الفصل الثامن عشر

العمال أحرارهم وعبيدهم

«تاجانرج» — في إقليم روستوف — تقع على بحر آزُف، وهي مدينة نظيفة كانت تأخذ أمور الحياة على مهل، وكانت بها الحدائق والبساتين الفسيحة، أما الآن فقد غُصَّت بمشروعات السنوات الخمس، وأصبحت مدينة يغبِّرها الدخان والرماد وروائح السمك المنبعثة من مصانع الطعام المحفوظ، أصبحت مدينة تمتد أميالًا بعد أميال من البيوت والثكنات الجديدة التي بُنِيَت حول مصانع الطائرات والدراجات ومصانع التعدين والأحذية.

كان بها مصنع «أندريف» — وقد سُمِّيَ باسم أحد أعضاء الهيئة السياسية العليا — وهو يقوم بصناعة عجلات السكك الحديدية وصفائح المدن والأنابيب وغيرها من منتجات الصلب، وكان قسم الأنابيب بالطبع هو الذي سيقع تحت إشرافي، وخُصِّصَت لي «شقة» مريحة في مبنى الإدارة، حيث كانت مساكن الصفوة الممتازة.

تُرَى هل كان القائمون على بناء المدينة منصرفين باهتمامهم إلى إبراز مسافة الخلف التي تباعد بين طبقتي السوفيت العليا والدنيا؟ لا أظن ذلك، ومع هذا فقد كان هذا الفارق بارزًا صارخًا بحيث يؤرق جنبيك، كان هنالك صفوف من الشجر البديع أخفت وراءها المصنع وما حوله من ثكنات، وكانت تمتد على الجوانب مماشٍ من حصباء تحفها شجيرات البنفسج، وتمتد إلى بِرْكة ماء للسباحة وللتنزه بالزوارق (كانت خاصة بالموظفين بالطبع)، حيث كان الشاطئ على أحسن ما يكون تمهيدًا، وكان هناك كذلك ملاعب التنس وغرفات البليارد وغرفة للطعام جميلة لا يستعملها إلا الخواص.

لم يكن ينقص هذه الأبهة كلها إلا وجه باسم أو طلعة بهيجة، فلئن كانت أسوأ مراحل التطهير قد زالت بجنونها، فقد تلكأت خلفها أعقاب من دخان، فنصف موظفي الإدارة تقريبًا — من رجال الحزب وغيرهم — اكتسحتهم موجة التطهير، وأما من ظلوا منهم بمنجاة فقد كانوا في حالة من القلق والجزع، يكادون يحسون في أنفسهم استحياء؛ لأنهم أفلتوا من براثن الخطر كل هذا الزمن، وأُلْقِيَ بزمام لجنة رستوف الإقليمية في يد أمين جديد هو «دفنسكي» الذي كان فيما سبق في مكتب ستالين نفسه، جاء من موسكو مباشرة لتولي منصبه، وكذلك جاء مدير جديد لمصنعنا، هو «سميون رسنيكوف»، لكن أشباح القادة الذين أصابهم التطهير كانت لا تزال تحوم حولنا.

كان من عادة «أورزنكدز» أن يُسْدِي النصح للمهندسين فيقول: «عليكم بدراسة الثقافة والنظافة في الأعمال الهندسية الفنية من بوريس كولسنيكوف.»

وقد كان مصنع التعدين في «تاجانرج» الذي ظل كولسنيكوف مديره عدة أعوام، تحفة للناظرين بفضله؛ ذلك لأنه عاش في الولايات المتحدة وكان لا يدخر وسعًا في إدخال النظام الأمريكي وكفاية الأمريكيين حتى لقد بلغ بهذه «الأمركة» حدًّا ظنه أصحابه إسرافًا يتعذر معه لأعوانه أن يتابعوه فيه، ومع ذلك كله فقد أُلْقِيَ القبض على «كولسنيكوف» هذا وزوجته، وشاعت الشائعة أنه هو وزوجته قُتِلَا رميًا بالرصاص، وأن أبناءهما زُجَّ بهم في سجن خاص بالأحداث في خاركوف.

ولما وصلتُ المصنع لم يكن قد مضى على فصل كولسنيكوف ومعظم أعوانه إلا أشهر قلائل، ومع ذلك فلم يبقَ من آثار «الأمركة» التي صبغ بها المصنع في حماسة مشتعلة إلا القليل، وهكذا لم يبقَ من عمله الذي ظفر بسببه بحمل من الأوسمة وعلام التقدير إلا أنقاض خربة، وشاع في أرجاء المصنع الخمول والفوضى، وتعطلت حركة الإنتاج حتى لقد روعني وروع المدير «رسنيكوف» ما كان ينتظرنا من عمل.

وتبين لي من مقابلتي لموظفي الحزب في لجنتيه الإقليمية والمحلية أن سمعتي قد سبقتني إلى مقري الجديد، إذ أرسلت اللجنة في نيقوبول وأرسل «دوروجان» معلومات وافية عني كأنهم أبوا عليَّ أن أبدأ بصحيفة بيضاء، وسرعان ما أوحى موظفو الحزب في الإقليم إليَّ شعورًا بأنني تحت الرقابة وأنني في قبضة يدهم، وأخذوا يتحسسون خواطري وميولي تحسسًا كثيرًا ما كانوا فيه غلاظًا بغير تهذيب، لعلهم يجدون مواضع ضعف تمكنهم من مهاجمتي دون أن أكون منهم على حذر.

والحق أن بدايتي هناك لم تكن بداية تبشر بأمل كبير، وفضلًا عن ذلك، لم أكد أجد هناك ما يطمئنني بالًا؛ لأن أعمال السخرة هناك كانت أبرز ظهورًا منها في نيقوبول بدرجة واضحة، فطائفة كبيرة من أرقاء القسم السياسي كانت هي التي تقوم بالعمل الشاق في شحن أثقال مصنعنا وتفريغها، وكانوا يشتغلون تحت الحراسة من عشر ساعات إلى اثنتي عشرة ساعة كل يوم، وكذلك كانت طائفة أكبر من هذه عددًا تشتغل في أعمال الإنشاء الجديدة في مصانع التعدين بسولنسكي المجاورة لنا، وكثيرًا ما كنت أصادف هؤلاء الأرقاء زرافات في الطريق الرئيسي الممتد بين تاجانرج ورستوف.

إن منظر هذه المخلوقات الذاوية في أسمالها البالية بحيث يكاد يستحيل عليك أن تحشرها في زمرة البشر، قد أخمد من قلبي كل ما قد يكون باقيًا فيه من شرارة من التحمس شاردة بين جنباته، فما كان أشده ألمًا على نفسي أن أعلم أن ألوف الألوف من هؤلاء العبيد كانوا يعملون ويألمون ويموتون كما يتساقط الذباب المتهافت في طول الروسيا وعرضها؛ لذلك لم أزل أدفع بهذه الحقائق إلى مؤخرة ذهني حتى أنصرف لسواها؛ لكني كلما صادفت مثلًا جديدًا من هذه الحقائق المُرَّة كانت لي بمثابة الصدمة الجديدة، ولعل ما زاد في مرارتها على نفسي كلما أبصرت بمثل منها، شعوري بأنه لولا المصادفة العمياء لكنت أنا كذلك بين هذه الزمرة من البائسين، وعلمي علم اليقين أني على كل حال سأكون واحدًا منهم بعد حين قصير.

وذات مساء في ساعة متأخرة من الليل دُعِيتُ إلى رئاسة القسم السياسي في تاجانرج، ولم يكن قد مضى على إقامتي في ذلك الإقليم إلا أسبوعان لم أكد خلالهما أفرغ من الإحاطة بما يتطلبه منصبي وما يقتضيه من تنظيم، واستقبلني في مكتب القسم السياسي مساعد رئيس الجانب الاقتصادي من ذلك القسم، وهو رجل لا أذكر اسمه الآن، وكان رجلًا لا تشوبه شائبة، ومتحفظًا على طريقة خاصة به، ولم أكد أرسل بصري على الأوراق المنشورة على مكتبه حتى تبينت من فوري أنها «المادة» التي أعدها له عني زملاؤه في نيقوبول.

فقال لي: «إن مهمتي الخاصة هي أن أرقب مصنع خراطة الأنابيب الذي يقع تحت إشرافك، فعَنَّ لي أنه من المستحسن أن يتعرف أحدنا بالآخر، إذن فقل لي شيئًا عن نفسك.» واستند إلى كرسيه كأنه طفل هيأ نفسه لينصت إلى حكاية تُرْوَى له قبيل النوم.

– «لست أدري ماذا أقول لك عن نفسي، فيخيل إليَّ أنك تعرف الآن عني كل شيء.»

– «لا، لا يا عزيزي كرافتشنكو، يستحيل على إنسان أن يعرف عن إنسان كل شيء، فهل لك مثلًا أن تقول لي منذ متى عرفت المهندس «نيقولاي ﻣ…؟» وما المناسبة التي عرفته فيها؟»

وكان ﻣ… مساعد كبير المهندسين في المصنع، وكنا قد تزاملنا في العمل في مناسبات كثيرة، وفكرتي عنه طيبة، وسألني الشرطي السياسي قائلًا: «ما الدور الذي قام به في تعيينك هنا؟»

– «لم يقم في ذلك بشيء على الإطلاق، بل إني لم أكن أعلم أنه يشتغل ها هنا.»

– «ولماذا إذن تحدث عنك ﻣ… إلى رسنيكوف، بل تحدث حديث المتحمس؟»

– «لا أدري عن ذلك شيئًا قط، ولكنه ربما كان من الطبيعي أن يذكر له صلته بي ما دام يعرفني.»

– «نحن هنا في القسم السياسي لا نرى ذلك من الطبيعي أبدًا، بل الأمر على عكس ذلك تمامًا، فالأمر عندي يدعو إلى غاية العجب، إذ كيف يحدث — وأنت عضو في الحزب — أن يحتضنك رجل لا ينتمي إلى الشيوعية، وولاؤه — بيني وبينك — مشكوك فيه؟»

ثم غيَّر موضوع استجوابه إلى مدير المصنع السابق وهو كولسنيكوف.

فقلت له في شيء من الحرارة: «استمع إليَّ يا رفيقي، لقد أجبت عن هذه الأسئلة مئات المرات في مدة تقرب من عام ونصف عام إذ كنت أعاني عملية التطهير، لقد أجبت عنها في محاكمات القسم السياسي، وأمام اللجنة المحلية ثم لجنة المراقبة، حتى مللتها وسئمتها، لقد أرسلتني موسكو إلى هذا البلد لأعمل، إن براءتي قد نهض عليها البرهان، هلا تركتني وشأني؟»

فنظر إليَّ نظرة ارتباك كأنني حشرة سامة وُضِعَت أمامه في زجاجة، وقال: «ماذا جرى؟ اضبط أعصابك يا رفيقي كرافتشنكو، وأرجوك أن تتذكر بأنه من الجائز أن يقوم البرهان على براءة إنسان من كل شائبة، وبعدئذٍ — هُبْ! — تراه مقبوضًا عليه لشيء جديد.»

ففهمت ما يعنيه، وجعلت في سأم أثبت له ما أثبتُّه مرارًا، وأنفي ما نفيته مرارًا خلال العام المنصرم، إذ كان عقلي وذاكرتي المكدودين يعتصران اعتصارًا بهذا النفي وذلك الإثبات، وأخذ هذا الموظف يلعب بي ساعة بعد ساعة كما يلعب الطفل الخبيث بخنفساء، ولم يكن له — فيما بدا لي — قصد محدد واضح، فكنت تراه يترك موضوعًا يستجوبني فيه ثم يعود إليه فجأة، وهي حيلة قاسيتها فيما مضى مرات عدة.

والشيء الذي فهمته من أسئلته أن الأمر هنا — كما هو في نيقوبول — هو أن كل مهندس وكل مدير يحيط به الجواسيس في عمله وفي داره على السواء، ومما لا شك فيه كذلك أن القسم السياسي في تاجانرج كان عاكفًا على طبخ قضية يتهم فيها هذا الرجل «م …» ورجحتُ أن المسكين على الرغم من حريته الظاهرة، لا بد أن يكون في محنة من «الترويض» الليلي الذي ذقت مرارته بنفسي.

وبعد نوم لم يطُلْ أكثر من ساعتين أو ثلاث، كنت في أقسام مصنعي مع الصباح، أصدر القرارات في إنتاج يكلف الملايين من الروبلات، يا لها من سخرية مريرة!

ولم تدم إقامتي على شطئان بحر آزُف إلا أمدًا جد قصير، فقد دعاني المكتب الرئيسي لصناعة الأنابيب إلى موسكو دون أن يبين لذلك سببًا، وقال لي رئيس تلك المؤسسة «ميركلوف» على مسمع من مساعده «كوزفنكوف»: إن الرئيس الأعلى «كاجارنفتش» والحزب على وشك أن يثنيا عليَّ ثناءً عظيمًا.

قال لي: «إن مصنع الأنابيب الجديدة في أورال ما فتئ مباءة تخريب وإتلاف، وقد طهرناه من معظم هؤلاء الأوغاد، وسنقبض على بقيتهم بيد من حديد، ونود أن ندعم إدارته بأشخاص قادرين مؤهلين ممن نعتمد عليهم في الناحية السياسية.»

فابتسمت قائلًا: «ولست من هؤلاء، فأنا آثم يا رفيقي مركلوف، إذ نالتني حركة التطهير ثم ظهرت براءتي، ولا تزال التهم الخطيرة تكتنفني من قمة الرأس إلى أخمص القدم.»

– «نحن نعرف كل شيء، لكننا نثق فيك.»

وأضاف إلى ذلك كوزفنكوف قائلًا: «دع هذا يا فكتور أندريفتش، ولا تحفظ في نفسك شعورًا بالإساءة على ما فات.»

ثم استأنف ميركلوف الحديث فقال: «وعلى كل حال فقد قضينا بتعيينك رئيسًا لأكبر مصنع فرعي لصناعة الأنابيب، وهو ليس أكبر مصنع في اتحاد السوفيت وحده، بل في أوروبا بأسرها.»

– «لكني لا أحب الذهاب إلى أورال، فأنا مُتعب وليس بي حاجة إلى ذلك المكان الفظيع.»

لم يكن أحد من المتصلين بالصناعة في بلادنا يجهل بشاعة مصنع الأنابيب الجديدة في برفولوفسك، وهي تبعد أربعين ميلًا عن سفردلوفسك، فهو مصنع أُنشئ في مكان مهجور، تقطع فيه أميالًا بعد أميال دون أن يصادفك شيء من العمران، وهو يقع في قلب منطقة من المستنقعات وسهول من الطين، وتكتنفه غابات الصنوبر ومعسكرات الاعتقال، وقد أداروا هذا المصنع ليأخذ في الإنتاج قبل الوقت الملائم بسنوات، إذ أداروه قبل أن تتم أقسامه الرئيسية وقبل أن تهيأ له القوة الكافية لإدارته، فكان ما ينتجه في هذه الظروف قليلًا رديئًا، ومن يسوء حظه بحيث يرسل لإدارة هذا المصنع يفقد في العادة حريته لقاء أخطاء لم يقترفها سوى أولئك الذين وضعوا للمصنع تدابيره في موسكو.

فقال لي ميركلوف: «نحن على يقين مما يكتنف مصنع برفولافسك من فوضى، ولذلك سنؤيدك بكل وسيلة ممكنة، وسيكون الرفيق كاجانوفتش نفسه ظهيرًا لك، وسندفع لك أكبر ما يدفع من مرتبات، ثم نكافئك بعلاوة عن كل نسبة معلومة مما تدخله من تحسين، وسنعطيك سيارة جديدة، بل سنعطيك كل ما تريد.»

– «لست أطلب سوى بقائي في تاجانرج.»

– «أنا آسف، فقد توقعت أن تبدي علامة ارتياح لما وضعه فيك الحزب من ثقة وتعيينك أمر محتوم، إذ قضت في أمره اللجنة المركزية العليا.»

وكنت بعدئذٍ وحدي مع كزهفتيكوف فلم يسعني إلا أن أقول له: «إذا حسبت أن الحب القهري يؤتي ثمرة، وما دمت تتهددني بإجراءات تأديبية إذا رفضت منصبي ذاك، فسأقبله وسأبذل فيه قصارى جهدي.»

فضحك وقال: «هذا جميل، لعلك تدري أن الحب عادةٌ تُكْتَسب، فالقسر يأتي أولًا، ثم تتلوه العادة، ثم يتلوها الحب آخر الأمر، وعلى كل حال فقد تم بيننا الاتفاق، والآن فلنأخذ في العمل.»

وقابلت المدير الجديد للجماعة الصناعية كلها في إقليم أورال واسمه «أوسادش» وهو رئيسي الأوحد في ذلك الإقليم، كما قابلت غيره ممن عينوهم حديثًا للعمل معنا هناك، وهكذا اجتمعت في موسكو هيئة جديدة بكل أعضائها لإدارة ذلك المصنع، لكن لم يرد اسم واحد لمهندس أو لموظف ممن سيقومون بالعمل في الجماعة الصناعية، وكنت أرقب مهام عملي الجديد بقلب تملؤه وساوس الناقم، وقد كان مصنع الأنابيب الجديدة ذاك لا ينتج سوى كمية تتراوح بين ٣٥ و٤٠ في المائة من الإنتاج الشهري الذي فُرِضَ له، وما فتئت الصحافة وما فتئ أولو الأمر في خطبهم الرسمية يذكرون ذلك المصنع مثلًا من أسوأ الأمثلة التي تساق على سوء الإدارة والإتلاف، وإذن فقد كنت بمنصبي ذاك بمثابة من ورث صداعًا في الرأس هو من أفظع ما يتصدع به رأس الصناعة التعدينية في البلاد كلها.

وفضلًا عن ذلك فقد كان الجو في موسكو وقتئذٍ كأنما أعد إعدادًا محكمًا ليزيدني تشاؤمًا، كنا وقتئذٍ في الأسبوع الثاني من مارس سنة ١٩٣٨م، وهو الوقت الذي وقعت فيه حركة التطهير الثالثة، وهي أشد من سالفتيها تحريكًا للمشاعر وإزهاقًا للأرواح بمحاكماتها، وقد كانت البلاد حينئذٍ قد ألفت أن تسمع أبشع الاتهامات توجه إلى آباء الثورة، بل ألفت أن تسمع ما هو أبشع مما يسمونه ﺑ «الاعترافات»، ومع ذلك فقد وقفت البلاد دهشة مرتابة؛ ذلك لأن المتهمين كان من بينهم «بخارين» و«رايكوف» و«كرستنسكي» وغيرهم ممن ترتبط أسماؤهم ارتباطًا وثيقًا باسم لينين.

كان «نيكولاي بخارين» رجلًا ذكيًّا زاهدًا من الطراز الأول، أو قل كان «قديسًا بلشفيًّا»، فكان للشباب الشيوعي في أيامي وثنًا يعبدونه، ولقد عادت إليَّ ذكريات لقائي به أول مرة في مكتب أورزنكدز، ثم مقابلاتي له بعد ذلك في مكتبه الخاص، وكانت له مكانة بحيث ظل الناس حتى بعد طرده من الهيئة السياسية العليا وبعد أن عرف عنه أنه فقد منزلته، ظل الناس يهتفون له كلما ظهر في الاجتماعات العامة هتافات لا يفوقها إلا هتافاتهم لستالين، وأما «ألكسي رايكوف» فهو الذي خلف لينين في رياسة مجلس وكلاء الشعب، وكان يتعصب لمبادئه إلى حد الهوس، وله لحية مشعثة وعينان تلفظان الشرر، وعلى الرغم مما عرفه عنه الناس جميعًا من إدمانه الخمر، فلم ينقص ذلك شيئًا من حبهم له، هؤلاء هم الرجال وأمثالهم الذين اعترفوا على أنفسهم والذين خرجوا على مكانتهم المعبودة من قلوبنا، هؤلاء هم الرجال الذين رموهم الآن بالرصاص؛ لأنهم يعملون لصالح الرأسماليين والخونة!

أشهد أنني ما قابلت في موسكو أحدًا ينظر إلى اعترافاتهم نظرة الجد، فلقد قبل هؤلاء الرجال على أنفسهم أن يقوموا بأدوار الدمى في مسرحية تعليمية لا تصور الحق الواقع بأي وجه من الوجوه، كان ستالين يفتك بأعدائه الشخصيين، ونجح في إلزامهم بالمساهمة في إذلال أنفسهم وإعدام أنفسهم، ولشد ما دهشنا للأساليب التي استخدمها ليصل إلى غايته، لكن أحدًا حتى من أعضاء الحزب أنفسهم لم يكن لينظر إلى ما ورد في المحاكمة من أقوال نظرته إلى الشهادة التي يوثق بصدقها حرفًا بحرف، فلو آمنت بصدق هذه الأقوال لكنت في عرف الشيوعيين بمثابة من يعترف على نفسه بالبلاهة الفطرية، وأكثر ما نتوقعه منك في هذا الصدد هو أن تأخذ هذه الأشياء بمعانيها الرمزية المجازية.

كان لهذه الحوادث أسوأ الأثر على رفيقنا الكهل ميشا الذي زرته أثناء رحلتي، فلقد عرف هؤلاء القتلى من الزعماء معرفة الصديق لأصدقائه، عرفهم قبل الثورة وبعدها وقد كان له شرحه الخاص لاعترافاتهم، وهو شرح لم يكن ليقنعني، لكنه كان مع ذلك أقرب ما سمعته من شروح لسلامة المنطق في تفسير تلك الظاهرة، وقد بنى ميشا شرحه على أساس معلومات سمعها من أصدقائه الكثيرين في الكرملن.

قال لي: «أولًا اعلم يا فيتيا أن الأكذوبة تظل أكذوبة بغض النظر عمن يعترفون بصدقها، ولندع جانبًا فصاحة الكلام، إن «بخارين» و«رايكوف» وغيرهما رغم ماضيهم المجيد، لم يكونوا سوى كائنات بشرية من لحم ودم، ولقد قلت لي بنفسك كيف كدت توقع على طائفة من أكاذيب تحت تأثير الضغط في نيقوبول، وما عانيته أنت من ألم هو لعب أطفال إذا قورن بما وقع على هؤلاء الزعماء من ضغط أدبي ومن ضغط جسدي كذلك في أغلب الظن.»

– «لكن هؤلاء الرجال أنفسهم يا رفيقي ميشا قد صمدوا للاضطهاد والتهديد الذي وقع عليهم من شرطة القيصر في عهدهم.»

– «لسوء الحظ لا سبيل إلى المقارنة، فالشرطة السرية القيصرية كانت لم تزل بدائية في أساليبها إلى حد بعيد، ولم تكن تقيم عملها على أساس علمي كهذا الذي تصطنعه شرطة اليوم، ولم يكن رجال الشرطة حينئذٍ من مهارة الشياطين التي نراها في نظام اليوم في شيء، ولست أدري كم منا نحن الثائرين القدامى كان يستطيع الصمود إذا كانت الشرطة السرية عندئذٍ تنزل بنا ما ينزله رجال الشرطة السياسية اليوم من ألوان التعذيب.

وشيء آخر لا يقل عن ذلك أهمية يا «فيتيا»، كان هؤلاء الرجال في الأيام الماضية يستمدون القوة من إيمانهم العميق، فأنت تعلم أن الناس لا يترددون في التضحية بأنفسهم، بل بما هو أشق من ذلك، أعني بالتضحية بمن يحبون، في سبيل إيمان بمبدأ عظيم أو رجاء تعلقت به عواطفهم، لكن ماذا يمدهم بالقوة إذ هم يعانون عذاب القسم السياسي اليوم أو عذاب السجن المنفرد؟ لا أمل لهم يرجونه ولا إيمان، لقد زال عنهم خداع الأوهام، إذ نظروا حولهم فإذا بالبناء الذي أنفقوا أعمارهم في تشييده محطم يعز على الإصلاح، فلماذا يلعبون دور البطل من أجل قضية ميتة؟ لماذا يواصلون القتال بعد أن لم يعد أمامهم أمل يُرْجَى؟ قدر هذه الظروف تجد من الهين عليك أن تفهم لماذا انقلب أبطال الأمس رجالًا ذوي ميوعة وطراوة ولم تعد لهم ذرة من كرامة.»

– «وهل تصدق الحديث الذي يروونه عما دار بين المتهمين وبين هيئة الاتهام من مساومات؟»

– «أعتقد أنه صحيح، واعلم أنني إنما أقيم عقيدتي هذه على أساس من المعلومات الموثوق بصدقها، فأنت تعرف أن القسم السياسي يندر أن يفصل في أمر رجل دون أن يفصل كذلك في أمر أسرته، فهل تظن حقًّا أنه من المصادفات أن تظل ابنة «رايكوف» طليقة على قيد الحياة، مع أنه كان ينزلها من حبه منزلة فوق سائر الناس؟ وأنه من المصادفات ألا يمس بأذى والد «بخارين» وزوجة «روزنجولتز» وبعض أقربائه الأقربين؟ أما أنا فلا أتردد في العقيدة بأن هؤلاء الرجال قد لوثوا صحائف أنفسهم — فقاموا بتمثيل الأدوار التي طلب إليهم تمثيلها في المهزلة الباكية — لكي ينقذوا أحباءهم أولئك.

واسمح لي أن أنقل إليك ما أعلمه من رفقائي الذين يتصلون ﺑ «يزوف» الذي كان يصرف هذا الأمر القبيح منذ فصل «ياجودا»، فقد أعدت بطانة الصورة المسرحية على أيدي رجال القسم السياسي بأمر من ستالين شخصيًّا، وحفظ كل ممثل دوره حرفًا حرفًا قبل أن يرفع الستار: من رجال النيابة والمتهمين والشهود والقضاة، فأما المتهمون الذين أبوا أن يتعاونوا في تمثيل المسرحية فقد قُتِلوا في الظلام، وأما من تعاونوا معهم فقد كان جزاؤهم ألا يقتل أبناؤهم وزوجاتهم ووالدوهم وأصدقاؤهم الأقربون، ثم وعدوهم فوق ذلك أن يكون لهم حق الاستئناف لمحاكم عليا، بل للهيئة السياسية العليا نفسها، وفي مثل هذه الظروف ترى الأمل الضئيل يحفز صاحبه إلى أمد بعيد.

وكانت المساومات أكثر تحديدًا في حالة «إيكوف» و«بخارين» و«كرستنسكي» وآخرين غيرهم، إذ وعدوهم بأن يخفف حكم الإعدام إلى نفي في جهات نائية إذا هم مثلوا أدوارهم كما كتبوها لهم، بل إن ستالين حرك فيهم شعور الكبرياء، فقال لهم: إنه لن يسمح بقتلهم وهم الذين لأسمائهم ما لها من وزن في صحائف التاريخ.

وهكذا قام هؤلاء الضحايا بتنفيذ ما أُرِيدَ لهم أن ينفذوه، لكن ستالين لم يفِ بوعده، وواضح أنه لم يكن ينوي الوفاء بوعده، فما انقضت بضع ساعات بعد المحاكمة حتى نفذ الإعدام ومات «بخارين» و«رايكوف» وهما يستنزلان اللعنة على ستالين، لقي هؤلاء الناس حتوفهم وهم وقوف، ولم يموتوا وهم يتمرغون على أرض سجنهم يسفحون عبراتهم كما فعل «زينوفيف» و«كامايف».

وهاك خبرًا آخر آتيك به ممن يعلمون دخائل الأمور، وهو أن ستالين ألف لجنة لتكتب للحزب تاريخًا جديدًا، وبذلك سيعيدون كتابة التاريخ وسيلوون الحقائق بحيث تتفق مع شطحات الخيال التي جرت في هذه المحاكمات، ولئن أضحكتك هذه التشويهات في كتابة حقائق التاريخ وأضحكتني، أو أبكتك وأبكتني، فإن جيلًا جديدًا ينشأ وليس في ذاكرته وعي بحوادث الماضي، وهم الآن قائمون بتنظيف المكتبات من كل كتاب أو مقالة قديمة تناقض هذا الذي ابتكره خيالهم السخيف في هذه المحاكمات، وستصبح هذه الأكاذيب المفجعة هي الحقيقة الرسمية، وبذلك سيُكْتَب النصر للكذب، يا إلهي يا فيتيا، ومن أجل هذا أنفقت عشر سنوات مغلولًا بالأصفاد في حجيرات السجون القيصرية.»

تلك كانت الحالة في موسكو حين خلفتها إلى مصانع أورال بكل ما يكتنفها من قاذورات وأوساخ.

قابلني موظف من موظفي مصنع «الأنابيب الجديدة» على محطة السكة الحديدية في «سفردلوفسك» (وهي ما كانت تسمى قبل بإكاترنبرج وشهرتها هي أن آخر القياصرة قُتل فيها هو وأسرته)، ومن حسن حظي أن ذلك الموظف كان ممن أعرفهم معرفة جيدة، فشجعه ذلك أن يكون في حديثه معي صريحًا، فأخذ يروي لي أحداث المصنع حتى أحدثها وقوعًا إذ نحن في السيارة نقطع الأربعين ميلًا التي كانت تؤدي بنا إلى «برفولارسك»، وعلى الرغم من أنه لم يقل لي كل شيء، فإن ما قاله كان كافيًا لتأييد أسوأ ما دار في وهمي من ظنون.

كانت مهمتي أن أنظم الإنتاج في مصنع تسوده الفوضى المادية كما يسود عماله انهيار معنوي، فقد كان هنالك عدد يقرب من ستة آلاف عامل وأسراتهم، فكان المجموع سبعة عشر ألفًا أو ثمانية عشر ألفًا، يعيشون جميعًا في حالة يُرْثَى لها، ولم يكن بينهم من تستطيع أن تثق في عدم جنوحهم للفرار سوى هؤلاء الذين وُلِدُوا في ذلك الإقليم والذين يعملون بالسخرة في المشروعات الإنشائية، أما الموظفون الفنيون أو من بقي منهم بعد حركات التطهير، فقد كانوا بغير قوة معنوية، وكانوا بطبيعة الحال يجتنبون تحمل التبعات، ولقد أحسوا أنهم بمثابة المنفيين بسبب ما كانوا يعيشونه من حياة بغيضة، وما كان يحيط بهم من ظروف سيئة في العمل، وكان كل أملهم أن يُنْقَلوا إلى مكان آخر.

ولما كنت على مسافة سبعة أميال أو ثمانية من «برفورالسك» رأيت فجأة سور الأسلاك الشائكة يحيط بمعسكر الاعتقال على بُعْدِ بضع مئات من الأمتار عن الطريق، فأوقفنا السيارة لأملأ البصر من هذا المنظر، فرأيت المعسكر يشغل رقعة فسيحة وتقع في بقعة من الغابة اقتُلِعَت أشجارها، وقامت فيها ثكنات كئيبة، ويخيل إليك إذا ما نظرت إلى المعسكر أنه مهجور يسوده صمت القبور، والسور المحيط به مسدس الأضلاع، يقوم في كل ركن من أركانه الستة برج للحراسة مجهز بالأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة.

فسألت زميلي: «أين المعتقلون؟»

فقال: «هم الآن في العمل، كثير منهم يعملون في مصنعنا، وبقيتهم تعمل في مصانع أخرى ومناجم ومشروعات إنشائية، إني أراك يا فكتور أندريفتش حديث عهد بأورال، فخير لك أن تدرب عينيك على منظر المسجونين أينما أدرت البصر.»

واستأنفنا المسير، فيا لها من بداية جميلة لحياتي الجديدة! كان «أوسادشي» — المدير الجديد — قد سبقني إلى هناك، ورأيته فإذا هو رجل متجهم؛ لأن نظرة واحدة إلى المجموعة الصناعية في ذلك المكان كانت تكفي لإخماد جذوة الحماسة التي أشعلها في نفسه إذ كان في موسكو.

وسرنا معًا خلال الأبنية المختلفة وأجزاء المصنع، فتنهد قائلًا: «اسمع يا رفيقي كرافتشنكو، لا شك أن أمامنا مهمة علينا أداؤها، وإن هذا المصنع ليحتاج إلى أعوام طوال قبل أن يقوم على قدميه، فليس لدينا هنا أفران كهربائية لصناعة الآلات، والقوة الكهربائية أقل كثيرًا مما نتطلب، ومحطة الغاز بعيدة جدًّا عن تمامها، وليس لدينا وسائل لطلي الآلات بالكرونيوم، ومجمل القول أن هذا الذي نراه ليس مصنعًا على الإطلاق، بل هو بداية لمصنع ليس غير.»

وأكدت عيناي قصته، إذ رأيت القسم الميكانيكي أضحوكة ضاحك، ولم يكن مصنع الكهرباء الغلوانية جديرًا باسمه، ولم يتم إعداد مخازن الحديد بعدُ، فتركت في العراء ألوف الأطنان من الصلب ومن غيره من المعادن، وتكدست المعادن أكوامًا فيها خليط من كل صنف ومن كل طراز دون أن يُبْذَلَ في سبيل تنظيمها أقل مجهود، وأما آلات خراطة الأنابيب نفسها فقد كانت من آخر طراز أمريكي وألماني، وأُنفق في شرائها ملايين الروبلات، لكن ما فائدتها بغير لواحقها الضرورية؟ بل إن هذه الآلات التي استوردوها من الخارج، قد عَلَتْهَا طبقة من الوسخ وأصابها العطب، وأينما وجهت بصري ألفيت أكداسًا من الأدوات الثمينة وأجزاء الآلات الغالية بارزة من الطين مغطاة بالصدأ.

وتم يأسي حين زرت حي العمال، فما كانت الثكنات التي لمحتها وراء الأسلاك الشائكة قائمة تحت فوهات المدافع الرشاشة تختلف كثيرًا عن تلك الصناديق الخشبية الكئيبة المرطوبة القذرة التي اكتظت بعمال مصنعنا الأحرار.

وجعلت أتحدث إلى بعض النساء فوجدتهن ساخطات، ولا شك أنهن كن ينظرن إلينا على اعتبار أننا المسئولون عن حالتهن السيئة، لا على أننا زملاء العمل، ولم يكن بمنطقة الأورال من الأراضي المزروعة إلا قليل؛ ولذلك لم يستطع أن يظفر بمئونة كافية من «سفردلوفسك» إلا نحو ستة رجال هم كبار الموظفين بسياراتهم تحت تصرفهم، أما العمال فغذاؤهم الرئيسي هو الخبز والخضر المحلية والبضائع المحفوظة، وإذا ما جاء فصل الصيف القصير حميت تلك المساكن كأنها الأفران، وكانت معظم سقوفها مخرمة بحيث يتسلل المطر فينفخ بمائه الجدران الخشبية، حتى إذا ما أقبل شتاء الأورال الطويل لم تكن تلك المنازل وقاية من البرد القارس.

وبعد أن قضيت ساعة في مساكن العمال، حمر وجهي خجلًا حين عدت أنظر إلى شقتي ذات الغرف الأربع التي تقع في طابق من أحد المنازل ذات الطوابق الثلاثة المشيدة بالطوب الأحمر، والقائمة وسط أشجار في الناحية الأخرى من المصنع، نعم، إن مسكني ذاك كان يعد في أي مكان آخر — حتى في نيقوبول أو تاجانرج — مسكنًا قذرًا أشعث، أما في برفورالسك فقد كان يبدو كأنه آخر ما يصل إليه الترف، ويكفي أن يكون فيه حمام خاص، وأن تكون أرضه مفروشة بالبسط، وأن يحتوي على أثاث جيد ومطبخ جيد، ولقد ورثت عن سلفي في هذا المسكن «دونيا» وهي امرأة فلاحة نَصَف لا تعرف حسن الترتيب، وكانت مهمتها الطهي والغسل.

كانت السيارة الفخمة التي وعدوني إياها تنتظر قدومي، كذلك كانت لي سيارة صغيرة من طراز «فورد»، وهذه كانت أنفع من الأولى في الأيام التي يكثر فيها الوحل، كذلك خُصِّصَت لي طائفة من الجياد الكريمة، وكان راتبي الأساسي ألفًا وخمسمائة روبل في الشهر، لكنه كان يصل إلى رقم قريب من ثلاثة آلاف إذا أضفت العلاوات والزيادات التي يصرفونها للتشجيع، وتستطيع أن تفهم معنى هذه الأرقام إذا عرفت أن العامل العادي يتقاضى مائة وخمسين روبلًا، وأن العامل الميكانيكي الحاذق يتقاضى نحو مائتين وخمسين، وأن المهندسين ذوي المؤهلات يتقاضى الواحد منهم راتبًا يبلغ نحو ستمائة روبل.

إذا أراد مهندس أن يشتري حلة عادية كان لا بد له من دفع مرتب شهر كامل، غير أن هذه الحسبة نظرية صرفة؛ لأن «برفورالسك» لم يكن بها ملابس تباع، بل إن سفردلوفسك نفسها لم يكن فيها ما يباع من الملابس إلا نزر يسير، ولم يستطع شراء الأحذية والثياب إلا الأقلون الذين كان في مقدورهم بحكم أعمالهم الرسمية أن يذهبوا إلى موسكو أو لننجراد حينًا بعد حين، وأما البقية فلا يصيبها إلا قدر ضئيل تتصرف فيه الإدارة، فكنا نوزعه بين من يستحقونه من المهندسين ورؤساء العمال بل والعمال أنفسهم.

ولم أكن قد قضيت في عملي أسبوعين حين جاءني رئيس الحسابات بكشف المرتبات عن نصف شهر لأوقعه، فلما درست ما به من أرقام، استوقف نظري بند عجيب وهو مبلغ ضخم «لرجال القسم السياسي».

فسألت في حيرة: «فيمَ صرف هذا المبلغ؟»

– «هذا بمقتضى العقد الذي وقعناه لاستخدام العمال المائة والستين الذين خصوا مصنعك من العمال المسخرين، فنصف رواتبهم من حق رجال القسم السياسي.»

– «هل ينتمون إلى أحد معسكرات الاعتقال؟»

– «لا، لا، يا رفيقي كرافتشنكو، فهذا قسم آخر من أقسام الشرطة السياسية، فالعمال الذين تم عليهم التعاقد يسكنون هنا كما يسكن العمال الأحرار، غير أن لهم ثكناتهم الخاصة، وهم رجال جيء بهم إلى هنا لشتى الجرائم.»

ولقد أنبأني بعدئذٍ مديرو الأقسام الأخرى أن في كل قسم من أقسام المصنع طائفة من هؤلاء العمال المسخرين، ففي قسم مائتان وخمسون، وفي آخر ثمانون، وفي ثالث خمسون، ولم يكن العمال الأحرار يخالطونهم، ولم يكن يتعذر عليك في أي مكان من أرجاء المصنع أن تخرجهم من صفوف العمال لما يتميزون به من منظر يستثير الإشفاق.

وحدث ذات يوم أن تحدثت إلى واحد من هؤلاء المسخرين كان يشتغل في آلة خراطة الأنابيب، وكان قصيرًا على وجهه سيما الأموات، فلم يكن يسيرًا عليَّ أن أجر الرجل إلى السير في الحديث، إذ لا بد أن يكون هؤلاء المنكودون قد أُمِرُوا بشدة ألا ينبسوا ببنت شفة، لكني عرفت منه أنه كان رئيس عمال في مصنع بلننجراد، وقد أصابه التطهير قبل ذلك بثلاثة أعوام.

فسألته: «وما الذي يمنعك من الفرار؟»

فهز رأسه هزة تنم عن حزن وقال: «فرار! وإلى أين يكون الفرار؟ أين تختفي وإلى متى؟ وأحب أن أنبهك أيها الرئيس أن هذا الحديث ليس محمود العواقب لأي منا.»

بدأنا في مهمتنا الفادحة وهي أن نشق لأنفسنا طريقًا نخرج به من تلك الفوضى الضاربة بأطنابها، فأفران الكهرباء كانت ملقاة في أرجاء المكان لا يلتفت إليها أحد، فأخذنا في تنظيفها، وواصلنا المجهود المضني أسابيع متعاقبة، وكان اليوم الذي نعمل فيه أربع عشرة ساعة بمثابة يوم العطلة، وبعدئذٍ أمكننا أن ندير واحدًا من تلك الأفران، وأنشأت قسمًا ميكانيكيًّا كبيرًا وطلبت إلى العمال ذوي المؤهلات أن يعلِّموا زملاءهم كيف يديرون الفرن الكهربائي، وكذلك أنشأت قسمًا لقياس الحرارة ورتبت سبيلًا لتعليم العمال المبتدئين كيف يديرونه، واستطعت بناء قسم لطلي المعادن بالكروميوم وإعداده بالأدوات اللازمة، جمعتها نتفًا من هنا وهناك، ولما كان الإنتاج في الأعوام الماضية بطيئًا لانعدام الاتصال التليفوني بين أجزاء المصنع وبين المصنع والخارج، فقد أنشأت ما سد هذا النقص على الرغم مما قام في وجهي من عقبات لا يستطيع تقديرها إلا فني، وفضلًا عن ذلك كله فقد أقمنا ما لم يكن لنا غنى عنه من أفران ومناضد للعمل.

وفضلًا عن هذا الحد الأدنى من المنشآت التي تقتضيها الضرورة الفنية، كلفت مئات من الرجال والنساء بالتنظيف ومسح الأرض ودهان الجدران وإزالة الأقذار المتجمعة؛ لأني كنت على يقين أن لا أمل في زيادة الإنتاج بغير أساس من نظام ونظافة، إنهم يتهمون هذا المصنع بالإتلاف والتخريب! ورأيي أنها معجزة من المعجزات أن هذا المصنع استطاع أن ينتج حتى هذا الذي أنتجه، أي ٣٥ إلى ٤٠ في المائة من المقادير التي قررتها مكاتب الرياسة.

ولم يمضِ غير شهرين حتى تبدل المكان بحيث كادت تتعذر المقارنة بينه وبين ما كان، وسرت عدواي إلى زملائي فيما كنت عليه من عزم، ثم سَرَت عدوى زملائي في إقبالهم على العمل إلى صفوف العمال حتى بلغت أدناهم مرتبة ممن يقفون على مناضد العمل أو يكنسون الأرض، حتى إذا ما أقبل علينا شهر مايو، كنا قد استطعنا رفع الإنتاج إلى ٨٠ في المائة — وهو عمل كان يبدو لي أول قدومي أنه مستحيل — وليس ذلك فحسب، بل وُفِّقنَا كذلك إلى تجويد النوع، وهبطت نسبة الشوائب فيما نصنعه من أنابيب إلى مقدار يتراوح بين خمسة في المائة وستة، بعد أن كان متوسطها ١٢ في المائة.

وطبيعي ألا يترك لي هذا المجهود الجبار فضلًا من الوقت أنفقه في حياتي الخاصة، ففضلًا عن إشرافي على الإنتاج، كنت مسئولًا شخصيًّا عن المساكن والغذاء والتدريب الفني والعلاج الطبي للألفين من العمال وأسراتهم الذين كانوا تحت إشرافي المباشر، وعلى الرغم من أن عددًا كافيًا من الموظفين كان يقوم بمساعدتي في تلك المهام، وعلى الرغم من أن بعض هؤلاء المساعدين كان قديرًا، فإن التبعة في نهاية الأمر كانت تقع على عاتقي، وكاد ألا يمضي يوم لا تنحرف فيه مجهوداتي عن صميم العمل إلى مشكلات لا تتصل اتصالًا مباشرًا بالإنتاج.

ولم تكن «هستيريا» التطهير قد دنت من ختامها، فجاء وبالها ضغثًا على إبالة؛ ذلك لأنهم كانوا يتخطفون مني رجالًا أكْفاء حين كنت أحوج ما أكون لعملهم، وحتى أولئك الذين لم تصبهم ضربات التطهير إصابة مباشرة، كانوا يحيون ويعملون في جو من الفزع الذي لا يعرف للطمأنينة طعمًا، وكنت عندئذٍ قد دربت نفسي تدريبًا على تجاهل ما يحيط بي من تجسس وشكاوى مما لا يقع تحت الحصر، ودربت رأسي وأعصابي على تركيز الانتباه في المهمة التي بين يدي دون أن أبعثر مجهودًا عصبيًّا في غضبات لا تجدي فتيلًا، ومع ذلك كله فقد كان يهزني هزًّا، بل كان يشلني شللًا تامًّا عن العمل أحيانًا في مواقف عصيبة أن أعلم أن القسم الاقتصادي من مكتب الشرطة السياسية قد عرف بعض تفصيلات العمل، وتفصيلات القرارات الفنية حتى قبل أن يجيئني نبؤها، فبث ذلك في نفسي شعورًا بأني عارٍ مكشوف لا وقاية لي تحميني.

كان القسم الخاص في مصنعنا برياسة الرفيقين «كلبين» و«ستوفين» بمثابة أعين الشرطة السرية وآذانها، ففضلًا عن أنهما كانا يتلقيان نسخات من كل ما يصدر من أوامر وتقارير فنية، فقد كان لهذين الرجلين بما لهما من إرادة قوية أعوان في كل مكتب وكل جانب من جوانب المصنع، وعلى كل حال لم يكن ذلك سوى المجرى المألوف للرقابة والتجسس، لكن بالإضافة إلى هذا كله، كانت جماعتنا الصناعية ترتج ارتجاجًا وتترنح ترنحًا تحت العبء الفادح الذي كانت تعانيه من لجان التحقيق الخاصة التي لم يكن لعددها حصر، ومن حملات المراقبين ومن المفتشين يأتون إلينا فرادى، وكان هؤلاء وأولئك يأتون إلينا — في هدوء حينًا وفي ضجة الطبول الرسمية حينًا — من اللجنة الإقليمية ومن اللجنة المركزية العليا في موسكو ومن رياسة صناعة الأنابيب في موسكو، ومن رياسة الصناعة الثقيلة ومن هيئات غير هذه تعد بالعشرات.

وليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل إن الأوامر التي كانت تصدر بصناعة الأنابيب، والتي كانت الهيئات العليا في موسكو تعمل على اضطراب تنفيذها، كانت تصدر عادة من القائمين بصناعات أخرى، وعلى ذلك كان هؤلاء يرسلون لجانًا من عندهم تشرف على خطوات سيرنا، فكانت تلك اللجان تقذف رءوسنا المنهوكة باتهامات التقصير والإتلاف، فقد كنا نصنع الأنابيب للدبابات وللطائرات وللمدفعية وللسفن ولمنشآت البترول وللمصانع التي تدور آليًّا، ولغير هذه من الأغراض الكثيرة، ولما كانت الطلبات التي ترد إلينا دائمًا أكثر مما نستطيع إنتاجه بما تحت أيدينا من وسائل، ثم لما كان إنتاجنا النهائي قليلًا ما يطابق الأوصاف المطلوبة مطابقة دقيقة، فقد كنت ترى القائمين على تلك الصناعات التي تطلب الأنابيب، مضافًا إليهم ممثلو الهيئات العسكرية، يرسلون إلينا سيلًا من الاحتجاجات ثم يتبع الاحتجاجات تفتيشات وتحقيقات كما يتبعها بالطبع وباء جديد من أوبئة «اليقظة» الشرطية من رجال القسم السياسي.

ولم يكد يمضي أسبوع بغير سلسلة طويلة من المراقبين والمندوبين يرسلهم هذا المكتب أو ذاك، وفي أيديهم سلاح من التفويض يبعثون به الفزع في النفوس، فيتشممون بأنوفهم في أرجاء المكان لعلهم يجدون أثرًا من آثار العاملين على الإتلاف والتعطيل، فكانوا يشغلون وقتي، ويدخلون مكتبي ويملئونه بألفاظهم النابية، ويعقدون فيه اجتماعات لا تنتهي، وقد كان يصيبهم ضيق بملل الحياة في ذلك المكان النائي، وضيق بما في مهمتهم التي كُلِّفوا القيام بها من سخف، فكنت ترى كثيرين منهم يزيحون عن أنفسهم شعورهم بالأسف بشراب الفودكا أو بألعاب الورق يقامرون فيها بمبالغ طائلة.

حتى إذا ما أويت آخر الأمر إلى مخدعي بعد يوم من عمل طوله يتراوح بين أربع عشرة ساعة وست عشرة ساعة، لم أكن لأطمئن إلى نعاس لا تقلقه المزعجات، فآنًا أُدْعَى على التليفون لأجيب متكلمًا من موسكو، يكلمني في العمل راجيًا مرة ومهددًا مرة، وآنًا أدعى إلى الشرطة في شئون تتصل بحركة القبض التي لا تنتهي، وبعد ذلك كله لا أكاد آخذ في نعاسي حتى يدق لي التليفون من أحد العمال الذين يعملون في نوبة الليل ينبئني بحادثة وقعت أو آلة أخطئ تركيبها أو إنتاج أصابه التلف.

ولقد استطعت — مستعينًا بما سمعته من حديث يدور في الأفواه من حولي — أن أرسم لنفسي صورة عن الفوضى البشعة التي أحدثها التطهير قبل قدومي إلى مصنع الأنابيب الجديدة، وهي فوضى تناولت ذلك المصنع كما تناولت كل منجم وكل مصنع آخر في الإقليم، ولا تزال القصة التي سمعتها عن «سميون ماجريلوف» — وهو مدير مصنع آخر لصناعة التعدين في مدينة برفورالسك نفسها — عميقة الأثر في نفسي بحيث يستحيل نسيانها.

فقد كان المصنع الذي يشرف عليه من أقدم المصانع في الروسيا على الأرجح، إذ تروي الأساطير عند أهل ذلك الإقليم أن منشئ ذلك المصنع هو بطرس الأكبر نفسه، وكان عماله رجالًا خلفوا فيه آباءهم وأجدادهم، وكانوا يسكنون في منازل خاصة صغيرة نظيفة، ولهم فيها حدائق يفلحونها وخنازير يرعونها وطيور دواجن، حتى لقد أوشكوا أن يصلوا بمستوى عيشهم ما كان معروفًا في عهد ما قبل الثورة، وإذن فحين أرسل الحزب «ماجريلوف» لإدارة هذا المصنع، كان ذلك في حقيقة الأمر بمثابة مكافأته بمنصب يتقاضى مرتبه ولا يقتضيه عملًا؛ ذلك أنه كان من أعضاء الحزب ذوي المكانة التي دامت أمدًا طويلًا، وكان على طول السنين وثيق الصلة بأرملة لينين وأخته «ماري إليانوفا»، وكان لذلك معدودًا من أكثر الرجال نفوذًا في ذلك الإقليم.

لكن عاصفة التطهير الجنونية لم تخطئه، فراح القسم السياسي المحلي يتعقبه بالاتهامات، فاتهمه بالإتلاف وبحماية غيره من المتلفين، ولما دام تعقبه بضعة أشهر على هذا النحو؛ استسلم لليأس، وأغلق من دونه باب مكتبه وصوب مسدسه نحو حلقه وجذب الزناد … وترك خطابًا طويلًا يعلن فيه براءته ويوجه حملة نحو الإرهاب، وعلى الرغم من أن رجال القسم السياسي قد استولوا على الخطاب، فقد ذاع نبؤه على نحو ما بين عمال المصنع وعرفوا فحواه، ولما دارت الشبهة حول عدد ممن كانوا على صلة بماجريلوف بأنهم قرءُوا رسالة المنتحر، «اختفوا» عن الأنظار ولم يتركوا وراءهم أثرًا.

ولم يكن في مأساة ماجريلوف شذوذ عن المألوف إلا لمكانة من ألمت به المأساة، فلقد سمعت أنباء مئات — وأقول مئات وأقصد الكلمة بمعناها — مئات من الناس أُلْقِيَ عليهم القبض أو أصابهم التعذيب في جلسات أُقِيمَت لذلك أو أزهقوا أرواحهم بأيديهم، لكني لم أدع هذا الذي سمعته يؤثر في عملي؛ لأني تعلمت بالتجربة الطويلة أن أمحو من نفسي أثر الأنباء المزعجة، وليس ذلك بالسهل اليسير، لكنه فن لا بد من اكتسابه إذا ما أراد رجل من رجال الصناعة أن ينجو من الشر في روسيا السوفيتية، وأما الذين لا يستطيعون أن يكبحوا جماح عواطفهم بجماح قوي، الذين لا يستطيعون أن يكتموا عواطفهم في صندوق مغلق محكم الإغلاق من نفوسهم، فلا مندوحة لهم عن انهيار يقضي عليهم أو جنون.

ولحظت موسكو ما أصاب مصنع الأنابيب الجديدة من تحسن ظاهر، وانعقد في موسكو اجتماع من أنصار الحزب العاملين في بناء الرياسة العليا، حضره كاجانوفتش، فنوَّه بعملي وأثنى عليه، وجاء في صحيفة «في سبيل التصنيع» أن المصنع كان يتدهور حتى أدركه «كرافتشنكو وهو مهندس شاب نشيط وعضو في الحزب» فغيَّر الموقف.

زارني الرفيق «بارشين» رئيس القسم السياسي في برفورالسك الذي كنت قد قابلته قبل ذلك في اجتماعات الحزب، وأسرف في الثناء على «المعجزات» التي قمت بها في زيادة الإنتاج، ولما كان طبع الشرطي يغلب عليه، فقد أنفق ساعات أضاعها من وقتي في أسئلة عن الطلبات التي كان المصنع يشتغل لإنجازها، وعن «اللون السياسي» الذي يصبغ أفرادًا معينين ممن كانوا يشتغلون تحت إشرافي، ولم يكن يسيرًا عليَّ أن أخفي ما أحسست به من ضيق نفسي لهذا المدى البعيد الذي امتدت إليه معرفته بتفصيلات عملي؛ لأن ذلك كان بمثابة البرهان القاطع على أن ثمة عددًا كبيرًا من المخبرين من حولي.

وقال لي آخر الأمر: «لا شك أنك تمحو آثار الإهمال الذي اقترفه أسلافك.» فكان هذا القول منه أكبر ما يمكن أن يتصوره الخيال من ثناء؛ «ولذلك فإني أكره أن أضيع عليك وقتك يا فكتور أندريفتش، لكني أطلب إليك الليلة مكرمة، وسأتصل بك بعد حين لأنبئك متى يطلب إليك الحضور.»

وضُرب لي الموعد أن أذهب في الساعة الثانية صباحًا، وكان القسم السياسي في بناء جميل ذي طابقين هو أكثر الأبنية لفتًا للنظر في الطريق الرئيسية المغطاة بالوحل في برفورالسك، وعلى الرغم من أن الوقت كان في الهزيع الأخير من الليل، فقد رأيت ضوءًا في كل نافذة من النوافذ، مما يدل دلالة واضحة على أن العمل قائم على قدم وساق، ولما وصلت حيَّاني الرئيس تحية ودية وصحبني إلى مكتبه.

قال لي: «خذ راحتك في جلستك فإني أخشى أن يطول بك المقام ها هنا بعض الشيء.»

– «وماذا تريدون مني؟»

– «اسمع القصة إذن، لقد قبضنا على أحد أعداء الشعب وهو متلاف من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، إذ اتضح لنا أنه مسئول عن كثير من الفوضى التي وجدتها في مصنعك، لكنه رجل عنيد، وخُطتي الليلة أن أستجوبه في حضورك؛ لأن وجود أخصائي مثلك يسد عليه طريق التضليل في الإجابات عما أوجه إليه من أسئلة.»

فقلت له في صوت حزين: «أصارحك بأني لا أحب هذا التكليف إطلاقًا.»

– «هذا غريب منك، وإني لأدهش لهذا القول تقوله أنت، ألم يقل لينين: إن كل شيوعي صالح ينبغي أن يكون شرطيًّا؟ إذن فلنبدأ العمل.» ودق الجرس لكاتم سره وقال له: «قل لرجال الحراسة أن يأتونا بالسجين من الحجرة الانفرادية رقم ٧.»

وأخذ الرئيس يستعد لمثول السجين بين يديه، فجذب من خزانة ضخمة عددًا من الملفات المنتفخة بأوراقها، ووضع مسدسًا بشكل ظاهر فوق مكتبه، ولما جلس يرتقب قدوم سجينه بدت عليه علامات التوتر كأنه النمر على وشك أن ينقضَّ على فريسته، وما هو إلا أن انفتح الباب ودخل حارسان شاهرا السلاح وبينهما حطام كان ذات يوم إنسانًا من الناس، ثم انسحب الحارسان وتركا ثلاثتنا في الغرفة.

وتلفت السجين حوله كأن به دوارًا، وقال في صوت خافت: «أحييكم.»

ولم يرد بارشين التحية، لكني رددتها، ولم يكن السجين يزيد إلا قليلًا عن هيكل عظمي غطته أسمال، ووجهه رمادي لزج كأنه قناع الموت، وامتد على صدغه من جانب جبهته إلى ما يقرب من ذقنه جرح حديث العهد أرجواني اللون بما تكثف عليه من دماء، وقف ويداه وراء ظهره ورأسه منحنٍ.

وجعل الشرطي يتلو اتهام السجين؛ لكي يطلعني على حقائق القضية، وعرفت وقتئذٍ أن السجين قد لبث في سجنه ما يربى على ثلاثة عشر شهرًا، ولم يكن في سنِّه يزيد على الحلقة الرابعة لكنه بدا وكأنه في الستين من عمره، وقد كان رئيس المهندسين الإنشائيين في مصنع الأنابيب الجديدة إلى أن بدأ المصنع في مرحلته الإنتاجية، ولما نظرت إلى الرجل لم يسعني سوى أن أقول لنفسي: «لولا رحمة الله لكان هذا الواقف أمامك هو فكتور كرافتشنكو.»

قلت في صوت منخفض: «رفيقي بارشين، هلا أذنت للسجين بالجلوس؟»

فأجابني قائلًا: «هذا عملي، نحن في القسم السياسي ولسنا في مصيف نستجم فيه.»

ولما فرغ بارشين من قراءته خاطب السجين بصوت جهوري: «سأوجه إليك أسئلة عما قمت به من أعمال تخريبية في مصنع خراطة الأنابيب، فلتكن في إجابتك واضحًا دقيقًا ولا تخلط الأمور بعضها ببعض، فأنت الآن في حضرة مهندس محنك يعرف المصنع ولا تستطيع بعدُ أن تضللني، والسؤال الأول هو: باعتبارك رئيس لجنة الإنشاء الرئيسية في المصنع، لماذا أقمت سقوفًا خشبية فوق الأفران، وهي سهلة الاشتعال؟»

فأجاب السجين في رقة مدهشة بالنسبة إلى حالته الجسدية: «كان ينبغي للسقوف أن تكون من الحديد وفقًا للخطة الموضوعة، لكن جاءنا أمر رسمي وقَّعه الرئيس أورزنكدز نفسه باستعمال الخشب بسبب ما كان في الحديد وقتئذٍ من نقص شديد، وقد طُبِّقَ الأمر على مصنعنا وعلى عشرات غيره، وإن مكتب الرياسة ليستطيع إثبات هذا في غير مشقة بما لديه من وثائق، لقد كان ذلك الأمر في رأيي خطأً فنيًّا، لكن لم يكن لي من النفوذ ما أعارض به تعليمات الرئيس الصريحة، خاصة وأنا أعلم بقلة المعادن الموجودة.»

فالتفت إليَّ الرئيس وقال: «ما رأيك؟»

فبدأت في الجواب: «إن المواطن …»

– «ليس هو بالمواطن ولكنه عدو الشعب.»

– «إذن فالسجين على صواب تام، فقد أقمنا سقوفًا خشبية في مصنع نيقوبول وللسبب عينه، ولو أن مكانها الآن سقوفًا من حديد، ولقد تصادف وجودي في اجتماع عُقِدَ في مكتب الرفيق جنزبرج حين وافق على السقوف الخشبية في كل المصانع ما عدا مصانع الصهر ومصانع مارتتز، وكانت موافقته تلك بإذن من أورزنكدز.»

فضاق صدر الشرطي بعض الشيء وقال: «أرجو أن تتذكر أنك ستكون مسئولًا عن شهادتك.»

فقلت: «أنا أعلم ذلك حق العلم.»

ثم التفت ثانيًا إلى السجين وقال: «السؤال الثاني: لماذا أقمت مصنعًا كبيرًا لصناعة الأنابيب بغير أن تنشئ معه أقسامًا كهربائية وحرارية وميكانيكية، وبغير إعداد للإصلاحات، وبغير تهيئة الوسائل لصناعة الآلات اللازمة لدقة القياس؟»

فأجاب السجين قائلًا: «كان المشروع أن تنشأ مجموعة صناعية حديثة كبرى، وكل الأقسام التي ذكرت كان لا بد لها أن تكون خارج جوانب المصنع الأساسية بحيث تتركز في مصانع أخرى لإجراء الخدمات الخاصة، ولم توفق لجنة التصميمات الرسمية ولا رياسة الصناعات العليا إلى توفير المال أو المواد والأدوات الضرورية لهذه المصانع الخاصة بتلك الخدمات الملحقة بالمصنع الرئيسي، وهكذا حدث أن فرغنا من إعداد المصنع الرئيسي قبل أن تخطو المصانع الملحقة أكثر من خطوة البداية، ثم جاءنا أمر أثار دهشتنا، وهو أن نبدأ الإنتاج، وكان ذلك عندي أمرًا بعيدًا عن الصواب كل البعد، ثم بعدئذٍ أُلْقِيَ عليَّ القبض.»

قل ما شئت في أثر الثلاثة عشر شهرًا التي قضاها ذلك الرجل في العذاب الأليم على قواه العقلية، لكنه لم يزل سليم التفكير في المسائل الفنية، حتى لقد قلت عنه لنفسي حينئذٍ: إنه عقل هندسي من الطراز الأول.

وسألني الرئيس: «ماذا تقول في هذا؟»

– «السجين على أتم صواب، فقد بدأ المصنع عمله قبل الوقت المفروض بزمن طويل، بل إنه الآن أبعد ما يكون عن التمام، فلو كنا لننتظر حتى نفرغ من كل شيء حسب الخطة الأصلية، لما كان في مستطاعنا أن ننتج شيئًا لمدة عام كامل، ورأيي الشخصي أنه كان من الخطأ ألا ينشئوا أقسام الخدمات الملحقة في داخل المصنع الرئيسي نفسه، لكن ذلك كان من شأن موسكو أن تقرره، ولست أشك في أن إتمام المنشآت قبل الأقسام الملحقة لم يكن أبدًا من قبيل الإتلاف المقصود.»

– «هل أنت على يقين تام مما تقول؟»

– «على أتم يقين … هل لي أن أعطي السجين لفيفة تبغ؟»

– «لك ذلك.»

فناولت الرجل علبة اللفافات كلها، لكن الرئيس لم يسمح لي بذلك، وصاح قائلًا: «لفافة واحدة تكفي، لو وقَّع على إتلافه واعترف به لكان له أن يدخن كما يشاء.» ولما مد المهندس يده من وراء ظهره رأيتها ملفوفة في خرقة ملوثة بالدماء.

ودام الاستجواب بضع ساعات، وكنت في كل مرة أراني مؤيدًا للمهندس مخالفًا لضابط الشرطة، ولم يكن يحدوني في ذلك إلا كل إخلاص، ولما كانت الساعة الخامسة والنصف، سقط السجين من الإعياء وسط ما أخذ بارشين يلفظه من شتائم وزعيق، ولحظت السجين إذ هو يهوي إلى الأرض رويدًا كأنما كنت إزاء شريط سينمائي في حركة بطيئة، وبعد أن استعاد وعيه بصب ماء بارد عليه، جاءه الحراس بمقعد، ثم استؤنف استجوابه، ولم يخلُّوا سبيل هذا المنكود إلا بعد أن جاوزت الساعة السادسة، ولن أنسى ما حييت ما لمحته في عينيه من نظرات الاعتراف بالجميل إذ هو ينظر إليَّ من عند الباب.

قال بارشين: «سأكتب تقريرًا عن هذه المحاكمة وسأرسله إليك بعد أيام قلائل لتوقعه، وإني لآسف أن عطلتك كل هذا الوقت.»

فقلت له: «ما دام الوقت لم يعد يسمح لي بنوم، فهلا صحبتني في أرجاء هذا المكان لأراه؟»

فتردد حائرًا إزاء هذا الطلب الغريب، ثم قال آخر الأمر: «ليس ثمة ما يستوقف النظر بحيث يستحق الرؤية، لكن إذا أردت … فربما حملك ما ترى على تقدير التبعة التي تحملها بإجاباتك الصادقة الصحيحة …»

ومشَّط شعره ولبس القبعة المسطحة التي يلبسها الضباط بتاجها الأحمر وقمتها الزرقاء، وغرز المسدس في جيب سراويله الخلفي، ولبس كلانا معطفه، وسرنا يصاحبنا حارس فرأيت ما يستحيل أن تَبْلَى جِدَّته في ذاكرتي ما حييت، دخلنا فناءً، وفُتِحَ لنا باب من حديد، ثم هبطنا سلمًا إلى طابق تحت سطح الأرض، وهنا لفحتني رائحة كريهة فكانت صدمة أحسست بها في كياني كما لو أهوى عليَّ ضارب بعصاه، وكان في البهو مصباح كهربائي ضئيل.

ولاحظت أن الحارس الذي وثب ليقف وقفة الانتباه حين دخلنا، كان يقرأ حلقة من «تاريخ الحزب» الذي كانت تنشره جريدة برافدا في سلسلة متتابعة، وأذكر أني وقتئذٍ عجبت لهذا الرجل يعيش محاطًا برائحة المذهب الستاليني الكريهة فعلًا، ومع ذلك لم يفت ذلك في عزمه على دراسته نظريًّا …

وبدأت حركة في صفي الزنزانات اللذين كانا يمتدان على جانب البهو إذ صاح صائح: «ضيوف ذوو شأن!» وفتح الحارس أحد الأبواب وصاح «قف!» فوقف شبان في العشرين من عمرهم، وكانوا طوال اللحى يستدرون العطف لدرجة تعز على كل وصف، وعلى كثرتهم الغالبة علامات الضرب في أجسادهم، وكل ما كان في الغرفة من «أثاث» دلو فيه ماء ربط فيه كوز من صفيح، وكان في ركن الغرفة القصي دلو آخر لقضاء الحاجة، وكذلك رأيت في الغرفة ألواحًا غليظة من خشب، هي الأسرَّة للمسجونين، ورف خشبي وضع المساجين عليه أسمالهم ولفائفهم، ولو وضعت في تلك الزنزانة خمسة لغصت بهم فماذا تقول في عشرين؟

ولم تكن الزنزانات الأخرى بأقل من تلك فظاعة حتى لقد فقدت كل رغبة في رؤية ما تبقى منها، وكان من الزنزانات عدد خُصِّص للنساء.

قال الرئيس للشرطي الشاب الواقف عند الباب ونحن خارجان: «التهوية عندكم هنا ليست سليمة، حتى ليظن من في داخل المكان أنه في قبر.»

وقال لي في ابتسامة المرح: «إذا ما فرغت من عملي في هذا المكان كل يوم ذهبت إلى الحمام العام وإلا منعتني زوجتي من الدخول في البيت، فأدوات التهوية هنا معطلة منذ أمد طويل.»

ولما خرجت من البناء وجدت سائق سيارتي نائمًا وهو جالس إلى جانب عجلة القيادة، فأيقظته.

قال لي: «لقد طال بك المكث في هذا المكان يا فكتور أندريفتش حتى بدأت أسائل نفسي … إننا إذا ما نقلنا في سياراتنا رجالًا لهم قيمتهم إلى هذا المكان، فيستحيل أن نكون على يقين هل نرجعهم أو أنهم سيدخلون بغير أوبة.»

– «أنا جد تعبان يا «بتيا» لكن امضِ بنا فورًا إلى المصنع فلا نوم لي هذا المساء.»

وفي عصر ذلك اليوم جاءني رئيس المساعدين ليستأذن في غيابه ثلاث ساعات، وبعد بحث قليل عرفت أنه مطلوب للقسم السياسي.

فقلت له: «لا أستطيع الاستغناء عنك أثناء ساعات العمل، فاتصل بهم تليفونيًّا وقل: إنك ستكون هناك بعد الساعة السادسة، ولا تنسَ أن تعود إليَّ بعد أن تفرغ من زيارتك هذه.»

وجاءني في ساعة متأخرة من ذلك المساء، لكنه لم يستطيع أن ينبئني بما حدث له هناك لأنهم أنذروه بالكتمان، غير أني خلال حديثي معه لمحت ما دعاني إلى افتراض أنه إنما دُعِيَ لاستشارته في القضية نفسها.

فسألته كأنني أسأل عرضًا: «هل كنت تعرف رئيس مهندسي الإنشاء قبل أن يُلْقَى عليه القبض؟»

– «نعم، لكني يا فكتور أندريفتش لم أستطع أن أتعرفه …» وسكت فجأة عن الكلام لأنه أدرك أنه بذلك يفشي السر الذي أراد كتمانه.

ومضي يومان ثم جاءني ستوفين — موظف القسم الخاص — بالتقرير الذي قيل لي إنهم سيرسلونه لي.

قال لي: «أسرع ووقعه لأني عجلان في طريقي به إلى برفورالسك.»

– «أولًا لن أوقعه قبل قراءته قراءة دقيقة، وثانيًا لن أعطل عملًا هامًّا من أجله؛ ولذلك فسأقرؤه بعد ساعات العمل.»

– «لكن الأوامر الصادرة لي هي ألا أتركه بعيدًا عني، كلا لا أستطيع …»

– «تلفن رئيسك الآن وقل له هذا الذي قلته لك، وهذا يبرئك.»

فتلفن القسم السياسي وهو يرتعش من خوف، وثارت ثائرة بارشين، فأشفقت على ستوفين الذي بلغ منه الخوف مبلغًا اهتزت له أوصاله، فأخذت منه سماعة التليفون.

فصرخ لي بارشين قائلًا: «كرافتشنكو ينبغي أن تكون أكثر احترامًا للقسم السياسي وخصوصًا بعد زيارتك لزنزانات المسجونين!»

فأجبته: «وأنت ينبغي لك أن تكون أكثر احترامًا لرئيس هذا المصنع، فإذا لم توقف هذا العنت الذي تلقيه في طريقي فسأتصل بكاجانوفتش فورًا لأبلغه عمن يحول دون اطراد الإنتاج.»

ونجحت في تهديدي إياه؛ لأن بارشين لم يلبث أن أعتذر قائلًا: إنه منهوك بكثرة العمل ويستحق مني شيئًا من الرفق، ثم قال إنني بالطبع لا بد أن أقرأ التقرير قبل توقيعه، وأن أقرأه في الوقت الذي يناسبني بطبيعة الحال.

وفي نهاية ساعات العمل، جلست أقرأ ما فرضوا أنه تلخيص للشهادة التي أدليت بها ليلًا في القسم السياسي، وكان ستوفين ينتظر فراغي من قراءتها بوجه عابس في مكاتب القسم الخاص، فما أن قرأت حتى وقف شعري من الفزع، إذ وجدت أن كل ما قلته قد قلبوه إلى نقيضه عمدًا، ونسبوا إليَّ عبارات لم أقلها في اتهام السجين ببعض الجرائم، وتناولوا إجابات المتهم وتعليقاتي عليها بالتعديل والتحريف بحيث تجيء في صورة تؤيد مزاعم التخريب المقصود.

وكان على كل صفحة من صفحات التقرير تحذير بالخط العريض أن التغيير لا يجوز، ورغم ذلك فقد غمست قلمي في المداد الأحمر وأخذت أراجع في عناية عبارة بعد عبارة حتى كتبت الوثيقة من جديد، وحدث في كثير من الحالات أن أعدت صياغة الأسئلة نفسها التي أصابها التحوير حتى تبطل الإجابات، وفي كثير من الحالات أيضًا لم يكن بي حاجة إلى التغيير أكثر من إضافة كلمة النفي «ليس»؛ لأن المعنى بغيرها يكون كذبًا صريحًا.

فلما دعوت ستوفين وناولته التقرير الذي رقمته ترقيمًا جعل المداد الأحمر في كل صفحة أكثر من المداد الأسود، برزت عيناه من الفزع، فما عهد قط في حياته شيئًا أكثر كفرًا بقواعد النظام من هذا الذي يرى، وشحب لونه شحوبًا بينًا.

وقال في صوت باكٍ: «لكن هذا لا يجوز يا رفيقي المدير، هذا فظيع.»

– «أعطه لرئيسك والتبعة على عاتقي أنا.»

ولم أسمع شيئًا بعد عن هذا الموضوع، لكني كلما التقيت ببارشين بعدئذٍ لوى شفتيه وعلا وجهه الذي يشبه وجه الحصان شيء من تجهم الغضب، وشاع خبر في أرجاء المصنع بعد ذلك بنحو ثلاثة أسابيع أن مهندس المنشآت السابق قد أطلق سراحه بعد أن قضي في زنزانات القسم السياسية الكريهة الرائحة أربعة عشر شهرًا، ومما لا شك فيه أن تدخلي في الأمر لم يكن هو العامل على إطلاق سراحه، فلا بد أن يكون كثيرون غيري قد أدلوا بمثل ما أدليت به من إجابات، والمهم في الأمر هو أن هؤلاء الموظفين بكل ما أبدوا من حماقة ووحشية، بحيث أذلوه وعذبوه أمدًا يزيد على عام، لم يصبهم لقاء ذلك حتى كلمات اللوم على ما فعلوا إزاءه، بل ظلوا في مناصبهم يحكمون بأنوف شامخة ويقبضون على من شاء لهم هواهم أن يقبضوا عليه.

كان المهندس الشاب «بانوف» — الذي نيطت به نوبة الليل — من أكثر زملائي شعورًا بدافع ضميره في عمله، وقد كان يترك فيمن يقابلهم من الناس أثر حسنًا بما له من ملامح معتدلة وتواضع وكبح للنفس فيما يقول وما لا يقول، ومما كان ينغص عليه العيش أن نوبته في العمل لم تكن لتنتج مقدارًا يتعادل مع المنسوب المطلوب، فزاد من ساعات عمله لعله يزيد من إنتاجه.

والذي أثار تطلعي في أمر «بانوف» هو ما كان يبدو على محيَّاه من علائم البؤس الشديد، فشحوب وجهه يدل على قلة غذائه، وحلته الواحدة كاد يبليها الاستعمال، ولم يكن ينتعل إلا خفًّا من قماش مهما تكن حالة الجو من صيف أو شتاء، فلما استفسرت الأمر لم ألبث أن ألممت بسبب فقره، فلم يكن ليتبقى له من مرتبه البالغ خمسمائة وخمسين روبلًا في الشهر إلا أربعمائة، وتذهب المائة والخمسون في الضرائب والقروض وغيرهما مما كان عليه أن يؤديه، وكان يعيش على ما يتبقى له من مرتبه ذاك هو وزوجته وطفلته وأمه العجوز التي كانت تسكن معه في شقة قوامها غرفتان في منازل الإدارة.

فأمرت أن يصرف لبانوف حذاء وحلة للعمل من مخازن المصنع، فلما تحركت نفسه شكرًا على ما أبديته نحوه من عناية، استجمع شجاعته وأخذ يحدثني عن متاعبه.

فجلس في مكتبي وسألني: «هل لي أن أتكلم إليك في صراحة يا فكتور أندريفتش؟»

– «بالطبع.»

– «إذن فقد جئتك لأتوسل إليك أن تنقذني من هذا الجحيم، وإن لي لبعض الوسائط التي تزيد من أملي في أن أظفر بمنصب هندسي في الجيش، لكني أريد معونتك.»

– «ولكن ما الذي يزيد من سخطك ها هنا يا بانوف؟ إنك شاب ولك هنا فرصة التدريب في ظروف عصيبة، وإنها لفرصة نادرة، أتدري بماذا يسمون هذا الفرار من العمل الصعب بلغة أتباع الحزب؟»

– «نعم، نعم … يسمونها انتهازًا للفرص، وجبنًا وما إلى ذلك من أسماء، لكن انظر إلى وجهة نظري إلى الأمر، لقد قضيت في معهد الهندسة خمسة أعوام قاسيت خلالها البرد والجوع، وكانت زوجتي التي تزوجت منها أيام الدراسة ترقب في شغف هذا الوقت الذي تراني فيه مهندسًا كاملًا، ولكن ماذا كسبت وقد أصبحت مهندسًا كما تمنت؟ زادت جوعًا ووحشة وفقرًا مدقعًا، وإني لألحظ فتور حبها لي في هذه الظروف القاسية، وأود لو استعدت ذلك الحب قبل أن يزول، أريد أن أنقذ طفلتنا التي لا يصيبها ما يكفيها من اللبن، فهل تلومني على محاولتي إنقاذ حياتي العائلية؟»

– «إن كان الرأي رأيي يا بانوف، فلست ألومك على ذلك، وأستطيع تقدير ما تقول.»

– «إنني إذا ما التحقت بالجيش مهندسًا فسأتقاضى سبعمائة وخمسين روبلًا فضلًا عن حلة ومسكن وغذاء بالمجان، وبهذا يمكنني أن أخصص مرتبي كله تقريبًا لأسرتي، زد على ذلك أني سأخصص نفسي للدفاع، وهو عمل له خطورته كذلك.»

فوافقت آخر الأمر على معاونته في تركه للمصنع، ولقد علمت من الصحف بعد ذلك بأعوام أنه أبدى براعة ممتازة في القتال، ولو بقي في الأورال بما كان يسودها من ظروف لاستحال إلى رجل مهدم ممرور النفس بعد حين قصير، وقد كنت أوقن أن غيره من الناس الذين طابت سرائرهم كانوا يفسدون بفعل هذا الضغط الأحمق الذي كانت تضغطه الحكومة لزيادة الإنتاج متجاهلة ما وراء هذا الإنتاج من كائنات بشرية لها راحة يجب أن تتوفر وعافية ينبغي أن تراعى.

وزيادة على المتاعب الجسدية الفتاكة التي كان يعانيها الناس، فقد كانوا يعانون ما هو أشد فتكًا، وأعني به الريبة في إخلاصهم ريبة لا تنقضي ولا تنفك تسيء إلى مشاعرهم، ومهما بلغنا من الجد والنشاط في العمل، فقد كان النظام كله يهدف إلى غاية واحدة وهي الافتراض أننا خونة أوغاد نعمل على تخريب ما صنعناه بأيدينا لولا ما سلط علينا من رقابة تدوم كل يوم أربعًا وعشرين ساعة.

حدث ذات مرة أن جاءتني لجنة خاصة بشأن طلب أرسلته إدارة الصناعات الدفاعية رقم ١٤ تطلب فيه أنابيب على درجة بالغة من الدقة حدها الأقصى، ولم تكن في الحقيقة على استعداد تام لإنتاج ذلك النوع من الأنابيب الدقيقة، حتى لقد رفضته مصانع كثيرة أخرى على أساس أن ليس في مقدورها صنعها، فجمعت اجتماعًا من رؤساء المصنع وعرضت عليهم المسألة بحضور ممثلي إدارة الدفاع، وانتهينا إلى قرار بأننا سنحاول إجابة الطلب، لكننا في القرار توقعنا كثيرًا من الصعوبات تقوم في وجوهنا مما قد يؤدي إلى الفشل، وتنفيذ المشروع كان يتطلب إعداد الآلات إعدادًا جديدًا سريعًا وتهيئة أنواع من الصلب الخاص، ثم العمل المتواصل الذي لا يعرف هوادة ولا راحة.

ولم أقبل الطلب إلا بعد أن تعهدوا لي كتابة أنهم يعلمون مقدمًا بأن النتائج ليست مؤكدة الضمان، وتسلمت مبلغ عشرين ألف روبل توزع علاوات إذا ما أتممنا العمل في الوقت المحدد، وأدرك الموظفون الفنيون والعمال على السواء خطورة العمل وما فيه من تحدٍّ فصبوا فيه أفئدتهم ونفوسهم صبًّا.

وأتممنا المطلوب في خمسة عشر يومًا، ولقد مرت بي أيام كنت أقضي في المصنع ثلاثة أيام أو أربعة متواصلة آكل وجباتي في المكتب وأتخطف سويعات نومي بين طنين الآلات، ولم يكن المساعدون أقل مني جهدًا، بحيث يستحيل أن يدور في رأس إنسان أدنى خاطر بالشك في إخلاصنا، ومع ذلك لم يكن يمضي يوم واحد دون أن يأتينا مفتشون من القسم الخاص أو من إدارة الدفاع يتشممون آثار إهمال وتعطيل، حتى لقد أوذيت إلى حد الثورة كرامتنا الإنسانية وكبرياؤنا الفنية، فلا العلاوات ولا فيضان الرسائل البرقية الذي جاءنا بالتهنئات استطاع أن يمحو المرارة التي خلفتها تلك الريبة في نفوسنا.

وكنت ترى «كلبين» و«ستوفين» وموظفي الفرع الاقتصادي من القسم السياسي، بل وأمين اللجنة المحلية «دفبنكو»، كنت ترى كل هؤلاء منتفخين زهوًا بأنفسهم لهذا «النصر» الذي ظفروا به في إجابة ذلك الطلب، وحاولوا أن يظهروا بذلك أن العامل في النجاح لم يكن مهارة العمال والمهندسين وما صبُّوه من عرق الإجهاد، بقدر ما قاموا به هم من رقابة تحرك السخط في النفوس.

وسألت بارشين: «فيمَ كل هذه الريبة؟ فيمَ كل هذا الفرح بأن أحدًا لم يحاول الإهمال والتعطيل؟»

لكنه لم يفهم لهذه الأسئلة معنى أو كاد، فالتجسس عنده أمر طبيعي، بل هو عنده أهم جانب في العمل مهما يكن نوع العمل!

وقال لي قول الواثق بإخلاص من يتحدث إليه: «وفضلًا عن ذلك يا فكتور أندريفتش فإن نجاحنا في هذه المهمة يضع مهمة أخرى أمام الفرع الاقتصادي من قسمنا، إذ واجبنا الآن أن نبحث عن الأسباب التي من أجلها رفضت المصانع الأخرى أن تقوم بهذا العمل! لقد أقمنا الدليل على أن العمل ممكن فلماذا إذن أبى هؤلاء المديرون أن يمسوه؟ ربما كانوا مخلصين في رفضهم ذاك، لكن يجوز أيضًا أن يكون في أنفسهم نية الوقوف في سبيل الصناعة الدفاعية، ولعلك ترى الآن مقدار ما لمنصبنا من خطر …»

وأمثال هذه المهمة الخاصة كثير كان يتم في جو من التوتر — يسوده دائمًا شكوك وتهديد وتجسس يتغلغل في كل شيء — وحسنت سمعة مصنع الأنابيب الجديدة وأخذت تزداد بسرعة في حسن سمعتها، وكتب مراسلو «في سبيل التصنيع» وغيره من الصحف مقالات وصفية حماسية يصفون فيها كيف أزيلت من مصنع الأورال كل آثار التخريب، لكن إنتاجنا لم يزد على ثمانين في المائة، وظلت موسكو تطالبنا بمائة في المائة لتظهر ما لها من «عزم بلشفي»، فكان معنى ذلك أن ما أصبناه من نجح كان جزاؤه في نفوسنا غمًّا وكمدًا.

ما أكثر ما كانت تدعوني الظروف إلى تذكر النصيحة التي أُسْدِيَت إليَّ يوم وصولي، وهي أن أهيئ نفسي لرؤية المسجونين أينما سرت، ومعسكرات الاعتقال وعمال السخرة جماعات جماعات؛ ذلك لأننا في بروفورالسك وما يحيط بها إنما كنا في وسط إقليم فسيح من أقاليم العمل المسخر في روسيا «الاشتراكية»، فيستحيل عليك أن تسير بعيدًا عن السكة الحديدية الرئيسية في أي اتجاه دون أن تصادف هذا الفزع.

لو كان ذلك في مكان آخر لجاز أن يحاط الموضوع بشيء من التكتم الذي تمليه الحكمة، أما ها هنا فالحقيقة أكبر وأقرب إلى البصر من أن يتكتمها المتكتمون، فتراك تقول في حديثك العابر بغير أدنى تكلف «هنالك مكان جميل لصيد السمك في نهر تشاسوفايا، يبعد كيلومترًا واحدًا أو نحو ذلك من عمال السخرة التابعين للقسم السياسي وأنت سائر في هذا الاتجاه.» أو تقول: «خير لك أن تتابع ذلك الطريق نحو اليسار مارًّا بمعسكر الاعتقال.»

كنا نستعمل وقودًا لمحطة الغاز من حطب تمدنا به جماعة مختصة بذلك في الأورال، فإذا ما سنحت لي فرصة الشكوى من نقص كميات الغاز، بادر موظفو تلك الهيئة إلى تلفنة الجماعة العاملة في حطب الأورال، وهذه تعود بدورها فتتلفن القسم السياسي لتشرح السبب لموظف ذلك القسم المختص، ذلك كان هو الطريق الطبيعي عندهم للاتصال الرسمي؛ لأن ألوف السجناء من رجال ونساء كانوا يشتغلون بقطع ذلك الحطب وضغطه في إقليم سفردلوفسك، وكذلك كان هذا اللون من الحطب هو مادة الوقود لمحطة القوة في أورال، وهي المحطة التي كانت تمدنا بالقوة الكهربائية.

وكنت أحاول جهدي أن أجتنب رؤية هذا المنظر؛ لأني إذا ما رأيته أشاع في نفسي الغم مدى أسابيع، فقد كنت أصاب بما يشبه الغثيان إذا ما ثار في نفسي الخوف من احتمال أن أرى نفسي ناظرًا بعيني إلى عيني شخص ما أكون قد عرفته وأحببته؛ ذلك لأن مئات ومئات من أصدقائي قد ابتلعتهم موجة التطهير الأعظم، وحدث ذات يوم إذ أنا في رحلة خارج البلد مع زميل، أنْ مَرَرْنَا بمسطح فسيح كئيب من المستنقعات، كان يشتغل فيه ما يقرب من ثلاثمائة سجين معظمهم نساء، وكان هؤلاء المناكيد كلهم في درجة من القذارة يعز وصفها، وكلهم يرتدي أغلظ الثياب، ويخوض إلى ركبتيه في ماء وطين، وكانوا جميعًا يشتغلون في صمت لا تسمع فيه صوتًا، ولم تظهر عليهم علامة اهتمام بهذين الغريبين القادمين.

كان المنظر مما يصح أن يرد في جحيم مثل الجحيم التي وصفها دانتي، لم أستطع أن أمحوه من ذاكرتي شهورًا عدة، وأصبحت كلمة «حطب الوقود» تحدث في نفسي قشعريرة الجزع.

ولما كنت أركب سيارتي في سفردلوفسك وإليها، فقد ألفت عيناي منظر المعسكر الكبير الذي وقفت لأراه يوم وصولي هنا، كان مدخله الرئيسي في ضلع السور السداسي المواجه للطريق، يعلوه إفريز خشبي دقيق الصنع يميل في فنه إلى الذوق الحديث، وفيه ركبت صورة بيضية الشكل لستالين، وكثيرًا ما كانوا يكتبون بعض العبارات الدائرة على الأفواه بقطع من قماش الأعلام يعلقونها على ذلك الإفريز، حتى إذا ما أظلم المساء أناروا بعض المصابيح الكهربائية الملونة لتلقي ضوءًا على صورة ستالين وعلى تلك العبارات المكتوبة بالرايات.

ولو سار غريب في سيارته مارًّا بالطريق في ذلك المكان؛ لظن أن مؤسسة اشتراكية سامية الأغراض كانت تقيم وراء هذه البوابة المزخرفة، أما نحن الذين كنا نعيش في المنطقة فقد كنا نعلم أن ذلك البناء السداسي المخيف كان يحصر ألفين وخمسمائة رجل فيقطعهم عن عالم الأحياء، وكانت الأنوار الكاشفة المنبعثة من الأبراج الستة تدور بأضوائها على المعسكر طوال الليل دورانًا آليًّا واحدة بعد واحدة كأنها منارات السفن، وكانت تلك الأعمدة الضوئية التي تحرك أضواءها عبر السماء في ظلمة الليل، ترسم أشكالًا زخرفية رائعة لمن لا يعرف ما وراءها.

وكان هؤلاء السجناء يشتغلون في المصانع والمناجم والمشروعات الإنشائية في الإقليم المحيط بهم؛ لذلك كان معظمهم يمشي ستة أميال أو سبعة كل يوم وفي كل ألوان الجو، في طريقه إلى مكان العمل ومنه، وهذا معناه أنهم بالإضافة إلى عملهم اليومي الذي يمتد عشر ساعات أو اثنتي عشرة ساعة، كانوا يمشون حول ثلاث ساعات، وقليل منهم مَنْ كانت له أحذية ملائمة لمثل هذه المشيات الطويلة المفروضة عليهم فرضًا.

كانت مدينة «رايفدا» — وهي مقر مصنع آخر للتعدين — تقع على مقربة من برفورالسك، فكلما ذهبت إلى هناك مررت بمعسكر اعتقال يسع نحو ألفي سجين، يشتغل منهم عدد كبير في المصنع إذ كانت عملية الإنشاء لا تزال قائمة، أما بقيتهم فكثرتها الغالبة كانت تشتغل في رصف الطرق أو في مناجم النحاس القريبة.

ومعسكر آخر لا يحتوي على أكثر من ألف سجين أو نحو ذلك، كان يقع على شاطئ نهر تشاسوفايا، وهو نهر جميل سريع الجريان في بقعة رائعة تكثف فيها غابات الصنوبر على سفوح التلال المتماوجة، وكان موظفونا ومهندسونا أثناء شهور الصيف يستصحبون عائلاتهم إلى شطآن نهر تشاسوفايا للسباحة أو السماكة أو الاستحمام، فكانوا يحرصون على أن يبعدوا بمسافة طويلة عن المعسكر، حتى لا يعكروا صفو رحلتهم بما يثير في رءوسهم أسوأ الذكرى.

فلما سمعت ناسًا كثيرين يحلمون بجمال هذا النهر، قررت آخر الأمر أن أستكشفه، وكان يراسلني اثنان كلاهما مثلي حديث عهد بالإقليم، وإذن فلم يكن أحدنا يعرف شيئًا عن هذا المعسكر المعين، وبينا نحن سائرون في سيارتي «فورد» نتحدث في شئون المصنع، إذ نحن نجد أنفسنا بغتة على رأس تل صغير يشرف على سور الأسلاك الشائكة الذي يحيط بمنبسط من الأرض أزيلت عنه أشجار الغابة ويبعد عن حافة النهر ببضع مئات من الياردات، وكان هناك — كما هي العادة دائمًا — أبراج أربعة قائمة في أركان المكان الأربعة، وعلى مرأى البصر وقف الحراس شاهري السلاح، وقد كان بضع مئات من السجناء رجالًا ونساءً يشتغلون ساعتئذٍ في الطرف الأبعد من مكان المعسكر، يبنون صفًّا جديدًا من الثكنات.

فانتهت رحلتنا فورًا، إذ غاضت في نفوسنا الرغبة في رؤية أجزاء أخرى من النهر، وعدنا بالسيارة إلى برفورالسك صامتين. إن الحقيقة الواقعة هي أن أخلص الشيوعيين إيمانًا وأصفاهم طوية يحتقرون في أعماق قلوبهم هذا النظام القائم على التسخير في العمل، بل ويرونه وصمة عار تدعو إلى الخجل، وحتى إن تحمس بعض الرفاق في دفاعهم عن ذلك النظام، فكثيرًا ما كنت ألحظ شيئًا من القلق يساور نفوسهم، إذ هم في أحمى درجات حماسهم، فهم حين يسبون الضحايا بشنيع الشتائم — المستغلون المخربون المناجيس القذرون — إنما كانوا يحاولون أن يفرقوا بتلك الشتائم ما كانوا يحسونه في أنفسهم من ازدراء للنظام القائم، وكل منهم يعلم علم اليقين أنه إذا ما دارت عجلة السياسة دورة، وطغت موجة التطهير على البلاد مرة، فما أهون أن يكونوا هم كذلك بين طريدي القانون الذين يبنون لنا بسواعدهم هذا البناء الاشتراكي العجيب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤