الفصل الخامس والعشرون

حقيقتان

لم أكن وأنا رئيس إحدى الإدارات في مجلس الوزراء أكسب نصف ما كنت أكسبه في المصانع، ولم يكن يصل إلى يدي شيء من العلاوات التي كان مديرو المصانع يمنحونها أنفسهم، ولكن المال في حد ذاته كان عديم النفع في وقت عز فيه كل شيء إلى حد يبعث الخوف في النفوس، وكل ما كان يهم الإنسان في ذلك الوقت هو مقدار ما خُصِّصَ له من الجرايات وما في البلد من حوانيت يستطيع أن يبتاع منها حصته.

وكنت أنا من هذه الناحية ضمن الطبقات العليا الممتازة، فقد كانت تُفْتَح لي أبواب المخازن الخاصة (التي تسمى في اللغة الرسمية «بالموزعات المغلقة») وأبواب مصانع الأحذية والملابس المخصصة لكبار رجال الحكومة، وفي هذه المحال كنت أقابل الصفوة المختارة من رجال الحزب والحكومة والشرطة والكرملن، كما كنت أقابل فيها أحيانًا زوجاتهم وسائقي سياراتهم وخدمهم.

ولم يكن واحدًا من كل ألف روسي يعتقد أن هذه الحوانيت قائمةً، وكان ولاة الأمور يديرونها في حذر شديد بعيدين عن أعين الجماهير بقدر ما يستطيعون، فقد كان صف من السيارات الفخمة يقف في خارج مخازن الطعام «المغلقة» مثلًا، ولكن قل من كان يعرف من المارة سبب وقوف السيارات أمام تلك المخازن، ولم يسعد الحظ أحدًا من أهل موسكو العاديين بأن يرى، ولا أقول بأن يذوق، ما امتلأ به مخزن مؤننًا من طعام شهي جاءه من بلادنا نفسها ومن أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.

ولم يكن يسمح لنا بطبيعة الحال أن نشتري من الطعام أكثر مما هو مقرر لنا، ولكن هذا الطعام المقرر كان فوق الكفاية، وكان يشمل من الأصناف ما انمحت ذكراه نفسها من عقول أهل البلاد، فكنت بذلك من الطائفة التي نجت من البرد والجوع، ولم أقاس منهما ما قاسته البلاد من بلاء لا يقل عما حل بها في أسوأ سني الحرب الأهلية، وذلك كله بعد ربع قرن من «التعمير الاجتماعي»، وبعد فترات من مشروعات السنين الخمس الناجحة.

وكانت مقرراتي الشهرية من الطعام تشمل اللحم الطري، والطعام المحفوظ، والزبد والسكر والدقيق واللحم المملح — وكلها من واردات الولايات المتحدة — كما كانت تشمل من طعام بلادنا السمك الطري، والدجاج والسمك المجفف والخضر والفودكا والنبيذ والسجاير، ولم تكن خمسة عشر ألفًا من الروبلات تكفي لأن أبتاع من السوق السوداء ما كنت أبتاعه بمائة وخمسين روبلًا من الحانوت «المغلق» الذي كان يقف على بابه أحد رجال الدرك، وإذا كانت زوجتي رغم هذا لم تجد كفايتها من الطعام في بعض الأيام، فماذا كان نصيب خلق الله العاديين؟ أما من حيث الملابس فقد خُصِّصَ لكبار الموظفين عدد من الخياطين يعدون لهم الثياب من أقمشة الإعارة والتأجير الواردة من أمريكا وإنجلترا، وذلك في الوقت الذي كانت فيه الحلة المستعملة تباع في السوق الحرة بآلاف من الروبلات.

وكانت موجة من الربح الوفير تطوف من حين إلى حين بحوانيت الثياب «الحرة» في موسكو، وذلك أنه إذا ما وصلت شحنة من الملابس الداخلية والخارجية أو ملابس الأطفال انتشرت أخبارها في البلاد انتشار النار في الهشيم، وسرعان ما يقبل الناس على الحوانيت ويقفون أمام أبوابها في صفوف طويلة على الرغم من أن أبسط الملابس القطنية المنزلية قد تكلف طالبها بين خمسمائة روبل وألف، وأن الجورب كان يباع بثمن يتراوح بين خمسين وخمسة وسبعين روبلًا، وأن الحلة العادية تباع بألفي روبل وخمسمائة أو أكثر، لقد كان هؤلاء الناس يقفون أمام الحوانيت ساعات طوالًا وفي أيديهم حزم ضخمة من أوراق النقد البالية الممزقة القذرة يرجون ألا ينفد ما فيها قبل أن يصل إليهم الدور.

وكان كل يوم يمر تختفي فيه سلع كالخيط والصابون وعيدان الثقاب والمصابيح الكهربائية وأدوات المائدة والمطبخ، وارتفع ثمن اللتر من الكيروسين في السوق الحرة إلى مائتي روبل، ولم يكن النور الكهربائي يدوم في بيوت موسكو أكثر من ساعتين أو ثلاث ساعات في الليلة، وكان الذين لا يستطيعون الحصول على الكيروسين — وهم الكثرة الغالبة من أهل المدينة — يجلسون في الظلام الحالك خلف نوافذهم المظلمة.

واضطر الناس في شتاء عام ١٩٤٢-١٩٤٣م إلى إحراق أثاث بيوتهم وكتبهم وكراساتهم الموسيقية وكل ما يستطيعون أن يحصلوا به على الدفء بضع دقائق، وانتزعوا الألواح الخشبية من أرض الحجر والعروق من سقفها ليدفئوا بها بيوتهم حتى لا تتجمد أطراف أطفالهم، وكان الناس يطوفون بأبواب جيرانهم الجياع يدقونها وينادون من فيها ليعرفوا أأحياء هم أم أموات.

ووضعت أنا وإيرينا مدفأة حسنة في مسكننا، واستعنت بمجلس الوزراء لأحصل على حاجتي من الخشب، وكان في وسعي أن أدخر قليلًا منه لجيراني أمدهم به من حين إلى حين، وإن كان هذا يعد خروجًا على القانون.

وكنت أسائل نفسي أحيانًا: أليس ما يبدو علي من مظاهر النعمة النسبية مما يؤلم جيراني ويحز في نفوسهم، وكانت إيرينا تطهي طعامها في شقتنا على موقد كيروسين بعيدة عن أعين الناس، وكنا نفعل هذا على مضض وعلى الرغم من أننا لم نكن نختص أنفسنا بهذه الميزة بل كنا نشرك فيها جيراننا، وكانت هذه الأيام من الأوقات التي ألف الناس فيها رؤية الأهلين من رجال ونساء يسقطون في شوارع موسكو ويموتون من فرط الجوع.

لكن الموتى كانوا يُدْفَنون، وأنصاف الموتى يئنُّون ويتوجعون في بيوتهم الباردة، والأحياء يكافحون آلام البرد والجوع، وكانت أعمالي الرسمية تضطرني لزيارة عدد كبير من المصانع نقص فيها الإنتاج عن الحد المقرر، وما من مرة إلا وجدت أن الجوع سبب هذا النقص، وأن المصانع التي كانت تقدم إلى عمالها وجبة واحدة مغذية إلى حد ما أكثر إنتاجًا من التي لا تستطيع هذا، وقال لي المشرفون عليها: «أعطوا العمال كفايتهم من الطعام ينتجوا لكم حاجتكم من السلع، أما الآن فإن عمالنا لا يجدون في أنفسهم من القوة ما يمكنهم من الوفاء بمطالبكم المرهقة.»

وأرسلني بمفيلوف مرة في سيارة خاصة إلى مدينة سلنكوجوسك القريبة من موسكو للتفتيش على مصنعين فيها، وكان إنتاجهما من الدقيق قد قل لنقص المناخل بسبب حاجتها إلى الأسلاك الرفيعة التي تُصْنَع في هذين المصنعين، وكان معي في رحلتي شاب لا أعرفه قيل لي أنه مهندس، ولكنه في أغلب الظن من عمال الإدارة الاقتصادية التابعة للقسم السياسي، ولم يكن سبب وجوده معي أن الرؤساء تعوزهم الثقة بي فأرى في ذلك إهانة لي، بل كان ذلك عملًا عاديًّا مألوفًا.

وانطلقت بنا السيارة في إقليم احتله الألمان بعض الوقت وخربته نيران المدفعية وقنابل الطائرات، وأبصرنا على جانبي الطريق دبابات وسيارات ألمانية محطمة، ومررنا بقرى ودساكر لم نر فيها بيتًا واحدًا سليمًا، وتسلل من هذه الخرائب نساءً وأطفال كأشباح الموتى في أسمال بالية وعيون غائرة وأخذوا يمدون بالسؤال أيديهم المرتجفة، وكان معنا لفة من الطعام أعدها لنا مطبخ مجلس الوزراء فتصدقنا بها كلها قبل أن نصل إلى القرية المقصودة، وشاهدنا في طريقنا جماعات كبيرة من المسجونين يحيط بهم حراس كثيرون يعملون في إصلاح الطرق.

وكانت سلنكوجورسك نفسها قد نجت من الدمار، ووجدت في انتظاري مديري المصانع وكلهم راغبون في التعاون معي، ووافقوني على أن من المستطاع تغيير الآلات في مصانعهم لإنتاج الأسلاك المطلوبة ولكنهم كلهم أخذوا يصفون لي آلام الجوع المبرحة.

وكان مما قاله لي واحد منهم: «إن رجالنا راغبون في العمل ولكننا ليس لدينا إلا الشيوخ الطاعنون في السن، والأطفال الصغار والنساء، وكلهم تنقصهم تجارب العمل في المصانع، غير أنهم يبذلون في العمل كل ما أوتوا من جهد، ولا يرفضون أن يواصلوه ليلًا ونهارًا أيامًا متوالية وأن يقضوا ليلهم هنا في المصنع إذا دعت الضرورة، بَيْدَ أنهم لن يجدوا القوة الجسمية التي تمكنهم من العمل إلا إذا حصلوا على مقرراتهم المعتادة من الخبز على الأقل كما يحصل عليها غيرهم من المدن الأخرى.»

وسألته مندهشًا: «ولِمَ لا يحصلون على هذه المقررات؟»

فأجاب: «لأننا نسكن إقليمًا من أقاليم الريف، وقد كان المفروض أنا ننال كفايتنا مما ننتجه، ولكن هذا لا يعدو أن يكون كلامًا نظريًّا، أما الحقيقة فهي أن الفلاحين يكادون يهلكون من الجوع، ولعلك رأيتهم في طريقك إلى هذا المكان.»

ولم يكن رفيقي الشاب أقل مني أسى مما شاهده من مظاهر البؤس من المصنعين، وقال لي ونحن عائدان في السيارة إنه يوافقني على أن من العبث أن نفكر في زيادة الإنتاج من مصنعي سلنكوجورسك إلا إذا حللنا أولًا مشكلة الطعام.

وكان الرؤساء قد غادروا مكاتبهم ليستمتعوا بفترة الراحة المسائية حين عدت إلى مكتبي، فأعددت قبل مجيئهم مشروع قرار مفصل تصدره الحكومة لإعادة تنظيم المصانع واستغلالها، واستقبلني بمفيلوف في منتصف الليل، وقرأ مسودة مشروعي في حضرة أتكين، فلما فرغ منه أشار برأسه الأصلع وقال: «حسن … حسن … حسن جدًّا.» ولكن وجهه ما لبث أن تجهم: «ما هذا الذي تقول؟ خمسمائة جرام من الخبز يوميًّا للعامل، ولكل فرد من أفراد أسرته؟»

فأجبته في جد: «نعم، وهذا في رأيي أمر جوهري، إن هؤلاء القوم جياع.»

وقال بمفيلوف في لهجة الآمر: «احذف هذه النقطة من المشروع.»

– «ولكني أرجوك يا قنسطنطين جفرلوفتش أن تتركها كما هي، لست أنكر أن لبعض العمال القلائل حدائقهم الخاصة، أو أن لهم بين الفلاحين أقارب، ولكن هذا لا يحل المشكلة، إن أولئك الناس يؤدون عملًا ويجب أن ينالوا من المقررات ما يناله العمال.»

– «لست أقل أسفًا عليهم منك يا رفيق كرافتشنكو، ولكن هذه النقطة يجب حذفها.»

ورجوت بمفيلوف مرةً أخرى قبل أن يرسل التقرير إلى موسكو للنظر فيه أن يؤكد حاجة العمال إلى الخبز ليضمن حسن سير العمل في مصنعي سلنكوجورسك، ولكن رئيس المجلس نظر إليَّ وهو غاضب وقال: «يا كرافتشنكو، استمع إليَّ: أأنت مصلح اجتماعي أم بلشفي؟ إن العواطف الإنسانية مبادئ خاطئة مضللة لا يصح الاهتداء بها في اتخاذ القرارات التي تمس شئون الدولة، خذ عن ستالين قوله: أحبوا الشعب ولكن ضحوا بحاجاته إذا تطلب الأمر التضحية بها.»

ولم يدهشني قط أن المصنعين اللذين زرتهما لم ينتجا من الأسلاك نصف المقرر عليهما إنتاجه، وإن كان فيهما ما يحتاجان من المواد الغفل.

وثمة رحلة أخرى لا تزال تفاصيلها منقوشة في ذاكرتي أوضح من آثار هذه الرحلة السالفة الذكر، وليس في وسع إنسان — اللهم إلا إذا وجد في العالم رجل مثل دانتي وكان في حالة من التشاؤم كما كان الشاعر الإيطالي العظيم — أن يرسم صورة صادقة للمصنع التابع لوزارة الذخائر والذي يقوم بالعمل فيه العمال المسخرون.

ولم يُسْمَح لأحد بأن يركب القطار الذي اجتاز بنا صقعًا كثيف الغابات في قلب ولاية موسكو الإدارية وراء مدينة بودلسك، وجاء ضباط من القسم السياسي أكثر من مرة ليطلعوا على ما معنا من أوراق تثبت شخصيتنا، وكان القطار يتحرك في بطء، وكثيرًا ما رأينا من خلال النوافذ جموعًا كبيرة من المسجونين — ولا يمكن أن يخطئ الإنسان في التعرف عليهم — يقطعون الأشجار ويجمعونها ويجرونها إلى قرب الخطوط الحديدية، ووصل القطار بنا آخر الأمر إلى نهاية هذا الخط الحديدي المديد ونزلنا منه.

وهناك في بقعة في وسط الغابة أُزِيلَت منها أشجارها أقيم مصنع الذخائر الحربية، وعلى مسافة منه أقيمت تحت الأرض الحجرات الواسعة ذات المداخل الضيقة المتخفية التي يعمل فيها آلاف من المسجونين وغير المسجونين في وضع المفرقعات في قوالب القنابل اليدوية وقنابل الطائرات وفي صنع الألغام وغيرها من الذخائر الحربية، وكانت هذه البقعة المشتملة على ذلك العالم السفلي كلها منفصلة أتم انفصال عما جاورها من الأماكن بسياج من الأسلاك الشائكة، ويقوم عليها حرس مسلح من رجال القسم السياسي ومعهم كلاب ضاربة دربت على عملها تدريبًا خاصًّا.

وكنت قد جئت مع زميل لي لنسوي نزاعًا بين هذا المصنع السري ومصنع آخر يمده ببعض المواد اللازمة له، وبعد أن عقدنا اجتماعًا حضره موظفو المصنعين خُصِّصَت لي حجرة في فندق المصنع لأقضي فيها الليلة، وأردت أن أُلْقِيَ نظرة على المسجونين وهم ذاهبون إلى عملهم في الصباح، فاستيقظت مبكرًا، وكان المطر ينهمر مدرارًا والبرد قارسًا، وأبصرت قبيل الساعة السادسة فرقة من نحو أربعمائة رجل وامرأة كل عشرة منهم في صف أفقي، وعليهم حرس قوي يمشون نحو الحجرات السرية.

وكنت قد رأيت من قبل هؤلاء العبيد البائسين مرارًا كثيرة في ظروف مختلفة، ولم أكن أظن أني سيقدر لي أن أرى خلائق أشقى ممن رأيتهم في جبال أورال أو في سيبريا، فلما وقع نظري على هؤلاء القوم رأيت البؤس أضعافًا مضاعفةً، لقد كانت وجوههم صفراء ممتقعة غاض منها دم الحياة، وكأن أصحابها أشباح الموتى، لقد كانوا في واقع الأمر جثثًا تتحرك تسممت من المواد الكيميائية المنتشرة في الدرك الأسفل من الجحيم الذي كانوا يعملون فيه.

وكان من بينهم رجال ونساء ربما جاوزوا الخمسين من عمرهم، كما كان من بينهم شبان وفتيات في أوائل العقد الثالث، وكانوا كلهم يسيرون صامتين محزونين كأنهم خشب متحركة لا ينظرون يمنة ولا يسرة، يرتدون ملابس غاية في الغرابة، فمنهم من ينتعلون أخفافًا من المطاط شدت إلى أرجلهم بخيوط، ومنهم من لفُّوا أرجلهم في خرق بالية، ومنهم من يلبسون ثياب الفلاحين، ومن النساء من يلبسن سترًا استراخانية ممزقة، وأبصرت عددًا قليلًا منهم على أجسامهم بقايا حلل أجنبية، وبينا كان الموكب الرهيب يمر بالبناء الذي أراقبه منه إذ سقطت امرأة من بين الصفوف على حين غفلةً فجرَّها حارسان ليبعداها عن الطريق، ومر المسجونون دون أن يعيرها أحد منهم التفافًا، ذلك أنهم قد ألفوا البؤس حتى لم يعد له أثر في قلوبهم، كأنهم خرجوا عن نطاق الآدميين.

وكانت طوائف أخرى مثل هذه الطوائف تسير في طريقها إلى الجحيم الأسفل من جهات متعددة، وكلها مقبلة من مستعمرات القسم السياسي المختفية في قلب الغابات على مسيرة عدة أميال من هذا المكان، وشاهدت في المساء فرقة يبلغ طولها ضعفَي فرقة الصباح تدلف نحو المصانع لتتولى العمل في أثناء الليل.

ولم يُسْمَح لي بالنزول إلى الأقسام السفلى، والحق أني لم أكن أطيق رؤيتها، ولكني جمعت ممن اتصلت بهم من الموظفين في اليومين اللذين قضيتهما في المكان من المعلومات ما طبع في مخيلتي صورة من البؤس المكدس، ومن احتقار الحياة الإنسانية، لا تُمْحَى منها ما حييت، لقد كان المصنع القائم تحت الأرض سيئ التهوية؛ لأنه أُنْشِئَ على عجل في أوقات الذعر، ولم يعن أقل عناية بصحة الذين يعملون فيه، وكانت بضعة أسابيع يقضيها العمال بين دخانه وروائحه الكريهة كافية لأن تسمم أجسامهم تسميمًا لا يُرْجَى منه شفاء؛ ولذلك كانت نسبة الوفيات بينهم عالية، فكانت أجسام الموتى تجرف بالمجارف بقدر ما تجرف المواد الكيميائية غير المصنوعة.

وكان مدير هذا المشروع شيوعيًّا كالح الوجه على صدره وسام، وعلى معطفه صف من النياشين، ولما شرعت أوجه إليه أسئلة عن العمال نظر إليَّ نظرة غريبة كأني كنت أسأله عن صحة طائفة من البغال صدر الأمر بإعدامها.

وقال لي: «يؤسفني أن أخبرك أن ليس بين هذه المخلوقات كثيرون من العمال المهرة، وأني أقاسي منهم متاعب كثيرة، وتسألني عن المسجونين من أي صنف هم، أمن المسجونين السياسيين؟ أم المجرمين الفارين؟ وجوابي أن هذا لا يعنيني بل يعني رجال القسم السياسي الذي يمدني بمن أحتاجهم من العمال، وكل الذي أعرفه عنهم أنهم أعداء الشعب.»

وقضيت عدة أشهر لا أستطيع أن أطرد هذه الصورة من خيالي، وظلت في هذه الأثناء تحز في نفسي على الدوام حتى في الأوقات التي كان فيها عقلي يفكر ويداي تعملان في أعمال أخرى خطيرة، ولما أن انتقلت إلى ديار أخرى بعيدة في السنين التي أعقبت ذلك الوقت كانت ذكرى هذين اليومين تعاودني فجأة من حين إلى حين وتلح عليَّ إذا سمعت الأمريكيين يتمشدقون بالثناء على الشيوعية الروسية، وما أفاضت على العالم من أعاجيب، ولم يكن يسعني وقتئذٍ إلا أن أقول في نفسي: «لو أنني استطعت أن أضعكم أيها الحمقى في ذلك المصنع السفلي يومين اثنين لا أكثر لسمعتكم تغنون نغمة غير هذه النغمة.»

كان السلاح الجوي هو السلاح الوحيد من بين أسلحة الدفاع القومي الذي حباه سادة الكرملن بخيرة الرجال، وأفاضوا عليه جهودهم وبلاغتهم نحو اثنتي عشرة سنة كاملة، ولكن عجزنا في هذا الميدان قد وضح لي وضوحًا لا خفاء فيه من الوثائق التي تحمل إمضاء ستالين ومولوتوف، والتي كانت تمر بالإدارة التي أشرف عليها.

وكان من أسباب هذا العجز أن كميات هائلة لا حصر لها من الصلب والنحاس والألمونيوم قد أُعْطِيَت لهتلر بمقتضى الاتفاق الاقتصادي الذي وُقِّعَ بعد ميثاق «الصداقة» المذل، واستولت الجيوش الغازية على الجزء الأكبر مما بقي في البلاد من هذه المعادن، ولم يستطع ولاة الأمور أن يخلوا مصانع الطائرات القائمة في خاركوف وكيف وزبرزهي وتجتروج وغيرها من المدن إخلاءً تامًّا، ووقعت المصانع الأخرى غنيمة باردة في أيدي الأعداء، وكان من أثر ذلك أن الطيارين الروس كانوا يحلقون في الجو أحيانًا في طائرات من خشب الأبلكاج تكفي بضع رصاصات محرقة لأن تدمرها عن آخرها، فلا عجب أن كان القتلى من الطيارين الروس أكثر منهم في سائر الأمم المحاربة، وأرادت القيادة العليا أن تعوض هذا النقص في الطائرات فجعلت الطيارين يقضون في الجو أطول مما يقضيه الطيارون في سائر الأمم، على أن هذا الضغط قد خف عنهم بطبيعة الحال بعد أن وصلت الأمداد من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير.

وأصدر ستالين في خريف عام ١٩٤٢م أمرًا سريًّا عاجلًا يقضي بأن تُصْنَع فورًا مادة مقاومة للحريق تُطْلَى بها جدران جميع الطائرات، وكانت هذه المادة مركبًا راتنجيًّا أساسها كلوريدالونيل١ أشار بها معهد مواد الطيران، وكان ستالين يعلق أهمية كبرى على هذا العمل، وكانت الإدارة التي أشرف عليها هي التي تصل إليها هذه المادة بعد صنعها.

وعُقِدَت بعد ذلك الوقت اجتماعات شتى دامت عدة أسابيع، وحضرها رؤساء الصناعات الكيميائية، ومكاتب الطيران المختلفة، ثم تبين أن المادة الجديدة كانت مادة تجريبية ناقصة وكوفئ رؤساء المصنع آخر الأمر على جهودهم، ولو أن الحقيقة عُرِفَت كاملة لكان الذين يستحقون المكافأة هم صغار المهندسين الكيميائيين والعمال العاديين الذين ظلوا يعملون ليلًا ونهارًا حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، على أن هذه الجهود كلها مع الأسف الشديد كانت جهودًا ضائعة.

وسألت ذات مرة أحد قواد الطيران في مكتبي: «فلنفرض أننا أفلحنا في تغطية جدران الطائرات بهذه المادة فهل تفيد منها فائدة حقة؟»

فتلفت الرجل حوله كأنه يريد أن يتأكد من أن أحدًا غيري لا يسمعه ثم انثنى نحوي وهمس قائلًا: «إننا نفيد منها بقدر ما يفيد الرجل الميت من الحلوى المثلجة … إن الطائرة المطلية بهذه المادة إذا أصابها الرصاص الألماني الجديد المحرق اشتعلت كما يشتعل الزغب.

ولست أخفي عنك أن المسألة كلها مسألة نفسية، فقد يقوي هذا الاختراع الجديد روح الطيارين المعنوية ولو إلى حين، وهم بلا استثناء أبطال شجعان ولكنهم آدميون بطبيعة الحال، واستخدام الطائرات المدنية المصنوعة من الخشب في الأغراض الحربية عمل لا تقوى عليه أعصاب هؤلاء الطيارين.»

وكان علينا أن نصنع عشرات من أنواع الآلات والأجهزة الخاصة والمواد الأخرى، وأن نصنعها بسرعة وفي أسوأ الظروف لكي تعد طائراتنا إلى حرب الشتاء المقبل، وكانت جسامة الخسائر التي حلَّت بنا مما يذيب القلب أسًى وحسرةً، وليس أدل على صدق هذا القول من تقرير سري بعث به المارشال توفيكوف إلى ستالين ووقع في يدي وقد جاء في هذا التقرير: «سيُشَل سلاح الطيران جميعه شللًا كاملًا في هذا الشتاء إذا لم نصنع هذه الأجهزة والمواد الخاصة بسرعة وبالمقادير المطلوبة.»

وكنت وأنا أشرف على المصانع في أوكرانيا وإقليم الأورال وسيبيريا أستشيط غضبًا حين أتلقى الطلبات الدائمة والبرقيات التي لا نهاية لها من موسكو وغيرها من المراكز تستحثني وتطلب إليَّ الإسراع في إنجازها، وها أنا ذا قد أصبحت أنا الذي أطلب هذه السرعة في العمل، فكنت لا أنفك أرسل الإشارات البرقية والتليفونية وألح وأتوسل، وكنت أعرف حق المعرفة ما في هذه المطالب من عنت ومن عبث في معظم الأحيان، ولكنني مع ذلك لم أنقطع عنها يومًا من الأيام، لقد كان الوقت حينئذٍ كالسيف، وكنت أنا فضلًا عن هذا أتحمل من رؤسائي ضغطًا قويًّا لا رحمة فيه ولا هوادة.

فإذا ما كان عجز الإنتاج ناشئًا من نقص بعض المواد الأساسية أو الأجهزة أو الأيدي العاملة أهبت بالإدارات التي تشرف على إنتاج هذه المواد أو صنع هذه الأجهزة أو الهيئات المشرفة على العمال، وأستعين عند الحاجة بلجنة الدفاع القومي وبمنظمات الحزب وبموظفي الكرملن المختصين، وكنت أحصل على ما أحتاجه بطريقة ما.

وكان أعجب ما في الأمر أن الأجهزة التي طلبها المارشال نوفيكوف قد صُنِعَ منها القدر المطلوب وبالجودة المطلوبة كما أمر به ستالين، وكان مولوتوف هو الذي يشرف على جميع العمليات الخاصة بصناعة الطائرات، ولكن معظم الأوامر المتعلقة بها كانت توقع بإمضاء ستالين نفسه، وأردت أن أزيد من سرعة الإنتاج فرسمت خططًا تقضي بإمداد العمال في بعض المصانع بالخبز والوجبات الساخنة، ونفذت هذه الخطط بعد أن وقَّعها ستالين، وأرسلنا المناطيد المملوءة بالأكسجين من جوركي إلى موسكو محملة على السيارات، كما أرسلنا بعض المواد الكيميائية بالطائرات من إيفان إلى موسكو مخترقة جبهة القتال، وصُنِعَت الأجهزة المطلوبة في نهاية الأمر، وسرعان ما صدرت إليَّ الأوامر من الكرملن بأن أعدَّ مشروع مرسوم بمكافأة الذين أعانوا بجهودهم الموفقة على أداء هذا الواجب، ونشرت الصحف المرسوم بالصيغة التي وضعتها أنا، ولم تمض على نشره إلا أيام قليلة حتى استدعاني المارشال نوفيكوف.

وقال في صوت شديد التأثر: «يا رفيق كرافتشنكو، أريد أن أشكرك بالنيابة عن طيارينا جميعًا، لقد أبلغت الكثيرين منهم ما بذلته من الجهد في سبيلهم، وما ينطوي عليه قلبك من الإخلاص لهم، وأريد أن أبلغك أننا شاكرون لك فضلك عليهم.»

كذلك كانت مشكلة الأسلاك اللازمة للميدان مشكلة مزمنة معقدة، وكانت مسألة الاتصال التليفوني في الميادين منوطة بالرفيق سبروف أحد النائبين عن ستالين، ومن أجل ذلك كنت دائم الاتصال بمكتبه في هذا الشأن، على أن الأوامر الخاصة بهذا الموضوع كان يوقعها ستالين نفسه، وعقد مرة اجتماع في إحدى الليالي في الكرملن برياسة سبروف وحضره عدد كبير من الوزراء، ودام إلى ساعة متأخرة من الليل، وبحثنا فيه خطط الإنتاج ووسائله، وتقرر في هذا الاجتماع بعد طول الجدل أن يصنع البكر اللازم للف الأسلاك من الخشب بدل المعادن لنقص الكمية التي لدينا منها مخالفين في ذلك معارضة آراء رجال الحرب الشديدة.

وبعد شهر أو نحوه من هذا التاريخ اجتمع في مكتبي ممثلون لجميع الإدارات المختصة والموظفون العسكريون المسئولون، وأخذ كل واحد منهم يدلي برأيه فيما وصلنا إليه من النتائج، ولم يكن منهم من تبدو عليه دلائل الاغتباط إلا رجلًا واحدًا كان وكيلًا لإحدى الإدارات العليا.

فقال: «لقد حصلنا على أكثر مما كنا نأمله من الخطط التي وضعناها لحل مشكلة — وسائل الاتصال — لقد بلغت النتائج ١٠٥ في المائة مما كنا نتوقع.»

وأدركت من فوري أن في الأمر سرًّا خفيًّا، وأن الإدارة التي هو تابع لها لم تقدم إلا مقدارًا ضئيلًا من المنتجات والآلات، فأصررت في حيرة وغضب على أن يذكر لي الأرقام التي تثبت هذه المعجزة، وصدع الرجل بالأمر، وسرعان ما تبين لي أن بعض أجزاء الأجهزة قد صُنِعَ منه ٢٧٠٪ مما تحتاجه، في حين أن بعضها الآخر لم يُصْنَع منه إلا ٣٠٪، وكان أساس تصريحه الذي يفاخر به هو متوسط ما أنتجته من أجزاء الأجهزة المختلفة، وقد جرى في هذا التقدير على ألسنة البيروقراطية المألوفة في الإحصاءات الرسمية، ولا يخفى أن عدد الأجهزة التي يتم صنعها إنما يقدر بأقل عدد يصنع من أجزائها، وعلى هذا تكون إدارته قد أخرجت ما لا يزيد على ثلاثين في المائة من الأجهزة المطلوبة.

وضحك الحاضرون جميعًا مما أصاب الرجل من خزي، وإن لم تكن المسألة مما يستحق الضحك، لقد كان نقص أدوات التليفون سببًا في إزهاق آلاف من الأنفس كما قال كبار القواد الحاضرين، وكان في بعض الأحيان سببًا في خسارة المواقع الحربية، وتبين أن النقص كله ناشئ من قلة هذه البكرات، فقد كانت المصانع لا تنتج منها ما تقرر إنتاجه حتى بعد أن قرر الكرملن استبدال الخشب بالمعادن.

ومن أجل هذا زرت مصنعًا لإنتاج الأدوات الخشبية في أحد أطراف موسكو لأعرف بنفسي السبب في قلة ما يخرجه من البكرات، فلما قدمت إليه لم أجد فيه إلا عددًا قليلًا من العمال يعملون في إخراجها، وسألت مدير المصنع في ذلك فكان جوابه أنه لا يجد لديه العدد الكافي من مهرة العمال الصالحين لهذا العمل.

وسألته وأنا أسير إلى جزء آخر من المصنع خُيِّل إليَّ أن العمل فيه قائم على قدم وساق: «وماذا يعمل هنا؟»

واستشطت غضبًا حين رأيت ما يصنع فيه، لقد رأيت نحو مائة وخمسين رجلًا يشتغلون بصنع أثاث أنيق من أرائك ومكاتب، وأدوات للزينة ذات مرايا وكراسي ساندة كبيرة، معظمها من خير أنواع الخشب.

«أتقول أن ليس لديك عمال مهرة، وها أنا ذا أرى نحو مائة وخمسين منهم يشتغلون بصنع أثاث وأدوات للزينة وأرائك، ويتركون رجالنا يموتون في ميدان القتال؟ إن هذه جريمة وأنذرك أنني لن أسكت عليها!»

ولم يبدُ على هذا المدير شيء من مظاهر الفزع بل هز كتفيه، وخُيِّلَ إليَّ أني أشاهد ابتسامة مكبوتة على جانبي فمه.

وقال لي: «لست ألومك على أنك جُنِنْت، والحق أني أكاد أنا نفسي أُجَن، ولكنني موظف صغير كما تعلم، وماذا في وسعي أن أفعل غير إطاعة أوامر الكبار؟ تعال إلى مكتبي أطلعك على الحقيقة.»

وأخرج بعض الأوراق من مكتبه وأطلعني عليها فعرفت أن الأثاث يُصْنَع لكبار رجال الحزب والحكومة وموظفي الجيش الأحمر، ومن بينهم على ما أذكر فسيلي برونين رئيس مجلس سوفيت موسكو والقائد موخين وشرياكوف أمين سر اللجنة المركزية.

وعدت مسرعًا إلى المجلس الأعلى، وأنا لا أزال في شدة الغضب، واندفعت إلى مكتب أتكين، وأخذت أطلعه على الحقائق، وأنصت الرجل وهو لا يكاد يصدق ما يسمع.

وصاح مغضبًا: «أيصنعون الكراسي الساندة بدل المهمات الحربية التي أمر بصنعها الرفيق ستالين؟! إن هذا لجرم وخيانة! يجب أن يُزَجَّ المسئولون عنها في السجون.»

– «اتفقنا، ويسرني أن رأيك متفق مع رأيي يا أندراي إيفانوفتش! ولكن مدير المصنع أطلعني على الأوامر الصادرة له وعرفت منها أن الأثاث يصنع للرفيق برونين وشرياكوف والقائد موخين.»

وتغيرت ملامح الرجل على الفور وزالت من عينيه نظرات الغضب التي لم تستقر فيها إلا قليلًا.

وقال وهو يتلوى في مقعده: «أتقول إنه يصنع ما يصنع لشرياكوف؟ دعني أفكر. نعم، تلك مشكلة، وأظن أن راحة الزعماء هي الأخرى من أولى مستلزمات الحرب، دعني أفكر في الأمر.»

ودام تفكيره طويلًا، وظل المصنع يشتغل بصنع الأثاث، وظل الجيش الأحمر يلح في طلب بكر لأسلاك التليفون وكعوب للبنادق وما إليها، وأثرت المسألة عدة مرار ونار الحقد تتأجج في صدري، ولكني لم أصل إلى نتيجة، ولم أجرؤ على أن أتخطى أتكين وأعرض الأمر على سيروف، وما من شك في أن أتكين لم يكن يرغب في أن يخلق له أعداءً سياسيين.

ولم يكن لي بد وأنا على رأس الإدارة الهندسية الحربية من أن أطلع على سر من أسرار الروسيا المحاربة يحرص الرؤساء أشد الحرص على إخفائه، وهو في الوقت نفسه أشد الأسرار إيلامًا للنفس يضيق به ذرع كل من يصل إلى علمه، ولولا ما انتهت إليه الحرب من خاتمة لما كان من المستطاع كشف هذا السر.

لقد كان عدد من حصلوا على القناعات الواقية من الغازات في الروسيا بأجمعها ضئيلًا لا يكاد يُذْكَر، وفي موسكو نفسها لم يكن عدد من أسعدهم الحظ بالحصول على هذه القناعات يزيد على ربع السكان، أما فيما عداها من البلاد فقد كان الأمر أسوأ من هذا كثيرًا، ولم يحصل معظم القرى والمدن الصغيرة على شيء منها على الإطلاق، ولكن المأساة لم تقف عند هذا الحد، بل إن السر الرهيب الذي عرفته وقتئذٍ هو أن الكثرة الغالبة من هذه القناعات سواء ما كان عند الجنود وما كان في حوزة المدنيين، كانت غير صالحة، وتدل التقريرات الرسمية على أن ٦٥ في المائة من القناعات التي صُنِعَت في زمن الحرب كانت عديمة النفع بتاتًا، وكان السبب الجوهري في فسادها، أن انعدام المطاط قد اضطرنا إلى صنعها من الخيش المغطى بطبقة رقيقة منه، فلم تكن تلتصق بالوجه لتقيه فعل الغازات، يضاف إلى هذا نقص الحديد والزجاج وغيرهما من المواد اللازمة لصنع هذه القناعات.

وأكبر الظن أن الألمان لو عرفوا هذه الحقيقة لما ترددوا في استخدام الحرب الكيميائية على أوسع نطاق، وإذا كانوا قد عرفوها فعلًا فإن الإنذار الذي وجَّهه لهم روزفلت وتشرشل بأن الإنجليز والأمريكيين سيطلقون عليهم الغازات السامة بلا شفقة ولا رحمة قد أنقذ حياة الملايين من مواطني في ميدان القتال وفي المراكز الآهلة بالسكان.

والتقيت مرة بأحد كبار الموظفين العسكريين في قسم الحرب الكيميائية، وسألته أن يجيبني في صراحة عما يضطره إلى قبول هذه القناعات العديمة النفع.

فأجابني وهو يهز كتفيه دلالةً على اليأس: «وماذا أفعل غير هذا؟ أنبقى بغير قناعات مطلقًا؟ إن لها على الأقل قيمة من الناحية النفسية وهي تقوية الروح المعنوية.»

واتفق أن كنت في إحدى الليالي مع تكين وهو يستعد للعودة إلى منزله بعد أن مضى من الليل أكثره، ورأيته يذهب إلى الخزانة الحديدية ويخرج منها عدة قناعات جديدة حسنة الصنع، ويلوح أن وجهي قد نمَّ على ما كانت تحدثني به نفسي.

فتبسم الرجل وقال: «لا تنظر إليَّ نظرة المتهم، إن هذه القناعات لزوجتي وأطفالي، ومن يدري متى نفاجأ بحرب الغازات؟ إني لا أرى موجبًا للذعر، ولكن الحكمة تقتضينا أن نكون على حذر.»

– «لكني أسألك يا أندراي إيفانوفتش: لِمَ لا تستخدم الأقنعة التي تُصْنَع لجمهور الشعب؟»

فصاح غاضبًا: «أجُنِنْت؟» ثم قال في هدوء: «سأجتهد في أن أحصل على قناعين لك ولزوجتك.»

هذا ما كان من أمر القناعات، أما المخابئ الواقية من الغازات فقد كان شأنها أسوأ من شأن هذه القناعات نفسها، فقد كان العدد القليل الذي أُنْشِئَ منها في المدن الكبيرة لا يتسع إلا لنسبة ضئيلة من سكانها، وكان معظمها في حالة سيئة غير صالح للوقاية، ولا حاجة إلى القول بأن المدن الصغرة والقرى لم تنشأ فيها مخابئ على الإطلاق.

وفي موسكو نفسها حُوِّلَت محطة كرفسكايا التي تحت الأرض إلى مخبأ من الغازات لكبار الموظفين، كما أُنْشِئَت مخابئ أخرى في دور الوزارات المختلفة، وأُنْشِئَ لنا في مقر مجلس الوزراء مخبأ فُرِشَ بالبسط وأُعِدَّ فيه مقصف ومكتبة، أما المواطن العادي فلم ينل مثل هذه الرعاية، ولم تكن الوقاية من الحرب الكيميائية لتفترق عن هذا كثيرًا على الرغم من أن هذا القسم من الحرب قد وكلت الهيئة السياسية العليا أمره إلى جنود الهيئة الكيميائية الخاصة في وزارة الداخلية.

على أننا إن كنا قد لاقينا الصعاب في الأمور الخاصة بالقناعات وتليفونات الميادين وأجزاء الدبابات والأسلحة المتحركة والطائرات، فقد عوضنا هذا كله في جهة واحدة على الأقل، لقد كنت ذات مساء أبحث مجموعة من التقارير فطلب إليَّ أتكين أن أقابله في مكتبه، فلما دخلت عليه وجدته منهمكًا فيما بدا لي أول وهلة أنه لعبة عجيبة، فقد شاهدت على مكتبه وعلى الكراسي التي حوله قطعًا من الخشب مغطاة بقماش موشي بالذهب والفضة.

وصاح الرجل في غبطة: «تلك أشرطة الجنود.»

ورأيت في جوانب الحجرة رسومًا فنية للملابس العسكرية في جميع الرتب من الفريق إلى الملازم، وقد ظهرت عليها هذه الأشرطة في وضعها المناسب، ولم يكن جمهور الشعب قد عرف وقتئذٍ أن شارات الكتف العسكرية التي كانت تعد رمزًا بغيضًا للعسكرية القيصرية ستعاد من جديد، وإن يكن مجلس الوزراء قد أصدر القرار الذي «أيده» المجلس السوفيتي الأعلى في الوقت المناسب، ولكن المختصين شرعوا يصنعون هذه الشارات، وكان ما رأيته في حجرة أتكين نماذج منها.

وقال لي أتكين: «سآخذ هذه الشارات من فوري إلى الكرملن، وسيلقي الرفيق ستالين نفسه نظرة عليها، ألا ترى أنها جميلة؟»

وكان في ذلك الوقت مرحًا مسرورًا، وسألني عما أريد أن أكون أفريقًا أم أمير بحر؟ وأخذ الشارة المناسبة في كلتا الحالين ووضعها على كتفي.

ثم قال في وقار فكاهي متصنع: «لا، إن هاتين الشارتين لا تليقان بك، ولعل أجمل لك أن تكون أميرالاي.»

فقلت له: «ألا ترى يا أندراي إيفانوفتش أن كثيرين من الناس سيرون في هذه الشارات والحلل الجديدة رجوعًا إلى عهد الاستعمار القيصري؟»

فضحك الرجل وقال: «ما أسخف هذه الفكرة! ومن ذا الذي يبالي بما يراه بعض البلهاء في هذه البلاد أو في خارجها؟ إن القلوب التي من تحت الأكتاف المذهبة ستظل قلوبًا سوفيتية حقة متحدة الضربات كما هي متحدة الشعور، وهي تحارب دفاعًا عن مبادئ الرفيق ستالين.» ثم سكت قليلًا وأضاف إلى قوله السابق في هدوء وبصيغة التأكيد: «وفضلًا عن هذا فإذا كان بعض الناس يتخذون من هذه الشارات دليلًا على عودتنا إلى النزعة الاستعمارية، فقد يكون في اعتقادهم هذا نفسه نفعًا لنا؛ ذلك أن بلادنا ستكسب به صداقة بعض الأوساط الخاصة.»

إن قلب السلطة الدكتاتورية في كل هيئة سوفيتية — صغيرةً كانت أو كبيرة — هو لجنة الحزب الشيوعي، كما أن ساعد هذه السلطة القوي الأيمن هو الإدارة السياسية الخاصة الممثلة لوزارة الداخلية، وتعمل هذه الإدارة نائبة عن أعضاء الحزب (وهي في الأحوال العادية أقلية صغيرة في المنظمات الشيوعية)، وتراقب نقاء مبادئهم الفكرية، وتشرف على النشاط السياسي للهيئة السوفيتية التي تمثلها، وتوجه التفكير السياسي للموظفين، على أن هذه الإدارة لا تباشر سلطتها هذه بنفسها في معظم الأحوال؛ ذلك أن سلطتها كلها مركزة في يد أمين سرها، وإن كانت هي من الوجهة الرسمية صاحبة الأمر والنهي، وإن بقي هو يعمل من وراء الستار، على أننا إذا استقصينا الأمور تبين لنا أن رؤساء المصانع أو الموثقات الصناعية يتلقون أوامرهم في كل المسائل السياسية من أكبر موظف سياسي في الحزب الشيوعي.

وكان في مجلس الوزراء نفسه لجنة للحزب تقوم بكثير من أوجه النشاط السياسي الخالص، على أنه كان بين هذه اللجنة وغيرها من اللجان فرق هام؛ ذلك أن مجلس الوزراء هو الحكومة ذاتها يستمد سلطانه من الهيئة السياسية العليا للبلاد، ومن لجنة الحزب المركزية نفسها؛ ولهذا لم يكن خاضعًا للجنة الحزب الفرعية الخاصة به، وكان رئيس هذه اللجنة الأخيرة شيوعيًّا قديمًا يُدْعَى ميروتوف، كان هو المرجع الأعلى في كل الشئون المتصلة «بالدين» الشيوعي — إذا صح أن تطلق عليه لفظ الدين — والذي يشمل الأخلاق السياسية وتحليل الحوادث وما إليها، ولكنه لم يكن من حقه أن يتدخل في أعمال بمفيلوف وأتكين وغيرهما من الرؤساء غير «الدينيين» في التنظيم العملي للشئون الحزبية.

وكان من شأن هذا النظام أن جعل اجتماعاتنا الحزبية أرقى في مستواها من اجتماعات غيرنا من الهيئات، وقلما كنا نتعرض إلى المشاكل الخاصة بالمجلس نفسه، بل كان همنا كله موجهًا للشئون الكبرى ومسائل الإيمان الشيوعي، ولا حاجة إلى القول بأن جميع المناصب ذات التبعة كان يشغلها أعضاء الحزب الشيوعي، كما أن نسبة الوظائف الصغرى التي يشغلها هؤلاء الأعضاء كانت هي الأخرى كبيرة؛ ولهذا فإن اجتماعات الحزب كانت عبارة عن اجتماعات عامة لجميع أعضاء الإدارة الحكومية.

والأجانب الذين يحاولون فهم سياسية ستالين أو فهم «العقلية السوفيتية» بدراسة الصحافة السوفيتية وأعمال الكرملن العامة كثيرًا ما يخرجون علينا بطائفة من العبارات السوفسطائية السخيفة؛ ذلك أننا لا نجد من بين هؤلاء الأجانب واحدًا في الألف قد فهم حق الفهم الفكرة البلشفية الخاصة بوجود «حقيقتين»: إحداهما لعامة الشعب وللعالم بوجه عام، وأخرى لأعضاء الحزب المؤمنين المطلعين على الحقائق والقائمين بالأمر، وقد يحدث أحيانًا حين تختط خطة علنية للدعاوة أو العمل أن ترسل التعليمات إلى أعضاء الحزب بألا يعيروا هذه الخطة أية عناية، بل قد يبلغ الأمر أن يؤمروا باعتقاد ما يناقضها كل المناقضة.

وعملًا بهذه الخطة المرسومة رُؤِيَ من الضرورة في هذه الفترة الخطيرة من سير الحرب «أن يرجع عن مبادئ لينين» من حيث الشكل لا من حيث الجوهر؛ ذلك أن الظروف كانت تتطلب استمالة «العناصر الرجعية» في البلاد وفي أوروبا الشرقية بالتظاهر بالعودة إلى التمسك بالدين، وكان لا بد من استغلال القيم الأدبية للروح الوطنية القومية العتيقة إلى أقصى حدود الاستغلال، ورُؤِيَ فوق ذلك أن يستمال الحلفاء الرأسماليون آخر الأمر وبعد فترة من الزمن قد تقصر وقد تطول «بالرجوع» عن الدولية الشيوعية.

وسرعان ما قَبِلَ العالم الخارجي ومعظم الشعب الروسي هذا القول واتخذوه دليلًا على تحول زعماء السوفيت عن خططهم ونواياهم الأولى، ودُبِّجَت المقالات ونُشِرَت الكتب للترحيب بهذا التحول، وعدَّه كاتبوها برهانًا على تخلي هؤلاء الزعماء عن فكرة الثورة العالمية، بل لقد وصل الأمر إلى أكثر من هذا فقام جماعة من «الخبراء» يعلنون في جهل وغباوة أن الاتحاد السوفيتي يوشك أن يقطع صلته بالنظام الفردي الاستبدادي، وأنه يقترب شيئًا فشيئًا من النظام الرأسمالي، وأعلنوا في الملأ أن أساليب الحياة الديمقراطية والأساليب الاستبدادية السوفيتية متجهتان في طريق واحد، وأنهما ستلتقيان في وسط الطريق.

ولو أن واحدًا من أولئك الخبراء حضر اجتماعات الحزب «المغلقة» التي تضم كبار الموظفين لهاله ما يسمع فيها من آراء، ولعرف أن الرجوع عن مبادئ لينين لم يكن إلا حركة فنية مؤقتة، وأن التصالح مع النزعة الدينية لم يكن إلا تراضيًا مذلًّا للحكومة السوفيتية ولكنه تراض لم يكن منه بد في الظروف القائمة وقتئذٍ، وكان يطلب إلينا أن نقوي إيماننا بالمبادئ الشيوعية واعتقادنا بأن هذه الحركات السياسية كانت خطة مدبرة وسياسة مرسومة وضعها ستالين لإحراز النصر النهائي.

ولم يكن ثمة إنسان ممن تأصلت فيهم مبادئ الشيوعية يعتقد أن الحزب يكذب إذا ما أعلن السير على بعض المبادئ جهرةً، واعتنق ما يناقضها خفية، ولم يكن ضميره ليؤنبه على هذا الرياء أكثر مما يؤنب القائد في الميدان إذا خدع العدو وأضله، وكان أركان حرب الثورة — أي زعماؤنا في الكرملن — يرون أن من واجبهم أن يخادعوا، فيهاجموا تارة ويستكينوا تارة، ويرتدوا مرة لينظموا صفوفهم، ويستغلوا في جميع الأوقات ما بين الأمم الرأسمالية من تنابذ وخلاف، ويسيروا على هذه الخطة حتى يستحيل العالم كله إلى اتحاد سوفيتي عام يتفيأ ظلال المبادئ الاستالينية، ويعتقد البلشفي «الواقعي» أن الأخلاقيين الرأسماليين الذين يتمشدقون بألفاظ النفاق والرياء والغدر وما إليها ليسوا إلا بقايا من عهد بائد، وأنهم هم أنفسهم قوم مراءُون يُظْهِرون خلاف ما يبطنون.

ولم يكن في أعمال الحزب أقل أثر يدل على «التغيرات العظيمة» التي يظن الناس أنها حدثت في نظام الحكم السوفيتي، ولم يكن ثمة فارق بين اجتماعات دعاة الحزب وعماله في هذه الأيام واجتماعاتهم فيما قبل الحرب من حيث القواعد والأساليب والروح السياسية العامة اللهم إلا ما كان يدور في هذه الاجتماعات من حديث عن الحرب وتطوراتها، أما فيما عدا هذا فالاجتماع كله صورة مكررة مما كان يحدث قبل الحرب.

وإلى القارئ صورة من هذه الاجتماعات الأسبوعية:

نلتقي قبيل الجلسة في الساعة العاشرة مساءً ثم يعقد الاجتماع برياسة الرفيق ميروفوف ويجلس تحت صورة ضخمة للينين ومن حوله على المنصة بعض الشخصيات الكبيرة وضيفنا في هذه الليلة هو الرفيق بودين، وكان وقتئذٍ رئيس هيئات النشر الحكومية، وهو الآن ممثل قسم الدعاوى الثورية في لجنة الحزب المركزية، وإذ كنا نعلم أنه من أشد أتباع ستالين استمساكًا بالنظريات السياسية فإنا نستمع إليه بعناية فائقة، ولا تفوتنا كلمة واحدة مما يقول، وهو يتحدث في هذه الليلة عن الشئون العالمية، ولكن ما ينطق به لن يكون مجرد «آراء» بالمعنى الذي يفهمه الغربيون من هذا اللفظ، بل هو عقائد مقررة واتجاهات ليس منا من يجرؤ على أن يحيد عنها، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إنه لا يمكن أن يدور في خلد الشيوعي المؤمن بمبادئه أن يحيد عنها قيد شعرة، ويتكلم يودين بالنيابة عن ستالين وعن الحزب وعن الدكتاتورية السوفيتية.

ولكن رفيقًا آخر يقوم قبله ليرسم لنا صورة عن الموقف الحربي، وهو لا يخفي عنا ما مُنِينا به من خسائر فادحة وما يتهددنا من أخطار شديدة، ويقول: إن قوتنا ستمتحن في ستالينجراد، وإنا لن نُهْزَم فيها بل لا نجرؤ على أن نُهْزَم فيها، وإذا ما سقطت ستالينجراد في يد العدو واستطاع الألمان أن يعبروا نهر الفلجا فسيحال بيننا وبين آبار الزيت، وقد يكون هذا سببًا في شل جميع جهودنا الحربية، وليس هذا كل ما في الأمر، بل علينا جميعًا أيها الرفاق أن نفهم أن ستالينجراد ليست مدينة كسائر المدن، فهي المدينة التي سُمِّيَت باسم ستالين الزعيم الأكبر للشيوعية في العالم بأسره، وفي ستالينجراد يصطرع مبدآن من مبادئ الحياة، صراعًا عاقبته إما الحياة وإما الموت: أحدهما مبدأ الرأسمالية في صورتها الفاشية، وثانيهما الشيوعية، وتمثل المبدأ الأول جيوش هتلر والثاني القوى التي تعتنق مبادئ ستالين، ترى لمن يكون النصر؟ إن مدينة ستالين لن تسلم للأعداء ولا يمكن أن تسلم لهم مهما اقتضانا الدفاع عنها من ثمن، سنتعلق بكل حجر فيها وبكل لبنة، إن جحافل عظيمة من الرجال وأكداسًا من العتاد تعد لهذا الصراع التاريخي، وسيغرق الألمان في بحر من دمائهم، وسيدرك العالم ما في اسم ستالين المحبوب من قوة، وستظل ستالينجراد قائمة جيلًا بعد جيل رمزًا مجيدًا لعبقرية زعيمنا المحبوب.

ثم تسكن عاصفة التصفيق القوية ويعتلي الرفيق يودين المنصة، فننصت إليه لا بآذاننا فحسب بل بكل مسام أجسامنا، وهو وإن كان من أشد المتحمسين للنظريات المركسية لا يرى غضاضة في أن يملأ خطابه بألفاظ الهجو القذع، ذلك أن الهجو من طبيعته، يفيض به لسانه في كل وقت، وهو لا يقصره على هتلر وشيعته بل يصبه على جميع العالم الرأسمالي المنحل المتعطن.

ويقول لنا يودين: إن تيارًا قويًّا من الإيمان بالنظام السوفيتي يجتاح الجماهير في إنجلترا وأمريكا في هذه الأيام، ويؤيد دعواه بمقتبسات من بريستلي ولسكي وغيرهما من الكتاب، وهو تيار جارف ليس في وسع تشرشل وروزفلت والمستضعفين الأذلاء من الاشتراكيين و«العمال» أن يصدوه، ففي إنجلترا كثيرًا ما ينزل كلمنت أتلي الفاشي الاشتراكي ضيفًا على السيدة أستر الفاشية فلتستنتجوا من هذا أيها الرفاق ما يجب أن تستنتجوه!

ولم يعد خافيًا على الطبقات الموسرة من الإنجليز أن الحرب قد بدَّلت عقلية الجماهير حتى أصبح القضاء على هذا الخطر المرعب أهم عندهم من هزيمة الألمان، ولكن كيف السبيل إلى هذا؟ ليس ثمة سبيل أمام الحزب الذي يطلقون عليه اسم «حزب العمال» إلا أن يهيئ وسائل اللهو للقوات المحاربة ليصرفها عن الانضواء تحت راية زعماء الحزب الشيوعي البريطاني والشيوعية الدولية.

وليس النزاع الظاهري القائم بين تشرشل وحزب العمال في رأي بودين إلا نزاعًا صوريًّا مسرحيًّا، أما الحقيقة فهي أن الحزبين يعملان معًا لكبت أنفاس الكتلة العاملة، وكلاهما على استعداد لأن ينشد: حفظ الله الملك.

«أما من حيث موقفهما من الروسيا كما يقول: فإن زعماء العمال يحبوننا بقدر ما نحب نحن هتلر.»

ويضحك السامعون من هذا التهكم ويصفق له بعضهم؛ ذلك أن الطعن في العمال وأمثالهم من «الديمقراطيين» الزائفين من الأساليب الخطابية التي تتردد في كل اجتماع من اجتماعات الحزب، ثم تأتي بعد إنجلترا تركيا واليابان فيصب عليهما الخطيب جام غضبه وشتائمه فيقول بأعلى صوته: إننا نعرف أن متسوكو — الرجل الذي تفضل الرفيق ستالين بأن ودعه على محطة السكة الحديدية بنفسه — أن هذا الرجل قد حرض الميكادو على أن يعلن الحرب على روسيا قبل هجومهم على ميناء بيرل في الوقت الذي كان فيه الألمان يزحفون على موسكو، وستلقى اليابان وسيلقى متسوكو وأمثاله ما يستحقون من جزاء، بعد أن نفرغ من محاسبة هتلر وزمرته!

«أما في تركيا فإن القائد إركيلت وطائفة من الصحفيين النباحين قد شنوا — برضا الحكومة وتغاضيها بطبيعة الحال — حملة شعواء على الحكومة السوفيتية، وأن اليوم الذي نحاسب فيه هؤلاء الجيران الطيبين الظرفاء لآت لا ريب فيه.

وسأحدثكم الآن أيها الرفاق عن أمريكا: إن الخطة التي اختطها روزفلت في تلك البلاد والتي تقضي بالتودد إلى الحكومة السوفيتية طالما كانت هذه الحكومة ذات فائدة للأمريكيين، إن هذه الخطة قد أثارت معارضة شديدة، وهي معارضة طبيعية في بلاد تعد حصن الرأسمالية الحصين، ويتزعم هذه المعارضة الشديدة مستر هربرت هوفر رئيس الجمهورية السابق وطائفة من أعضاء مجلس الشيوخ الرجعيين وغيرهم من مأجوري مورجان وركفلر ودوبون، وتؤيدهم الصحافة الفاشية وشبه الفاشية، صحافة هرست ومك كورمك وأمثالهما، وزمرة أخرى من الصحف المأجورة.

ويظن هؤلاء أن روزفلت قد باع نفسه لاتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية الروسية وإن كان هذا القول يبدو لنا نحن في منتهى السخف وجديرًا بالسخرية، وكأن هؤلاء لا يدركون أن روزفلت وآتلي هما آخر الحصون التي تعترض سبيل الشيوعية، وما من شك في أنها سوف تدك هذا الحصن عما قريب، إنهم لا يدركون أن هذا الحلف الحربي مع اتحاد جمهوريات السوفيت الاشتراكية ليس إلا زواجًا سياسيًّا أَمْلَتْه الضرورة، أما الحقيقة فهي أننا نكره الرأسمالية بقدر كرهها لنا، وأننا لن نحيد قط عن الواجبات التي رسمها لنا وللتاريخ الزعيمان: لينين وستالين!»

ويدوِّي المكان بالتصفيق دليلًا على أننا نحن على الأقل ندرك هذه الحقائق إن لم يدركها الأمريكيون.

ويواصل الرفيق يودين خطبته قائلًا: «أيها الرفاق، يجب ألا يخدعكم اشتراكنا في الحرب مع الأمم الرأسمالية، ويجب ألا تعلقوا على هذا الاشتراك شيئًا من الآمال، إن علينا أن نستمسك بمبادئنا الأساسية! إن هناك عالمين منفصلين تمام الانفصال، وقد يكون من المستطاع في بعض الأحيان أن يقام جسر على الثغرة التي تفصلهما كما فعلنا نحن في هذه الحرب، ولكننا نعلم حق العلم أن هذا الجسر سيتحطم في وقت من الأوقات قريبًا كان ذلك أو بعيدًا؛ ذلك أن العالمين — عالم الرأسمالية وعالم الشيوعية — لا يمكن أن يقوم أحدهما بجوار الآخر إلى أبد الدهر، بل لا بد أن يصطرعا، والمشكلة التي تواجهنا الآن والتي تواجهنا على الدوام هي: أيهما ستكون له الغلبة؟ تلك مشكلة المشاكل في المستقبل.

وما دمنا نعيش والرأسماليون من حولنا فستظل الأخطار تتهددنا أيها الرفاق، تذكروا ذلك ولا تنسوه أبدًا، ولا تخدعنكم أعمال الإعارة والتأجير، فتبدل أفكاركم، إن المسألة لا تعدو أن تكون مساومة وصفقة نؤدي نحن ثمنها غاليًا هو تضحيتنا بالدماء السوفيتية والأرض السوفيتية، فلا تغالوا في هذه «الصداقة» الجديدة غير الطبيعية، واذكروا على الدوام أننا نحن أعضاء الحزب جنود لينين وستالين، وأننا نعرف خبيئة نفوس الرأسماليين.»

ويفرغ يودين من خطبته فنقف جميعًا وننشد نشيد الدولية، ومهما تكن المعاني الخفية التي فهمها غيرنا من «رجوع» زعماء السوفيت عن المبادئ الشيوعية، فإننا نحن المتصلين بالدوائر العليا نعلم حق العلم أن ذلك إذعان مؤقت ألجأتنا إليه الظروف، ولا يعدو أن يكون تبدلًا في أساليب الحركة الشيوعية الدولية وصورها الخارجية، أما جوهرها فباق لم يطرأ عليه شيء من التحول، والذين يظنون أننا قد تحولنا عن هذه المبادئ ونبذناها وراء ظهورنا بلهاء مخدوعون.

وبعد أن تشد عزائمنا ويجدد نشاطنا على هذا النحو يعود كل منا إلى عمله، ولكن «الكبار» — يودين وبمفيلوف ومن إليهما — يهرعون إلى المقصف لينشطوا أجسامهم، وهناك يلتهمون ما فيه من طيبات الإعارة والتأجير، وهم يواصلون الحديث في موضوع الاجتماع، ويستمتعون مقدمًا بانهيار العالم الرأسمالي.

وتمضي بضعة أيام ونجتمع مرة أخرى ليخطبنا فلاديمير بتيمكين الدبلوماسي السوفيتي الذائع الصيت، وآراؤه بطبيعة الحال لا تختلف في شيء عن آراء يودين، إذ ليس في روسيا السوفيتية من له آراء خاصة، بل كل من فيها يُفْرَض عليه أن يحبِّذ «الخطة» المرسومة ويردد صداها على الدوام، لكن بتيمكين أخصائي في الشئون الخارجية؛ ولهذا كان أكثر صراحةً ووضوحًا حين تحدث عن مستقبل بعض الدول الأوروبية، فكانت «آراؤه» وآراء جميع أعضاء خطباء اللجنة المركزية تفصح عن نظرية الحزب الشيوعي برمته.

وهم يؤكدون لنا أننا إذا رجعنا عن مبادئنا بعض الشيء فما ذلك إلا لنبني قواعد جديدة لتقدم جديد، وهم واثقون من أن الشيوعية ستجد سبيلها إلى البلاد المهزومة والمحررة حين تحرر النصر، ومن أجل هذا يجب علينا أن نحتفظ باحتياطي القوى الثورية وموظفيها، وأن نزيد في عدد هؤلاء وأولئك، وحينئذٍ نهاجم الرأسمالية من أعلى عن طريق حكوماتها، ومن أسفل عن طريق العمل الذي تقوم به الجماهير فيها.

وكان أكثر ما آلم الشيوعية وأخشع طرفها هو اضطرارها بسبب الحرب لتعديل موقفها في أمور الدين، فقد سُمِحَ لرجال الدين أن يؤلفوا وينشروا كتابًا سموه: «حقيقة الدين في اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية» أعلنوا فيه رضاءهم عن النظام السوفيتي، ولم يعلق أحد منا شيئًا من الأهمية على هذا الكتاب، ولكننا سمعنا أنه كان له أثر كبير في خارج البلاد، ودعا ميروتوف دعاة الحزب إلى مكتبه ليوجه تفكيرهم في هذه المشكلة الشديدة التعقيد.

وبدأ خطابه لهم قائلًا: «أيها الرفاق، لقد اضطررنا إلى التسليم ببعض الأمور لأنصار الدين، وخاصةً لأن كثيرين من رجال الجيش الأحمر قد جُنِّدُوا من قرى متأخرة لا يزال للدين فيها شأن كبير، وفضلًا عن هذا فإن العدو يستغل موقفنا المعادي للدين في أغراض الدعاوة، وقد رأينا أن تحسين علاقتنا برجال الدين يضعف موقفه من هذه الناحية، وثمة مسألة أخرى على جانب عظيم من الأهمية، تلك هي أن جيوشنا ستدخل بعد قليل دولًا صقلبية لم تنعم بعد بمزايا التربية الشيوعية، وهل تكون للجنة الجامعة الصقلبية في موسكو أية قيمة إذا استمسكنا بسياستنا القديمة مع الكنيسة؟

وستكون سياستنا الدينية الجديدة ذات أثر عظيم في تحطيم الدعاوة التي تقوم بها الكنيسة الكاثوليكية واللوثرية وغيرهما من الجماعات الدينية ضد الدولة السوفيتية؛ ولهذا أرجو ألا تستخفوا بحكمة الحزب في انتهاج هذه السياسة، فهي تتيح لنا الفرصة في تقوية الرابطة بين الروسيا والكنيسة الأرثوذكسية في البلاد الأخرى وتجعل من موسكو روما الثالثة.»

ثم قام أحد الحاضرين وقال: «ولكن قل لي يا رفيق ميتوروف، ألا يخشى أن تفسد الخرافات الدينية عقول الجيل الجديد الذي سيحل محلنا في يوم من الأيام؟»

فأجاب مبتسمًا: «لا تشغل بالك بهذا الأمر، أن الدين لا يجد له مربعًا أو غذاءً في اتحاد الجمهوريات السوفيتية، هذا إلى أن الصحافة والمسرح والإذاعة والمدارس والكتب وسائر القوى التي تؤثر في العقول كلها تحت إشراف الحزب وحده، وليس هناك من يجهل أن الشاب ذا الميول الدينية لا يستطيع في هذا البلد أن يشق له طريقًا في الحياة، بل إنه لا يجد له مكانًا في الدولة إذا لم يكن معنا روحيًّا وسياسيًّا، وتلك أعظم ميزة لدينا.

ولا إخالك قد نسيت أن الكنيسة منفصلة عن الدولة، وأن الدولة هي التي تشرف على المدارس، وثق أن منظمات الشباب ستكون أعظم قوة من القساوسة، وهل يصل بنا الحمق إلى ترك الجيل الجديد في يد القسيسين؟»

وكان الأمر واضحًا لنا كل الوضوح، لقد كان الاتجاه الديني الجديد خدعة مؤقتة يقصد بها الوصول إلى أغراض معينة في داخل البلاد وخارجها، واتضح لنا كذلك أن من الواجب علينا حين نناقش هذا الموضوع مع «الجماهير» أن ندخل في روعهم أن هذا التحول السياسي الجديد تحول حقيقي دائم لا رجعة فيه.

ثم وجَّه إلينا ميتوروف هذا التحذير: «إن غير الناضجين من أعضاء الحزب أنفسهم لا يستطيعون فهم كل ما تنطوي عليه هذه السياسة من أغراض؛ ولهذا يجب أن نصطنع الحذر الشديد حين نتحدث إليهم في هذا الموضوع.»

ولم أكن أعمل في مجلس الوزراء حينما صدر الأمر في مايو سنة ١٩٤٣م بإلغاء الدولة الشيوعية في الظاهر، ولكن التفسيرات التي فُسِّرَ بها هذا العمل في اجتماعات الشيوعيين الهامة المغلقة كانت تتفق كل الاتفاق مع الآراء التي شرحها لنا رجال من طراز يودين وبوتكين، ومجمل هذه الآراء أن هذه الهيئة العالمية لم تحل إلا من الوجهة الرسمية الظاهرية، أما الحقيقة فقد كانت تناقض هذا كل المناقضة، فقد كان لا بد من تقوية الأداة التي تستخدمها هذه الهيئة، وتقوية موظفيها، وتدعيم نظامها؛ لتستطيع أن تواصل عملها في الخفاء، ومن الأقوال التي كان يرددها الزعماء قولهم: «اعلموا أيها الرفاق أن قوى ثورتنا في جميع أنحاء العالم تستعد للكفاح وتستعد للنصر.»

ولقد نسي العالم في أثناء الضجة التي أثيرت حول إلغاء الدولية الثالثة المزعوم أن كتاب ستالين «مشاكل اللينينية» قد ظل كما كان المرشد الأعلى في شئون المبادئ والأفكار الشيوعية، وأن ستالين لا يترك في هذا الكتاب أثرًا للشك في اعتقاده الذي لا يتزعزع في أن من حق الكتلة العاملة المظفرة — ويقصد بها اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية — بل من واجبها المقدس أن تستخدم القوة في إشعال نار الثورة في البلاد الأجنبية إذا ما لاحت لها الفرصة لإشعالها، وأن النظام الثوري القائم يجب أن يقدم المعونة للثوار في سائر أنحاء العالم وأن «يستخدم القوة العسكرية إذا لزم الأمر عند الطبقات المستغلة والدول التي تناصرها».

ولا يزال لكتاب ستالين الرسمي «تاريخ الحرب» ما كان له من أثر قبل إلغاء الدولية الثالثة كما لا يزال يوزع اليوم في جميع البلاد التي يقيم فيها أتباع ستالين أو يسافرون إليها، وليس في هذا الكتاب أقل غموض بل هو واضح كل الوضوح، ومما جاء في مقدمته: «إن الحزب الشيوعي صاحب السلطة في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي قد اهتدى في ماضيه ولا يزال يهتدي في حاضره بالتعاليم الثورية التي وضعها ماركس ولينين …» وإن دراسة تاريخ الحزب لتقوي الاعتقاد في النصر النهائي للهدف الجليل الذي عمل له لينين وستالين وهو «انتصار الشيوعية في العالم كله».

ولما كانت هذه الآراء لا تزال هي المسيطرة على الروسيا، ولم يصدر بعدُ ما ينقضها، فإن الإنسان لا يسعه إلا أن يفكر — وأن يقشعر بدنه من شدة الرعب حين يفكر — فيما كان يحدث لو أن دولة ستالين لا الولايات المتحدة الأمريكية كانت أول من صنع القنبلة الذرية!

وليس هذا تفكيرًا خياليًّا منقطع الصلة بالحقائق الواقعية، لقد كان العلماء والمفكرون الروس بوجه عام أيًّا كانت مبادئهم السياسية يعملون مجدين مخلصين لكسب هذه الحرب، وقد عملوا للتغلب على ما كان لدينا من نقص باختراع أدوات حربية جديدة، وبفضلهم كان لبلادهم السبق في استخدام بعض الأسلحة التي أخذوا بها الأعداء على غرة، ولم يكن من الأسرار الخفية أن الأبحاث الذرية كانت تسير سيرًا حثيثًا بأمر ستالين وتوجيهه.

ولقد أشيع في أواخر عام ١٩٤٢م أن ستالين قد استقبل الأستاذ كرمروف رئيس المجمع العلمي وكيتزا مدير معهد العلوم الطبيعية في اجتماع خاص بأبحاث الطاقة الذرية، وكانت إدارة الاستعلامات العسكرية السوفيتية في الوقت نفسه تبذل أقصى جهدها في الحصول على ما في البلاد الأخرى من أسرار خاصة بالطاقة الذرية، ولما أن عَقَدَ المجمع العلمي اجتماعه في سفرولفسك في شهر ديسمبر من عام ١٩٤٢م دار حديث طويل عما حدث من تقدم في استخراج المعادن النادرة ومنها معدن الأورانيوم، وكانت الدوائر الشيوعية تفاخر بأن كابتزا قد وصل إلى نتائج مدهشة فيما كان يقوم به من أبحاث لتفتيت الذرة.

ترى لو أن الكرملين قد صنع القنبلة الذرية قبل أن تصنعها زعيمة الدول الديمقراطية في العالم، فهل كان يستخدمها ستالين لإشعال ثورات من الطراز المحبب إلى قلبه؟ إن الجواب الذي أجيب به عن هذا السؤال إنما يصدر عن رأيي الشخصي ولكنه قائم على ما استقر في نفسي طوال حياتي من علم بالعقلية البلشفية وجرأتها وتحللها من المبادئ الأخلاقية إذا ما دعاها داعي واجبها نحو القضية الشيوعية، وهذا الجواب هو نعم.

واتفق أن زرت مخزن الكتاب الدولي، وهي هيئة لنشر الدعاوة باللغات الأجنبية، وكان ذلك في الوقت الذي قيل فيه: إن الدولية الشيوعية قد حُلَّت، وابتهجت لذلك قلوب السذج من حلفائنا الرأسماليين، وشاهدت في هذا المخزن أكداسًا عظيمة من النشرات الحزبية التي طُبِعَت حديثًا لتوزَّع في البلاد التي أوشك الجيش الأحمر أن يدخلها، لقد ماتت الدولية الشيوعية من الوجهة النظرية، أما من الوجهة العملية فقد كانت اللجنة المركزية للحزب تعد العدة لغزو أوروبا أدبيًّا في الوقت الذي كانت الجيوش السوفيتية تغزوها عسكريًّا، وكان موظفو الدولية «الملغاة» يعاد تنظيمهم على عجل استعدادًا للعمل الكبير الذي سيُلْقَى على عاتقهم في ألمانيا وفرنسا وبولندا والمجر وإيطاليا وغيرها من البلاد.

لقد كانت الروسيا تعد لهذا الغزو الذي طال انتظاره مزيجًا من الإيمان بالمبادئ البلشفية والقوة العسكرية، وقد اختارت لهذا الغرض طائفة من رجال الشرطة السرية وأخذت تدربهم تدريبًا خاصًّا للعمل في بلاد السوفيت المحررة وفي البلاد الأجنبية، وخصَّصت لإقامتهم طائفة من الدور في قلب موسكو، وكانوا جميعًا من طبقة الضباط ومن الشيوعيين ومن صفوة رجال الشرطة، وكانوا يعدون لذلك الواجب التاريخي العظيم واجب «تطهير» سكان البلاد التي خضعت للاحتلال الألماني ونفوذ الألمان، و«التطهير» في معجم القسم السياسي لفظ ذو معنى رهيب.

وصحب رجال هذه الفرق الجديدة فيالق الجيش الأحمر ورجال القسم السياسي في زحفها المظفر غربًا، وكانوا في العادة يخفون هويتهم الشرطية بلبس الشارات العسكرية العادية بدل شارة القسم السياسي القرمزية، وكان أهم ما خصصوا له من الأعمال ذلك العمل الرهيب وهو التخلص من ملايين المواطنين السوفيت ممن يرى الزعماء أنهم قد يكونون «غير مرغوب فيهم» إن خرجوا مؤقتًا من السيطرة السوفيتية، ومعنى هذا أن رجال الشرطة السوفيتية العتاة هم الذين سيقدرون ولاء الملايين التي لا حصر لها ممن خضعوا لسلطان الألمان، ويحكمون عليهم بما يرونه في هذا الولاء، فمنهم آلاف يُعْدَمون رميًا بالرصاص، وآلاف غيرهم يُنْفون من البلاد، ويسود بينهم كلهم حكم من الإرهاب؛ لأنهم متهمون بالتعاون مع الألمان، وما أكثر ما ارتكبت هذه الصفوة المختارة من السفاحين من فظائع تقشعر من هولها الأبدان في فورنزه ورستوف وسمولنسك وشمال القفقاس وكل إقليم جلا عنه الألمان.

فكان الرجال والنساء والأطفال الذين عملوا تحت سيطرة الألمان لكسب القوت لا لشيء سواه، وكان معظمهم يعملون مرغمين كارهين، كان هؤلاء يجمعون ويقتلون بلا بحث ولا تظاهر ببحث، دع عنك المحاكمة القانونية، وكانت آلاف مؤلفة من المواطنين السوفيت المساكين يُحْشَدون في عربات الحيوانات ويُنْقَلون إلى داخل البلاد ليعملوا مسخرين في المهاجر وفي معسكرات الاعتقال، ولا مراء في أن مجموع هؤلاء المنفيين الذين جيء بهم ليزيدوا من عدد فيالق العمال المسخرين قد أربى على كثير من الملايين، قبل أن تضع الحرب أوزارها، ولا حاجة إلى القول بأن عمليات التطهير نفسها قد عملت في الأراضي غير السوفيتية التي غزاها الجيش الأحمر.

ولسنا ننكر أنه كان من بين سكان هذه الأقاليم من تعاونوا مع الألمان حقًّا، كما أنه كان من بينهم بعض الخونة الحقيقيين الذين يستحقون العقاب، ولكن القول بأن هؤلاء الخونة قد بلغت عدتهم هذا القدر الهائل الذي قضى عليه رجال القسم السياسي في الأقاليم المحررة هو إهانة شديدة للشعب الروسي؛ ذلك أن دولتنا البوليسية التي لم تكن تعبأ بأرواح الآدميين ولا تقيم لها وزنًا قد توسعت في تعريف «التعاون» مع الأعداء و«الخيانة» حتى شملا كل من وجه كلمة نقد عارضة لطغيان ستالين أو أظهر شيئًا من الشك في «الاشتراكية» التي فرضها سادة الكرملن على البلاد.

ولسنا نجد بُدًّا من الاعتراف بتلك الحقيقة المُرَّة: وهي أن ملايين من بني وطني قد استبدلوا بعد جلاء الألمان الاستعباد السوفيتي بالاستعباد الألماني، وأنهم كانوا في محنتهم كالمستجير من الرمضاء بالنار.

وأمكنني في حياتي السياسية أن ألمَّ الإلمام كله بأساليب الحكم في بلادنا، وبنظم الحكومة كلها، وبالأداة الحكومية على حقيقتها، وبما هناك من فرق هائل بين عمل هذه الأداة وبين نظامها المسجل في دستور البلاد، وقد أخفيت تلك الحقيقة حتى لا تقع عليها أعين الأجانب وأعين الشعب الروسي نفسه، وليس من المستطاع الكشف عنها في أقل من رسالة خاصة تكتب عن نظام الحكم السوفيتي، وحسبي هنا أن أسجل تلك الحقيقة وهي أن حكم اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية من الأعمال التي ينظمها ويتولاها الحزب الشيوعي، وما مجلس الوزراء وما مجلس السوفيت الأعلى إلا فرع من فروع لجنة الحزب المركزية والهيئة السياسية العليا.

وكان منصبي في هذه الفترة التي أتحدث عنها قريبًا جدًّا من ذروة الحكم، فاستطعت بذلك أن أسمع كثيرًا من الأنباء التي تعد في حكم المعلومات السرية العليا، وغير خافٍ أن الأنباء الشفوية تروج حيث تكون الصحافة مكممة خاضعة لأشد أنواع الرقابة والسيطرة، ومن أجل هذا كانت الشائعات تنتشر في موسكو أسرع من انتشارها في سائر بلاد العالم، ومن أكبر أسباب هذا الانتشار عدم وجود أداة لملاحقة هذه الأخبار وتكذيبها، وكل ما كان لإنكارها من نتيجة أن زاد في قوتها وتأثيرها، وكانت الأخبار غير العادية وخاصة ما كان منها سيئًا محظورًا يتلقفها الناس ويفضون بها إلى من يثقون بهم من الأصدقاء المقربين.

وكان أهم ما يفضي به الأصدقاء إلى أصدقائهم وما يتطلع هؤلاء الأصدقاء إلى معرفته هو أنباء النزاع الذي يقوم بين الرؤساء الكبار، وارتقاء بعض الموظفين، وسقوط البعض الآخر، وما يحدث بين أمناء سر ستالين، وما ينطق به الزعيم نفسه من عبارات لاذعة، وكان مما عرفته أن كاجانوفتش وأندرايف، وكلاهما من أعضاء الهيئة السياسية العليا، يكره كل منهما الآخر ويكيد له ويعمل لأن يكون أقرب منه إلى ستالين، وعرفت أن ميكويان ومولوتوف يتنازعان المكان الأول في قلب الزعيم، وأن النجم اللامع فزنسنسكي قد حقر النجم الآفل كاجانوفتش في اجتماع رسمي، وأن مخليس رئيس الإدارة السياسية في الجيش الأحمر قد أُقِيلَ خفية من منصبه ذي السلطان العظيم؛ لأنه أصبح بسبب دينه اليهودي غرضًا تصوَّب إليه سهام الدعاوة النازية القوية بين جنودنا الجهلاء الرجعيين، وأن فاسيلي بن ستالين المحبوب لا يفتأ يثير المشاكل بسبب سكره وصلاته النسائية وتهوره في سوق سيارته.

وكان من المآسي المروعة ما حدث للمرحوم الرفيق قنسطنطين أوماتسكي سفيرنا السابق في واشنجتن قبل أن ينقل منها إلى منصبه الجديد فيكون سفيرًا لنا في المكسيك، وتفصيل ذلك أن ابنته الشابة كانت تقيم مع شاب في مثل سنها هو ابن شاخورين وزير صناعة الطيران، وحدثت مشادة ذات ليلة بينهما مبعثها الغيرة النسائية، فأخذ الشاب مسدس أبيه وأطلقه على الفتاة وسرعان ما انتشر نبأ هذه الجريمة المروعة في الأوساط العليا، وظلت هذه الأوساط تتحدث عنها عدة أيام، ولكن صحافة موسكو لم تشر إليها بكلمة واحدة.

على أن أهم ما كان يثير مشاعر الناس من الحديث غير المدون ما كان خاصًّا بستالين نفسه فقد كانت كل كلمة ينطق بها تلوكها الألسن وتحللها، وكان ما يحب وما يكره، وحالته الصحية وعاداته ومناقضه تثير من اهتمام حاشيته وأتباعه أكثر مما يثيره سير الحرب أو مصير الثورة العالمية، وكان مما سمعته أنا نفسي أن ستالين يهوى الشطرنج والبليارد، وأنه يتقنهما إتقانًا يمكنه من أن يستمتع إلى أقصى حد بالمباريات التي تقوم بين أعظم أبطال الشطرنج والبليارد، وأسرَّ لي بعضهم — بنغمة خليقة بأمثال هذا السر الدولي الخطير — أن خير ما يهواه الزعيم من أنواع الخمور نبيذ كاختنسكي وكاجور وكلاهما مما يُصْنَع في بلاد القفقاس.

وكنا نعرف جميعًا أن من عيوب ستالين حبه للأمثال والحكم الروسي منها والكرجي وأنه كثيرًا ما يستخدمها لفض المناقشات، وكان مما قيل لنا: إنه بعد أن وقَّع ميثاقه مع هتلر جلس صامتًا، بينا كان رجال الهيئة السياسية العليا يتناقشون فيما يفرضه هذا الميثاق على البلاد من التزامات، وأخيرًا لخص هو الحالة كلها بمثل من أمثاله المأثورة: «إني لا أضمن مذاق هذا الصنف من الطعام ولكنه سيكون طعامًا حارًّا!» وإذا ما طال بين الناس الجدل قال لهم في هدوء: «اقلبوا الإوزة على جنبها الآخر وإلا شاطت!» وإذا ما عجز خطيب عن أن يوضح قصده قال له: «إنك تخور كالبقرة التي جاءها المخاض ولكن أين العجل؟»

وخطب ستالين كبار رجال الدولة في اجتماع للجنة الحزب المركزية فقال: «إذا لم ينصلح عملكم على الفور صفعناكم.» وبعد أن سكت برهة حتى يستقر هذا المعنى في نفوس السامعين قال: «ولا أقصد الصفع بمعناه الحرفي، ولكنا سنصفعكم وكفى.»

ويذيع الناس أن ستالين يحب الموسيقى، ولكن الذي يؤسف له أن ذوقه الموسيقي لم يرق كثيرًا، وأن فهمه للموسيقى ضيق محدود، على أن هذا لا يمنعه بطبيعة الحال أن يحل المشاكل الموسيقية، وأن يحكم على ما ينشئه الموسيقيون، وليس منا من لا يعلم كيف دفع الشاب شستا كوفتش خارج حجرته وأبقاه في الظلام فترة من الوقت، ولكن الذي لا يعرفه الكثيرون هو ما فعله بالمؤلف الموسيقي الشاب تيخون خرنيكوف، لقد أعجب النقاد في موسكو بمسرحيته الغنائية في العاصفة واستقبلوها بحماسة شديدة، فلما أن شهد الزعيم هذه المسرحية وقال: إنه لا يحبها رجع النقاد من فورهم في حكمهم فأبعدت المسرحية عن المسرح ولم يسمع أحد عنها شيئًا بعدئذٍ.

وثمة قصة أخرى تُرْوَى عن ستالين لا أومن أنا بصحتها ولكن أخصاءه المقربين إليه لا يشكون في صدقها، وخلاصة هذه القصة أنه إذا اعتزم أمرًا خطيرًا ذهب «ليستشير» لينين الميت في تابوته المصنوع من الحجر الأعبل المدفون في الميدان الأحمر، وتقول هذه القصة: إنه يقضي ساعات طوالًا منفردًا في هذا الضريح غارقًا في أفكاره، ومما قاله لي مرة موظف كبير من رجال القسم السياسي: «لست من المشتغلين بمناجاة الأرواح، ولكني أقرر الحقيقة حين أقول: إن ستالين بقي بمفرده مع جثة لينين بضع ساعات قبيل نقل هذه الجثة سرًّا إلى ما وراء جبال أورال وقت أن كان الألمان على أبواب موسكو.»

وتعتقد تلك الدوائر العليا أن ستالين يؤمن أشد الإيمان بالخرافات وتؤكد أنه طالما بدل من خططه؛ لأن «الدلائل» لم تكن كما يشتهي، ولعله ينفرد بين الطغاة والسياسيين الناجحين في أنه حريص أشد الحرص على عزلته، يغلق على نفسه باب حجرته، ويقضي وقتًا طويلًا يفكر في الشئون الحربية، وهو قليل التردد على المجتمعات الكبيرة، كاره لها، لا يحضرها إلا إذا أجبرته الضرورة الحربية على حضورها، فإذا فعل فقد أوتي القدرة على أن يسلك فيها سلوك غيره من الأفراد.

وحدثني زميل لي حديثًا مفصلًا عما حدث في مأدبة أقامها ستالين لجماعة من الطيارين وغيرهم من الرجال الذين امتازوا بأعمالهم في ميدان القتال.

ولما عاد هؤلاء الرجال إلى ميادين القتال تحدثوا إلى زملائهم قائلين: إن الفذهد — وهي الكلمة الروسية للزعيم والمقابلة لكلمة الفهرر الألمانية — رجل ساذج غير متكبر، وأنه اشترك معهم في شربهم ومزاحهم وغنائهم ولم يكتف بأن أثقل كاهلهم بالهدايا.

أما الذين يعرفونه عن كثب ويعرفونه من زمن طويل فإنهم إذا تحدثوا عنه أجمعوا على أنه رجل صلب العود، لا يثق إلا بالقوة، ماكر مخادع يرى الخديعة نفسها نوعًا من القوة، حقود منتقم لم يعرف عنه في يوم من الأيام أنه عفا عن إساءة أو نسيها، وإذا تظاهر بالخضوع في نزاع فما ذلك إلا ليقوي بهذا الخضوع مركزه ليهاجم بعدئذٍ عدوه ويطعنه من خلفه، ولقد عمل على أن يحيط نفسه برجال من طرازه، لا يؤمنون إلا بالقوة، منتقمين لا يعفون عن إساءة لا مبدأ لهم ولا ضمير.

وستالين في حقيقة أمره رجل مستوحش، وهو يعلم ذلك في نفسه، وقد شعر هو في سني حياته العملية أن لا بد له من أن يقتل خاصة أصدقائه وزملائه كلهم تقريبًا، ومنهم آبل بنوكدز نفسه الذي نشأ معه والذي طالما كان يعده أعز أصدقائه وأقربهم مودةً له، ولما اغتيل كيروف ومات زميله ومواطنه الكرجي أور زنكدز ترك موتهما في حياته الخاصة فراغًا كبيرًا، ولقد أصبح أقرب الناس إليه في السنين الأخيرة ميكويان وفور شيلوف وبيريا ومولوتوف.

ويرجع سوء ظن ستالين فيمن حوله إلى مرض في نفسه، وهو لا يستثني أحدًا من سوء ظنه حتى من يقربهم إليه في وقت من الأوقات، وما من شك في أنه يعتقد أن كل واحد منهم سيكون في مستقبله — إن لم يكن في حاضره — متآمرًا عليه يدبر له المكايد والدسائس.

لقد كانت هذه هي الشائعات التي تدور في الدوائر الخاصة عن ستالين، على أن هذا الرجل هو الوحيد من بين زعماء الكرملن الذي كاد اسمه أن ينجو من أحاديث الإفك.

ذلك أن القصص كانت تُرْوَى باستمرار عن علاقة سائر الزعماء بالراقصات والممثلات وحفلات السُّكْر وما إليها، أما الزعيم فلم يُرْوَ عنه شيء من هذا أبدًا، ولعل حرصه على أن يكون هو المحرك لجميع نواحي النشاط في حياة البلاد القومية لا يترك له فسحة من الوقت لمثل هذه الأمور، وهو يميل إلى قراءة الكتب الجديدة كمؤلفات كلوز وتز وتشيكوف وسلتيكوف، وإن معلوماته عن الشئون الاقتصادية والسياسية لتدهش كل من يتصل به.

ويعتقد الكثيرون منا أن ولع ستالين بالانفراد بنفسه وبغضه للظهور في المجتمع لا صلة لهما بقبح صورته، وإن كان مصوروه فيما رسموا له من صور زيتية وشمسية تعد بالملايين قد حرصوا الحرص كله على أن يخفوا عن الناس أنه قصير بدين بطين، أشد سمرة وأقرب إلى ملامح الأسيويين مما يعرف عنه معظم الناس، وأن وجهه يشوهه الجدري، وأن ذراعه اليسرى معوجة بعض الاعوجاج، وأن أسنانه متآكلة غير متناسقة، وإذا كانت عيوبه الجسمية قد ولدت فيه عقدة من عقد النقص فقد يفسر هذا حبه الشديد للملق المكشوف الذي تعافه النفس.

وقد يفسر هذا أيضًا الطريقة الغربية التي بدلت بها الحقائق المتصلة بحياته الأولى حتى تبدو هذه الحياة مجيدة باهرة، مثال ذلك أن محفوظات إدارة الشرطة في عهد القيصر تذكر عنه أنه بائع كتب، ولقد أتيح لي أن أطلع بنفسي على هذه الوثائق، ولا يزال الرجل إلى هذا اليوم محتفظًا بقدرته المدهشة في العد والحساب وعمل الإحصاءات وكشوف الإيراد والنفقات، ولكن هذا العمل الذي لا ينقص قط من قدر إنسان قد أخفي عن أعين الناس ولم يسمح بنشره.

وفي وسع الإنسان أن يستمع إلى كثير من الحقائق المرة عن تفضيل ستالين للقفقاسيين — أي الكرج والأرمن — على سائر الروس، وقد قيل: إنه يثق بهم ويفهمهم خيرًا من ثقته وفهمه للروس الذين لا تجمعه بهم أية صلة من صلاة الجنس أو التعليم المبكر، والحق أن القفقاسيين — وإن كانوا لا يمثلون إلا أقلية ضئيلة لا يعتد بها من مجموع سكان بلاد السوفيت — لا تخلو منهم إدارة من الإدارات الحكومية، فقد كان بريا إلى عهد قريب رئيس إدارة الشرطة، وكان ميكوبان الرئيس الأعلى للتجارة الداخلية والخارجية، وبوجوزيان وكفتارتزي أكبر مساعدي مولوتوف، هذا إلى أن الوزيرين أكوبوف ونفزيان ونائبي الوزيرين دويان وأروتيانوف ومئات غيرهم من كبار الموظفين كلهم كرج أو أرمن.

•••

ولما اقترب اليوم السابع من نوفمبر أخذت العقول كلها تترقب يوم العطلة؛ ذلك أن البلاد كلها ستحتفل بيوم الثورة احتفالًا فخمًا عظيمًا رغم الكوارث التي كانت تحل بالجيوش السوفيتية في ميدان القتال، وكان الناس يتوقعون أن الحكومة الكريمة ستزيد من مقررات الطعام في هذا العيد كما كانت تفعل في الأيام الماضية، وكان طبيعيًّا أن يطغى اهتمام الناس في هذا العام بما يأكلون على كل ما عداه من الشئون.

وزُيِّنَت مكاتب الموظفين، ونُظِّفَت أرضها، وعُلِّقَت على الجدران عبارات الترحيب والابتهاج المعتادة في مثل هذه الأحوال، وسرت في البناء الذي كنا نقيم فيه روح الغبطة والسرور، وخفف بمفيلوف من حدة غضبه على الموظفين وسبابه إياهم، وكذلك فعل كل منا من التابعين له من الموظفين، ولما أقبل اليوم السادس من نوفمبر جاء صغار الموظفين وفيهم الخادمات اللاتي يعملن مياومة واللاتي يغسلن الأرض، والسعاة ومن إليهم، ومع كل منهم كيس مصنوع من الخيوط الشبكية، وهي من مستلزمات المواطنين السوفيت إذ يسهل عليهم أن يطووها ويضعوها في جيوبهم الخلفية ثم يخرجوها ليضعوا فيها ما عسى أن يسعدهم الحظ بالحصول عليه من الطعام.

ثم زفت البشرى العظيمة آخر الأمر، فأعلن أن كل موظف في مجلس الوزراء سينال في هذا اليوم رطلين ونصف رطل من الخبز الأبيض، واثني عشر رطلًا ونصف رطل من البطاطس، وثلاثة أرطال من العسل دليلًا على ما يكنُّه ستالين من حب عظيم لرعاياه! وسرت الحماسة في النفوس حتى تعذر القيام بعمل من الأعمال، وجاء هذا السخاء دليلًا على ما كان لبمفيلوف من نفوذ عظيم في الدوائر العليا، وكانت لهذه الهدايا قيمة كبيرة، فإن كمية البطاطس تكفي لصناعة وجبة طيبة لأسرة بأكملها، والعسل أثمن من الذهب لمن لم يذوقوا طعم السكر من زمن بعيد.

وأخذ إيفانوف غاسل الأرض النحيل الجسم الأشيب الشعر يغني طول الصباح ويقول: «ما أحلاك أيتها البطاطس الصغيرة! ما أحلاك حبيبتي!»

وتبدل الرجل لساعته، فلم يعد هو القزم الحقير الذي كنا نراه ينزلق على أرض مكاتبنا الجميلة المصنوعة من الخشب الأملس الثمين، فقد عهد إليه في ذلك اليوم شرف وزن البطاطس، وأثر هذا العمل في نفسه فملأه بهجةً وسرورًا، لقد كان يكمن في بردي إيفانوف الهزيل ذي النفس المتواضعة القانعة رجل آخر جريء ذكي رحيم في غير ضعف، برز الآن إلى عالم الوجود ليشرف على توزيع البطاطس، فيزن لكل فرد اثني عشر رطلًا ونصف رطل كاملة لا يرهب في عمله أحدًا، ولا يحابي أحدًا، وما قيمة بمفيلوف نفسه إذا قيس في ذلك اليوم بإيفانوف ملك البطاطس؟

وتقدمت إليه إحدى الكاتبات وقالت له: «يا عزيزي أندروشا، إن في بيتي ثلاثة آدميين ينتظرون مني الطعام، وأنا لا أسألك أكثر من حقي في البطاطس، بل كل ما أرجوه ألا تعطيني كل هذه البطاطس الفاسدة …»

ولكن إيفانوف الجديد لم يكن ليتأثر بهذه العواطف بل أصبح في هذه الساعة على الأقل من البلاشفة الغلاظ.

وأجابها قائلًا: «سيوزع البطاطس بين الناس بالقسطاس، وسيأخذ كل منهم حقه من التالف وحقه من الصالح إن كان لدينا صالح، والآن أفسحي الطريق لغيرك يا مواطنة وليتقدم من وراءها!»

ولكن هذا المجد الذي ناله إيفانوف المسكين في هذا العام قد انتهى مع الأسف بكارثة؛ ذلك أن البطاطس لم يكف كل الموظفين، وقال الذين لم يحصلوا على حقهم: إن هذا الرجل الغبي إنما كان يصلح لغسل الأرض لا لوزن البطاطس الثمينة، ولم يدفع إيفانوف عن نفسه إلا بقوله: إن ما كان لديه من البطاطس لم يكن يكفي لأن توزع منه اثنا عشر رطلًا ونصف رطل لجميع الموظفين، ومهما يكن من شيء فإن كمية البطاطس الفاسد منها والصالح قد نفدت فجأة، وبقي نحو عشرين موظفًا واقفين ينتظرون نصيبهم منها.

أما نحن كبار الموظفين فقد كنا أسعد حالًا، فقد تسلم كل منا حزمة من الطعام الدسم الشهي تختلف حسب منصبه.

هذا إلى أن كلًّا منا نال إذنًا خاصًّا يستطيع أن يستبدل به من إحدى الصيدليات «المغلقة» زجاجتين من النبيذ الجيد وزجاجة من الفودكا.

وكان الاستعداد يجري في الكرملن لإقامة مأدبة ستالين السنوية، وكانت هذه الوليمة مقصورة بطبيعة الحال على الطبقة العليا الممتازة من الموظفين أصحاب النفوذ العظيم، وكانت الدعوة إليها أعظم شأنًا من أكبر الألقاب التي يمنحها الملوك في الدول الأخرى، وراجع رجال القسم السياسي ثبت أسماء المدعوين، وظل كل منهم موضعًا للبحث والتقدير عدة أسابيع قبل اليوم الموعود، واستطعت أنا نفسي أن أتبين ذلك الفحص في مجلس الوزراء نفسه، فقد كنت ألاحظ بمفيلوف وهو يعني أشد العناية بكتابة أسماء الوزراء ومساعدي الوزراء الجديرين بهذا الشرف العظيم، ورأيته بعد أن اختار أسماء المستحقين يبعث بها إلى رجال القسم السياسي لبحثها والموافقة عليها.

وأقمنا نحن مأدبة أخرى في مجلس الوزراء لم تخل أيضًا من الجلبة ومن الأزهار والهتاف والأعلام، ومدت الموائد في قاعة الخطابة العامة لكبار الموظفين، وكان الطعام والشراب كثيرين في هذه المأدبة، فلم تجد غضاضة في الاستماع إلى الخطاب المعتاد في يوم العيد، والذي ألقاه أحد كبار رجال الحزب؛ ذلك أن من واجب الإنسان أن يقبل حلو الحياة ومرها في مثل هذه الأحوال، وكنا كلما ذُكِرَ اسم الزعيم وقفنا وهتفنا بأعلى صوتنا، فتقطعت الخطبة بهذا الهتاف تقطيعًا جميلًا خفف بعض الشيء من مللنا وسآمتنا.

ولما فرغ الخطيب من إلقاء خطبته أخذنا نلتهم الطعام التهامًا، وسرعان ما أتينا على ما امتلأت به صحافنا منه فلم نُبْقِ فيها شيئًا، وجاء الشراب بعد الطعام فشربنا أولًا نخب الزعيم المحبوب ثم أنخاب من يلونه من الزعماء المحبوبين أمثال مولوتوف وميكويان حتى وصلنا إلى بمفيلوف، ثم عزف الرفيق مينوروف قطعة موسيقية وأخذنا نحن نغني الأغنية المألوفة:

غنوا أيها الرفاق
وحيوا أعظم الرجال
أعظم الرجال وأحبهم إلينا
غنوا لستالين!

وكنت أسعى من زمن بعيد لأحصل على أعظم ما يطمع فيه موظف كبير من أرباب السلطان في الحكومة، كنت أسعى للحصول على مسكن خاص حتى نلت هذه الأمنية بعد السعي الطويل.

وكان الطريق الموصل إلى مسكني الجديد هو طريق مُزْهِسْك الواسع المستقيم المرصوف الذي يلقى من العناية أكثر مما يلقاه أي طريق آخر في بلاد الروسيا بأجمعها، وذلك بأنه هو الطريق المؤدي إلى قصر ستالين الريفي وإلى القصور الصيفية التي يختص بها كبار رجال الهيئة السياسية العليا الذين يعملون في العاصمة، وهو موضع الرقابة والتفتيش الدائمين حرصًا على حياة الزعيم المحبوب، ولا ينقطع مرور رجال القسم السياسي النشيطين ذوي الستر الجلدية في هذا الطريق على دراجاتهم الآلية.

وشُيِّدَت عدة مبانٍ جميلة حديثة الطراز على جانبي هذا الطريق في طرف العاصمة، واستطعت بشفاعة مجلس الوزراء أن أحصل على شقة في أحد هذه الأبنية تتألف من حجرتين ومطبخ، وهي شقة تعد رحبةً مترفةً في ظروف السكنى القائمة في موسكو، وكان لها حمامها الخاص ومدفأتها وأدوات للنور من أحدث طراز، إلى غير هذه وتلك من وسائل الراحة والنعيم، ولم يكن فيها من عيب إلا أن نوافذها تطل على الفناء الخلفي لا على الطريق العظيم، ولكن هذا لم يكن بالعيب الخطير.

وتسلحت بأمر رسمي للاستيلاء على الشقة وبالأوراق الدالة على أني أعمل في مجلس الوزراء، وببطاقة الحزب وجواز المرور، وتقدمت إلى مكتب رئيس إدارة المساكن (وهو موظف خطير له أثر كبير في حياة كل مواطن سوفيتي)، وكان الرجل ظريفًا تعود لقاء ذوي الشأن من رجال الحكومة، وكانت هذه البيوت من الوجهة الرسمية هي «بيوت العمال»، ولكنها لم يكن يسكنها إلا كبار الموظفين ذوي النفوذ السياسي العظيم، ويقيمون فيها ما داموا حائزين رضاء السلطات العليا.

وقال لي رئيس إدارة المساكن: «يبدو أن أوراقك كلها كاملة؛ ولذلك يجب عليك أن تقدم نفسك لمساعد رئيس القسم السياسي في هذا الجزء من المدينة، ثم تعود بعد ذلك إلي، وليس هذا إلا إجراءً شكليًّا لا يضيرك في شيء.»

– «ولكن ما شأن رجال القسم السياسي وهذا الأمر؟ لقد كان يبدو لي أن في هذه الأوراق أكثر من الكفاية.»

– «إن فيها ما يكفيني أنا شخصيًّا، ولكن هذا طريق من طرق الحكومة ورجال الهيئة السياسية العليا يمرون به كل يوم! وهذا يجعل للسكن على جانبيه شأنًا خاصًّا إذا صح هذا التعبير.»

وفهمت ما يرمي إليه من فوري، فهمت أني لن يُسْمَحَ لي بأن أسكن في بيت يطل على طريق فرهايسك الكبير إلا بعد أن يقر رجال الشرطة السرية بأن وجودي في ذلك المكان لا يعد خطرًا على حياة ستالين، حتى ولو كانت نوافذ مسكني لا تطل على ذلك الطريق.

وذهبت إلى موظف القسم السياسي المختص فألقى عليَّ الأسئلة المعتادة وأجبت عنها ووافق الرجل على طلبي.

ولكن تشاء الظروف ألا أسكن في هذه الشقة مطلقًا؛ ذلك أن البناء كان بناءً حديثًا لم يتم بعد إعداده للسكن، وكان إعداد الأثاث اللازم لحجراته يستلزم كذلك بعض الوقت، وفي هذه الأثناء لاحت في الأفق فرصة تعييني في منصب خارج البلاد، وهي الفرصة السعيدة التي كنت أتوق إليها وأراها في أحلامي ممتزجة بأشد الآلام، ولم يكن ثمة داع إلى الانتقال إلى المسكن الجديد قبل أن يقطع في هذا الموضوع برأي.

وكان الذي أثار موضوع سفري إلى خارج البلاد أن الأعمال المتصلة بالإعارة والتأجير أخذت تتسع، وتطلب هذا الاتساع إرسال مئات من الموظفين الأخصائيين في كل فرع من فروع الاقتصاد إلى إنجلترا وكندا وبخاصة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبهذا تذوَّق الحياة في خارج البلاد عدد من الروس يفوق عدد كل من استطاعوا الخروج منها في عهد الحكم السوفيتي كله، وكنت ممن يصلحون للمنصب الجديد، فأنا مهندس خبير بصناعة التعدين، واسع الخبرة متعدد نواحي النشاط، ولم يكن في سجلي السياسي شيء يؤخذ عليَّ من الوجهة الرسمية على الأقل رغم ما قاسيته في أيام التطهير، بيد أنه لم يكن من حسن السياسة أن أكون أنا البادئ بإثارة هذا الموضوع، بل إن إثارته من ناحيتي كانت في واقع الأمر مستحيلة؛ ذلك أنه كلما اشتدت رغبة الإنسان في السفر إلى خارج البلاد في تلك الأيام زاد حرصه على إخفاء هذه الرغبة كيلا يسيء فهمها — أو يفهمها على حقيقتها — المشرفون على ولائنا للعهد السوفيتي وإخلاصنا له.

واتفق أن كنت أبحث شئون الإعارة والتأجير مع موظف ذي شأن في تجارة البلاد الخارجية تربطني به صداقة طويلة العهد، ووجهت الحديث الوجهة التي أريدها في حذر وحذق ولم أجرؤ على الإيحاء له بأن الشخص الجالس أمامه رجل قادر على أن يقدم للبلاد بعض الخدمات في خارج حدودها، ولكنني استطعت أن أدخل هذه الفكرة النيرة في عقله، وبدا له أنها فكرة قد هبطت عليه من السماء.

وفاجأني بقوله: «ما قولك يا فكتور أندريفتش في السفر إلى أمريكا؟ إني أعرف أننا في حاجة إلى رجال في تلك البلاد أكثر من الذين أرسلوا إليها.»

فأجبته: «إني لم أفكر في هذا الموضوع قط، هذا إلى أني أقوم بعمل خطير هنا في مجلس الوزراء كما تعلم، على أنني إذا كنت ذا نفع في المجهود الحربي.»

ولم يكن صديقي هذا بالرجل الأبله ولم يخدعه ما تصنعته من مظاهر الاستخفاف وعدم المبالاة فقال لي: «سأنظر في هذا الأمر، ولك أن تثق بأني سأثير هذا الأمر في الدوائر صاحبة الرأي.»

وشكرت له فضله وإن لم أكن أظن أنه سيبر بوعده أو أجرؤ على الاعتقاد بأن اقتراحه سيثمر الثمرة المرجوة، كان ذلك في أواخر شهر ديسمبر، وبعد أسبوعين من ذلك الحديث دعاني بمفيلوف إلى حديث خاص في مكتبه، وحدثتني نفسي لحظة قصيرة بأن دعوتي قد تكون لها صلة بحلمي اللذيذ حلم السفر إلى أمريكا، فثارت لذلك إحساساتي واضطربت أعصابي، ولكني كنت مخطئًا في تقديري.

فلما دخلت على بمفيلوف قال لي: إنه دعاني ليستشيرني في موضوع رُمِيَ به رميًا؛ ذلك أن في البلاد عددًا من مصانع المعادن تشرف عليها إحدى الهيئات الكبرى، وهذه المصانع منتشرة في شليابنسك، وتوفوزي برسك ومولوتوف وشمالي القفقاس وغيرها من الأماكن، ولكن مركز إدارتها الرئيسي في موسكو، وقال بمفيلوف: إن العمل فيها لا يسير سيرًا مرضيًا وإنها في حاجة إلى يد قوية تصلح من شأنها.

وأضاف إلى ذلك قوله: «وأنا أحتاج إلى إنسان أثق به، أعهد إليه الإشراف عليها، وأظنك هذا الرجل، وأريد ألا تفهم أن في هذا تخفيضًا لدرجتك، وسأعيدك إلى مكانك في مجلس الوزراء بعد أن تعيد شيئًا من النظام إلى هذه المصانع، فما قولك في هذا؟»

واجتهدت في أن يبدو ردي بالقبول كأنه رد عرضي جاء عفو الخاطر، بل لقد تظاهرت بأني قد ساءني هذا بعض الشيء، أما الحقيقة فهي أني سررت منه، ذلك أني لم أكن أرجو أن تستغنى الحكومة عن رئيس إدارة مسئول لكي يعمل في خارج البلاد، أما إذا كنت موظفًا مشرفًا على بعض مصانع للمعادن فإن ذلك يزيد كثيرًا من الفرص التي تتاح لي للعمل في الخارج.

وكان مركز إدارة هذه المصانع في بناء من الأبنية المنخفضة الطويلة المتصلة التي تكون أحد جوانب الميدان الأحمر، والمطلة على الكرملن، وأعد لي مسكن في ذلك البناء، وجيء لي بعدد من الموظفين، واستطعت أن أسير العمل من هذا المكان باتصالي التليفوني الدائم بمديري المصانع الموزعة في كثير من أنحاء الروسيا.

ولم تكن ساعات العمل في ذلك المنصب الجديد مملة كما كانت من قبل، واستطعت أن أنال كفايتي من النوم بعد أن ظللت زمنًا طويلًا لا أنال منه إلا القليل، وكان في وسعي أن أرى من موسكو أكثر مما رأيت، وأن ألقى أصدقائي الذين أهملت رؤيتهم عملًا بقواعد مجلس الوزراء الصارمة، وحرصت لسبب لا أعلمه على ألا أترك ساعة تمر بي دون أن أفيد منها علمًا بالبلاد وأحوالها، والناس وما يحيط بهم من الظروف، ولعل قوة خارجة عني قد ألهمتني في ذلك الوقت أنني لن يطول بي المقام في بلادي وبين مواطني.

وتملكتني رغبة شديدة في سبر أغوار عقول من حولي من الناس لأعرف ماذا فعلت بهم الحرب، وقوَّى ما عرفته عنهم حبي لبني وطني وتقديري إياهم، فقد أدهشتني قوة صبرهم في محنتهم الشديدة، وفطنتهم وإدراكهم للحقائق السياسية، فقد كان الروس السذج يؤدون لستالين ما هو من حق ستالين، وللروسيا ما هو من حق الروسيا.

وكانت الحرب قد بدأت تتحول لصالحنا، ووضع لنا هذا وضوحًا لا شك فيه، وكانت المجزرة الدائرة حول ستالينجراد مجزرة رهيبة لا نظير لها في التاريخ، ولقي المحاربون فيها من الأهوال ما تعجز اللغة عن وصفه، على أن هول الصراع في حد ذاته كان بشيرًا بالنصر؛ ذلك أنه إذا كانت الحرب حرب فناء فسنكون نحن الغالبين.

لقد كانت الجيوش الألمانية بعيدة عن قواعد تموينها، وتعذر إرسال الإمداد إليها في فصل الشتاء الذي اشتد برده في تلك السنة شدة غير مألوفة، فكان عليهم أن يحاربوا بمن جمعوهم في الميدان من جنود، وما كدسوه فيه من عتاد، وهم جنود كثيرون وهو عتاد كثير ما في ذلك شك، ولكن الجنود والعتاد إذا لم تتوال عليها الإمداد كانت عرضة للنفاد، أما الروس فكان في وسعهم أن يقذفوا إلى الميدان بالدماء وبالحديد بلا انقطاع، ولم يكن الكرملن ليعترف بهزيمة الروس أمام ستالينجراد، إلا إذا أفنى الألمان نصف سكان الروسيا بأجمعها، وكان خط حديدي جديد قد أُنْشِئَ على امتداد نهر الفلجا استعدادًا لهذه المعركة الرهيبة، وظل هذا الخط يؤدي عمله بانتظام طوال الموقعة، تنقل عليه الإمداد إلى المدينة الدامية، كما كانت الجنود والعتاد تنقل إليها بطريق النهر نفسه.

وانتصرنا في آخر الأمر، وغرق الألمان في بحر من الدماء: دمائهم ودماء الروس أنفسهم، وكان لهذا النصر فضل آخر لا يقل في أهميته عن وقف الزحف الألماني وإن لم يذكره الناس لأنهم غفلوا عنه أو لم يقدروه حق قدره؛ ذلك أن الجيش الأحمر قد غنم في هذه الواقعة من الأسلحة الألمانية ما يكفي لتسليح ثلاثين أو أربعين فرقة، لقد كان كاتب ألماني هو الذي أشار على القواد الألمان أن يحاربوا بأسلحة أعدائهم، ولكن القواد الروس هم الذين عملوا بهذه النصيحة بعد واقعة ستالينجراد، ومن واجبنا إذن أن نضيف إلى ما جاءنا من العتاد الحربي من أمريكا بمقتضى قانون الإعارة والتأجير ما كسبناه من العتاد الألماني في ستالينجراد لنفسر بذلك نجاح الهجوم السوفيتي، لقد كانت غنائم الروسيا فيما بين نوفمبر سنة ١٩٤٢م ونوفمبر سنة ١٩٤٤م تشمل أكثر من أربعين ألف طائرة وسبعة عشر ألف دبابة، وخمسة وخمسين ألف مدفع ميدان، ومائة وثمانية عشر ألف مدفع رشاش، ومليونًا وخمسمائة ألف بندقية، نعم إن كثيرًا من هذه الأسلحة كان يحتاج إلى إصلاح فأصلح وتحولت أسلحة هتلر إلى صدره.

وكنت أرقب معركة ستالينجراد وأدعو لبلادي بالنصر، شأني في ذلك شأن كل مواطن سوفيتي مهما يكن شعوره بإزاء نظام الحكم القائم في البلاد، على أن هذا لم يكن يمنعني من الوقت نفسه من التفكير في نتيجة ما كان يدور من بحث حول مسألة سفري إلى خارج البلاد.

١  ك٣ يد٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤