الفصل الثاني والعشرون

حرب لم تكن في الحسبان

في صباح اليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو سنة ١٩٤١م كانت الطائرات تلقي قنابلها على المدن والمطارات السوفيتية كما كانت الجيوش السوفيتية قد استولى عليها الذعر وبدأت تتقهقر أمام فرق الهجوم النازية في جبهة عظيمة الطول، ونشرت صحف العالم كله في صفحاتها الأولى أخبار الهجوم الألماني المفاجئ على الروسيا بحروف ضخمة، وقبل أن تشرق شمس الصباح في ذلك اليوم كانت الشرطة السوفيتية السرية تلقي القبض على عشرات الآلاف من «غير المرغوب فيهم» في طول البلاد وعرضها.

ولكنني لم أكن أعرف شيئًا عن الكارثة التي نزلت على رءوس المائتي مليون من أهل بلدي، ولم يكن أحد من رجال المصنع الذي أعمل فيه أكثر مني علمًا بها حين وصلت إلى مكتبي في الصباح الباكر من ذلك اليوم، وسبب هذا أن أخبار اليوم السابق كانت لا تزال تشيد بفعال جيوش هتلر الباهرة وبالهزائم التي مُنِيَ بها أعداؤه «الذئاب الرأسماليون» و«تجار الحرب البلوتوقراطيون».

وظلت الدعاوة الرسمية في الأشهر السابقة لهذا الهجوم مباشرة — كما كانت من قبل — لم يطرأ على نغمتها أقل تغيير، ولم تكن فيها كلمة عطف واحدة على الأمم التي اجتاحها النازيون، ولم يجرؤ أحد على أن يوجه كلمة لوم إلى الغزاة الهتلريين؛ ذلك أننا لم نكن نستطيع أن نجهر بما نشعر به من العطف على ضحايا الاعتداء النازي وإن كان آلاف الروس قد أحزنهم وآلم قلبهم ما حل بهؤلاء الضحايا من بلاء عظيم، وكنت أنا نفسي قبل بضعة أيام من ذلك الصباح المشئوم أتحدث إلى جماعة في مصلحة استيراد الآلات التابعة لوزارة التجارة الخارجية، وكنا وقتئذٍ نتناقش في موضوع آلات اللحام الكهربائية المرسلة من ألمانيا إلى الاتحاد السوفيتي.

وقد ألقيت أنا نفسي خطابًا عن «الحرب الاستعمارية» قبل الغزو بيومين — أي في وقت ٢٠ يونيو — على جماعة من العمال والموظفين في اجتماع سياسي عام، وسرت في خطابي هذا على الخطة المرسومة، فأعدت على مسامع المجتمعين ما كان يقوله غيري من الخطباء، وهو أن ألمانيا قوية الرغبة في السلم رغم انتصاراتها الباهرة، ولكن دعاة الاستعمار البريطانيين تؤيدهم الأموال الأمريكية يصرون على إطالة أمد الحرب.

ولم أكن أنا ولا أي إنسان آخر خارج دائرة الكرملن الداخلية يعرف أن وزارة الخارجية في واشنجتن قد لفتت أنظار قنسطنطين أو مانسكي سفيرنا في أمريكا إلى أن هتلر يستعد للانقضاض على الروسيا، وأن هذا التحذير قد كرر مرة أخرى مستر سمنر ولز بعد خمسة أسابيع من ذلك التاريخ وأيدته المصادر البريطانية، ولكن ولاة الأمور الروس أشاحوا بوجوههم عن هذه النذر قائلين: إنها من دسائس الرأسماليين التي يقصدون بها القضاء على الصداقة المتينة التي أحكم عراها ميثاق هتلر-ستالين.

وكان عيون السوفيت في ألمانيا قد أرسلوا بمثل هذه النذر إلى رؤسائهم، فأبلغوهم عن حركات بالغة الخطورة تقوم بها الجيوش الألمانية في اتجاه الحدود الروسية على مدى واسع لا يمكن أن يكون القصد منه مجرد حفظ الأمن في البلاد، وكان لي أنا نفسي معارف كثيرون بين موظفي المصانع وإدارات التموين التي تنتج البضائع لآلة الحرب النازية، فكنت لهذا السبب على اتصال دائم بالممثلين التجاريين العائدين توًّا من برلين، وكان هؤلاء كلهم قد حذروا من نوايا هتلر، فقد قال لهم الألمان بصريح العبارة في إحدى المناسبات أن لا مفر من الصدام بين الروس والألمان، ولكن ستالين وبطانته أبوا أن يصغوا لهذه النذر أيضًا، وقالوا إنها كلها ألاعيب ودسائس خبيثة لا يقصد بها إلا السوء، كأنهم جميعًا قد استناموا لدعاوتهم.

لقد كان كل ما يُسْمَح لجمهرة الشعب الروسي أن تعرفه عن العلاقات الروسية الألمانية هو أن التعاون بين السوفيت والنازيين نعمة من أجل النعم، وأن الذين يرتابون في هذا إنما يرتابون في عصمة ستالين من الزلل، وكان التحدث بأن الألمان قد يغدرون بالزعيم لا يقل شناعة عن الحديث ضد الثورة، وكان الذين يجهرون بالعطف على ضحايا الإجرام النازي يعرضون أنفسهم للاعتقال والتشريد.

وهكذا اقترب اليوم التاريخي المشهود دون أن تسبقه أقل شائعة تعرقل سيره السهل الرتيب، وكان العمل في مصنعنا قائمًا على قدم وساق حين طلب إلينا أن نقفه لكي نسمع خطبة خطيرة يذيعها الرفيق مولوتوف، ولم يكن ذلك من الأعمال المألوفة، فسَرَتْ في المصنع بسببه موجة من الرعب، وأخذ كل منا يحزر ما عسى أن يكون موضوع خطبة وزير الشئون الخارجية، ولكن لم يكن منا من صدق حدسه فتنبأ بهذا الخبر الرهيب.

فلما سمعنا الألفاظ التي نطق بها مولوتوف بلسان متلجلج وصوت تخنقه العبرات طار صوابنا من هول ما سمعناه، وماذا عسانا أن نستنتج من هذا النبأ الذي أثار مشاعرنا واضطربت له قلوبنا؟ لقد أطلق الفهرر المخادع الغادر الوغد الغبي كلابه الضارية على البلاد التي ظلت قرابة عامين تضن على نفسها بالطعام الذي هي في أشد الحاجة إليه، وبالوقود والمعادن والزيت والذخائر الحربية لتعينه على إخضاع أوروبا، لقد كنا حريصين أشد الحرص على الوفاء بعهودنا والتزاماتنا، فلم نقدم للنازيين ما يلزمهم من البضائع فحسب، بل أعناهم أيضًا بالدعاوة الواسعة في أنحاء العالم وبالضغط الدبلوماسي؛ فكان جزاؤنا منهم ذلك الغدر الشنيع.

وما هي إلا ساعات قلائل حتى قبل علينا خطيب من خطباء الحزب، فدعونا العمال كلهم للاجتماع في عطلة الغداء، وجلست على المنصة مع منتوروف مدير المصنع ومع بجوروف رئيس لجنة الحزب فيه، وأخذت أتفرس في وجوه عمالنا المتعبين المكتئبين بينما كان الخطيب يندد بغدر الطاغية الألماني ويمجد أمانة الطاغية الروسي، فلم أبصر في وجوه القوم سوى الغضب والفزع إلى جانب الإعياء والحيرة والحزن الشديد، وأخذ بعض العمال يبكون من فرط التأثر.

وخطبنا منتورف وبجورف فكررا على مسامعنا في عبارات ضعيفة سمجة النداءات الجديدة العجيبة، ولم يكن من السهل علينا ما بين عشية وضحاها أن نذكر «الدول الديمقراطية» من غير أن نسخر منها، ولا أن نهاجم الألمان الذين كانوا بالأمس فقط ضحايا دعاة الحرب الاستعماريين، وبدا لنا أن وصف إنجلترا وفرنسا على هذا النحو الفجائي بأنهما شريكتان لنا في قضية عامة من أعظم الأمور غرابة، بعد أن ظللنا أمدًا طويلًا نرى فيهما أعظم المهددين لسلامتنا القومية.

وذهل العمال لهذه الأنباء وطار صوابهم، فكانوا يصفقون للخطباء في غير حماسة عند الوقفات المناسبة، ثم عادوا بعد سماع الخطب وهم ذاهلون إلى مخارطهم ومكاتبهم ولوحات رسومهم، وأخذنا نعمل كمألوف عادتنا إلى آخر النهار، على أن الحرب والجيوش الغازية قد أيقظت على ما يظهر بعض العقول من سباتها الطويل، وشاهد ذلك أن سرجي جلفليوف أحد المهندسين الكهربائيين وأحد أعضاء الحزب أقبل عليَّ بعد الاجتماع وقال لي: «ها نحن أولاء قد جاء دورنا الآن، لقد كنا يا فكتور أندريفتش طوال السنين الماضية نحيا حياة شاقة ملؤها الحرب والثورة والدمار، ومشروع الخمس سنين، والجوع والتطهير، وها نحن أولاء قد عدنا الآن إلى الحرب؟ ألم يأن لنا أن نعيش كما يعيش غيرنا من الآدميين؟»

فأجبته قائلًا: «إن علينا أن نعمل يا رفيق جلفليوف وألا نملَّ العمل، وليس لنا من سبيل غير هذه السبيل.»

– «هذا حق لا شك فيه، إن علينا أن نعمل وأن نحارب، ولكن الإنسان لا يسعه إلا أن يفكر …»

فقلت له في لهجة رسمية حتى لا أعرض نفسي لشيء من الخطر: «خير لك أن تعود إلى عملك، إن لهذا الحديث وقتًا غير هذا الوقت.»

وأُبلغت وأنا في مكتبي بعد ظهر ذلك اليوم أن فاديم ألكسندروفتش سمليا نينوف ملاحظ النوبة متغيب عن عمله، وأنهم لم يستطيعوا الاتصال به تليفونيًّا، فأمسكت بسماعة التليفون وطلبت رقمه.

وسألت: «هل هذه شقة سمليا نينوف؟»

فرد عليَّ بعضهم ردًّا صارمًا: «هذه شقة سمليا نينوف سابقًا.»

– «أرجو أن تدعو سمليا نينوف ليكلمني.»

– «من أنت؟»

– «أنا مساعد كبير المهندسين في المصنع الذي يعمل فيه.»

– «إنه ليس هنا، ولن يعود بعد الآن.»

– «من الذي يخاطبني؟ إني أتكلم بصفة رسمية.»

وأنا أيضًا أتكلم بصفة رسمية وأنا من رجال القسم السياسي (ن. ك. ف. د. N. K. V. D.).

فألقيت السماعة من يدي، إذن لقد اعتقل صديقي سمليا نينوف واختتمت حياته الثورية الطويلة! لقد كان سمليا نينوف مهندسًا قديرًا غزير العلم جم النشاط في الحركات الثورية، وقد أهَّلته هذه الصفات كلها لأن يكون أمين سر لينين، ثم عُيِّنَ فيما بعد رئيسًا لمكتب رياسة الوزراء ثم رئيسًا لمصلحة التعمير في مجنى تستروي، ثم رئيسًا للوفد التجاري السوفيتي في الولايات المتحدة، ثم مديرًا لمعهد جيروفير العظيم للصناعات المعدنية، وجملة القول أنه كان من أعظم الشخصيات البارزة في العهد السوفيتي، فلما كانت حركة التطهير الكبرى أُخْرِجَ من الحزب، وأُنْزِلَ إلى مرتبة مساعد لرئيس العمال في مصنعنا، ثم ارتقى أمين سر لينين السابق حتى صار على مر الأيام رئيس عمال، ثم وصل أخيرًا إلى منصب ملاحظ النوبة، وأعيد إلى الحزب منذ زمن قريب، وكان ابنه الوحيد جاويشًا في الجيش الأحمر، وكان وقتئذٍ في ميدان القتال، والآن قبض على سمليا نينوف.

ولكنه لم يكن إلا أول من عرفت من ضحايا عهد الإرهاب الجديد الذي بدأ في الأيام الأولى من الحرب، والذي امتلأ بضروب من القسوم منقطعة النظير، فقد اختفى بعده من حولي عشرات من الناس في الأيام التالية.

وكان صديق لي من رجال القسم السياسي قد أخبرني قبل هذا الوقت بزمن طويل أن جميع «العناصر الخطرة» سيُقْضَى عليها إذا نشبت حرب، وأن قوائم سوداء طويلة قد أعدت في كل قرية وبلدة ومدينة، وأن مئات الآلاف من الأهلين سيُقْبَض عليهم، ولم يكن في هذا القول شيء من المبالغة، فقد كانت تصفية «أعداء البلاد من أهلها» حقيقة لا ريب فيها، وكانت هي الجزء الوحيد من الجهود الحربية التي أنجزها القوم على عجل وعلى أتم وجه في المرحلة الرهيبة الأولى من مراحل الكفاح المرير، لقد كانت هذه عملية تطهير للمؤخرة، سار فيها القوم على خطة محكمة، وُضِعَت مقدمًا بناءً على أوامر ستالين نفسه.

ولقد أتيح لي بعد عدة سنين من ذلك الوقت أن أستمع إلى ذلك القول السخيف الذي لا معنى له، والذي يصدقه على ما يظهر أصحاب العقول المستنيرة من الأمريكيين أنفسهم، وهو أنه لا أثر في الروسيا ﻟ «الطابور الخامس»؛ لأن عمليات التطهير الدموية الحكيمة قد استأصلت كل «الخونة» مقدمًا، لقد قرأت هذا السخف البذيء في كتاب عجيب يمت إلى الأدب ببعض الصلة، كتبه جوسف ديفز السفير الأمريكي السابق، كما قرأته في كتابات صغيرة لغيره من الكتاب الذين يظنهم الناس على جانب عظيم من العلم بهذا الموضوع، وهم أشد الناس جهلًا يخطط ستالين السياسية وبأساليب حكمه، وما كان أشد عجبي من نجاح هذه الدعاوة الصبيانية المصدرة من موسكو بلا ريب.

وأقول «مصدرة»؛ لأن حكومتنا قد سلكت في داخل الروسيا مسلكًا يناقض هذا كل المناقضة، فقد أعلنت على الملأ أن أمتنا يتغلغل فيها الطابور الخامس، ولم تكد تعلن الحرب حتى أخذت الصحافة والإذاعة والخطابة تنادي بإعدام الخونة من أهل البلاد، والجواسيس، والذين يعملون لإشاعة الفوضى في أنحائها ويروجون الشائعات الكاذبة، ويعطلون الإنتاج القومي، وعلى صنائع الفاشيين وأمثالهم، وكان جواب القسم السياسي على هذا النداء هو اعتقال الناس جماعات وإعدامهم، حتى لقد انطبع في ذهني في الأيام الأولى من الحرب على الأقل أن الكرملن لم يكن يرهب رعاياه أقل مما يرهب الأعداء المغيرين.

والحق أن البلاد لم يكن فيها طابور خامس إذا قصدنا بهذا اللفظ الخونة والمناصرين للألمان، على الرغم من حوادث التطهير التي أغرقت البلاد في بحر من الدماء، ولكن كان فيها آلاف الآلاف من الوطنيين الذين يمقتون طغيان ستالين وما جره على أهلها من ضروب الشر والفساد، ومن هذه الناحية وحدها كان خوف العصبة الحاكمة خوفًا له ما يبرره.

ذلك أن الوحشية التي نفذ بها نظام المزارع الجماعية، والقحط الذي حل بالبلاد بين عامَي ١٩٣١م، ١٩٣٣م والذي كان من صنع حكامها، وما حدث في سني التطهير من قسوة يعجز عن وصفها البيان، كل هذا قد ترك في صدور أهل البلاد جروحًا متنسرة لا تندمل، لقد كانت البلاد كلها لا تكاد توجد فيها أسرة واحدة لم تفقد أحد أبنائها في الحرب التي شنَّها حكامها على أهلها، ولم يكن ما يشغل بال ستالين ورفاقه هو ولاء الأهلين لروسيا، بل كان الذي يقلقهم ويقض مضاجعهم هو ولاء البلاد لهم دون غيرهم، وكان من حقهم أن يقلقهم ذلك ويقض مضاجعهم، ولعلهم في أحلامهم المزعجة رأوا عشرين مليونًا من العبيد قد حطموا فجأة جدران السجون، وقطعوا الأسلاك الشائكة المنصوبة حول حظائر الاعتقال، وساروا في جحافل جرارة يدمرون ويخربون، تغلي في صدرهم مراجل العداوة والانتقام.

ومهما يكن من شيء فإن قمع كل معارضة يمكن أن تنشأ في المستقبل بلا رحمة ولا هوادة كان له المكان الأول في خطط الحكومة، وكان لأعمال القمع السبق على وسائل الدفاع العسكري عن البلاد، وعملًا بهذه الخطة قُبِضَ على المواطنين السوفيت الذين هم من أصل ألماني، مهما يكن هذا الأصل بعيدًا، ولم يترك منهم فرد واحد من غير اعتقال، وأُخْرِجَ سكان جمهورية الفلجا الألمانية على بكرة أبيهم، وكانت عدتهم نحو نصف مليون من الرجال والنساء والأطفال، من البلاد التي ظلوا يعيشون فيها من أيام كاترين الكبرى، وشتتوا في أنحاء سيبيريا والشرق الأقصى، ثم جاء من بعدهم دور البولنديين وسكان البلاد الواقعة على البحر البلطي، وغيرهم من السكان الذين لم يتعرض لهم أحد بسوء قبل نشوب الحرب، وامتلأت المعتقلات ومعسكرات السخرة بمن جاءوا إليها من الملايين الجدد، وملاك القول: إن حكامنا كانوا في ذلك الوقت أشبه بقطيع من الذئاب المروَّعة.

وعُقِدَت بعد بضعة أيام من نشوب الحرب «محاكم عسكرية» في موسكو برياسة الرفيق فزنيف كبير قضاة محكمة المدينة السابق، وسرعان ما تفرعت من هذه الأداة الإرهابية الجديدة فروع في العاصمة وضواحيها، وحذت حذوها سائر المدن الروسية، وتغلغلت الأداة الجديدة في جميع نواحي الحياة السوفيتية وخولت سلطات واسعة، فكان لها أن تأمر باعتقال الناس، وأن تحاكمهم سرًّا، وتقضي عليهم بالإعدام، وأُنْشِئَت أيضًا محاكم خاصة للسكك الحديدية، وأخرى للنقل النهري وغيرها للجيش، وكانت كلها تعمل تحت سلطان أخصائيين من رجال القسم السياسي، وتضطلع بذلك الواجب النبيل، واجب إخماد روح التذمر وسحق المتذمرين، إن هذا العهد قد استولى عليه الفزع بلا ريب.

وقد لخص ستالين نفسه بعد اثني عشر يومًا من بداية الغزو واجبات هذه الهيئات الجديدة التي أُنْشِئَت لتعاون الهيئات القائمة من قبل في أعمال الرقابة والقمع، لا لتحل محلها في هذه الأعمال فقال: «إن علينا أن نقضي بلا شفقة ولا هوادة على جميع الذين يشيعون الاضطراب في المؤخرة، وعلى جميع المنشقين، والذين ينشرون الفزع في البلاد، والجبناء ومروجي الشائعات الكاذبة.

ولا بد لنا من أن نرسل من فورنا إلى المحاكم العسكرية كل الذين يعرقلون بجبنهم وبإشاعة الفزع في النفوس وسائل الدفاع عن البلاد أيًّا كان شأنهم.»

ولست أدري أي سبب يدعو إلى هذا الخوف الشديد ممن «يشيعون الاضطراب» في المؤخرة في بلد قد وُحِّدَ من عهد قريب بأشد وسائل التحري والتطهير، وقيل عنه أكثر من مرة أنه أصبح كله صفًّا واحدًا لا ثغرة فيه؟ أليست تهديدات ستالين للذين ينشرون الفزع في طول البلاد وعرضها كافية لأن تصور لنا الأمة الروسية على بكرة أبيها في صورة الأمة التي ينتشر فيها الفساد والغدر والجبن؟ أليس هذا دليلًا على أن أعداءها من أبنائها قد بلغوا من الكثرة حدًّا يعجز عن الإحاطة به مئات الآلاف من جواسيس القسم السياسي حتى اضطر ولاة الأمور لإنشاء هذه المحاكم الجديدة؟ وكيف يحدث هذا في بلد لا يزال يتغنى بنشيد «الحياة السعيدة» في ظلال دستور ستالين؟

لعل في استطاعة رجال من أمثال دفيز ودورنتي أن يرشدونا إلى حل لهذه الألغاز، ولكنني حين استمعت لتهديدات ستالين التي كان يذيعها بأعلى صوته ويذيعها على مهل بلهجته الكرجية، لم أكن أعرف إلا أنها لا تلتئم مع صورة الأمة التي طهرت من الخونة في بحار من الدماء، وكانت الأعمال التي أعقبت هذه الألفاظ تناقض تلك الصورة أشد من مناقضة ألفاظ ستالين نفسها.

فقد أُعْدِمَ في موسكو وحدها آلاف من أبنائها رميًا بالرصاص في الستة الشهور الأولى بعد إعلان الحرب تنفيذًا لأحكام المحاكم العسكرية، وكثيرًا ما كانت كلمة واحدة ينطق بها الشخص وتشتمُّ منها رائحة الشك أو الخوف أو توقع الخطر كافية لأن يساق قائلها الأثيم إلى المحاكم العسكرية، وانتشر آلاف الجواسيس في صفوف طالبي الخبز والكيروسين، وفي الأسواق والحوانيت والملاهي وعربات الركوب ومحطات السكك الحديدية، مفتحي الأعين والآذان لعلهم يلتقطون كلمة يهمس بها إنسان، ويمكن تفسيرها بأنها تدل على اليأس أو الريبة أو الانتقاد، وكانت كل لجنة من لجان البيوت عينًا على سكانه، وكل خادمة عينًا على مخدومها، وبلغ هذا التجسس حدًّا كان الناس معه يخشون أن يقولوا: إنهم جياع، لئلا يتهموا بأنهم ينكرون حكمة ستالين أو يتجاهلون صعاب أوقات الحرب.

وأصبح من المعروف في الدوائر الشيوعية في موسكو أن الآلاف من الرجال والنساء الذين كانوا معتقلين في السجون أو في معسكرات السخرة في العاصمة من عدة سنين قد أُعْدِمُوا كلهم رميًا بالرصاص ومن غير محاكمة حين اقترب العدو من المدينة، وكان هؤلاء هم المعتقلين السياسيين من الرجال البارزين في أحزاب اليسار من الاشتراكيين وأنصار بوخارين والثوريين الاشتراكيين والفوضويين والشيوعيين الأقدمين، وكانوا هم الذين يخشاهم الكرملن أشد خشية؛ لأن في وسعهم إذا نشبت الثورة أن يتولوا زعامة الجماهير الغاضبة، وتراءى للعصبة الحاكمة مرة أخرى منظر العشرين مليونًا من العبيد يحطمون أغلالهم.

ولم يكن خافيًا على أحد أن أداة التعبئة العسكرية كانت هي الأخرى تستخدم للقضاء على من لم يكونوا قويي الإيمان بالحكم السوفيتي، وقُلِّبَت ملفات القسم السياسي، وشُكِّلَت لجان في كل ناحية من نواحي البلاد لحصر أسماء المشكوك في أمرهم والذين لم ير ولاة الأمور ضرورة للقبض عليهم، فأما الذين أشارت بأن يُقْضَى عليهم قضاءً سريعًا فقد أُرْسِلوا من فورهم إلى أشد الأجزاء خطرًا في جبهات القتال من غير أن يدربوا التدريب الكافي أو من غير أن يدربوا على الإطلاق، وكان هذا في رأيهم نوعًا من التطهير ولكنه تطهير إجرامي شنيع.

والحق أن الفزع الذي عم البلاد كان فزعًا منقطع النظير، لقد كان في واقع الحرب «حربًا من داخل حرب» على حد تعبير سادة الكرملن عن ضعف ثقتهم بالشعب الروسي، وثمة تعبير آخر رجع فيه سادة البلاد بين يوم وليلة عن المبادئ «الاشتراكية» التي عشنا في ظلها وعانينا الأمرَّين من جرائها عشرين عامًا كاملةً؛ ذلك أن الحكومة بعد أن ظلت ربع قرن من الزمان تلقن الناس المبادئ الشيوعية عادت في ساعة المحنة فاستغاثت — كما كان يستغاث من قبل — بالوطنية القومية والولاء للجنس وحب الأرض التي نشأنا فوقها، بل إنها لجأت آخر الأمر إلى الدين فلم تدعنا وقتئذٍ لأن ندافع عن أرض «الاشتراكية» بل دعتنا لنصدَّ المغيرين على الأراضي الروسية وعن تراث الصقالبة وعن دين الله القويم.

وليس في وسع المرء أن يتصور انقلابًا في القيم التي كنا نعيش في ظلالها — وإن كان انقلابًا مؤقتًا أُرْغِمْنَا عليه إرغامًا — أعظم من هذا الانقلاب، لقد سكتت الألسنة عن ذكر الاشتراكية والأنظمة الجماعية، والمجتمع الخالي من الطبقات والثورة العالمية، وكلما توغل الألمان في البلاد قل ذكر الناس لتلك المبادئ التي فرضت عليهم فرضًا، وأُرْغِموا على اعتناقها بأشد أنواع العذاب، ولم يعد الناس إلى الشعائر السوفيتية المألوفة إلا بعد هذا الوقت بزمن طويل حين صد تيار الغزو الألماني، وما من شك في أنه كان في البلاد ملايين من الروس العاديين لم يتزعزع إيمانهم بالمجتمع السوفيتي الطراز، ولكن يلوح أن سادة الكرملن لم يكونوا من هؤلاء.

ولنعد الآن إلى اليوم الأول من أيام الحرب.

دخلت مكتب المدير في مساء ذلك اليوم فرأيت فيه مانتروف نفسه ويجوروف ولريونوف مدير أحد المصانع الفرعية، وأخذنا نتباحث في أثر الحرب، وكان المذياع مفتوحًا لأنَّا كنا نتوق إلى سماع الأخبار، فسمعنا على حين غفلةً صوتًا شديدًا يدوي في أثناء الإذاعة الموسيقية العسكرية، وقال هذا الصوت باللغة الروسية القحة: «يا أهل الروسيا! يا شعب الروسيا! اسمعوا! اسمعوا! هذا هو مركز قيادة الجيش الألماني.»

ونظر بعضنا إلى بعض وهم واجمون.

وقال مانتروف: «أليس من الخير أن نغلق المذياع حتى لا نسمع صوت هذا اللعين؟»

وقال يجوروف: «فليخسأ هذا الوغد، دعنا نسمع ما عنده!»

– «لقد ظللتم عشرين عامًا كاملةً تحيون حياة الجوع والخوف، لقد وعدوكم الحياة الحرة ولم تنالوا إلا الاستعباد، ووعدوكم الخبز فلم تنالوا إلا القحط، فأنتم عبيد مجردون من حقوق بني الإنسان، يموت الآلاف منكم كل يوم في معسكرات الاعتقال وفي مجاهل سيبيريا المتجمدة، ولا سلطان لكم على بلادكم ولا على أرواحكم، وسيدكم ستالين يسوقكم بالسياط كما يساق العبيد، ومنكم ملايين في هذه الساعة أُلْقِيَ بهم في غيابة السجون أو في معسكرات الأشغال الشاقة، وقد قضى حكامكم على دينكم واستبدلوا به عبادة ستالين، وماذا أصاب حرية الكلام والصحافة في بلادكم؟ الموت لمن يمتصون دماء الشعب الروسي، أسقطوا حكومة المستبدين!»

ثم تلت هذه لعنات وعبارات معادية للسامية وغيرها من الوقاحات التي تمتاز بها الدعاوة الألمانية.

وصاح يجوروف قائلًا: «أسكتوه!»

وأسرع منتروف فأدار المفتاح، وكان الصمت الذي تلا هذا صمتًا رهيبًا، لم نجرؤ في خلاله على أن ينظر أحدنا إلى وجه صاحبه، وما هي إلا لحظة حتى افترقنا ونحن في أشد حالات الارتباك.

وعدت بعد ساعة أو نحوها إلى مكتب منتروف لأستشيره فيمن يخلف سمليا نينوف بعد أن قُبِضَ عليه، ودخلت عليه كعادتي دون أن استأذن يدق الباب، وما كاد أشد دهشتي حين وجدته هو ويجوروف يستمعان مرة أخرى إلى إذاعة من العدو، وكنت أفهم تشوفهم حق الفهم، فقد كانت هذه أول مرة في خلال عشرين عامًا أمكن فيها سماع صوت يطعن جهرةً على الحكم السوفيتي ولا يسمع فيها رجال هذا الحكم يطعنون على غيره.

وكان صوت المذياع ينادي حين دخلت عليهما: «تعالوا إلينا وهذه النشرات في أيديكم وستكون هي جواز المرور إلينا، لِمَ تحاربون لتنصروا الاستعباد والإرهاب بينما الألمان يأتون إليكم بالحياة الحرة؟»

وعاد منتروف يسب ويلعن وهو يدير مفتاح المذياع ليسكته، وخرج يجوروف من الحجرة وقد بدا عليه بسبب دخولي من الارتباك ما بدا على رفيقه، وتحدثت في موضوع سمليا نيتوف وغيره من الموضوعات العاجلة المتعلقة بالعمل، وقاطعني منتروف في وسط إحدى العبارات بقوله: «اسمح لي يا رفيق كرافنشنكو أن أخرج عن موضوع حديثنا لأقول لك: إن من الخير ألا تذكر أننا استمعنا إلى الدعاوة الألمانية في المذياع إذا ذُكِرَ شيء عنها، إن الله يدافع عن الذين يدافعون عن أنفسهم.»

فقلت له: «لست أشك في أن نصف موسكو كانت تستمع إليها.»

– «إنهم لن يستمعوا إليها غدًا، لقد تلقيت الآن إشارة تليفونية تقول: إن جميع أجهزة الإذاعة ستصادَر غدًا.»

– «تصادر؟ ولماذا؟»

– «أظن أنها ستصادَر ليُحْتَفظ بها في مكان أمين.»

وكان هذا هو الذي حدث بالضبط في اليوم الثاني في موسكو وفي جميع أنحاء البلاد.

فقد أسلم جميع السكان — بعد أن هُدِّدوا بالعقاب الصارم — جميع أجهزتهم إلى رجال الشرطة المحلية، وأبصرت بعد زمن قليل أكداسًا من الأجهزة محملة على عربات النقل كما يحمل الخشب لتنقلها إلى المخازن، وظل الروس طوال زمن الحرب لا يُسْمَح لهم إلا بمكبرات الصوت متصلة بمحطات الإذاعة الرسمية، ولقد كان الألمان في بلادهم وفي البلاد التي استولوا عليها يحرمون على الأهلين أن يستمعوا إلى إذاعات الأعداء ويعاقبون من يستمعون إليها، أما الروس فلم يكونوا يؤتمنون إلى هذا الحد، ومن أجل ذلك صودرت أجهزتهم.

وكانت هذه هي الخطوة الأولى في سبيل منع الأنباء عن الشعب الروسي منعًا لم يلبث أن أصبح كاملًا، فالرقابة على البريد لم تقتصر على الرسائل الواردة من ميدان القتال أو المرسلة إليه، بل شملت فوق ذلك جميع المراسلات المدنية، وكانت البلاغات الحربية التي تصدرها الحكومة في الأسابيع الأولى من الحرب مضللة إلى حد جعل الروس لا يصدقون كل ما صدر بها بعد هذه الأسابيع، فلا عجب بعدئذٍ إذا كان ولاة الأمور قد أقض مضاجعهم ما كان يذاع من الأنباء التي كانت تشيع الفزع في أنحاء البلاد، ولم تكن هذه إلا دليلًا على ما كان يعتقده الشعب من أن حكومتهم كانت تكذب عليهم.

وكنا نعمل في المصنع في جو يسوده التوتر المطرد بالزيادة، فقد نقصت الأيدي العاملة نقصًا شديدًا بسبب التعبئة العامة، وحرمنا بسبب اضطراب المواصلات من المواد الضرورية، وكانت البلاد قد نعمت من الوجهة النظرية باثنين وعشرين شهرًا من شهور السلم، كان في وسعها أن تعد فيها عدتها لهذا الخطب المدلهم، ولكن الواقع أنها لم تعد له شيئًا وأن الاضطراب كان يشيع في كل ناحية من نواحي الحياة.

ولم يكن في وسعنا أن نصدق الأنباء التي كان يهمس بها الناس خفية والتي تقول: إن تيار الهجوم الألماني كان يتدفق نحو الشرق بسرعة مروعة، ترى ماذا أصاب الجيش الأحمر الجبار الذي كنا نفخر به على جميع الدول؟ وماذا أصاب خطوط الدفاع العسكرية الفنية التي كانوا يدَّعون أننا قد وصلنا إليها حين دفعنا بحدودنا إلى قلب بولندا ورومانيا وفنلندا ودول البحر البلطي الثلاث؟ وماذا جرى للمزايا التي قيل لنا أنَّا حصلنا عليها في زمن حيادنا الطويل؟

أما البلاغات الرسمية فلم تفصح لنا عما يشفي غليلنا، أو أنها على الأصح لم تفصح لنا عن شيء على الإطلاق، فزادت بذلك الاضطراب الناشئ من تيار الشائعات الجارف، وكان نطاق قوي من رجال الشرطة يمنع اللاجئين من الوصول إلى موسكو ليحافظ بذلك على روح أهلها المعنوية.

ولكن هذا النطاق القوي لم يمنع عددًا منهم أن يتسرب إليها فيشعرنا بهول الكارثة التي أخذت تقترب منا، ومع ذلك فإن البلاغات الرسمية أبت أن تعترف بالهزيمة، بل إنها كانت بعكس هذا توحي بأنا منتصرون، غير أن أسماء الأماكن التي كانت الجيوش تحارب فيها كان دليلًا قاطعًا على أن القتال يقترب من العاصمة يومًا بعد يوم.

ومما جاء في واحد منها صادر في أول يوليو: «نشبت في الليلة الماضية معارك في اتجاه مرمانسك ودفنسك ومنسك ولوتسك، وقاومت جيوشنا قوات العدو مقاومة عنيفة في مرمانسك وكبدته خسائر فادحة … ونشبت في دفنسك ومنسك معارك قضت على الوحدات الأمامية من فرق دبابات العدو …»

ولكن ستالين وقف لأول مرة أمام لاقطة الصوت في اليوم الثالث من شهر يوليو وأسمع الأمة الروسية المروَّعة نبأ المجزرة البشرية العامة تنتشر مسرعة في اتجاه العاصمة.

قال ستالين: «إن جيوش هتلر قد استطاعت أن تستولي على لتوانيا وعلى قسم كبير من روسيا البيضاء، وعلى جزء من أوكرانيا الغربية، وإن بلادنا مهددة بأعظم الأخطار.»

وعجبنا من هذه الأنباء حتى لم يكن في وسعنا أن نصدق آذاننا، ولكن ستالين واصل حديثه قائلًا: «إن الهدف الذي ترمي إليه هذه الحرب ضد المستبد الفاشي هو تحرير شعوب أوروبا التي تئن تحت أقدام الفاشية الألمانية، وسيكون لنا في هذه الحرب أحلاف أوفياء من شعوب أوروبا وأمريكا … وستشترك في هذه الحرب التي نبغي بها حرية بلادنا شعوب أوروبا وأمريكا التي تجاهد في سبيل استقلالها وفي سبيل الحرية الديمقراطية …»

وهكذا سمعنا لأول مرة ستالين نفسه ينطق بألفاظ مثل الحرية والديمقراطية بمعناهما القديم يقولها من عنده ولا يقتبسها من كلام غيره في معرض السخرية والاستهزاء، وخُيِّلَ إلينا أن كل شيء قد تحول من النقيض إلى النقيض، فقد ارتبط بقاء العهد البلشفي بين عشية وضحاها بانتصار «الديمقراطيات المنحلة»، وتعهدت الدول الرأسمالية الكبيرة بأن تقدم لاتحاد الجمهوريات السوفيتية كل ما تستطيع تقديمه من عون، وسرعان ما انبعث في قلوب الكثيرين من الروس أمل جديد في الحرية كانت شعلته قد انطفأت فيها من زمن بعيد، وخُيِّلَ إلينا أن عزلتنا عن عالم الأحرار سيقضي عليها، وإن كانت هذه المعجزة لن تتم إلا بعد حرب عوان.

وقال ستالين في إحدى إذاعاته: «أيها الإخوة وأيتها الأخوات! إني أتحدث إليكم أيها الأصدقاء.» وكانت هذه أول مرة في الستة عشر عامًا الماضية تحدث إلينا ستالين فيها بهذه اللهجة، وقد أنطقت الحماسة صديقًا لي في المصنع فقال لي بصوت خافت حينما سمعها: «ما من شك في أن الرئيس قد أنزله الزمان إلى الحضيض قبل أن يدعونا إخوة وأخوات.»

ولم يكن في وسعنا أن ندرك سبب هزائمنا، لقد ظللنا عشرين عامًا نجوع ونُعَذَّب ونساق بالعصا باسم الاستعداد الحربي، وكان زعماؤنا يفخرون بتفوقنا في عدد رجالنا المدربين وعدتنا الحربية الهائلة، وها هم أولاء الآن يعزون هزائم جيوشنا الساحقة المذلة لنقص المدافع والطائرات والذخائر، ولقد اجتزنا «بنجاح» ثلاث مشروعات متعاقبة من مشروعات السنوات الخمس، ضحينا في كل منها بالطعام والكساء والحاجيات المنزلية في سبيل الصناعات الحربية، وها نحن أولاء في أول امتحان لقواتنا نرى بلدنا الذي يبلغ عامره مائتي مليون من الأنفس يحاول صد فرق دبابات العدو المهاجمة بقنينات البنزين! لقد كان عشرات الآلاف من الروس تسحقهم عجلات الدبابات الألمانية؛ لأننا لم يكن لنا مدافع مضادة للدبابات بعد عشرين عامًا مضت كلها تقريبًا في الاستعداد الحربي، إن التضحية بالخبز من أجل المدافع أمر قد نفهمه، ولكننا في هذه المحنة لم يكن لدينا خبز ولا مدافع.

والحق أنا لم نجد تفسيرًا معقولًا للهزائم التي مُنِيَت بها الجيوش السوفيتية، ولم نجد شيئًا يخفف عنا آلام المذلة، لقد أُخِذَت بولندا على غرة، وطعنتها من خلفها جارتها الشرقية، وكانت فرنسا أصغر رقعة وأقل قوة من عدوها المغير عليها، ولكن كيف تسلك روسيا الضخمة بعد عامين من اندلاع نار الحرب مسلك دولة متأخرة صغيرة تؤتى من مأمنها، وقد كانت تمتاز من غيرها بكثرة عددها، وفسحة الوقت أمامها، وتركيز جهودها للاستعداد الحربي؟ ولو أن بلادنا لم تكن أوسع رفعة من فرنسا لاكتسحت أربع مرات في الأربعة الأشهر الأولى من الحرب.

ولم تنجُ من الدمار إلا بفضل اتساع رقعتها وكثرة سكانها وبطولة الروس وتضحيتهم التي لا نظير لها في جبهات القتال وفي المؤخرة على السواء، وبإنشاء الصناعات الجديدة ونمو الصناعات القديمة وتقدمها في داخل البلاد، واستخدام آلات المصانع التي أخليت في إقامة مصانع أخرى جديدة، هذه هي الوسائل التي مكنت الجيوش الروسية من أن تتقهقر هذا التقهقر الواسع النطاق الذي تكبدت فيه أفدح الخسائر في الوقت الذي كانت البلاد تجمع فيه مواردها للقيام بهجوم مضاد، هذا إلى أن هذا العهد قد أفلح في إيقاظ الروح القومية والوطنية وبعثها قوية في نفوس الروس، ثم بدأ العتاد الأمريكي يرسل إلى البلاد بعد ستالينغراد.

وكانت التعبئة العامة لا نظير لها في سرعتها واضطرابها، فكانت القوات الاحتياطية ترسل إلى ميدان القتال دون أن يتمكن أفرادها من توديع أسرهم، وكان العمال يساقون من حوانيتهم إلى الصفوف دون تدريب، كان هذا كله يحدث في حين أن جيشنا العامل من أكبر جيوش العالم، وأنه قد ضرَّسه غزو البلاد المجاورة، وحرب عوان شُنَّت على فنلندا.

وقد أُخِذَت الحكومة في غفلتها حتى لم تجد ما يكفي الجند من الملابس، فكان الضباط أنفسهم يلاقون الموت في جلابيب مؤقتة ومن غير تدريب كاف، وكان ملايين من الجنود الجدد يدلفون في الوحل في أحذية من الخيش، وأقبل الشتاء وهم يرتدون ملابس الصيف، وأبصرت مجندين جددًا يدربون بأيدي المكانس بدل البنادق.

وكانت لجان التجنيد تعمل من طلوع الفجر إلى غسق الليل، تحصي أسماء الذكور من سن السابعة عشرة إلى الخمسين، وقد علمت من بعد أن هذه اللجان لم تكن تسترشد بالقوانين القائمة، بل كانت تتبع أوامر سرية تصدرها إليها لجنة الدفاع تلقتها بعد بداية الحرب، وكان لا بد من إعفاء طوائف معينة من العمال لم يكن في وسعها الاستغناء عن أعمالها، وقد أعفت أيضًا في بداية الحرب كل من يعول فردًا أو فردين عاجزين عن العمل، أما فيما عدا هؤلاء وأولئك فقد سار التجنيد سيرًا شديدًا لا رحمة فيه ولا هوادة، ولم يكن الكشف الطبي على المقترعين يستغرق أكثر من دقيقتين أو ثلاث دقائق، وقد رأيت بعيني رأسي رجالًا عورًا وعرجًا ومسلولين، ومصابين بأمراض في القلب وقروح في المعدة، وعمالًا ملتحين يزيدون على الخمسين من العمر، منهوكي القوى لا تكاد تحملهم أرجلهم؛ رأيت هؤلاء جميعًا يُقْضَى بأنهم صالحون لأن يُرْسَلوا إلى جبهة القتال، ولم يكن يُرْفَض من المقترعين لأسباب صحية إلا واحد أو اثنان في المائة.

وكانت الصحف تفاخر بأن هذا دليل على ما بلغته صحة الأهلين في ظل الحكم السوفيتي.

وقبل أن يمضي على نشوب الحرب بضعة أسابيع دعا الحزب إلى إنشاء جيش من المواطنين المتطوعين، وبدا لكثيرين منا أن هذه الخطوة الجديدة اعتراف خطير بنقص الاستعداد، وعاد إلى ذاكرتنا وقتئذٍ ما قاله فوروشيلوف وزير الحربية في سبتمبر من عام ١٩٣٩م بعد أن بدأت الحرب في أوروبا: «لقد أثبتت تجارب الجيوش القيصرية بالدليل القاطع أن ما يسمونه جيش المواطنين المتطوعين جيش عاجز ليس لديه شيء من الدربة، وهو دليل على أن الاستعداد العاجل في وقت الحرب لا يجدي نفعًا، فقد كان الجنود يُرْسَلون إلى ميدان القتال من غير تدريب، وأنتم جميعًا تعلمون ماذا كانت العاقبة.»

وها نحن أولاء نعمل العمل نفسه، بل إننا نعمل ما هو أدهى من ذلك وأمرُّ، لقد كنا نلجأ إلى نظام التطوع في بداية الصراع، على حين أن العهد القيصري لم يفعل هذا إلا بعد بدايته بزمن طويل، وكان مما قاله فوروشيلوف أيضًا: يجدر بي هنا أن ألاحظ أن الزيادة العددية في الجيش الأحمر والأسطول زيادة تستلزمها الأحول الدولية التي لا تغفل حكومتنا ولجنة حزبنا المركزية، ولا يغفل الرفيق ستالين، عن دراستها دراسة دقيقة، ولكن ما هي قيمة هذه الدراسة إذا كانت «حكومتنا ولجنة حزبنا المركزية» وإذا كان «الرفيق ستالين» يرسلون الجموع تلو الجموع من السكان المدنيين إلى المجازر والهلاك المحقق من غير تدريب، وذلك بعد أسابيع قليلة من الغزو الألماني؟

واستُدْعيت إلى مكتب لجنة الحزب في مصنعنا صباح يوم من أيام شهر يوليو، وكلفني يجروف أن أدعو إلى اجتماع لنشر الدعوة إلى التطوع، وأصررت على أن يقوم هو بهذا العمل بوصفه من زعماء الحزب فقال لي: «لا، لا، يا فكتور أندريفتش، يجب أن يتولى هذا العمل رجال من الشعب لا من الحزب نفسه، وأنت محبوب من العمال وهذا يجعل العمل أسهل عليك منه عليَّ.»

وبدأ الاجتماع العام وأبصرت أمامي وجوه زملائي العمال الكالحة، وتحدثت إليهم كما يتحدث الروسي لمواطنيه، وحرصت على ألا يجري على لساني لفظ الشيوعيين والاشتراكيين، وقلت لهم: إني أحب بلادي كما يحبونها كلهم، وأني أعرف أنها تختلف عن العصبة التي تحكمنا وتروعنا، واستطعت أن أدعو العمال دعوة ملؤها الحماسة والإخلاص إلى التطوع في الرديف، ومن أراد أن يعرف السر في أن الشعب الروسي قد حارب وأحرز النصر في النهاية فليبحث عنه في مقدرتي أنا وأمثالي على استثارة حماسة الروس ورغبتهم الصادقة في النصر وكراهيتهم للمغيرين على أوطانهم، على الرغم من بغضهم للحكم الشيوعي، فالروس لم يحاربوا من أجل ستالين بل حاربوا على الرغم من ستالين، ولم يكن أحد يعرف هذه الحقيقة أحسن مما تعرفها عصبة الكرملن نفسها، كما تدل على ذلك كل دعوة يوجهونها إلى الجهاد الوطني.

وأردت أن أضرب لهم المثل بنفسي، فكنت أول من تطوع، وحذا حذوي عشرات من عمال مصنعنا وموظفي مكاتبه ورجاله الفنيين، ولكن الطبقة العليا من رجال الإدارة لم يتطوع منها أحد، فكانوا إذا نظر إليهم العمال نظرات الاستفسار تهربوا من هذه النظرات ولم يبدوا أقل استعدادًا لتسجيل أسمائهم في كشوف المتطوعين.

وذهبت في آخر النهار لأقابل منتروف وتظاهرت بأني لا أشك في أنه سيتطوع وقلت له في مرح: «متى تسجل اسمك بافيلاسلاف إيفانوفتش؟»

فاحمر وجهه حتى صار كلون شعره الملتهب، وحرك جسمه الثقيل حركة قلقة، وأخذ يقلب عينيه الصغيرتين في أركان الحجرة، ثم تنحنح وقال: «إن ما سأقوم به في الحرب الكبرى مسألة تقررها لجنة الحزب الإقليمية فهي التي تعرف ما عليَّ من التبعات، وسيكون من الواجب بعد زمن قليل أن نجلو عن المصنع …»

فأجبته ملحًّا عليه في أن يتطوع: «إن من واجبك أن تتطوع مهما تكن الظروف، إن العمال يتحدثون عنك، وإذا أراد الحزب أن يستبقيك هنا فسيفعل ذلك سواءً تطوعت أو لم تتطوع، فلِمَ إذن لا تسجل اسمك حتى يقرر الحزب ما يقرره بشأنك؟»

ولكن منتروف لم يشأ أن يترك أمره رهن الظروف، وكذلك فعل يجروف، ومع هذا فقد نال كلاهما بعد انتهاء الحرب أكبر الألقاب وأفخمها، وأعظم أوسمة الشرف؛ لأنهما حرصا كل الحرص على أن يظلا أبعد ما يكونان عن نيران العدو، على أنهما لا يصح لومهما على هذا العمل؛ لأنهما كانا يسيران على خطة اختطها لهما رجال الكرملن، فقد اعتزم ستالين أن يحتفظ بعصبته بالبيروقراطية التي يعتمد عليها آخر الأمر نظام الحكم السوفيتي، وكانت هناك طائفة من الموظفين «لا يمكن الاستغناء عنهم» ومن بينهم رجال القسم المخصوص من وزراء الشئون الداخلية، وحرس الزعيم الخاص ممن ادُّخِروا جميعًا للمظاهرة الأخيرة أمام الشعب الروسي، وهي مظاهرة لم يُقَدَّر لها أن تكون.

ولم توافق لجنة الحزب المحلية على تطوعي، وكان يسر منتروف ويجروف بطبيعة الحال أن أُرْسَلَ إلى جبهة القتال من فوري؛ لأنهما لم يغفرا لي قط محاولتي أن أحملهما على أن يتطوعا، وإشاعة هذا بين جميع من في المصنع، وكان الذي أنقذ موقفهما في هذه المرة أن كرافتشنكو وغيره من كبار الموظفين الذين تطوعوا لم يؤذن لهم بترك أعمالهم والانخراط في سلك الجندية.

استولى الألمان بعد إعلان الحرب بزمن وجيز على الشريط الضيق من المناقع الفنلندية الذي بذل الروس في الاستيلاء عليه عام ١٩٤٠م مئات الآلاف من الأرواح؛ ولهذا باءت مغامرة ستالين العدوانية بالفشل الذريع، ولم تسفر إلا عن تعجيل الفنلنديين الاندفاع في أحضان الألمان المغيرين، كذلك لم يكن لانقضاض السوفيت على بولندا ولا لاختطافهم دويلات البحر البلطي إلا أثر ضئيل في تأخير الزحف الألماني؛ ذلك أن «الأمن الاستراتيجي» الذي تتذرع به بعض الدول لاغتصاب الأراضي المتاخمة لها قول لا معنى له في عصر الحرب الآلية ومدافع الطائرات البعيدة المرمى.

ولكن الأساطير التي نبتت في منابت الدعاوة الشيوعية لم يكن بينها كلها ما هو أدنأ ولا أكذب من الأسطورة التي تقول: إن ستالين قد انتفع بالاثنين والعشرين شهرًا التي كسبها باسترضاء النازيين في إعداد العدة لقتالهم، تلك أسطورة ما أكذبها، وهي في الوقت نفسه إهانة موجَّهة إلى آلاف الآلاف من الروس الذين عُذِّبوا وقُتِلوا؛ لأن حكومتهم أضاعت هذه المهلة ولم تفد منها أقل فائدة، فلما شبت نار الحرب كانت كل حصوننا مهدمة، ولم تكن لدينا خطة معقولة لإنقاذ الأهلين أو العتاد الحربي الثمين في طريق المغيرين.

وليس على الذين يشكون في صدق هذا القول إلا أن يطلعوا على محاضر جلسات المؤتمر الثامن عشر للحزب، وهو المؤتمر الذي عقد في شهر فبراير من عام ١٩٤١م قبل بداية الغزو الألماني بأربعة أشهر لا أكثر، فقد كانت جميع الخطب التي أُلْقِيَت في هذا المؤتمر تصور ما تواجهه البلاد من صعاب وإخفاق في شئون الصناعة، وخاصة في فروع الاقتصاد المتصلة بحاجات الحرب، وقد تجمع لديَّ في أثناء عملي الرسمي في سني الحرب من الأدلة القاطعة ما يؤكد لي أن هذه الخطب لم تتعد الحقيقة حين صورت الحال بهذه الصورة الحالكة السواد.

ولم يمضِ أسبوع على بداية الحرب حتى لم تكن موسكو، وهي خير مدننا تموينًا، تجد حاجتها من الخبز، وحتى وقف الناس في صفوف طويلة ينتظرون مخصصاتهم الضئيلة، والمتأخرون منهم في هذه الصفوف لا يثقون بأن هناك من الخبز والكيروسين وغيرهما من المواد الضرورية ما يكفي جميع الواقفين.

ولم يكن في عاصمة الاتحاد السوفيتي مخابئ صالحة للوقاية من الغارات الجوية، ولم يخل مصنع واحد من المصانع الحربية الهامة في غرب روسيا وجنوبها، بل لم تتخذ العدة لإخلاء مصنع من هذه المصانع قبل الهجوم؛ ذلك أننا لم نستعد إلا للحرب الهجومية عملًا بنظريات الكرملن، ومن أجل هذا عجزنا عن أن نجلو في الوقت المناسب عن مساحات واسعة من البلاد، استحالت من فورها ميادين قتال، وبقيت ملايين الأطنان من المواد الغفل والعتاد الحربي والحبوب والوقود — وبقي ما هو أهم من هذا كله وهو عشرات الملايين من الرجال — في أكثر أجزاء الأقاليم الغربية تعرضًا للغزو، فسقطت كلها في أيدي الألمان.

وكنت على اتصال دائم في كل يوم بالوزارة المشرفة على المصانع والذخائر الحربية والعمال في الأقاليم المعرضة إلى الغزو، وسرعان ما تبين لي أن أحدًا في الكرملن لم يعن في مهلة الاثنين والعشرين شهرًا بوضع خطة للجلاء عن هذه الأقاليم، وإخلائها من المؤن والعتاد الحربي، ولم يكن في مقدور أحد بطبيعة الحال أن يخطو الخطوة الأولى في هذه السبيل إلا الرؤساء الكبار، ولو أن أحدًا غيرهم أثار هذا الموضوع لعرَّض نفسه لأن يتهم بأنه من «دعاة الهزيمة» وممن يعملون على «إضعاف الروح المعنوية في البلاد»، وإذا ما أشار أحد إلى أن الجيش الأحمر المظفر قد يضطر إلى التقهقر ولو كان تقهقرًا مؤقتًا عدت إشارته مساسًا بقدسية هذا الجيش يستحق عليها أقصى العقاب.

وفي السنين التي شغلت فيها مراكز إدارية في الأعمال الصناعية كنت أحضر في كثير من الأحيان والاجتماعات الخاصة بوضع الخطط السرية للتعبئة العامة، وأشترك في وضع هذه الخطط، وكنا ننظر في كل ما تحتاجه التعبئة من معادن غير حديدية وزيوت وفحم وآلات ورجال، وفي مسائل تخزينها ونقلها، وجمعت الحكومة على أساس هذه الخطط المحكمة البعيدة النظر مقادير هائلة من حاجيات الحرب والمواد الاحتياطية الضرورية لها، ولكن ولاة الأمور كانوا مقيدين بالقيود التي فرضوها على أنفسهم، والتي كررها ستالين في جميع المناسبات، فكانت من أجل ذلك أرقى من أن يتطرق إليها الخلاف، وهي أن ميادين الحرب ستكون في خارج البلاد.

فلما واجهتنا الحرب الدفاعية بأعبائها الفادحة أصبحنا عاجزين كل العجز، فلم يكن لنا من سبيل إلا أن نرتجل كل شيء على عجل، نرتجل الجلاء والتعبئة وحرب العصابات الدفاعية خلف جيوش العدو، وأفلح هتلر وعصبته في تخدير ستالين وإنامته حتى عجزت جهود البريطانيين والأمريكيين عن أن يفتحوا عينيه على الحقائق، ولو أنه اتعظ بالنذر الأولى التي وجهتها إليه وزارة الخارجية الأمريكية في شهر يناير؛ لكان لديه من الوقت خمسة أشهر يستطيع فيها أن ينقل ملايين من الأهالي وعشرات من المنشآت الصناعية وكميات هائلة من المؤن والمواد الاحتياطية.

لكن الكرملن أضاع هذه المهلة فغنم هتلر مغانم كثيرة بذل الشعب السوفيتي فيها دماءه وعرقه ودموعه مدى خمسة عشر عامًا قضاها في تصنيع البلاد، وبذلك حصل النازيون القساة على مصانع ومحطات لصنع الجرارات وآلات لتوليد الكهرباء من مساقط المياه وأكداس من المؤن، هذا إذا ضربنا صفحًا عن عشرات الملايين من العمال الذين تركتهم الحكومة في أوكرانيا وروسيا البيضاء تحت رحمة النازيين الغلاظ الأكباد.

وكان الخوف قد تأصل في البيروقراطية الروسية بعد التطهير الكبير فلم يجرؤ أحد على أن يقوم بعمل من الأعمال، حتى بعد أن وجه النازيون ضربتهم القاصمة إلى البلاد.

واستولى الهلع على الموظفين المحليين والمؤسسات الصناعية الكبرى، فوضعت خططًا لنقل الآلات القيمة والمؤمن وإجلاء السكان، ولكن أحدًا لم يجرؤ على أن يتحمل تبعة أبسط الأعمال، فاكتفوا بكتابة التقريرات وإرسالها بالطرق العادية لتفصل فيها «الجهات العليا»، ثم انتظروا مكتوفي الأيدي حتى يتلقوا أوامر هذه الجهات، وظلوا في معظم الحالات ينتظرون حتى وهمهم الألمان.

وكان الكرملن قد أنفق أموالًا طائلة قبل استيلاء هتلر على أزمَّة الحكم، وأموالًا أكثر منها بعد استيلائه عليها، للحصول على المعلومات السرية من ألمانيا ومقابلة نظام التجسس الألماني في الروسيا بنظام يعارضه، وتجمعت لدى الروسيا بفضل هذا النظام معلومات كثيرة عن النظم السياسية والحربية في تلك البلاد، ثم حدث في أثناء التطهير الكبير في عام ١٩٣٩م أن قُبِضَ على معظم رجال إدارة المخابرات السرية وسُجِنوا وأُعْدِموا، وفر كثير من الباقين إلى ما وراء الحدود الروسية، ولم تفد البلاد من جهودهم كلها؛ لأن ولاة الأمور حسبوها «أعمالًا مخربة مضادة للثورة»، فلما قامت الحرب تبين بوضوح أن إدارة المخابرات الجديدة ضعيفة عاجزة عن أداء مهمتها عجزًا جر على البلاد أوخم العواقب، وأخذت البلاد وقتئذٍ تكفر عن قسوتها الوحشية في تلك السنين.

وأُنْشِئت هيئة عليا لمواجهة هذه الأزمة، وهي لجنة الدفاع عن الدولة، واستحوذت هذه الهيئة على أكبر قسط من السلطة في الدولة والحزب، وأصبحت هي العقل المحرك واليد الفعالة في جميع أعمال الدفاع وفي جميع أنحاء البلاد وفي ميادين القتال، كما سيطرت هي على جميع أعمال المخابرات السرية في الشئون الداخلية والخارجية، فحلت بذلك في واقع الأمر محل مجلس السوفيت الأعلى صاحب السلطة العليا من الوجهة النظرية في البلاد كلها، ولم يكن مجلس الوزراء بالنسبة لها إلا أداة تنفيذية يصدع بأوامر اللجنة الجديدة، ويشرف على الوزارات المختلفة، وكان ممثلو هذه اللجنة في الأقاليم يتمتعون بسلطات لا حد لها، وبذلك أصبحت هذه الهيئة أعظم القوى التي أُنْشِئَت في روسيا السوفيتية وأوسعها سلطانًا، وأكثرها مرونة وأشدها قسوةً، وكان أعضاؤها كلهم يُخْتَارون من أقوى أعضاء الهيئة السياسية العليا أو من أقوى أعضائها السابقين.

ولم يكن قد وجد للقوات الحربية قواد جدد قادرون، بعد أن قضت أعمال التطهير على قوادها الأولين، أما فوروشلوف وبودني وغيرهما من القواد الذين اشتهروا بعجزهم، والذين وُكِلَت إليهم القيادة في جبهات القتال في بداية الحرب، فقد كانوا عديمي النفع، لا بل عظيمي الضرر، ومع ذلك فإنهم لم يُعْزَلوا من القيادة ولم يستبدل بهم غيرهم إلا في شهر أكتوبر، وكان ذلك أيضًا دليلًا على عجز ستالين عن التأهب لساعة الخطر.

وكان الألمان ملمِّين بدقائق الآلات في تلك المصانع، يعرفون مواضع أجزائها ووظيفتها؛ وذلك لأنهم قد اشتركوا في بناء معظم المصانع الهامة في أوكرانيا وتجهيزها بالعدد اللازمة لها؛ ولذلك كان في وسعهم أن يلقوا قنابلهم على مراكز القوى الكهربائية، وخزانات المياه ونقط الاتصال الهامة، فيعطلوا الإنتاج ويؤخروا أعمال الجلاء والإخلاء التي لم يبد بها إلا في آخر الوقت.

وسوف تشيد الدعاوة السوفيتية فيما بعد بجهودها العظيمة في نقل المصانع إلى سيبيريا من روسيا البيضاء ومن أوكرانيا، مع أن هذه المصانع لم يُنْقَل منها في الحقيقة إلا عدد قليل، وستسكت الدعاوة عن ذكر مئات المصانع التي تُرِكَت غنيمة لهتلر، وحسبي أن أقول: إن كل مصنع عملت فيه أو كانت لي صلة به في دنييروبتروفسك وكريفوي رج وزبرزهي وتجانرج قد وقعت كلها في أيدي العدو سليمة، أو لم يصبها إلا ضرر يسير، وهذا القول يصدق أيضًا على مصانع كيف وأودسا وخاركوف وماريو بول وستالينو ولجانسك، وكان الخطأ الذي وقع فيه ستالين بثقته بهتلر هو الذي اضطرنا إلى أن نترك للعدو مصانع للصلب في مقدورها أن تخرج في العام الواحد نحو عشرة ملايين من الأطنان ونحو طنين من الأدوات المصنوعة من الصلب، وعادت إليها هذه كلها بعد وقت قصير في صورة دبابات ومدافع وقنابل تحصدنا حصدًا، ولم تكن مآسي الصناعات الأخرى نقل عن هذه المأساة.

وكان ستالين في أيام الميثاق قد أعان هتلر على فتح أوروبا بما قدمه له من المعادن والفلزات والزيت والحبوب واللحم والزبد وما يحتاجه من المواد طبقًا لميثاقهما الاقتصادي، أما بعد الغزو فقد أعانه بما تركه له من الثروة التي لا حصر لها على شكل عتاد حربي وقدرة هائلة على الإنتاج، وعشرات الملايين من الرجال، وآخرها أكبر سبة تبقى في الأعقاب.

وسيبقى عجز ستالين عن الاستعداد للغزو الألماني وصمة يصم بها التاريخ حكمه رغم ما ناله من النصر آخر الأمر، لقد جثم هذا الحكم على البلاد فأزهق أرواح الملايين من أبنائها من غير ضرورة، وجلب على أهلها ما لا يستطاع وصفه من البؤس والشقاء، وإلا فلِمَ لم يجل أهل لنينغراد عنها؟ إن هذا «السهو» سيضرب عنه صفحًا أولئك الذين يسبحون بحمد ستالين وإن كان أكثر من ١٣٠٠٠٠٠ من أهل هذه المدينة هلكوا من الجوع والبرد حتى أول يوم من مايو سنة ١٩٤٣م، وإن كان الباقون من أهلها سيحملون معهم إلى قبورهم كثيرًا من الشواهد الناطقة بما لاقوه من العذاب في سني الحصار المروع الذي قاسوا ويلاته ثلاثة فصول شتاء موالية، إن هذه المدينة من المدن الشديدة التعرض للغزو؛ ولذلك كان من الواجب أن تؤخذ الأهبة لوقاية أهلها قبل الحرب بزمن طويل، ولكن هذه الأعمال لم تبدأ حتى بعد أن أعلنت الحرب، وتقع تبعة ما قاسته لنينغراد من عذاب يجل عن الوصف على كاهل عضوين من أعضاء الهيئة السياسية العليا هما فوروشيلوف قائد جبهة لنينغراد وقتئذٍ وزادانوف الحاكم الأعلى لإقليم لنينغراد.

وهذا الحكم نفسه يصدق على أولئك اليائسين الذين وقعوا في الأسر في كيف وأودسا وسبستبول ومئات غيرها من المدن الغاصة بالسكان، ومنها مسقط رأسي أنا، فقد أسرت في دنيبروبتروفسك أمي وكلافا وزوجة أخي قنسطنطين وابنها الصغير، ولم يحفظ على أمي المسكينة المنهوكة القوى حياتها وينجيها من محنتها المروعة إلا ما كان لها من إرادة قوية، فقد تعقبها الألمان من مكان إلى مكان ثم سجنوها في أحد معسكرات الاعتقال القذرة، ولكنها نجت هي وكلافا من الموت، أما أبي فلست أعلم هل مات أو لا يزال على قيد الحياة.

وفي روسيا آلاف من أولئك الآباء والأمهات والأطفال أُزْهِقَت أرواحهم أو لاقوا أشد العذاب بسبب هذا «السهو» الإجرامي الذي اقترفه سادة الكرملن، ولما تنبه السادة إلى ضرورة الجلاء والإخلاء في آخر الأمر تجلت الخطة السوفيتية الجديدة — خطة امتياز الطبقات — في أبشع صورها، فقد احتفظ «لمن لا غنى عنهم» من الأفراد بالحق الأول في الرحيل وفي استخدام وسائل الانتقال، وهؤلاء الذين لم يكن ثمة غنى عنهم هم الزعماء البيروقراطيون، ورجال الحزب السياسيون، وموظفو نقابات العمال، وموظفو إدارة الشرطة، وهم الذين تتكون منهم جميعًا «الأداة الحكومية»، ولم يسمح للآدميين العاديين بأن يحملوا معهم إلا حقيبتين من حقائب الملابس، فاضطروا بذلك إلى أن يتركوا كل ما لم يستطيعوا حمله فيهما من متاعهم، أما أفراد الطبقات العليا فقد استطاعوا أن يحملوا معهم كل متاعهم حتى أضخم أثاث بيوتهم، وأجلى مهرة العمال وغيرهم من الرجال الذين تمس الحاجة إليهم في تشغيل الآلات المنقولة من المصانع التي أُخْلِيَت، فقد رحلوا مع هذه الآلات ولكنهم اضطروا في كثير من الأحيان لأن يخلفوا أسرهم وراءهم، أما الموظفون المحظوظون فقد صحبهم أقاربهم الحقيقيون وغير الحقيقيين حتى الذين لا تجمعهم بهم أبعد الجدود.

وأكرر هنا ما قلته من قبل وهو أن الحجة الكبرى التي يبرر بها القوم صفقتهم التي عقدوها مع النازيين — وهي كسب الوقت — أسطورة دنيئة وقصة خرافية ودعاوة باطلة ساخرة.

لقد انقضت شهور طوال لاقى فيها الشعب الروسي ما لاقى من وحشية الألمان قبل أن يستطيع التغلب على الرغبة في القعود عن قتالهم، فقد كان لا بد أن يعرف هذا الشعب كيف يمقت النازيين بعد أن ظلت الدعاوة الروسية تصور لهم هتلر في صورة صديق روسيا وصديق السلام، وجدير بنا ألا ننسى أن فرقًا كاملة من الجيش الأحمر وقعت في أسر العدو في الأشهر الأولى من الحرب دون أن تقاتل قتالًا يستحق الذكر.

ولو أن المغيرين أثبتوا أنهم آدميون، وأظهروا في حربهم شيئًا من الحكمة السياسية؛ لجنبوا أنفسهم كثيرًا من حرب العصابات الوحشية ودفاعها المستميت ليلًا ونهارًا، وهي تلك المقاومة التي لاقى منها الألمان الأمرَّين، ولكنهم لم تكن لهم هذه الحكمة فعمدوا إلى التقتيل والتعذيب والحرق والنهب والاستعباد مدفوعين إلى هذه الأعمال بأفكارهم العنصرية الخيالية، وعملًا بهذه المبادئ السخيفة فرض الغزاة على المزارع الجماعية البغيضة إلى معظم الروس رقابة ألمانية لا يطيقونها واستبدلوا الجستابو الرهيبة بالشرطة السرية الروسية، وبهذا أفاد الألمان ستالين أعظم فائدة؛ لأنهم عملوا على إيقاظ روح العداوة في قلوب الكثرة الغالبة من الشعب الروسي في الأراضي المحتلة وفي مؤخرة الجيش، وأذكوا نار الحقد في قلوب أفراد القوى المسلحة، وهيئوا للكرملن أحسن الوسائل لإثارة روح البغضاء القومية للمغيرين.

لقد كان اللاجئون والأسرى الهاربون يذيعون الأنباء الرهيبة عن فظائع الألمان وإسرافهم في القسوة الحمقاء، وكان هؤلاء البرابرة يعاملون جميع الصقالبة معاملة الأجناس المنحطة، وقد كان حقدي أنا نفسي على الألمان سببًا في إزالة ما كنت أشعر به من الكراهية لنظام الحكم الروسي، وجملة القول: إن جحافل هتلر كان لها من الأثر الناجح في إيقاظ روح الوطنية الروسية أكثر مما كان لجميع النداءات الحربية الجديدة التي أصدرها الكرملن لإثارة الروح العنصرية والقومية.

ولو أننا كنا نحارب بلدًا ديمقراطيًّا رحيمًا مستنيرًا، يحمل إلينا نعمة الحرية والسيادة القومية في نطاق أسرة الأمم الحرة، لتغير الموقف تغيرًا تامًّا، ولكن الروس لم يكن لهم إلا أن يختاروا بين استبدادهم الذي ألفوه وبين استبداد أجنبي يكتوون بناره، وليس من حق الطغاة الروس أن يفخروا بأن الشعب قد فضَّل الأغلال الوطنية على النير الأجنبي.

وكان الكرملن يؤكد فيما كان يذيعه من الدعاوة بين القوى المسلحة وبين الأهلين بوجه عام أن المغيرين يعتزمون إعادة الأملاك الكبيرة إلى ملاكها ورءوس الأموال العظيمة إلى أصحابها، وكانت هذه وسيلة يقوون بها روح الشعب المعنوية؛ لأنها في حقيقة أمرها مبدأ مشترك يلتقي عنده الشعب وحاكموه؛ ذلك أن الروس على بكرة أبيهم — اللهم إلا أقلية لا يؤبه بها — لم يكونوا يرغبون في عودة الملاك والرأسماليين في أية صورة كانت، مهما كان من بغضهم للطغيان السياسي والاقتصادي الذي فرضه عليهم نظام الحكم السوفيتي، وكانت التربية المعادية للرأسمالية وما غرسته في قلوب الروس من كراهية لهذا النظام في ربع قرن من الزمان قد أثرت أعظم الأثر في العقلية الروسية.

ولكن ملايين من الرجال الذين كانوا يبذلون أرواحهم في حرب النازيين في جبهة القتال أو في حرب العصابات كانوا يحلمون بأن روسيا جديدة محررة من طغيان حزب واحد أو رجل واحد تنعم بالحرية الديمقراطية ستُبْعَث من رماد هذا اللهب، وكانت الحكومة تقوي في نفوسهم هذا الأمل الكاذب وبخاصة في الأقاليم التي اجتاحها العدو طالما كانت الدائرة تدور علينا، ومن أجل ذلك نشرت صحافتنا نص ميثاق الأطلنطي وحريات روزفلت الأربع، ولكنها نشرتها دون أن تعلق عليها بشيء، على أن هذا النشر المجرد قد بعث فينا آمالًا جديدة قوية، أما في الأقاليم المجتاحة فقد استغلت الدعاوة هاتين الوثيقتين إلى أقصى حد، حتى أيقن الناس في تلك الأقاليم أنهم يحاربون من أجل روسيا الجديدة لا من أجل روسيا التي غدرت بهم وسلطت عليهم العذاب وطغيان الحزب الواحد، وكان الأهالي لشدة ما هم فيه من بأس وعذاب يتنسمون دخان الحيرة والقلق يظنونه نسيم الحرية.

وكذلك كان الشعب والحكام يحاولون جميعًا إنقاذ البلاد، ولكن آمال هؤلاء وأولئك وأهدافهم كانا على طرفي نقيض، فأما رجال الحكم فقد كان همهم الأكبر أن ينقذوا أنفسهم ونظامهم ليواصلوا بعد ذلك مغامراتهم الشيوعية في داخل البلاد وخارجها، وأما الأهلون فقد كان يحركهم حبهم الخالص لبلادهم وأملهم في أن يحصلوا على شيء ولو قليل من الحرية السياسية والاقتصادية.

ولقد صوَّر بعضُ الكُتَّاب الخياليين حرب العصابات وتخريب البلاد أمام الجيوش الغازية في صورة خطة نفذها الشعب من تلقاء نفسه، ولكن الحقيقة أنها كانت خطة مدبرة ومرسومة بعناية تشرف عليها موسكو في جميع الأوقات، فقد قال ستالين في خطبة له أذاعها في ٣ يوليو:

يجب أن تنشأ في الأقاليم التي يحتلها العدو فصائل مسلحة راكبة وراجلة، كما يجب إنشاء جماعات مهمتها تحويل العدو عن أهدافه الرئيسية بقتال وحدات جيشه، ويجب أن تنشب هذه الحرب المسلحة في كل مكان، وأن تُنْسَفَ الجسور والطرق، وتُحَطَّم طرق المواصلات بالبرق والمسرة، وتُحْرَق الغابات والمخازن وقوافل التموين، ويجب علينا أن نعمل لنجعل مقام العدو ومن يساعدونه في الأقاليم التي يستولي عليها مستحيلة كما ينبغي تعقبه وقتله في كل خطوة يخطوها، وتدمير كل منشآته.

وأمر كذلك بأن تدمر بلا قيد ولا شرط في أثناء تقهقر الجيش كل الممتلكات القيمة التي لا يمكن نقلها، ولسنا نذيع سرًّا إذا قلنا الآن: إن كثيرين من الفلاحين وسكان المدن كانوا يقاومون هذه الخطة أشد المقاومة ويضحون في سبيل ذلك بحياتهم في بعض الأحيان.

ونُظِّمَت رياسة قوة المقاومة المسلحة في العاصمة نفسها، فعُيِّنَ الرفيق بونومارنسكو — أمين سر لجنة الحزب المركزية في روسيا البيضاء — رئيسًا لأركان حرب فرق المقاومة المسلحة في هذا الإقليم، وعُيِّن دميان كوروتشنكو — أمين سر اللجنة المركزية في أوكرانيا — قائدًا لأعمال المقاومة في أوكرانيا، وعُيِّن رجل يُدْعَى الرفيق لتسيس لهذا الغرض عينه في الدويلات البلطية، وكان هؤلاء كلهم من زعماء الحزب القدامى وإن كانت الدعاوة قد رفعت إلى مكان القيادة فيما بعد أناسًا مغمورين من بين الذين كانوا يتنازعون سرًّا على مقاليد السلطة.

وبقيت وحدات من الجيش الأحمر في مؤخرة الجيوش الألمانية لتكون مراكز لحركات العصابات المسلحة بناءً على خطة مرسومة، وانضم إلى الفرق المسلحة بطبيعة الحال أولئك الجنود الذين انفصلوا عن وحداتهم فألفوا أنفسهم مقطوعي الصلة بهذه الوحدات، وزاد عدد فرق المقاومة بمن انضم إليها من آلاف الموظفين السوفيت الذين لم يكونوا من أعضاء الحزب، ومن رجاله العاملين وأمثالهم ممن تخلفوا وراء الصفوف وعرفوا أنهم لن يصيبهم على أيدي النازيين إلا القتل والتعذيب، وتكفل الألمان أنفسهم بقسوتهم وفظائعهم بمن لم نذكرهم من قوة المقاومة المسلحة.

وثمة ناحية أخرى من نواحي المقاومة المنظمة لم يذكرها أحد غير مؤلف هذا الكتاب، وأعني بهذه الناحية أعمال رجال القسم السياسي الذين تُرِكُوا عمدًا وراء الصفوف في كل إقليم احتله الأعداء، ليراقبوا — قبل كل شيء — سلوك المواطنين السوفيت في مؤخرة الجيوش الألمانية، فلما عادت هذه الأقاليم إلى حظيرة الوطن السوفيتي فيما بعدُ أُعْدِمَ عشرات الآلاف من الرجال والنساء السوفيت، وحُكِمَ على مئات الآلاف منهم بالأشغال الشاقة بناءً على التقارير التي رفعها هؤلاء الرجال إلى ولاة الأمور، وانضم رجال القسم السياسي أنفسهم إلى حركة المقاومة المسلحة فترعرعت بفضلهم حركة التجسس السوفيتية بين السكان الروس الذين وقعوا تحت سيطرة الاحتلال الألماني، ونُقِلَت أسر الذين تُرِكُوا وراء الجيوش الألمانية ليقوموا بهذه الأعمال وأمثالها إلى الأقاليم السوفيتية غير المحتلة ليتخذوا فيها رهائن ضمانًا لولاء أرباب هذه الأسر.

على أننا لا يحق لنا أن نؤمن بأن سكان الأقاليم المحتلة كانوا كلهم موالين لحركة المقاومة المسلحة، فقد كانت طائفة كبيرة — وإن شئت فقل أغلبية كبيرة — من سكان الدويلات البلطية تستقبل الألمان بطبيعة الحال استقبال من جاءوهم ليحرروهم من النير السوفيتي البغيض، فانضم هؤلاء إلى القوى الألمانية المسلحة في مطاردة العصابات السوفيتية، بل حدث أكثر من هذا إذ بقيت حركة المقاومة المسلحة في بلاد الروسيا الأصلية وبخاصة في أقاليم الدن وكوبان حيث كان للقحط ونظام المزارع الجماعية أفظع الأثر على السكان؛ نقول: بقيت حركة المقاومة المسلحة في هذه الأقاليم ضعيفة قليلة الأثر وكثيرًا ما كانت تلقى مقاومة من السكان.

وكثيرًا ما انفجرت في أوكرانيا أيضًا مراجل الغيظ التي كانت تغلي في صدور أهلها من زمن بعيد على حكم ستالين، على أن الموقف في أوكرانيا كان معقدًا تعقيدًا يتطلب منا فصلًا طويلًا برمته إذا أردنا التحدث عنه في إيجاز، وحسبنا أن نقول هنا: إنه قامت في البلاد حركات كثيرة مناصرة للألمان يتزعمها مهاجرون من أهلها دربوا على الاضطلاع بواجبهم من زمن بعيد، وكانت فيها فوق ذلك حركة وطنية شريفة قوية واسعة النطاق لا يقل عداؤها للنازيين عن عدائها للسوفيت، وكان مبعث كثير من أعمال البطولة التي قامت بها العصابات المسلحة في هذه البلاد هو حقد الأهلين على ستالين وعلى هتلر سواءً بسواء، وحتى الذين تعاونوا مع موسكو مخلصين، وتلقوا أوامرهم من كرنشنكو، كانت تحركهم آمال خداعة تبث فيهم عن قصد بأن أوكرانيا سيطلع عليها عهد جديد، تنال فيه حقها في الاستقلال الذاتي حين يطرد الغزاة من البلاد، يضاف إلى هذا وذاك أن عصابات مسلحة كانت تعمل سافرة لتنفيذ خطة مدبرة للانفصال التام عن الاتحاد السوفيتي، وترمي في آخر الأمر إلى إنشاء دولة أوكرانية ذات سيادة كاملة الاستقلال.

وما من شك في أن أعمال المقاومة السرية الأوكرانية ستُمَجَّد عن جدارة في تاريخ الروسيا، فقد برهنت هذه الحركة على ما يتصف به الأوكرانيون من شجاعة وعزيمة وروح وطنية متأصلة في قلوبهم، وصبر في أحرج الأوقات وأشدها خطرًا، ولكن من أسخف الأشياء وأعظمها ضررًا أن تشوه هذه الأعمال كلها وتتخذ دليلًا على حب الشعب لطغيان ستالين، كما كان يوحى إلى السذج من الكُتَّاب الأجانب، وجدير بنا أن نسجل هنا خدمة للحقيقة أن كثيرًا من الأعمال التي كانت تحدث وراء خطوط الأعداء كانت تقوم بها قوى خاصة من بين رجال القسم السياسي دُرِّبوا تدريبًا خاصًّا على حرب العصابات، وتحويل قوى العدو عن أهدافها الرئيسية، وجُهِّزوا بكل الوسائل التي تعينهم على هذا العمل، وثمة عمل آخر جدير بالتنويه، وهو أن عددًا كبيرًا من الجنود الذين أعدوا لأعمال التخريب كانوا ينزلون بالهابطات وراء الخطوط الألمانية.

وأصدرت الحكومة في الثامن عشر من سبتمبر قرارًا يقضي بتدريب جميع الرجال بين سن السادسة عشرة والخمسين ممن لم يُدْعَوا قبل إلى التجنيد، فأما الذين لم يتجاوزوا سن السادسة والخمسين فكانوا يجندون في صفوف القوات المحاربة، وأما الذين كانوا بين هذه السن وبين الثامنة والخمسين فكانوا يؤخذون للعمل مع غير المحاربين، والواقع أن جميع الرجال مهما تكن سنهم وحالتهم الجسمية قد طلب إليهم أن يسجلوا أسماءهم ليدربوا تدريبًا عسكريًّا بعد انتهاء عملهم اليومي الذي كان يطول في معظم الأحيان حتى يبلغ اثنتي عشرة ساعة، ولم يعفَ من هذا التدريب إلا من كانوا عاجزين فعلًا عن العمل، وامتلأت ميادين موسكو ومتنزهاتها بالرجال المنهوكي القوى العمص العيون، الخمص البطون، الممزقي الثياب، يتدربون على الأعمال الحربية بالعصي بدل البنادق، فإذا أريد تدريبهم على إطلاق النار أُعْطِيَت كل فصيلة من الجند بندقية واحدة أو اثنتين، ولم يكونوا يُعْفَون من هذا العمل وإن هطل عليهم المطر، أو خاضوا في الوحل، بل لقد كان مما يدربون عليه أن يسيروا في الوحل أو فوق الثلج ورءوسهم وبطونهم أقرب ما تكون إلى الأرض.

فلندع الكُتَّاب القصصيين يقولوا عن هذا التدريب ما شاءوا ويتخذوا منه دليلًا آخر على حماسة الشعب وتعطشه للقتال، أما الصورة الحقيقية فلم تكن بهذه الروعة، فقد كان التدريب إجباريًّا، وكان الامتناع عنه يعد فرارًا من الصفوف ويحاكم الممتنع أمام محاكم الثورة التابعة للقسم السياسي، ولو عرف العالم حقيقة النظام المعمول به في الجيش الأحمر، وأن أقل مخالفة لهذا النظام يعاقب عليها بالإعدام من غير محاكمة، لما تغالوا إلى الحد الذي رأينا في مديح القوات المحاربة نفسها، ولسنا ننكر أن الجنود الروس أقدموا على كثير من أعمال البطولة، وثبتوا في مراكزهم أمام قوات تفوقهم عددًا، وضحوا بحياتهم لينقذوا بلادهم ومواطنيهم ورفاقهم، فالحقيقة أن رعايا ستالين كانوا يحاربون هتلر بنفس الشجاعة التي كان الرقيق الإقطاعيون من رجال القيصر إسكندر الأول يحاربون بها نابليون، ولكن الذين يسيئون فهم عزيمة الروس القومية، وقدرتنا على الحرب والموت في سبيل بلادنا، فيصورونها على أنها فضيلة خاصة حديثة العهد تنطق بفضل الطغيان السوفيتي؛ إن الذين يفعلون هذا قوم مخادعون أو مخدوعون.

فالناس في الخارج يعلمون أن فصائل خاصة «لصد المتقهقرين» كانت توضع خلف صفوف الجيش الأحمر في ميادين القتال، وهي فصائل مؤلفة من جنود «الأمن الحكومي» التابعين للقسم السياسي تعمل بالتعاون مع الإدارة السياسية للجيش، وكان واجب هذه الفصائل أن تعترض طريق الجنود الفارين، وأن تمنع التقهقر الذي لم تقرره القيادة العليا، وكان من حق هذه الفصائل أن تطلق النار على كل من يخرج من الصفوف من غير إذن مهما يكن سبب خروجه منها، ولم تكن تتردد قط في استخدام هذا الحق، على أن الذي كان يحصل عادةً أن هذه الفصائل كانت تسوق الجنود الذين تقبض عليهم إلى المحاكم العسكرية.

وكان من المناظر المألوفة أن ترى عربات محمَّلة بالفارين من ميادين القتال يحرسهم رجال الشرطة السرية، يخرجون من السجون، ولعلهم كانوا يؤخذون إلى مكان منعزل ليُعْدَموا جميعًا، وكانت رءوسهم حليقة ووجوههم ممتقعة وأجسامهم ضعيفة هزيلة، يرتجفون في حلل عسكرية بالية، وأنا أعلم من مصادر وثيقة أن نسبة هؤلاء الفارين كانت جد عالية.

ومما يعيننا على فهم هذه الظاهرة — ظاهرة الفرار من الجندية — أن ملايين من الرجال الذين لا يليقون للجندية إذا قيسوا بأي مقياس من مقاييس الأمم المتمدنة كانوا يعبئون للخدمة العسكرية دون تمييز، ويرسلون إلى حيث يواجهون النار في ميادين القتال، دون أن يعدوا لذلك الإعداد الواجب، وكان من أسباب هذا الفرار أيضًا ما استولى على الجنود من خوف وهلع، إن في مقدور فلاحينا السذج أن يواجهوا ما ألفوه من الأخطار ويصمدوا لها، أما الأسلحة الحديثة من دبابات وقاذفات لهب وقنابل تُصَبُّ عليهم من السماء فقد تركت الكثيرين منهم قبل أن يألفوها في حيرة وهلع، ولما كان هؤلاء تنقصهم الأسلحة التي يستطيعون بها مقاومة أسلحة العدو الفتاكة وكانوا يضطرون إلى استعمال «خليط مولوتوف» بدل المدافع المضادة للدبابات، فإن الكثيرين منهم عجزوا عن تحمل هذا العبء الشديد، وكان من أسهل الأشياء على الحكومة أن تعدَّ فرارهم الذي كان نتيجة محتومة لعجزها الإجرامي جبنًا منهم، ولما كانت لا تعبأ بحياة الأهلين فقد قنعت بأن تواجه الحديد الألماني بلحم الروس، والوقود الألماني بدماء الروس.

وقد ذكرت الخسائر الهائلة التي مُنِيَت بها الجيوش السوفيتية آلاف الآلاف من المرات واتخذت دليلًا لا ينقض على ما يتصف به الروس من بطولة، ولا أقل من أن تُذْكَر مرة واحدة دليلًا على وحشية الكرملن وأخطائه الشنيعة.

وبدأ الجلاء عن موسكو في شهر أغسطس، وظل جاريًا في مجراه خلال الجزء الأكبر من عام ١٩٤٢م، حتى زال الخطر عن العاصمة، وقضيت أنا نحو شهر من الزمان قبل أن أنضم إلى الجيش الأحمر أعمل في فك عدد مصنعنا وإعدادها للنقل بالطريق المائي إلى جبال أورال.

ولما اشتدت الغارات الجوية الألمانية أخذ عدد من الأهلين يخلون مساكنهم طائعين، وأخذ بعض الحمقى والمتفائلين يرمون هؤلاء بالجبن وبالفرار من الميدان، فلما ازدحمت الطرق العامة والسكك الحديدية حول العاصمة بهؤلاء الفارين أحزننا وحز في نفوسنا أن ولاة الأمور أنفسهم لم يعنوا بتنظيم هذا الجبن وذاك الفرار من بداية الأمر.

وكان من أشق الأعمال وأكثرها إجهادًا لرجالنا ونسائنا الجياع أن يرفعوا الأجهزة عن قواعدها وينقلوا الآلات الضخمة من أماكنها، وكان أصعب من هذا على نفوسهم علمهم بأنهم يقتلعون ويخربون أشياء ضحوا في إقامتها بالنفس والنفيس، وكانت عزيزة عليهم بعد أن أصبحت رمزًا للرخاء الذي طال انتظاره، وكنا نقوم بهذا العمل في ظلام حالك، ولم يكن أحد من الناس حتى أشدهم طعنًا في النظام السوفيتي يظن أننا سنضطر إلى الجلاء عن العاصمة ولما يمض على بداية الحرب أكثر من ستة أسابيع.

وخَفَتَ ضجيج الآلات وجعجعتها في مصنعنا ثم سكن، وخيَّم السكون على العاصمة كأنها استحالت قبورًا، وكان العمال وهم بطبيعتهم أوداء طيبو القلوب يحيون حياتهم اليومية وهم صامتون واجمون، يخادعون أنفسهم بالأمل الكاذب في أن الخطر قد يكون مبالغًا فيه، وخُيِّلَ إلينا مرة من المرات أن هذا الأمل سيتحقق، فقد تلقينا أمرًا من وزير الشئون الصناعية أن نقف حل الآلات، وما أن ثارت حماستنا لهذا النبأ حتى تلقينا أمرًا يناقضه ويطلب إلينا أن نعجل بأعمال الجلاء.

واختُبِرَ عدد من الصناع الأخصائيين ليصحبوا الآلات إلى شرق البلاد، أما بقية العمال فقد سُرِّحت جموعهم بعد أن أُعطوا ما يعادل أجر أسبوعين، واتبع مثل هذا الإجراء في المؤسسات الصناعية الأخرى القائمة في موسكو، فكانت فظائع البطالة بعد فظائع الغارات الجوية، ونقص الطعام والبرد، واضطراب عمليات المياه والكهرباء، ضغثًا على إبالة.

وأصبح الجو المحيط بالعاصمة في أواخر شهر أغسطس جو المكان المقضي عليه بالسقوط وإن كان النازيون لم يبلغوا ضواحي المدينة إلا بعد شهر من ذلك الوقت، وأخذ كبار الموظفين ينقلون أسرهم ومتاعهم إلى سفرولفسك وغيرها من مدائن جبال أورال في السيارات والقطر الحديدية والطائرات، وقبع مئات من زعمائنا في مكاتبهم وإلى جانبهم حقائبهم والسيارات الحكومية في انتظارهم استعدادًا للفرار العاجل، وكنا نحن نعمل طول النهار، وندرب على القتال في أوائل الليل، ونقاوم آثار الغارات الجوية حتى مطلع الشمس.

وصدرت الأوامر بأن يُعَدَّ جميع الموظفين المسئولين في مصنعنا وفي جميع المؤسسات الصناعية في العاصمة «مجندين»، وظللت عدة أسابيع لا أذهب إلى منزلي، بل أطعم وأنام في مكان عملي، وإن أنسَ لا أنسَ قط منظر الرعب والهلع — والبطولة — حين بقينا أمام آلاتنا جامدين في أماكننا، والقنابل تتساقط من حولنا، والطائرات الألمانية تئز فوق رءوسنا، والنساء والشبان يصرخون صراخًا جنونيًّا في بعض حوانيتنا، لقد كان هذا المنظر امتحانًا لأعصابنا أظهر فيه الشعب الروسي ما يتصف به من قوة وجلد.

وفرَّج كربي انضمامي إلى الجيش الأحمر، فقد شعرت وقتئذٍ أني وُضِعْتُ في موضعي الصحيح، وتلقيت في أوائل سبتمبر أمرًا من لجنة المجندين بأن أقدم نفسي للفحص الطبي، وكانت فترة من الزمن قد انقضت منذ أن أزيل اسمي من ثبت المتطوعين، ومحا يجوروف ومنتروف اسمي من بين أسماء من لا يستطاع «الاستغناء عنهم»، ولم يتطلب فحصي الطبي أكثر من دقيقتين.

وأرسلت إلى كلية الهندسة الحربية في بلشيفو على قيد عشرين ميلًا من موسكو برتبة كبتن (يوزباشي) وهي الرتبة التي كنت أحرزها من قبل، وانضممت إلى فرقة خاصة كان ضباطها يعدون إلى الترقي لمناصب أعلى من مناصبهم، وتلقيت مع مئات غيري من المهندسين في مختلف المهن دراسات واسعة في الهندسة العسكرية بالإضافة إلى التدريب العسكري نفسه.

وكانت بلشيفو هذه قريبة من العاصمة، فلم أشعر أنا وإيرينا حتى ذلك الوقت بألم الفراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤