شيم الحُجاب أن قلوبهم
قلوب على الآداب أقسى من الصخر
يخافون أن يحظى سواهم بحظهم
فهم من سؤال السائلين على وحر

ثقيل

كان للأرض مرة ثقلانِ
فلها اليوم ثالث بفلانِ
أتقي غصَّة اسمه، علم الله،
فأكني عن ذكره بالمعاني
يا ثقيل الثقال أقذيت عيني
ليت أني كما أراك تراني
من يكن عانيًا بحُب حبيب
ففؤادي ببغضك اليوم عاني

بارد ثقيل

يا أبا القاسم الذي ليس يدري
أرصاص كيانُه أم حديدُ
أنت عندي كماء بئرك في الصيـ
ـف ثقيل يعلوه بردٌ شديد

في أخرق

وأخرق تضرمه نفخة
سفاهًا وتطفئه تفله
فأخلاقه تارة وعرة
وأخلاقه تارة سهله

أصدقاء كثيرو السلام

ولي أصدقاء كثيرو السلامِ
عليَّ وما فيهمُ نافع
إذا أنا أدلجتُ في حاجةٍ
لها مطلب نازحٌ شاسع
فلي أبدًا معهم وقفةٌ
وتسليمة وقتُها ضائع
وفي موقف المرء عن حاجةٍ
تيمَّمها شاغلٌ قاطع
ترى كل غث كثير الفضو
ل، مصحفه مصحفٌ جامع
يُحدِّثني من أحاديثه
بما لا يلذُّ به السامع
أحاديث هن كمثل الضريـ
ـع، آكلُه أبدًا جائع
أولئك لا حيُّهم مؤنسٌ
صديقًا، ولا مَيْتُهم فاجع

(١٥) تجاريب وعظات

الظنون

يا أخي، أين رَبْع ذاك اللقاء؟
أين ما كان بيننا من صفاءِ؟
كشفَتْ منك حاجتي هنوات
غُطِّيتْ برهةً بحُسن اللقاء
تركتْني ولم أكن سيِّئ الظـ
ـن أسيء الظنون بالأصدقاء
قلت لما بدت لعيني شنعًا
رُب شوهاء في حشا حسناء
ليتني ما هتكت عنكنَّ سترًا
فثَويتُن تحت ذاك الغطاء
قُلن لولا انكشافُنا ما تجلت
عنك ظلماء شبهة قتماء
قلت أَعجِبْ بكن من كاسفات
كاشفات غواشيَ الظَّلْماء
قد أفدْتُنَّني — مع الخُبْر بالصا
حب — أن رُب كاسف مستضاء
قُلن أَعجِبْ بمهتدٍ يتمنَّى
أنه لم يزل على همياء
كنت في شبهة فزالت بنا عنـ
ـك فأوسعْتَنا من الإزراء
وتمنيت أن تكون على الحيـ
ـرة تحت العماية الطخياء
قلت تالله ليس مثليَ مَن وَ
دَّ ضلالًا وحيرةً باهتداء
غير أني وددتُ ستر صديقي
بدلًا باستفادة الأنباء
قلن هذا هوًى فعرِّج على الحـ
ـقِّ وخلِّ الهوى لقلب هواء
ليس في الحق أن تودَّ لخلٍّ
أنه الدهرَ كامن الأدواء
بل من الحق أن تنفر عنهنَّ
وإلا فأنت كالبعداء
إن بحث الطبيب عن داء ذي الدَّا
ءِ لَأسُّ الشفاء قبل الشفاء
دونك الكشفَ والعتابَ فقوِّم
بهما كلَّ خلة عوجاء
وإذا ما بدا لك العرُّ٧٤ يومًا
فتتبع نقابه بالهناء٧٥
قلت في ذاك موتكنَّ، وما المو
ت بمُستعذَب لدى الأحياء
قلن ما الموت بالكريه إذا كا
ن بحقٍّ فلا تزد في المراء

طينة الناس

واعلم بأن الناس من طينة
يصدق في الثلب لها الثالبُ
لولا علاج الناس أخلاقَهم
إذَن لفاح الحمَأ اللازب

اعتزال الناس

ذقت الطعوم فما التذذت كراحةٍ
من صحبة الأشرار والأخيار
أَؤحب قومًا لم يحبوا ربهم
إلا لفردوسٍ لديه ونار؟!

المعدم في أمان

ما راح مغبونًا بصفقة خاسرٍ
من باع متعة فائت بأمان
أمِنَ امرؤٌ من رُزءِ شيء فاته
والمدركوه مراقبو الحَدَثان
وكفى عزاءً لامرئٍ من فائتٍ
ألَّا يخاف عليه صرف زمان

القناعة

إذا ما كساك الله سربال صحةٍ
ولم تخلُ من قوتٍ يحل ويعذب
فلا تغبطن المترَفين فإنهم
على حسب ما يكسوهم الدهر يسلب

من هو الكريم؟

ليس الكريم الذي يعطي عطيَّته
على الثناء وإن أغلى به الثمنا
بل الكريم الذي يعطي عطيَّته
لغير شيءٍ سوى استحسانه الحسنا

جزاء الإحسان

ولقد كافأ بالنعمى امرؤ
كافأ النعمى بإخلاص الوداد
إن يكن نُوِّل نيلًا من يدٍ
فلقد نُوِّل نيلًا من فؤاد

الدرهم والسيف

لم أرَ شيئًا صادقًا نفعه
للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاتِه
والسيف يحميه من الحيف

الشرير

وليس بشرير ضليعٌ بحجة
رمى باطلًا بالحق حين يخاصم
ولا واسم عِرض امرئٍ كان ناله
بسوء، وإن لامته فيه اللوائم
وما بيَ زهدٌ في التفضُّل إنه
لفضل، ولكن للرجال شكائم
ولكنما الشرير مَن عمَّ شرُّه
وسولم بدءًا فأْتَلى لا يسالم
وعاد بإذعان له وتودد
أخوه فلم تنفعه تلك التمائم
وكافأ إحسانًا بسوءٍ ولم يزل
يراجم بالمكروه من لا يراجم

الظلم

لَانتقامُ المظلوم أربى على الظا
لم، من ظلمه على المظلوم
صاحبُ الظلم إن تأملت كالرا
تع في المرتع الوبيل الوخيم
يجتلي أمره فيعلم أن قد
باع ليل الكرى بليل السليم٧٦
فهْو مِن لوم نفسه حين يخلو
في عُرامٍ وفي عذاب أليم
قد أمرَّت حياته وشجته
برحاء النديم والتنديم
لو تجافى الخصيم عنه وأغضى
لَكفَاه بنفسه من خصيم

الملام

لا تكثرنَّ ملامة العشاق
فكفَاهمُ بالوجد والأشواق
إن البلاء يطاق غير مضاعف
فإذا تضاعف كان غير مطاق
لا تُطفئن جوًى بلومٍ إنه
كالريح تغري النار بالإحراق

السلو

أبت نفسي الهلاع لرزء شيءٍ
كفى شجوًا لنفسي رزء نفسي
أتهلع وحشةً لفراق إلفٍ
وقد وطنتها لحلول رمس

الصبر

أرى الصبر محمودًا وفيه مذاهبُ
فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهبُ؟!
هناك يحق الصبر، والصبر واجب،
وما كان منه كالضرورة أوجب
هو المهرب المنجى لمن أحدقتْ به
مكاره دهر ليس منهنَّ مهرب
لبوس جمالٍ، جِنَّة من شماتةٍ،
شفاء أسًى، يُثنَى به ويُثوَّب

إغراء المثيب

وتولى الشباب فازددت ركضًا
في ميادين باطلي إذ تولَّى
إن مَن ساءه الزمان بشيءٍ
لَأحقُّ امرئٍ بأن يتسلى

الفناء

إذا اختط قومٌ خطة لمدينة
تقاضتهمُ أضعافها للمقابر
وفي ذاك ما ينهاهمُ أن يشيدوا
وأن يقتنوا إلا كزاد المسافر

الحرب الأهلية

وما قتلُ بعض الحي بعضًا بناهكٍ
قواه إذا ما جاء حيٌّ يحاربه
وما لطمُ بعض الموج في البحر بعضَه
بمانعه تغريقَ من هو راكبه

يجنون الحرب وغيرهم وقودها

رأيتُ جناة الحرب غير كفاتها
إذا اختلفت فيها الرماح الشواجر
كذاك زناد النار عنها بنجوةٍ
ولكنما تصلى صلاها المساعر

الإغضاء إلا عن الخلصاء

يا أبا القاسم الذي كنت أرجو
ه لدهري قطعت متن الرجاء
لا أجازيك عن غرورك إيا
يَ غرورًا وُقيتَ سوء الجزاء
بل أرى صدقك الحديث وما ذا
ك لبخل عليك بالإغضاء
أنت عيني، وليس من حق عيني
غضُّ أجفانها على الأقذاء

(١٦) الشعر

دفاعه عن شعره

قلت لمن قال لي عرضتُ على الـ
أخفش٧٧ ما قلته فما حمِدهْ
قصرت بالشعر حين تعرضه
على مبين العمى إذا انتقده
ما قال شعرًا، ولا رواه، فلا
ثعلبه كان، لا ولا أسده
فإن يقل إنني رويت، فكالدَّ
فتر جهلًا بكل ما اعتقده
أرُمْتَ زيني بأن تُعرِّضني
لمدحه، فالذليل من عضده
أم رُمْت شيني بأن تُعرِّضني
لثلبه، فالسليم من قصده٧٨
أنشدته منطقي ليشهده
فغاب عنه عمًى وما شهده
وقال قولًا بغير معرفةٍ
إفكًا، فما حل إفكه عقده
شِعريَ شِعرٌ إذا تأمَّله الـ
إنسان ذو الفهم والحجى عبده
لكنه ليس منطقًا بعث الله
به آية لمن جحده
ولا أنا المفهم البهائم والطَّـ
ـيْر سليمانُ قاهرُ المَرَده
ما بلغت بي الخطوب رتبة من
تفهم عنه الكلاب والقرده
وحسبُ قرد أراه يحسدني
أن يُسكِن الله قلبه حسده
لا خفَّف الله عنه من حسدي
وزاده الله فوقه كمده
ولا تزل صورتي إذا طلعت
لناظرَيه قذاه بل رمده

حمله على البحتري

الحظ أعمى ولولا ذاك لم نَرَهُ
للبحتري بلا عقلٍ ولا أدبِ
قبحًا لأشياءَ يأتي البحتريُّ بها
من شعره الغث بعد الكدِّ والتعب
كأنها حين يُصغي السامعون لها
ممن يُميِّز بين النبع والغرب
رُقَى العقارب، أو هذر البناة إذا
أضحوا على شعف الجدران في صخب
وقد يجيء بخلطٍ فالنحاس له
وللأوائل ما فيه من الذهب
يسيء عفًّا، فإن أكدَتْ وسائله
أجاد لصًّا شديد البأس والكلب
عبدٌ يُغِير على الموتى فيسلبهم
حرَّ الكلام بجيشٍ غير ذي لجب
ما إن تزال تراه لابسًا حللًا
أسلاب قوم مضوا في سالف الحقب
شعر يغير عليه باسلًا بطلًا،
وينشد الناس إياه على رقب
يقول مستمعوه الجاهلون به
أحسنت يا أشعر الحُضَّار والغيَب
والحكم فيه مبين غير ملتبس
لو ريم فيه خلاف الحق لم يصب
إذا أجاد فأوجِبْ قطعَ مِقوَلِه
فقد دهى شعراء الناس بالحرب
وإن أساء فأوجِبْ قتله قوَدًا
بمن يميت إذا أبقى على السلب

التأسي

خليليَّ قد علَّلتُمانيَ بالأسى
فأنعمتُما لو أنني أتعلل
وما راحة المرزوء في رُزءِ غيره
أيحمل عنه بعض ما يتحمل؟
وضربٌ من الظلم الخفيِّ مكانه
تعزيك بالمرزوء حين تأمل
لأنك يأسوك الذي هو كَلْمه
بلا جرمٍ، لو أن جورك يعدل

حلم اليقظة

المرء في حال التيقظ هاجع
يرنو إلى الدنيا بمقلة حالمِ
وأخو الحجا أبدًا يجاهد طبعه
فتراه وهو محاربٌ كمسالم

التكلف

في الناس ذو حلم يُسفِّه نفسه
كيما يُهابَ وجاهل يتحلم
وكلاهما تَعِبٌ يحارب شيمة
غلبت فآض بحملها يتألم

الدهر الشاعر

الناس كالشعر تلقى الأرض جائشة
بالجمع يزجى، وخير منهم رجلُ
والدهر شاعر آفات يفوه بها
للناس يفكر تارات ويرتجل

الحزم

إذا طرف من حبلك انحلَّ عقده
تداعت وشيكًا بانتقاض مرائره٧٩
فلا تغفلن أمرًا وَهَى منه جانب
فيتبعه في الوَهْي لا شك سائره

الأصدقاء

عدوك من صديقك مستفاد
فلا تستكثرنَّ من الصحابِ
فإن الداء أكثر ما تراه
يحول من الطعام أو الشراب
إذا انقلب الصديق غدًا عدوًّا
مبينًا والأمورُ إلى انقلاب
ولو كان الكثير يطيب كانت
مصاحبة الكثير من الصواب
وما اللجج الملاح بمُروِيات
وتلقى الريَّ في النطف العذاب

جمع المال

المال يُكسِب ربه ما لم يفض
في الراغبين إليه سوءَ ثناءِ
كالماء تأسن بئره إلا إذا
خبط السقاة جمامه بِدِلاء

في الثقال

ليس حمد الجفون في مريها النو
م ولا نفيها أذى الأقذاء
إنما حمدها إذا هي حالت
بين طرف العيون والبغضاء

المنى

حرك مناك إذا هممـ
ـت فإنهن مراوحُ
لا تيْئَسن فإن رِز
ق الله غادٍ رائحُ

حظه من الشعر

وَيْحَ القوافي ما لها سفسفت
حظي كأني كنت سفسفتُها
ألم تكن هوجًا فسددتُها؟
ألم تكن عوجًا فثقفتُها؟
كم كلمات حكت أبرادها
وسَّطتها الحسن وطرَّفتها!
ما أحسنت إن كنت حسَّنتها
ما ظرفت إن كنت ظرَّفتها
أنحت على حظي بمبراتها
شكرًا لأني كنت أرهفتها
فرَقَّقتْه حين رقَّقتُها،
وهفهَفتْه حين هفهَفتُها
وكثفت دون الغنى سدَّها
حتى كأني كنت كثفتها
أحلف بالله لقد أصبحت
في الرزق آفتي وما افتأتها
لم أشكُها قطُّ بتقصيرة
فيها، ولا من حيفة حفتها
حُرمتُ في سنِّي وفي ميعتي
قِرايَ من دنيا تَضيَّفتها
لهفي على الدنيا وهل لهفة
تنصف منها إن تلهفتها؟
كم آهةٍ لي قد تأوهتها
فيها، ومن أفٍّ تأففتها!
أغدو ولا حال تسنَّمتها
فيها، ولا حالٌ تردفتها

هوامش

(١) ص٧٤٣ من كتاب الموشح.
(٢) يطمه بالجلم: يعلوه بالمقص.
(٣) جمع جمة، والمقصود بها هنا رءوس الشجر.
(٤) المطر الخفيف الدائم.
(٥) المزاد: ما يوضع فيه الزاد.
(٦) نبت كاللوبية ملون حسن الشم والمنظر.
(٧) ملأى طافحة.
(٨) أصاغر الجبال.
(٩) غرير وشدقم: فحلان مشهوران من الإبل.
(١٠) المردي: حجر يرمى به.
(١١) أرض قفر لا نبات بها.
(١٢) المسعم: السريع السير.
(١٣) ثعلب.
(١٤) غائر أو مستكن.
(١٥) المذنب: مسيل الماء إلى الأرض.
(١٦) وأَلَ من الشيء إلى الشيء: لجأ.
(١٧) للطير الحائنات.
(١٨) الملازمة.
(١٩) اسم جارية.
(٢٠) حيوان يقرب من السنور في الحجم.
(٢١) المقدم: الذي عليه القدام، وهو شبه مصفاة.
(٢٢) صرد الرجل: سقاه دون الري.
(٢٣) الغدير لا تصيبه الشمس فيبرد الماء.
(٢٤) الشثن: الغليظ.
(٢٥) القدح الصغير.
(٢٦) يشير إلى قول عمر بن أبي ربيعة من أبيات له:
أبصرتها ليلة ونسوتها
يمشين بين المقام والحجر
قالت لها أختها تعاتبها:
لا تفسدن الطواف في عمر
ولعل بستان كانت تغني هذه الأبيات.
(٢٧) الزور: الميل.
(٢٨) أي لولا التعزي بوصلها في الخلد.
(٢٩) الاحتضار.
(٣٠) الهم من الندم.
(٣١) كناية عن اللهوان يستوحش فيرحل.
(٣٢) شدة الحزن والجزع.
(٣٣) لهسم: أكل جميع ما على المائدة.
(٣٤) طائفة الخيل.
(٣٥) كناية عن إشراقها والاكتفاء بسناها.
(٣٦) أو لا شبه لها إلا أمها الكبرى؛ وهي الشمس التي تمزق طلعتُها الظلامَ.
(٣٧) اليابس.
(٣٨) غزالة تصوت فيجاوبها ولدها. كناية عن مجاوبة العود لغناء المغنية.
(٣٩) يغفر له.
(٤٠) شمع العسل أو قشر البيض.
(٤١) وفي رواية صحته.
(٤٢) غلام حزور: بلغ القوة.
(٤٣) ملآن.
(٤٤) الأغصان إشارة إلى القدود، والتفاح الخدود، والرمان النهود.
(٤٥) كرم الأعناب إشارة إلى مسترسل الشعور.
(٤٦) العناب: البنان المخضوب.
(٤٧) النرجس إشارة إلى الأعين، والأقحوان: الثغور الناصعة الثنايا.
(٤٨) جمع أخطب: مُرٌّ. ويقال: أمر من نقيع الخطبان.
(٤٩) سم.
(٥٠) الأدرد: من ذهبت أسنانه.
(٥١) مصاب.
(٥٢) اللحم المكتنز.
(٥٣) مرج الدين: اضطرب وقلق.
(٥٤) مجمج الكتاب: لم يبين حروفه ولم يفد به.
(٥٥) عيش واسع ناعم.
(٥٦) زلج فلانًا فلا تقدم.
(٥٧) جلد أو طلاء أسود.
(٥٨) فلو نزل يحيى بن الحسين لمعترك وقلبه متخوب كقلب أبيكم لسلم نفسه للأسر أو لولَّى هاربًا.
(٥٩) ذكر النعام.
(٦٠) الأيطل: الخاصرة، والمنسج: ما بين العرف وموضع اليد.
(٦١) أوكى القربة: شدها بالوكاء.
(٦٢) أشرج الخريطة: داخل بين شراجها وشدها.
(٦٣) الهزمجة: اختلاط الصوت.
(٦٤) المحدق النظر.
(٦٥) أوثج: أي أشد كثافة والتفافًا.
(٦٦) من عنج الراكب البعير: جذبه بخطامة ليقف.
(٦٧) نبات سهل.
(٦٨) علز: أخذه القلق أو الهلع.
(٦٩) نأجت الريح: اشتدت.
(٧٠) البوائج: الدواهي.
(٧١) تتردد وتتحير.
(٧٢) الرفش: ما يجرف به التراب.
(٧٣) الأرش: الدية.
(٧٤) العر: الجرب.
(٧٥) القطران.
(٧٦) الملدوغ.
(٧٧) هو علي بن سليمان الأخفش.
(٧٨) الذليل من آزره الأخفش، والسليم من قصده الأخفش بسوء.
(٧٩) أمر الحبل: فتله شديدًا، والمرير من الحبال ما اشتد فتله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤