الفصل الخامس

قطع الصلة بالماضي

قلما يشعر صغار الممثلين في مسرحية تاريخية عظمى بما في هذه المسرحية من عظمة؛ ذلك أن انهماكهم في تمثيل أدوارهم فيها لا يمكنهم من رؤية خطوطها الرئيسية، ولقد كنت أنا واحدًا من هؤلاء الممثلين في مستهل عام ١٩٢٩م، كنت أحد الشبان المتحمسين الذين تشبعت نفوسهم بالمبادئ السامية والخطط التي وُضِعَت في ذلك الوقت الذي أخذت فيه بلادي تستحث الخطى نحو ثورة جديدة أبعد غورًا من بعض الوجوه من ثورتها الماضية، والذي كان فيه ستالين وأعوانه المقربون منهمكين في كفاح مرير مع خصومهم في الهيئة السياسية العليا وفي الحزب الشيوعي كله إلى حد ما، يبذلون قصارى جهدهم لاستئصال بقايا النزعة الاقتصادية الرأسمالية والعقلية الرأسمالية، حتى يقودوا روسيا في طريق التنظيم الصناعي والإنتاج الزراعي الجماعي.

ومن أجل هذا أخذ كل ما لا يزال عالقًا بالثورة، ولكنه مطبوع بطابع الوهن والتردد، أو غير متفق مع مطالبها، أخذ كل هذا ينسلخ عنها، وأصبح الولاء للحزب، أي الواجب الذي تفرضه على الأعضاء طائفة معينة من الأهداف، أصبح هذا الولاء أجلَّ شأنًا من جميع المصالح الشخصية، وأضحت الآلة الجديدة — وهي رمز التنظيم الصناعي ومادته — ذات شأن خطير في حياتنا، يجعل لكل يوم من أيامها قيمة تعدل عدة أيام من حياتنا الماضية، فهي منهومة لا تشبع، ذات قوة خفية في حياة البلاد العادية، وخُيِّل إلينا أن ما يعانيه أصحاب النزعة الإنسانية من بلاء ليس إلا بقية من بقايا الماضي العجيب وأثرًا من آثاره.

وجرف هذا التيار الجديد آلاف الآلاف من الخلق — طائعين أو مكرهين — فانتزعهم من حياتهم المألوفة ودفعهم أمامه في مجارٍ جديدة، وكانوا في معظم الأحيان لا يجدون كفايتهم من الطعام أو الكساء، ولا يتطلعون إلى أمل وإن كان كاذبًا يخفف عنهم ما هم فيه من شقاء، وأنا عليم بالحادثات الفردية التي وقعت خلال هذا التطور الجديد بطبيعة الحال، أعرف ما هو خير منها وما هو شر، ولكني كنت أنظر إليها بعينَي حدث في الثالثة والعشرين من عمره، لُقِّن مبادئه السياسية في أحضان لجان الشباب أو في الجيش الأحمر، وآمن بأن الروسيا مقبلة على مستقبل خير من ماضيها، وكنت لذلك من أشد عمال مصنعنا يقظة وأكثرهم شعورًا بالواجبات الاجتماعية، يثلج صدري ما أبذله من الجهود في القيام بواجباتي اليومية الإنشائية.

ولقد كانت هناك عيوب كثيرة وآلام شديدة تقض مضاجع الكثيرين، ولكن هذه العيوب والآلام كانت تصحبها حماسة مروعة وآمال تلهب الصدور، لقد كان الأمل في حسن مستقبل البلاد قويًّا جياشًا؛ ولهذا لم يكن من قبيل المصادفة المحضة أنني اخترت هذه الفترة بالذات لأنضمَّ إلى الحزب الشيوعي، وكنت فيه واحدًا من تلك الأقلية التي تحركها الآراء الكامنة وراء المجهود الإنتاجي العظيم، وتملكتني أنا ومن معي رغبة في العمل كانت تبلغ من القوة أحيانًا حد الجنون، وقد يكون في مواطنيَّ من يصبرون على الثورة الجديدة وهم ساخطون مكتئبون، كما صبروا من قبل على آلام القحط العظيم، وقد يقبلونها على أنها شر طبيعي لا بد منه، أما أنا وأمثالي ممن اعتصموا بالمبادئ وامتلأت قلوبهم إيمانًا بالعهد الجديد، فقد بدا لنا أن ما نعانيه من آلام إنْ هو إلا ثمن نشتري به المستقبل السعيد الذي ترتقبه البلاد وأبناؤها، وخُيِّلَ إلينا أن التنظيم الصناعي مهما يكن الثمن الذي يُبْذَل فيه، وانتشال الأمة من وهدة التأخر، هما أنبل الأغراض التي يمكن أن يعمل لها إنسان.

وهذا هو الذي يوجب عليَّ أن أقاوم ما قد تنزع إليه نفسي من الحكم على حوادث تلك الأيام في ضوء ما أشعر به اليوم، لقد كانت حياتي كلها عملًا وكدحًا وحرمانًا، وبدا لي أن المطاعن التي يوجهها إليَّ هذا النظام «الأحرار الذين ولَّى زمانهم» والذين لا همَّ لهم إلا الانتقاد ثم البقاء خارج دائرة الجهود؛ خُيِّلَ إليَّ أن هذه المطاعن لا تفيد إلا في بث الملل والسآمة في النفوس.

واغترق العمل جهدي وتفكيري، اغترقه عملي رئيسًا فنيًّا للعمال في مصانع تطريق المعادن، وما عقدته من صلات جديدة مع الموظفين وذوي النفوذ من الشيوعيين، وما يلقيه عليَّ الاشتراك في تحرير صحيفة المصنع من واجبات عاجلة، وكنت مولعًا بالعمل، لا يخطر ببالي قط أني — بعد أن أكدح طول اليوم في حر المصنع أو المعمل الكيميائي وصخبهما — قد أكون متعبًا لا أستطيع حضور الاجتماعات أو سماع الدروس الفنية، أو القيام بالمشروعات الاجتماعية أو أداء بعض الواجبات الكتابية، كأن التعب من أوهام الممولين.

وكانت الصحافة والإذاعة ترددان العبارات التي اتخذت شعارًا للعهد الجديد، اللحاق بالبلاد الرأسمالية وسبقها! إلى العمل على تصنيع الروسيا والقضاء على طبقة كبار الملاك! وكأن البلاد كلها قد استحالت مصنعًا ضخمًا تغلي مراجله، فكنا نأكل وننام ونعمل وسط عجيج المعارك، وكانت حياتنا تغمرها اجتماعات المال والدرس المتواصل، والاستماع إلى الخطب الرنانة طعنًا على أعداء البلاد من أهلها ومن الأجانب عنها.

وكان يخيَّل إلينا أن مناقشة القرارات التي تهبط علينا من سماء الكرملن بألفاظ من نار لا تقل حمقًا عن مناقشة الصواعق أو الزلازل، لقد كنا نقبل هذه القرارات كأنها وحي من السماء، وكانت بطبيعة الحال تُشْرَح لنا وتُفَسَّر في خلال دراساتنا السياسية التي لم تكن تنقطع أبدًا، ولم يكن ما يقال لنا يتفق حتمًا مع ما تضمره عقول الزعماء في الكرملن، ولكن عقولنا لم تفطن إلى هذه الحقيقة في تلك الأيام.

ولم يكن لي قط شأن بالشرطة السياسية المعروفة «بالقسم السياسي»، على أني كنت أحسب أن الخطر المحدق بالبلاد في تلك الساعة الحاسمة من حياتها يحتِّم فرض الرقابة على كل إنسان فيها، ولم يكن أحد تسوءُه هذه الرقابة إلا أبي وأمثاله من الشيوخ ذوي الذكريات الماضية الطويلة، ولكن هذا التحذلق كان يبدو لنا في غير موضعه، ولا فرق بينه وبين الدعوة للسلم في ميدان القتال.

وجاء إلى مصنعنا في أوائل عام ١٩٢٩م رجل من كبار البلاشفة القدامى يُدْعَى كرستيان ركوفسكي، وألقى خطبة في اجتماع عام، شهده عدد كبير من المستمعين، وتكاد تكون هذه آخر مرة أُجِيز فيها لرجل من أعداء ستالين أن يتحدث إلى الجماهير، وجاء أبي بعد بضعة أيام يقص علينا نبأ هذا الاجتماع، وكان في أثناء حديثه مكتئبًا، وأنا أدرك الآن سبب هذا الاكتئاب.

وكان مما قاله لنا: «لقد انتقد ركوفسكي زعماء الحزب، ولست واثقًا من أن هذا النقد صحيح كله أو أن كثيرًا من العمال يوافقونه عليه، ولكنا فهمنا من قوله أن هناك نزاعًا على السلطة، وأن كفة ستالين هي الراجحة في هذا النزاع، وكان بعض المستمعين يميلون إلى جانب ركوفسكي ويعطفون عليه، وأخذوا يلقون عليه الأسئلة ويصفقون بأيديهم تأييدًا لرأيه، ثم غادرنا ركوفسكي، ولم تكد تشرق شمس اليوم الثاني يا ولدي حتى استدعى رجال القسم السياسي العمال الذين أظهروا شيئًا من العطف عليه …»

وبعد بضعة أيام من ذلك الوقت ذهبت إلى كزلوف أمين سر اللجنة الإقليمية (الرايكوم) للحزب، فلما أقبلت عليه حياني أحسن تحية، وكان يعرف أني أوشك أن أتقدم بطلب رسمي للانضمام إلى الحزب، ويرى فيَّ جنديًّا من جنوده كبير القيمة عظيم النفع، فقد أصبحت جم النشاط في شئون المصنع والمدينة على السواء، وأخذ اسمي وصورتي يظهران كثيرًا في نشرات النقابات والنشرات الصناعية والمحلية التي تصدر في المدينة.

وقال لي كزلوف وهو يضحك: «إن أباك يا رفيق كرافتشنكو رجل شاذ غريب الأطوار.»

فسألته وقد استولى عليَّ بعض القلق: «ماذا حدث؟»

– «لم يحدث شيء ذو بال، وكل ما في الأمر أن عددًا قليلًا منا ممن ينتمون إلى لجنة الحزب الإقليمية ذهبوا إلى الإدارة الميكانيكية، حيث لا يزال لزيارة ركوفسكي بعض الأصداء الفاسدة، وأردنا أن نتحدث إلى عدد قليل من الصناع لنتعرف حقيقة الموقف هناك، فسألنا منهم أفرادًا قلائل متفرقين، ثم تقدمنا آخر الأمر إلى أبيك الشيخ.»

وسألته أنا بأرقِّ الألفاظ وأكثرها مجاملة: «كيف تسير الأمور؟ فماذا كان جوابه في ظنك؟ لقد حدجني بنظرة فاحصة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي ثم قال لي: لا تتدخل في عملي، إن هذا مصنع لا نادٍ، وإذا أردت أن تعرف أفكار العمال فاسأل عنها قسمك السياسي فإن من عمله أن يعرف هذه الأفكار.

ما أغرب أباك يا فكتور أندريفتش! وكان سينيا فلجن معي في أثناء الحديث وهو عضو في لجان الشباب كما تعرف، ولهذا حاول هو أيضًا أن يحمل أباك على الإفصاح عن رأيه فقال له: إنك يا مواطن كرافتشنكو من العمال القدامى المحترمين، وقد حاربت القيصر، ونحن أعْرَف الناس بك، وهذا هو السبب الذي يدعونا إلى أن نعرف أفكارك، فما كان من أبيك الشيخ إلا أن ثار وقال محتدًّا: اسمعا أيها الشابان، إنكما لا تزالان طفلين في السياسة، وليس في وسعي أن أناقشكما في شيء من الشئون الجدية.»

ثم ضرب كزلوف صفحًا عن الموضوع كله وقال في شهامة ورحابة صدر إن الأقوال التي صدرت من أبي ليست إلا سَوْرة من شيخ مكلوم طاعن في السن ساخط على ما ارتقى إليه العالم الجديد، ثم سألني: «ومتى تتقدم بطلب الانضمام إلى الحزب؟»

– «في القريب العاجل على ما أظن.»

– «حسن! سأحضر الاجتماع لأزكيك، فإنا في حاجة إليك يا كرافتشنكو؛ لأن أمامنا أعمالًا شاقة كثيرة، وليس في مقدورنا أن نعتمد على الجيل القديم، بل ليس في مقدورنا أن نعتمد على خير رجال ذلك الجيل.»

وهكذا كان كبار الشيوعيين يغرونني من آن إلى آن بالانضمام إلى الحزب، وكانوا يقولون لي إني ما دمت أعمل معهم وأعينهم في كفاحهم من أجل الحياة الجديدة، فلِمَ أتنحى عنهم من الوجهة النظامية، والحق أني كنت متفقًا معهم في كل شيء، وكنت منضمًّا إليهم بقلبي وآمالي؛ ولذلك اعتزمت أن أنضم إلى الحزب مخلصًا لمبادئه، لا تخالجني فيها ريب ولا هواجس، سأنضم إلى الجيش العامل على إقامة صرح العالم الصناعي الجديد والعالم الاشتراكي الجديد.

وكنا في صحيفة المصنع نستمتع بحرية واسعة داخل دائرة نظام الحزب، ولم يكن بين محرري الصحيفة مَنْ لم ينضم بعدُ إلى الحزب إلا أنا ورجل آخر يُدْعَى بلسكوف، وكانت الصحيفة في بادئ الأمر أسبوعية ثم أصبحت فيما بعد يومية، وكان يوزع منها نحو ٣٥٠٠٠ نسخة، وكان يقرؤها بطبيعة الحال كل شخص يعمل في مصانع بتروفسكي-لينين تقريبًا، بل إنها تعدَّت دائرة المصنع وانتشرت بين رجال الاقتصاد وبين موظفي الحزب في الإقليم كله بل وفي موسكو نفسها.

وكان كل ما يُكْتَب في الصحيفة يمر بطبيعة الحال على الرقيب، ولم يكن يسمح لها بأن تنشر شيئًا يمكن أن يلقي ظلًّا من الشك على التنظيم الصناعي أو على سياسة الحزب الشيوعي، والحق أن أحدًا لم يكن يدور بخلده أن يكتب شيئًا من هذا القبيل إلا إذا كان بعقله خبال، أما مهاجمة إدارة المصنع وموظفي الحزب والنقابات، وما كان يحدث في أعمال الإنتاج والإدارة من أخطاء فردية معينة، فهذه كلها كان يُسْمَح بنشرها، وكان القراء يُخْدَعون بهذا فيعتقدون أن الصحيفة تعبر عن الرأي العام.

وكان النقد الذاتي — سمو كريتيسكا — من أهم شعائر ذلك العهد، وكان الناس جميعًا يشجعون على أن يقولوا «كل ما يعرفون» من العيوب والأخطاء والوسائل التي يمكن أن يستعان بها على الإصلاح في الصحف العامة، وفي صحف المصانع والمزارع، وفي النشرات المعروفة «بأوراق الجدران»، وكان هذا الانتقاد من الوسائل التي ابتُكِرَت لتحسين نوع العمل، ولكنه كان في بعض الأحيان سوطًا يسلطه كبار البيروقراطيين على رءوس صغارهم.

وكانت المصانع وقتئدٍ لا تزال تديرها هيئة ثلاثية مؤلفة من ممثلين للإدارة والحزب ونقابات العمال، وفي هذا الجم الغفير من الموظفين الذين يراقب بعضهم بعضًا كان الانتقاد الذاتي ينقلب في بعض الأحيان إلى وسائل خفية للنزاع على المناصب والسلطة.

وألقيت بنفسي في تيار هذا الانتقاد الذاتي بحماسة أزعجت بعض زعماء مصنعنا، فأخذت أهاجم ما فيه من عيوب مهاجمة عنيفة شريفة غير عابئ بمن يصيبه الضرر من جراء هذا الهجوم أيًّا كان مركزه، وسرعان ما أدركت السبب الذي من أجله أخذ بعض ذوي المكانة في المصنع يتقربون إليَّ على غير انتظار؛ فقد كانوا بلا شك يعتقدون أن خير ما يضمن لهم مراكزهم أن يكسبوا صداقة شاب مرهف القلم يسدده إلى أولئك الرؤساء المتأخرين المجاملين.

ولم تكن مقالاتي تُنْشَر في صحيفة المصنع وحدها، بل كانت تظهر كذلك في نشرات خاركوف ودنيبروبتروفسك التي كنت مُراسلًا لها في المصنع الكبير، وكانت الصحف التي تنطق بلسان الحزب في المدينة تعلِّق على مقالاتي وتضرب بها المثل لما يجب أن يكون عليه «الشباب العامل».

وماذا يظن القارئ أني كنت أكتب فيه؟ كنت أكتب في الإسراف الذي لا يرتضيه الضمير، وفي التلف الذي يصيب السلع، وفي العمال الذين لا يقدرون عُددهم وآلاتهم التقدير الواجب، وفي التكاليف الباهظة التي تتكلفها كل وحدة من إنتاج مصنعنا إذا قيست إلى ما يتكلفه مثلها في مصانع السويد وأمريكا، وفي الموقف غير اللائق الذي يقفه الرفيق فلان من العمال، وفي رداءة نوع المنتجات المادية، وفيما يمكن إدخاله من الإصلاح على بعض وسائل الإنتاج؛ لنقتصد بذلك آلاف الأيدي العاملة.

على أن أكثر ما كان ينزعج له المشرفون على الحياة الرتيبة في المصنع تلك المقالات العنيفة التي كنت أهاجم فيها الظروف المحيطة بالعمال المقيمين في الثكنات، وقد أوضحت في هذه المقالات أن الأجور مرتفعة في ظاهرها ولكنها لا تتمشى مع الأثمان الجديدة التي تباع بها المأكولات في مطاعم المصنع ومخازنه، وتساءلت: متى يتم بناء المساكن التي كثر التحدث عنها؟ ولماذا يعيش بعض الموظفين في رغد من العيش على حين أن الكثيرين من عمال المصنع لا يجدون ضرورات الحياة؟

وكانت نتيجة هذه الحملات الصحفية أنْ أصبح لي كثيرون من الأعداء الأقوياء، دامت كراهية بعضهم لي كثيرًا من السنين، ولكني كسبت أيضًا كثيرًا من الأصدقاء الأوفياء، وكان أخص ما لقيت فيه تأييدًا قويًّا شكواي المتكررة من كثرة الموظفين في المصنع كثرة لا تتناسب مع إنتاجه؛ ذلك أني استخرجت من بعض الصحف الفنية إحصاءات تدل على أن مصانع صهر المعادن في السويد تستخدم موظفًا إداريًّا واحدًا، فيما نستخدم فيه نحن موظفَين أو ثلاثة موظفين، وكان مما قلته: إن ذلك يُحدث تضاربًا في العمل، ويبطئ من سيره، ويزيد نفقات الإنتاج.

وكان الانتقاد الذاتي آخر ما بقي من الوسائل التي تعبر بها الطبقات الدنيا في الاتحاد السوفيتي عن قوتها، وكانت في حد ذاتها نوعًا من الرأي العام، وقد أفلحت في كبح جماح الموظفين المحليين وحالت دون الشيء الكثير من مكرهم وغطرستهم، وإن لم يكن لها أثر في السياسة العليا ولا في القرارات التي تصدرها السلطة المركزية في موسكو.

ولما أقبلت على والدي لأعلن له أني أريد الانضمام إلى الحزب شعرت بشيء من الارتباك، وكان منشأ ارتباكي هذا أسبابًا أحس بها، ولكن يصعب عليَّ أن أوضحها لنفسي؛ لأن أصولها مستقرة في أعماق عقلي، حيث كانت ذكريات مُثُل الطفولة العليا تحيا حياتها الخاصة بها.

وقال لي أبي: «لقد كنت أعرف أنك ستنضم إلى الحزب في يوم من الأيام سواء أكان ذلك اليوم قريبًا أم بعيدًا، فقد كنت أراقبك عن كثب وأرى صلاتك بالنشاط السياسي تزداد يومًا بعد يوم، فأنت تكتب في السياسة وتدرسها، ولكني لا أقول لك إن انضمامك هذا يسرني ويثلج صدري كثيرًا، فأنت نفسك تعلم مقدار ما يحيط بنا من المظالم وما بين الطبقة الحاكمة والشعب من فروق تزداد على مدى الأيام … وأحب أن أعرف كيف تنظر إلى هذه الأشياء؟ وماذا يدور في خلدك؟»

– «إني ليسرني يا أبت أن تسألني هذا السؤال، وأحب أن أتحدث إليك حديثًا صريحًا، وأنا شاكر لك فضلك عليَّ، فأنا مدين لك بالشيء الكثير، وأنا أجلُّك لشرفك ونزاهتك وما لك في الثورة من ماضٍ مجيد، ولكني أرجو منك أن تفهمني على حقيقتي، فأنا أكاد أبلغ الرابعة والعشرين من عمري، وقد شببت وعملت مع رجال من ذوي الآراء الحديثة في محيطٍ كلُّ مَنْ فيه مخلص لهذه الآراء والخطط التي توضع لإنهاض البلاد في المستقبل، ولم أقفز إلى الحزب قفزة، بل إن إيماني بمبادئه نما في قلبي على مهل، حتى شعرت آخر الأمر كأني من رجال الحزب.

وأنا أعلم أن في الحزب نقائص وعيوبًا وسعيًا وراء المناصب، وأن فيه أقذارًا ومظالم تكتنف الحياة اليومية العملية؛ ولست أحب هذه الأشياء أكثر مما تحبها أنت، ولكني أعدها مرحلة من المراحل ستنقضي حتمًا؛ ذلك أن تحويل قُطر بدائي إلى دولة اشتراكية صناعية حديثة عمل ضخم يتطلب جهودًا جبارة، ولا يمكن النهوض به من غير أخطاء، بل قل: من غير مظالم، ولكني لا أريد أن أتنحى عن هذا العمل وأكتفي بتوجيه النقد إليه، بل أريد أن أعمل مخلصًا في داخل الحزب وأقاوم ما فيه من شر وأؤيد ما فيه من خير.

ولقد فكرت طويلًا قبل أن أخطو هذه الخطوة، وليس ثمة سبيل يُعْرَف بها هل يسير الحزب في الطريق السوي إلا سبيل التجربة ومر الزمن، ولكني أومن بغاياته وأريد أن أبذل ما أوتيت من جهد لتحقيق هذه الغايات، ومهما يكن من أمرك أنت يا والدي فإنك لا تعارض فيما نريده لبلادنا من نهضة في الصناعة، كما أنك لا تعارض في استبدال الجرارات بالخيول المنهوكة الخائرة القوى، ولا تعارض في السماح إلى العمال بأن ينضموا باختيارهم إلى المزارع الجماعية.»

ونظر إليَّ نظرة قاسية ولكنها خالية من الغضب وقال: «أنا يا فيتيا لا أعارض في هذه الأشياء بطبيعة الحال، وأنا أعلم الناس بشعورك نحوها، بل إني في واقع الأمر أتبين نفسي فيك، فقد كنت في شبابي أسلك هذا المسلك نفسه، كنت أطيع وحي ضميري ولا آبه بنفسي ولا بزوجتي ولا بأولادي؛ ذلك أن دينًا أيًّا كان خير من لا دين، أتذكر قول لُك luk في كتاب جوركي الأعماق الدنيا Lower Depths: إذا اعتقدت بوجود الله فهو موجود، وإذا لم تعتقد بوجوده فهو غير موجود. ولقد وجدت أنت دينًا تؤمن به وأنا أدعو لك من أعماق قلبي بالخير والتوفيق.

ولكن نصيحتي لك يا فيتيا أن تبقى قريبًا من الشعب ولا تقدر فائدتك له بما تناله من المناصب بل بنوع الحياة التي يحياها الشعب، وهل هو أكثر رخاءً مما كان وأسعد حالًا وأوسع حرية، وإذا اقتربت منه بحق وفهمته على حقيقته، وأعنته في أموره، فإني سأظل أبد الدهر شاكرًا لك فضلك، لا تعشْ بالألفاظ تتخذها لك شعارًا، واحكم على الساسة بأعمالهم لا بأقوالهم، واعلم أن الذين يقيمون في الكرملن يجيدون وضع النظريات، فلننظر نحن مقدار نجاحهم في تطبيقها، وأرجو ألا تجد قط ما يزعزع إيمانك!»

وسكت هنيهة ثم واصل حديثه مُسَلِّمًا ببعض آرائي: «ومن يدري لعل جمهور الشعب ينال على أيدي أبنائنا حرية حقة وحياة أسعد من حياته السابقة.»

– «لست أشك يا أبت في أنه سينالهما على أيدينا.»

وظل هذا الحديث منقوشًا في ذاكرتي في السنين التي أعقبت تلك الأيام، حين كنت أكدح في الحزب وفي سبيل الحزب، وكنت أحس كأن أبي يراقبني ويحكم على أعمالي، وينظر إلى الحقائق وإلى الأعمال من وراء الألفاظ.

وقُبِلْتُ عضوًا في الحزب في عام ١٩٢٩م، وخُيِّلَ إليَّ أن هذا الحادث أعظم أحداث حياتي وأجلُّها شأنًا، فقد أصبحت به أحد الطائفة «المختارة» في روسيا الجديدة، فلم أكن بعدُ فردًا عاديًّا يختار لنفسه بملء حريته من يشاء من الأصدقاء، ويعمل لما يشاء من المصالح، ويعتنق ما يشاء من الآراء، بل وهبت نفسي أبد الدهر إلى فكرة وقضية، وأضحيت جنديًّا في جيش منظم أحكم تنظيم، طاعة المركز الرئيسي فيه أولى الفضائل في نظري أو قل: إنها تكاد تكون الفضيلة الوحيدة، جيش لا يسمح لمن ينضم إليه من الجنود أن يجتمعوا بغير المرغوب فيهم من الأفراد، أو أن يستمعوا لغير المرغوب فيه من الألفاظ.

واستُدْعِيت أنا ومدير قسمي في يوم من الأيام بعد انضمامي إلى الحزب إلى مكتب مدير المصنع الذي كنت أعمل فيه، فلما قابلناه قال لنا: إن نوع المواد التي كانت تورد من عندنا إلى مصنع درزكسفكي في الدُّنباص أخذت تسوء، وإن علينا أن ننتقل إلى هذا المصنع لساعتنا، وأن نبحث عن علة فساد موادنا وعدم وفائها بأغراضه، وأن نقدم له تقريرًا بنتيجة هذا البحث.

ودامت هذه الرحلة أسبوعًا، عدت بعده إلى المدير وقدَّمت له تقريرًا شاملًا، وظننت أني وضعت إصبعي على مواضع الداء فيه، وعرضت عليه عدة اقتراحات لعلاجه، وسُرَّ المدير من هذا التقرير، وقال إنه سيوصي بمنحي مكافأة مالية قيِّمة جزاءً لي على خدماتي الطيبة، وسألني هل يرضيني هذا؟

فأجبته: «لست في حاجة إلى المال، ولكني في حاجة إلى مسكن، فإن أبي وأحد أخويَّ يعملان في هذا المصنع كما لا يخفى عليك، ولكنا ظللنا عدة سنين لا نحيا حياة الأسرة الحقة لحاجتنا إلى المسكن الصالح، بل إننا في هذا الوقت لا نعيش معًا، وفضلًا عن هذا فإن أمي مضطرة إلى البقاء في الريف.»

ووعدني المدير بتحقيق رغبتي وقال لي: «سأرى ماذا أستطيع أن أفعله لك.» ولم تمضِ إلا بضعة أيام حتى كان آل كرافتشنكو يعيشون جميعًا في شقة مريحة من أملاك المصنع مبنية على الطراز الحديث، وبذلك استطاعت والدتي آخر الأمر أن تغادر بيتنا في مزرعة دق الأجراس التعاونية التي كانت تعيش فيها من قبل.

فاضت أنهر الصحف في بلادنا وتحدثت صحف البلاد الأجنبية نفسها في عام ١٩٢٨م بما سمته حادث شختى، وتفصيل ذلك الحادث أن جماعة من كبار المهندسين الذين يعملون في صناعة الفحم قُدِّموا للمحاكمة في موسكو على مشهد من مراسلي الصحف الأجنبية والسوفيتية، ورسمت آلات التصوير مناظر المحاكمة، ونُقلت إجراءاتها على أمواج الأثير إلى جميع أنحاء البلاد الروسية.

وكأن أرباب الكرملن كانوا بعملهم هذا يقولون للشعب: «ذلك هو سبب ما لدينا من عيوب كثيرة على جانب عظيم من الخطورة، إن عمال الرأسمالية وبقايا العهد القديم يعملون عن قصد لوقوع الحوادث في المصانع ولنقص الإنتاج وتعطيله.»

وكانت هذه المحاكمة أولى المحاكمات الصورية الاستعراضية التي صارت فيما بعد عادة مألوفة في البلاد، والتي يقر فيها الناس في سكون وهدوء بجرائم اقترفوها ضد الدولة، أما في محاكمة شختى فقد ظل بعض المتهمين ينكرون ما وُجِّهَ إليهم من التهم، ويكافحون للنجاة من القتل، وكان لا بد من منع هذا الشذوذ فيما يجدُّ من محاكمات في المستقبل.

وحدثت بعد سنين من ذلك التاريخ محاكمة أخرى أخطر من هذه شأنًا وأقرب منها إلى المسرحيات، وكان المتهمون فيها أيضًا من المهندسين، وكانت هذه المحاكمة مظاهرة كبرى اتُّهِمَ فيها جماعة من المهندسين بأنهم تزعَّموا حزبًا صناعيًّا موهومًا، يهدف إلى قلب النظام السوفيتي، وإعادة الرأسمالية والاستيلاء على أزِمَّة الحكم، وصدَّقت أنا هذه المزاعم رغم ما فيها من سخافات ومتناقضات، كما صدَّقها الكثرة الغالبة من أهل البلاد؛ ذلك أن أنصار الحزب الشيوعي من رجال الجيل الجديد كانوا يقبلون من غير مناقشة المزاعم القائلة بأن كثيرين من المهندسين والعمال الفنيين الذين نشئوا قبل الثورة يناصرون بطبيعة الحال العهد القديم ويقاومون بقلوبهم — إن لم يكن بأعمالهم — ما يُبْذَل من الجهود لتحويل الروسيا إلى بلاد صناعية.

ولم يكن أحد يشك في أن من الواجب أن يُسْتَبْدَل بأولئك المهندسين الذين ورثتهم البلاد من العهود الماضية جيل جديد خلت عقولهم من ذكريات الماضي، يدينون بالولاء للمبادئ السوفيتية ولخطط الحزب الشيوعي، وكان أكبر مورد تستمد منه هذه الطائفة هو الشبان من الصناع والموظفين، ومن الصناع المنضمين إلى الحزب، أو الذين يفكرون تفكير رجاله على الأقل، ومن أجل هذا اتخذت الدوائر العليا قرارًا يقضي بإنشاء «آلاف» من شباب الحزب ونقابات الصناع؛ ليدرسوا في الجامعات والمعاهد الفنية الحديثة والقديمة، وكانت هذه خطة وَضَعت أسسها الهيئة السياسية العليا ذات السلطان الأعظم في البلاد.

وجاءت في عام ١٩٣٠م هيئة ممثلة للجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب لتبحث في شئون مستخدمي مصنعنا وجهوده، واستُدْعِيت أنا إلى مكتب المدير، فلما دخلت الحجرة رأيت على كرسي مدير المصنع، خلف مكتبه الفخم وعُدده التلفونية التي يخطئها الحصر، رجلًا غريبًا عرفت من الصور التي كنت أراها من قبل أنه أركادي روزنجولتز من أكبر الزعماء أصحاب السلطان العظيم في موسكو، ومن أبرز أعضاء اللجنة المركزية.

وتبسم الرجل لي وقال وهو يسلِّم عليَّ بيده: «كيف حالك يا رفيق كرافتشنكو؟ لقد استدعيتك لأني وصلتني الأنباء عن أعمالك، فأنت شديد الاهتمام بتعقيل١ الإنتاج، وهذا عمل جميل، وأنت جريء فيما تكتب في صحافتنا، وهذا أيضًا حسن، فهل لك من حاجة عندي؟»

– «لا، وأشكرك يا رفيق روزنجولتز.»

– «حسن، هل لك أن تحدثني عن نفسك؟»

وألقيت على مسامعه ملخص تاريخ حياتي، فحدثته عن نشأتي في أسرة ثورية، وعن عملي في المزرعة التعاونية، وعن الفترة التي قضيتها في مناجم الفحم، وكيف انضممت إلى لجان الشباب، وعن خدمتي في الجيش الأحمر، وعن عملي في هذا المصنع، وعن كيفية انضمامي إلى الحزب، وما أكثر ما قصصت هذه القصة! ذلك أن الكشف عن حياة الإنسان الخاصة في المجتمع السوفيتي يكاد يشبه الطقوس الدينية في غير تلك البلاد، يؤديه الإنسان بلسانه وبقلمه ردًّا على أسئلة مكتوبة، تُقَدَّم له ليجيب عنها إذا ما ثارت حوله أقل شبهة.

واستمع إليَّ روزنجولتز وهو يدرسني دراسة دقيقة، ثم قال وكأنه وصل من هذه الدراسة إلى نتيجة: «إنك لا تزال شابًّا لم تبلغ بعدُ الخامسة والعشرين من عمرك، والحزب في حاجة إلى مهندسين صناعيين، فهل ترغب في الدرس؟ إن كنت ترغب فيه فإنَّا سنرسلك إلى معهد فني تقيم فيه بضع سنين، وستفيد الحزب بأن تهبه خير ما لديك من جهود؛ ذلك أن الحزب في حاجة إلى فنيين من رجاله المفكرين ليقوموا هم بتنظيم البلاد الصناعي مخلصين لمبادئه وسياسته.»

– «شكرًا لك، وإني ليسعدني أن أضع كل جهودي في خدمة بلادي.»

وجاء سرجو أورزنكدز نفسه إلى المصنع في اليوم الثاني، ودخل قسمنا على حين غفلة ومن ورائه عدد كبير من موظفي المصنع والإقليم الذي يقوم فيه، واضطربت حين رأيته كأني أرى ستالين نفسه؛ ذلك أن أورزنكدز كان من أقرب المقربين إلى ستالين، وهو الوزير المشرف على شئون الصناع والفلاحين، ورئيس لجنة الإشراف المركزية التابعة للحزب، وكان أول خاطر مر بخلدي حين شاهدته أنه شبيه كل الشبه بالصورة الشمسية المعلقة على جدار جمعيتنا التعاونية في حوض الدنتز!

وكان يرتدي نفس القبعة الرمادية الطويلة، ونفس السترة الزرقاء ذات الطوق الرمادي، وقد حشا سرواله الواسع في حذاءين من جلد لين يصلان إلى ركبتيه، وكان أنفه الأقنى ينحني انحناءً أفخم منظرًا مما كنت أشاهده في الصورة، أما شارباه فقد كانا يبرزان من تحت منخريه أوسع مما كانا في صورته، وشعرت حين رأيته كأني أعرفه طوال حياتي، وأن في بساطته وابتسامته سرًّا قد أزال ما بينه وبيني من بون شاسع يفصل بين إله هبط من سماء الكرملن ومخلوق عادي لا حول له ولا طَوْل.

وقدمني مدير المصنع له.

وهدر أورزنكدز وهو يمد يده إليَّ: «نعم، لقد سمعت عنك، كيف يسير العمل؟»

فقلت له: «إنه يسير سيرًا حسنًا.» ثم أضفت إلى ذلك قولي: «ولكن في الإمكان أن يكون أحسن مما هو.»

– «هذا كلام طيب! وماذا نستطيع فعله لنجعله أحسن مما هو؟»

فأجبته: «ليس من السهل أن أجيب عن هذا السؤال في بضع كلماته.»

فضحك أورزنكدز وقال: «لا تستحِ وكن صريحًا.»

فقلت: «حسن، يستطاع ذلك بشيء مما سأقول، إن لدينا إسرافًا في الأجهزة وفي الرجال الذين يراقب بعضهم بعضًا، لقد اطلعت على سجلات هذا المصنع نفسه في السنين السابقة لعهد الثورة، فوجدت أن موظفيه الإداريين يكادون يزيدون الآن ٣٥٪ على ما كانوا من قبل، وأرى أن ذلك خطأ يجب تلافيه، إن كل إنسان هنا يقف في وجه الآخر؛ وتبعة النتائج ملقاة على عاتق كل إنسان، أي إنها لا تُلْقَى قط على إنسان ما، والعمل رديء والنفقات كثيرة، ولست أدري لِمَ استطاع الرأسماليون أن يجنوا من هذا المصنع أرباحًا، على حين أننا نتكبد فيه خسائر، إن العمال يشتغلون كما كانوا يشتغلون في الماضي؛ ولهذا أرى أن الذنب ذنبنا نحن.»

ولاحظت وأنا في شدة حماستي الكلامية أن موظفي المصنع قد بدأ يساورهم القلق، وسعل المدير وارتجف ممثلو الحزب والنقابات، ووقف دولاب العمل في القسم، وخرق أذني صوت من مكان ينادي: «إنك محق يا فكتور أندريفتش، إنك محق!»

وواصلت حديثي وقد نسيت نفسي في أثناء حماستي الكلامية فقلت: «نعم، كثيرًا ما أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا، إن النظام ضعيف لأن الذين يفرضونه كثيرون، وكل ما نحتاجه يا رفيق أورزنكدز هو إدارة موحدة وتبعة موحدة، من غير أن تتدخل فيها جهات كثيرة.»

فقال مرة أخرى: «هذا شيء جميل، وأنت على حق بوجه عام، والفُزْهُد (الزعيم) نفسه يفكر هذا التفكير، ومن الواجب أن تذهب لتدرس يا رفيق كرافتشنكو.»

وسلم عليَّ بيده، وخرج ومن ورائه أتباعه وقد تملَّكهم الخوف، ولكنه التفت إليَّ بعد خطوات قليلة وقال لي: «إذا حزبك أمر أو كانت لك حاجة عاجلة فاكتب إليَّ تجدني في عونك.»

وكان يسرني أن أقبل هذه الدعوة في السنين الكدرة التي أعقبت ذلك الوقت، وشعرت من تلك الساعة كأن أورزنكدز قد «تبناني» وأن لي نصيرًا في مجالس «الأرباب» القادرين، وظللت إلى أن مات في أوائل عام ١٩٣٧م لا يفارقني شعوري بأن أحدًا لا يستطيع أن يمسني بسوء، وكان علمي في أحرج الأوقات أن في وسعي أن ألجأ إلى زميل ستالين ومواطنه ذي الوجه الصقري وأطلب إليه العون، كان علمي هذا يبعث في قلبي من الجرأة ما ليس في قلب أحد غيري.

وظلت هذه المحاضرة، التي ألقيتها على صديق عظيم من أصدقاء ستالين موضع حديث كل مَنْ في المصنع عدة أسابيع، وكان العمال في أثنائها يَرْبِتون على ظهري ويُبْدُون سرورهم من صراحتي.

ولكنني استُدْعِيت بعد إلقائها بيوم واحد إلى مكتب لجنة الحزب، وكان فيه قنسطنطين أكوروكوف أمين سر الحزب ومعه مدير المصنع إيفانشنكو.

فلما دخلت صاح الأمين بأعلى صوته: «ماذا أصابك يا كرافتشنكو؟ هل جُنِنْتَ؟ هل تعلم أن سرجو وجَّه إلينا أشد اللوم، وكاد يلقي بالمحابر في وجوهنا؟ لقد بقي لطيفًا مسرورًا حتى أثرته أنت، فأخذ يسبنا ويعيرنا بأنا قوم كسالى عاجزون وأنغال.»

وظللت أنا رابط الجأش، وأجبته بأني لم أنطق بغير الحقيقة، ألم يقل لينين نفسه إن الأعمال الصناعية تتطلب قيادة مسئولة موحدة؟ ولما كان لينين وأورزنكدز في صفي، فإن غضب أمين الحزب نفسه لا يصيبني بسوء، ولم يكن في وسع إيفانشنكو أن يحاجز نفسه عن أن يبتسم ابتسامة السرور والرضا عن موقفي؛ لأنه كان في خبيئة نفسه متفقًا معي في آرائي مستاءً من تطفل الحزب ونقابات العمال وتدخلهم في شئوننا.

هذا فضلًا عن أنني لم يكن مقامي ليطول في المصنع إلا ريثما أفرغ من بعض الأعمال القليلة فيه، ثم أعود طالبًا كما كنت من قبل، وكنت أحسب أن بعض الموظفين في إدارة المصنع سيسرهم خروجي منه.

وسُرَّ والداي وأخواي من هذا التحول في مجرى الحوادث؛ ذلك أن أمي بنوع خاص لم تكن في يوم من الأيام راضية عن بقائي رئيسًا للعمال كما كان زوجها، وكانت في خبيئة نفسها مستاءة؛ لأن الثورة قد حالت بيني وبين مواصلة الدرس والتعلم، وها هي ذي الآن تراني أعد نفسي لأن أكون مهندسًا وإن جاء ذلك الإعداد متأخرًا بعض الشيء، وسرَّها هذا وأثلج صدرها، بل إن أبي نفسه ظهرت عليه علائم السرور والغبطة، وأخذ يستمع إلى ما وصفت به الرفيق أورزنكدز راضيًا مسرورًا.

وسمعته يقول ذات مساء لبعض الشيوخ المجتمعين في بيتنا حول إبريق الشاي: «سيكون ولدي مهندسًا.» يقولها في فخر وإعجاب.

وقضيت عدة شهور في الاستذكار استعدادًا لامتحان الدخول في المعهد؛ ذلك أن برامج إعدادية خاصة كانت تعد للشبان الموظفين المختارين ليكونوا من بين «الآلاف» الذين سيصبحون رجال الفكر السوفيتيين في مستقبل الأيام، فلما استهل عام ١٩٣١م التحقت بالمعهد الفني في خاركوف.

١  أي جعله مطابقًا لمقتضيات العقل Rationalisation.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤