الفصل السابع

انتصار الآلات

وسُرَّ أبواي وأخواي من عودتي إلى دنيبروبتروفسك غاية السرور، وأردت ألا أفسد عليهم سرورهم، فأظهرت أنا الآخر سروري لوجودي بينهم، وتطلَّب هذا مني مجهودًا عنيفًا؛ لأن ألم فراقي لجوليا كان ينغص عليَّ حياتي كلها، وبدا لي ألا شيء يفرج عني هذا الهم إلا الانهماك في العمل، فألقيت بنفسي في تيار الدرس وأناشيد الحزب ومشروعات المصنع حتى لا أترك لنفسي فُسحة من الوقت أكتئب فيها أو آسى على نفسي، وعملت على أن أزيد راتبي من الدولة بإعطاء دروس في الاقتصاد السياسي لبعض الفصول في المعهد الفني.

وكانت أمي لا تفتأ تشكو من حالي هذه وتقول: «إنك يا فيتيا ترهق نفسك بالعمل.» وما من شك في أنها كانت تظن أن هذه الغيرة كلها ليست غيرة عادية خالصة للعمل.

وسكنت في منزلي فنجوت بذلك من متاعب الإقامة في البناء العام المخصص لنوم الطلاب، وكل ما كان هناك من فرق بين هذا البناء ونظيره في خاركوف أنه أكثر منه اضطرابًا وأقل راحة، وكنت أنا المشرف الرسمي على المصنع، ومن أجل هذا كانت علاقتي به وبالصنَّاع فيه علاقة حقة وثيقة، واستعدت ما كان بيني وبين المهندسين والمدربين من صداقة قديمة، وأنشأت صداقات جديدة مع رؤساء العمال ومع العمال أنفسهم، وكانت مصانع بتروفسكي-لينين المتحدة تستخدم وقتئذٍ نحو ٣٥٠٠٠ عامل، وكان لهذه المصانع شأن عظيم في مشروع الخمس السنين.

وتبين لي أن ن. جليوبنكو الرئيس الجديد للمصنع رجل ذكي شريف، وإذ كان يعرف علاقتي القديمة بمصنعه، واهتمامي العظيم بتقليل نفقات الإنتاج وإجرائه على أحدث النظم، فقد كان يدعوني مرارًا كثيرة إلى حضور الاجتماعات الصناعية، ويعهد إليَّ من حين إلى حين بعمل دراسات خاصة فيما يستجد في المصنع من مشاكل.

وكنت أعيش مع أبي تحت سقف واحد وأختلط بغيره من صغار العمال، فلم يكن في وسعي أن أغمض عيني عن المأساة المؤلمة التي كانت تمثل فصولها في الضياع والحقول، وكنا نحن الشيوعيين فيما بيننا وبين أنفسنا نحوم حول هذا الموضوع، أو نعالجه بالألفاظ الملطفة المنمقة التي ينطق بها الحزب، فكنا نتحدث عن «جبهة الفلاحين» و«خطر كبار الملاك الزراعيين» و«الاشتراكية القروية»، وكان علينا إن أردنا أن نحيا حياة الشيوعيين أن نغشِّي الحقائق بستار من الألفاظ المعسولة حتى لا تراها الأعين وتدركها العقول.

أما الصنَّاع العاديون فلم يكن ثمة ما يضطرهم إلى هذا المسلك، فقد كان الكثيرون منهم زراعًا قدامى لا تزال لهم كلهم إلا قليلًا منهم صلات بالريف؛ ولهذا لم يكن في وسعهم أن ينظروا إلى المزارع الجماعية نظرة «علمية» مجردة عن أشخاص الزراع أنفسهم، فكانوا يتحدثون حديثًا صريحًا عن العنف والقسوة والجوع والموت، كما يتحدث الناس عن حوادث شخصية تمس زيدًا وعمرًا في قرية معينة من القرى، لا كما يتحدث العلماء عن قوانين عامة، وكنت أسمعهم من حين إلى حين يروون قصصًا عن أشخاص في إقليمنا اضطرهم الجوع إلى أكل لحوم الآدميين، فكنت أعدها منهم مغالاة لا أصدقها، ولكنها رغم عدم تصديقي إياها تقذف الرعب في قلبي.

ولم يكن في وسع مَنْ في داخل المعهد أن يغمضوا عيونهم عن رؤية الفظائع التي تحدث في خارج أبوابه وعلى مقربة منه، وكان الرؤساء يحذرون العمال من أنصار «اليمين المنشقين» و«أنصار تروتسكي» و«مأجوري طبقات الزراع الأقدمين» الذين ينشرون «الشائعات المعادية للحزب»، ولكن الشائعات لم تنقطع بل زادها التهديد والقمع انتشارًا، وكان من شأن هذا كله أن يجعل حياة طلاب المعهد الألفين حياة يسودها جو التوتر الخفي الصامت. وكان كثيرون من أنشط الطلاب يرسلون إلى القرى في مهام خاصة، فإذا عادوا حُذِّروا من أن يتحدثوا بما شاهدوا، ولكن صمتهم ومراوغتهم كانا أفصح من الحديث، هذا إلى أن كثيرين منهم كانوا يتحدثون إليَّ بما رأوا بعد أن أعاهدهم على ألا أذيع ما أسمع منهم، ويروون لي من الفظائع ما يقشعر من هوله بدني.

وكان لي زميل في فصلي عرفته في اجتماعات خلايا الحزب، فقلت له عقب عودته من إقليم بلتافا: «إن من يراك يحسب أنك شاهدت أطياف الموتى.»

فأجابني بقوله: «نعم لقد شاهدتهم.» ثم أطرق ببصره.

ولم أواصل حديثي معه، فقد أحسست بأنه محزون يريد أن يبوح لإنسان ما بما يحز في قلبه، ففررت منه مذعورًا مما عسى أن يصيبني من هذا الحديث.

وكان «مروجو الشائعات» بين الطلاب يُقْبَض عليهم من حين إلى حين؛ ذلك أن الرقابة على عقائد الطلاب السياسية كانت تستنفد من جهد المشرفين عليهم أكثر مما تستنفده الدراسات الفنية نفسها.

وكان في المعهد كما كان في كل مشروع سوفيتي وكل فرع من فروع الحكومة إدارة متصلة بالقسم السياسي، وكان يرأس هذه الإدارة عندنا الرفيق لِبِد، ولم يكن أحد يدخل مكتبه حين يُدْعَى ليُسْتَجْوَب إلا تملَّكه الرعب، وليس منا من كان يعرف ما يجري وراء الكوة الصغيرة ذات القضبان الحديدية التي بباب غرفته المصنوع من الصلب؛ ومع ذلك فلم يكن بيننا من تبلغ به السذاجة حدًّا لا يعرف معه أن لكل طالب في هذه الإدارة الخاصة ملفًّا تُسَجَّل فيه كل كلمة ينطق بها، وكل عمل يصدر منه، ولا يفوت المشرفين عليه أن يسجلوا نبرات أقواله وحركاته.

وكانت الملفات الخاصة «بالأحوال الشخصية» تحوي معلومات عن حياة الطالب أو المدرس الخاصة، وعن أهله وماضيه السياسي، وكان أهم ما تحتويه التقارير والشكايات التي كان يرفعها العيون السريون المنبثون في كل فصل من فصول الدراسة، وفي كل منامة في المعهد، أو المخبرون المتطوعون الذين يريدون أن تكون لهم حظوة عند ولاة الأمور، أو الذين تحركهم الأحقاد والحفائظ الشخصية.

وكانت هذه الملفات سرًّا مكنونًا لا يطلع عليها مدير المعهد نفسه ولا أمين لجنة الحزب فيه، وكان الغرض من ذلك حماية المخبرين وإحكام شبكة التجسس، وكان للإدارة الخاصة عمالها السريون في كل فرع من فروع المعهد بل وفي خلايا الحزب نفسها، على أن لجنة الحزب كان لها هي الأخرى مخبرون في هذه الخلايا، لا تعرفهم الإدارة الخاصة، وهكذا كان على كل جاسوس جاسوس مثله في نظام معقد دقيق يقذف الرعب في قلب كل إنسان.

ولم يكن هذا هو كل ما في الأمر، فقد كان للقسم السياسي هو الآخر عمال في المعهد غير عمال الإدارة الخاصة يتصلون مباشرة برياسة هذا القسم في الإقليم، وكان هؤلاء بمثابة رقابة ثانية على لِبد وموظفيه، وكان للجنة الحزب بالمدينة عيونها في الخلايا، كما كانت لجنة الإقليم تتلقى التقريرات السرية من أفراد معينين في لجنة المدينة، وكان هذا الهرم المتشابك من الرقابة يمتد إلى أعلى قمته، إلى لجنة الحزب المركزية في موسكو ثم إلى الهيئة السياسية العليا التي يرأسها ستالين.

لقد كانت الحياة السياسية تحيط بها شبكة من التجسس تمتد خيوطها من أعلاها إلى أسفلها ومن أسفلها إلى أعلاها، تجسس من الحزب وعلى الحزب، من القسم السياسي وعلى القسم السياسي، يتعاون العمال فيها على جمع المعلومات في بعض الحالات، ويتنافسون على جمعها في حالات أخرى؛ ولذلك كنا نعيش في عالم كله عيون وآذان، وما من شك في أن الرجل العادي لم يكن يعرف مدى هذا النظام ولا دقته، بل إني أنا نفسي حين أكتب هذه الخلاصة الموجزة أستمد بعض ما أكتب من المعلومات التي كشفتها بعدُ خلال تجاربي في السنين التالية، وكل ما كان يعرفه الرجل العادي أن «للجدران آذانًا» وأن الصراحة أقرب سبيل إلى الهلاك.

ولكن رغم هذا كله كانت المعلومات المحظورة تنتشر في كل مكان، وانتشارها هذا دليل على توتر مشاعر الناس في ذلك الوقت وعلى ما تمتاز به طبيعة الروس من حب للكلام، ومن عطف على البائسين، ومن إفصاح عما في ضمائرهم، ومن أجل هذا كنا إذا قطعنا على أنفسنا العهود بألا يفشي أحدنا ما يسمعه من زميله نخاطر بالتحدث فيما يخالجنا من شكوك مغيظة مؤلمة، وترتعد فرائصنا فَرَقًا حين نفكر في أن كل كلمة ننطق بها ستجد سبيلها إلى سجلات حياتنا الخاصة، وكم من مرة حدث في سني التطهير المقبلة أن وُوجِهْتُ بعبارة عارضة جرت على لساني في مجلس خاص لصديق كنت أثق به! وكم من مرة سُئِلْتُ لِمَ لمْ أنقل إلى من يهمهم الأمر عبارات سمعتها من غيري؟! لقد كان عدم التبليغ عن العواطف «المعادية للحزب» أو «المعادية للسوفيت» يفسَّر بأنه اشتراك في هذه الجرائم ورضا عنها.

ولم تكن الإدارة الخاصة تتوانى لحظة عن مطاردة «الأعداء»، وكان منا من يعرفون مثلًا ما وضعته من خطط لفرض الرقابة الشديدة على الأستاذ دنيك العلَّامة الذي كان يُدَرِّس لنا علم الميكانيكا الإنشائية، وكان أهم من تدريسه وأعظم منه نفعًا ما يجربه في معمل المعهد من أبحاث في مشروعات الإنشاء الصناعي الخطيرة التي تتطلب نفقات باهظة، وإذ كان هذا الرجل لا ينتمي إلى الحزب، وكان قبل الثورة من رجال الفكر المعدودين، والإخصائيين الذين لا يبدو عليهم شيء من الاهتمام بالسياسة، فقد كان بطبيعة الحال هدفًا للارتياب الشديد، فكيف السبيل إذن لمراقبة نشاطه وهو نشاط فني إلى حد يصعب معه أن تتبين العيون ما عسى أن يكون فيه من عبث بالآلات أو المصانع.

لقد وُجِدَ الجواب عن هذا السؤال عند زوجة الأستاذ، وكانت تشغل هي الأخرى منصب كبيرة مساعديه، وكانت سيدة طويلة القامة نحيفة الجسم، شقراء اللون، متوسطة الجمال، في وسط العقد الرابع من عمرها، فكانت بذلك تصغر زوجها بنحو ثلاثين عامًا، ولما كانت بطبيعة الحال تحترم زوجها لجهوده وعلمه، فلم يكن ولاة الأمور يرون أن في وسع رجال القسم السياسي أن يعتمدوا عليها كل الاعتماد في أن تكون عينًا لهم عليه؛ ولهذا عمدوا إلى وسيلة أخرى فوضعوا في طريقها محبًّا لا تستطيع مقاومة حبه، وكان هذا المحب هو بفلنكو، وهو مهندس متطرف في حزبيته، قوي الجسم عريض المنكبين ضخم الرأس والوجه، لم يلبث أن أَسَرَ قلب الزوجة الشابة، ولم يكن في المعهد من لا يعرف أن زوجة دنيك وقعت في هواه إلا عدد قليل ومنهم زوجها نفسه، كما لم يكن فيه أحد غير الزوجة نفسها يظن أن حبيبها إنما يؤدي عملًا عهدت به إليه الإدارة الخاصة، على أن ما ضحى به بفلنكو في هذه التمثيلية لم يُجْدِه نفعًا، ولم يكن في وسعه أن يكشف عن أي عطل أو تخريب في معمل الأستاذ دنيك.

وقلما كان أحد يشير في حديثه إلى هذا التجسس المعقد المنظم اللهم إلا في عبارات غامضة خبيثة «ونوادر سياسية» رمزية — أي فكاهات ترمي إلى غرض سياسي — ولكنه مع ذلك كان نظامًا حقيقيًّا شاملًا لا يقل في حقيقته وشموله عن الهواء الذي نتنفسه. وكان هذا النظام المحكم يحيط بالمعمل ويتغلغل فيه كما يحيط بالمعهد وبالصحف المحلية التي كنت أكتب فيها، وبالهيئات الحزبية التي كانت تستنفد مني نشاطًا مطردًا لزيادة؛ لأني كنت وقتئذٍ من أعضاء الهيئة السياسية للجنة الحزب في معهدنا.

وتجمَّع من هذه الجاسوسية الشاملة سيل جارف من البيانات الشخصية والاتهامات، بعضها يعتقد ناقله بصدقه وبعضها قائم على حب التشفي والاستهزاء، وقناطير مقنطرة من الملفات دُوِّنَت فيها أقوال آلاف الآلاف من الجواسيس وكلها مرتبة ومدروسة ومرقومة، ترسل منها صور إلى المدعي العمومي وإلى موظفي الحزب المنوطين بتأديب أعضائه، وإلى المحاكم السرية التابعة للقسم السياسي إذا ما تطلب الأمر اتخاذ إجراء عاجل، وكانت هذه كلها سيوف مرهفة مسلولة فوق رقاب المارقين المرتدين أو المتشككين المترددين، إذا احتاج الأمر إليها في مستقبل الأيام، وكانت كلها مصفوفة في عشرات الآلاف من الخزائن تُعَدُّ كل واحدة منها حصنًا مليئًا بالأسرار الخاصة، وحوادث النزق والطيش، وبالأكاذيب والملق والأخطاء.

وكان هذا النظام السري الدقيق من نظم الرقابة على الأهلين وهتك أسرارهم، هو الذي قضى أبد الدهر على الأسرار الداخلية والحرية البيتية وجعلها من العادات العتيقة البالية، ومع ذلك فقد كان يسمى في عرف حزبنا الحاكم «الديمقراطية الحزبية».

في عام ١٩٣١م ألقى الرفيق ستالين خطبة في مؤتمر عام من الموظفين المشتغلين بالشئون الاقتصادية زلزلت قواعد الصناعة السوفيتية من أساسها وبدَّلت مظاهر حياة الصنَّاع والموظفين على السواء، واشتملت هذه الخطبة على «عناصره الستة المهمة» لرفع القدرة على الإنتاج، وكان همُّ هذه العناصر الدقة في حساب النفقات، والعناية أكثر من الماضي بتركيز إدارة المشروعات، وزيادة تحديد تبعة العجز والإتلاف، والتفرقة العظيمة بين دخل الأفراد.

ومما جاء في هذه الخطبة قوله: «لقد خرجت الصناعة عن حكم العقل من زمن بعيد، ولم تعد مشروعاتنا الصناعية تُعْنَى بالعدِّ والحساب وتحضير حسابها الختامي الدال على إيرادها ونفقاتها، وما من أحد يبدو مسئولًا عن شيء ما، والزعماء بُكْم فهم لا ينطقون، ولِمَ هذا؟ إن الشواهد كلها تدل على أنهم يرهبون الحقيقة.»

وسرني بعض هذا التبدل في التفكير الرسمي، وخُيِّل إليَّ أنه يكاد يكون نصرًا مؤزرًا لي أنا نفسي؛ لأني طالما كتبت وحاججت في هذا التعقيل نفسه، ولكن بعضه أقلق بالي، وخُيِّلَ إلى أبي ومَن على شاكلته أن هذه الآراء تؤيد أسوأ ما تنبَّئوا به من العواقب.

لقد كانت المساواة في الدخل من المُثُل السوفيتية العليا، وها هي ذي قد أصبحت جريمة ما بين يوم وليلة، وقيل عنها: إنها غير خليقة بالمجتمع الاشتراكي، ونُبِذَت قاعدة «الحد الأعلى لإيراد أعضاء الحزب»، وهي التي كانت تقضي بألا يزيد دخْل هؤلاء الأعضاء على الدخل المتوسط إلا قليلًا، وبذلك أُطْلِقَ العِنان لسيل من النَّهَم والجري وراء المصالح الشخصية في الأوساط الرسمية، وأُدْخِلَ نظام الأجر بالقطعة في الاقتصاد السوفيتي بأجمعه حتى في الأعمال التي لا يخفى فيها سخف هذا النظام من الأجور إن لم نقل استحالته. وبفضل هذه العبقرية السوفيتية العجيبة التي تستطيع التحول من النقيض إلى النقيض استُبدل بالفساد الناشئ من كثرة الرؤساء فساد مثله ناشئ من تحكم رئيس واحد مستبد، قضى قضاءً مبرمًا على آخر ما بقي من آثار دعوى السيطرة من أسفل أي «سيطرة العمال» على شئون الدولة.

ولا حاجة إلى القول بأن الأمر بإجراء الإصلاحات شيء وتنفيذها شيء آخر، لقد كان ستالين محقًّا في اتهامه الزعماء بأنهم يخشون الحقيقة، فهم يخشونها لأنها من وسائل الترف العظيمة الخطر التي لا تتفق مع مطالب الثورة، وكان الذي يخطئ خطأً بريئًا في حكمه أو يقوم بتجربة فنية غير محكمة يُتَّهم بالتخريب وتعطيل الآلات المتعمد، ويجازى على ذلك بالنفي أو السجن، كما أن الموظف الصغير الذي يرتكب خطأً في عمله كان يحل به أقسى عقاب؛ لأن ولاة الأمور ذوي العقول البوليسية كانوا في كثير من الأحيان يتهمونه بالخيانة المتعمدة، وكان التهرب من المسئولية يضع العراقيل في سبيل الجهود الاقتصادية الضخمة، ويعقدها تعقيدًا لا سبيل إلى التخلص منه، وقد وصف لي جليوبنكو هذه الحال وقتئذٍ بقوله: «إنهم يطلبون إلينا تعقيل الصناعة والتجديد فيها وتخفيض نفقاتها، وكل هذا شيء جميل جدًّا يا رفيق كرافتشنكو، ولكننا لا نكاد نفعل شيئًا جريئًا أو خارجًا عن المألوف حتى نعرِّض حياتنا للخطر، أليس كذلك؟ إن السلامة في رأيي ألا نفعل شيئًا قط.»

واستُدْعِيت في أواخر الخريف من ذلك العام إلى مقر لجنة الحزب الإقليمية في صحبة تسبليا كوف مدير معهدنا وزميل من الطلاب يُدْعَى برتز كوي، ولما دخلت أغلق أمين السر الباب وأعلن أنه يريدنا أن نقوم ببحث في نيقوبول، وهي بلدة تبعد عنا بضع عشرات من الأميال.

وقال لنا: «إن العمل في تلك المدينة يسير سيرًا رديئًا على الرغم من مبادئ ستالين الستة، فالاجتماعات قائمة على قدم وساق، والصخب عظيم، ولكن العمل أقل مما نتطلب، هذا إلى ضعف النظام وانتشار روح التذمر بين العمال. وحال نيقوبول من الحالات التي تتطلب البحث والعناية، فأنتم تعلمون أننا ننشئ مصانع لعدة صناعات في تلك البلدة تكلفنا مئات الملايين من الروبلات، ولكن عملية الإنشاء لا تتقدم على الإطلاق لسبب لا نعلمه، والإنتاج ضئيل إلى حد لا يصدقه العقل.

ونحن نريد أن تذهبوا أنتم الثلاثة إلى هذا البلد، وأن تقيموا فيه من الوقت ما يكفي لقضاء مهمتكم، أسبوعًا أو أسبوعين إذا لزم الأمر، ثم ترفعوا إلينا تقريرًا عما ترونه من عيوب وعن وسائل إصلاحها، وسندرس تقريركم هنا ونعرضه على الرفيق أورزنكدز إذا وجدنا أنه جدير بالعرض عليه.»

ولما جئنا نيقوبول وجدنا أن البناء قد بُدِئ به من نحو ثلاث سنين في سهل خالٍ على بُعْدِ ستة أميال من البلدة وبضعة أميال من السكة الحديدية، وزاد ذلك البعد من متاعب العمال، ولم يكن أحد يعرف السبب في اختيار هذا الموقع غير الملائم لهذا الغرض، ولو أن البناء قد اختير له مكان أقرب من هذا إلى المدينة ليسَّر ذلك مشكلة مساكن العمال بعض التيسير.

وكان بطرس برتشكو مدير المصنع رجلًا حديث العهد بمنصبه؛ ولهذا لم يجد ما يمنعه أن يكشف عن مئات الأغلاط والسخافات التي كان العمل يتورط فيها.

وقال لي وهو يتحسر: «لقد رأيت المكان غاية في الفوضى والقذارة، حتى إن عملية الحفر وحدها كانت تُعَدُّ من المشروعات الكبرى، يضاف إلى هذا عدم الانسجام بين أجزاء العمل المختلفة، فأنتم أيها الرفاق تعلمون حق العلم أن كل مصنع يشتغل باستخراج المعادن وصهرها يعتمد في عمله على غيره من المصانع، فإذا أقيم بعضها دون مراعاة البعض الآخر كان هذا هو السخف بعينه، وقد يبدو هذا العمل لا غبار عليه من وجهة الإحصاءات العمومية، ولكنه لا يبدو كذلك إذا ما بدأت عملية الإنتاج بالفعل.»

وهالنا ما وجدناه من الآلات الغالية الثمن المستوردة من ألمانيا على الأكثر ملقاة في العراء يعلوها الصدأ وهي منتشرة في الأرض الواسعة المعدة لإقامة المصانع والمصاهر، وبيوت المديرين ومساكن العمال، وشاهدنا في كل مكان زرناه مباني مهجورة بعضها لم يُبْنَ منه إلا نصفه، وبعضها لا يزيد ما بُنِيَ منه على قواعده.

وقلت ونحن نتعثر في هذه البيداء الملأى بالحجارة والمعادن: «لكن هذا أمر فظيع يا رفيق برتشكو.»

– «إني أعرف ذلك ولكن ما حيلتي فيه؟ فنحن لا نكاد نبدأ العمل في أحد الأبنية حتى تأتينا الأوامر من المركز الرئيسي بأن نقف كل شيء وأن نوجه جهودنا كلها إلى مكان آخر؛ لأن الخطط تغيرت! هذا إلى أننا في الوقت نفسه نجد العمال عاجزين عن القيام بما فُرِضَ عليهم القيام به من العمل، ونسبة المرضى والغائبين بينهم مروعة حقًّا، فهم قد سئموا عملهم لأنهم يعيشون في ظروف قاسية، ولست أُخْفِي عنك أنهم لا يجدون ما يكفيهم من الغذاء الملائم لهذا النوع من العمل.»

ثم قال بلهجة الراضي عن نفسه: «وأنا حديث العهد هنا بطبيعة الحال، وكل ما تراه قد ورثته عن عهد الإدارة السابقة.»

ألا ما أتعس حظك يا برتشكو! أنَّى لهذا الرجل أن يعرف أنه لن تمضي على حديثه هذا بضع سنين حتى يكفر بحريته عن هذه الفوضى الضاربة أطنابها في نيقوبول؟ وأنَّى لي أن أعرف أني سأُدْعَى في يوم من الأيام لأن أضطلع بقسط هام في إدارة هذا المصنع «الجبار»، لقد كنا في هذه الزيارة نخطو وسط تلك الفوضى التي لا يتصورها العقل والتي تشمل المكان برمته، وكل منا يجهل لحسن الحظ ما تخبئه له الأقدار.

ووجهت اللجنة الزائرة الأسئلة إلى المهندسين ورؤساء العمال وصغارهم، وتبين لنا من دراستنا أن العمل كان يسير في فترات متقطعة في غير نظام، وأن الأموال والجهود تذهب هباءً، وخُيِّلَ إليَّ أن أسباب هذا الاضطراب تنقسم قسمين:
  • أما القسم الأول: فناشئ مِن دسائس مَنْ لا شأن لهم بالعمل ومِن تدخلهم في شئونه، لقد كان هذا العمل على ضخامته مرتبط الأجزاء بعضها ببعض، يتكون منه كله مشروع شامل يبلغ من الاتساع حدًّا يكاد العقل البشري يعجز عن الإحاطة به كله، وكثيرًا ما كان التغيير الضئيل في الخطة الرئيسية لهذا المشروع — ولو كان له ما يبرره — يؤدي إلى اضطراب في أجزائه النائية، ولم يكن في وسع الموظفين البعيدين عن مركز العمل أن يدركوا في جميع الأحوال ما تُسْفِر عنه أوامرهم المرتجلة بشأن هذا الجزء أو ذاك من عواقب وخيمة تؤثر في العمل برمته، ولم يكن الموظفون المحليون يجرءُون على مخالفة تلك الأوامر، فلم يكن لهم بُدٌّ من إطاعتها مؤملين أن تستقيم الأمور فيما بعد، يضاف إلى هذا أن التدخل كان من نوع التدخل الشرطي طابعه القبض المستمر على القائمين بالعمل، واستجوابهم وتهديدهم مما أحاطهم بجو من الخوف وعدم الاطمئنان.
  • أما القسم الثاني: من أسباب اضطراب العمل وضآلته فيمكن تلخيصه كله في عبارة واحدة هي إغفال الجانب الإنساني في عملية الإنتاج؛ ذلك أن أجور العمال كانت ضئيلة ضآلة يُرْثَى لها إذا قُدِّرت بالقيمة الشرائية للنقد الروسي في ذلك الوقت، مع أن عشرات الملايين من الروبلات كانت تبدَّد بلا حساب في شراء آلات لا يُنتَفع بها، وفي إقامة مبانٍ يُتخَلى عنها بعد قليل، أما مشروعات مساكن العمال فقد بقيت مجرد رسوم على الورق، وظل العمال أنفسهم يُحْشَرون في ثكنات خشبية أقيمت على عجل، ذات سقوف يتسرب منها ماء المطر، وجدران وأرض رطبة تنقصها الوسائل الصحية البدائية، لقد كان كل ما يهتمون به هو الإنتاج، أما من يقوم على جهودهم هذا الإنتاج فلم يكن أحد يوجِّه إليهم أقل عناية، بل كانوا موضع الإهمال والازدراء.

وقررت في مساء اليوم الثاني من مجيئنا إلى نيقوبول أن أزور الثكنات في صحبة الرئيس المشرف على أعمال البناء، وأمين لجنة الحزب المحلية، والموظف المشرف على المساكن، وسِرْنا نخوض في الوحل إلى كعوبنا حتى وصلنا إلى صفوف من المساكن قبيحة المنظر لم يمتد إليها النور الكهربائي مع وجود الكهرباء في أبنية الإدارة العامة، بل كانت مصابيح الكيروسين مع فتائل مغمورة في أوعية زيت صغيرة تلقي ضوءًا شاحبًا على مناظر من القذارة يرتد منها البصر خاسئًا وهو حسير.

وبَدَتْ إحدى الثكنات من خارجها وكأنها لا ضوء فيها على الإطلاق، فدققت بابها ففتحه رجل ملتحٍ كبير السن: «مساء الخير أيها الرفيق، هل تأذن لنا بالدخول؟»

– «ومن أنتم؟»

– «أنا أمين سر لجنة الحزب ومعي هنا» وأشار إلينا «لجنة من المركز العام.»

فقال العامل في سخرية ساذجة: «شيء جميل! مرحبًا بكم في قصرنا! أتريدون بعض الجرذان أم تفضلون البق؟ دعكم من الروائح الكريهة.»

وكانت الثكنة مظلمة تقريبًا، وجلس على فراش قذر شبان أصغر منه سنًّا يقرءُون في مصابيح زيتية ضئيلة الضوء، وجلس غيرهم يلعبون الورق، ولم يلتفت إلينا معظم مَن كانوا في الثكنة من العمال البالغ عددهم نحو خمسين أو ستين، ولكن جماعة منهم التفُّوا حولنا يشكون ويلعنون، وجاءت فأرة تجري بين أرجلنا.

وقال أحد العمال: «أتسمون سقط المتاع هذا فراشًا؟ وهل هذه وسائد؟ لا، إنها خرق بالية قذرة.»

وسألته: «كم يومًا تمضي حتى تغير أغطية الفراش؟»

– «تغير كل شهر إذا واتاك الحظ، وإذا لم يواتك فكل شهرين أو ثلاثة أشهر، وقد لا تغير أبدًا.»

وصاح رجل آخر قائلًا: «إنا لا نجد ما ينجينا من الحشرات والجرذان، تعالَ هنا وانظر.»

ورفع أحد أطراف سرير من حديد وضرب به الأرض عدة مرات، فخرج البق منزعجًا من معششاته حتى اسودت منه أرض الحجرة وتراجعت مرتاعًا على الرغم مني.

وجاء عامل آخر يكمل القصة فقال: «ولِمَ لا تعشش عندنا الحشرات؟! إنا هنا نتناوب العمل، طائفة تروح وطائفة تجيء قبل أن يبرد الفراش، والأرض لا تُغْسَل أكثر من مرة في الشهر، والحق أن هذه ليست حياة بل هي العذاب بعينه، فإذا أمطرت الدنيا فنحن في سفينة نوح، وإذا اشتد البرد كنا في القطب الشمالي.»

وسألته: «ولِمَ تسكتون على هذا؟ ولِمَ لا تشكون؟»

فقال مستهزئًا: «نشكو! ألا ما أكثر الخير الذي نناله من الشكوى! إن اللجان تأتي إلينا كما أتيتم أنتم، ثم لا نسمع بعد ذلك شيئًا، ونحن نريد أن نعمل، ونعرف أن العمل لازم وخطير، ولكننا خُلِقْنا من لحم ودم لا من حجارة، ثم إن العمال في إحدى الثكنات الأخرى قرروا يومًا ما أن يفعلوا شيئًا يصلحون به تلك الحالة التعسة التي لا تطاق، فأجمعوا أمرهم على ألا يذهبوا إلى العمل حتى تنصلح أمورهم، وأظنكم تعرفون ما حدث.»

– «ماذا حدث؟»

وسكتوا كلهم فلم يحر أحد جوابًا.

– «لا تخف وقل لي ما حدث، إني قادم من دنيبروبتروفسك وأؤكد لك أني لا أعرف ما حدث!»

وتطوع رجل آخر بالجواب فقال: «لقد استُدْعِيَ الزعماء.»

– «وإلى أي مكان استُدعوا؟»

– «لا حاجة بي إلى القول إنهم لم يُدْعوا إلى الكنيسة أو إلى مشرب البيرة، بل دُعُوا إلى القسم السياسي بطبيعة الحال، وفوق ذلك فإنهم لم يعودوا إلينا أبدًا.»

وقاطعه العامل الملتحي وهو يضحك ضحكة مريرة: «لعلهم كانوا في حاجة إلى إجازة يقضونها في سيبيريا.»

ونقلت ما رأيت إلى زميليَّ عضوي اللجنة، وكانا هما أيضًا قد فتشا البيوت وما تم من أبنية المصانع، ولم يكشف أحد منا عن شيء يسره ليخبر به رفيقيه، وقضيت الليلة ساهرًا أتقلب في فراشي، يؤرقني ويقض مضجعي ما شاهدت من أقذار وما يعانيه العمال من آلام وشقاء، ويفت في عضدي قنوط الذين لم يشكوا أمرهم إلينا لفرط تعبهم أو لعدم اكتراثهم، فآلمني ذلك منهم أكثر مما آلمتني سخرية الذين تحدثوا إليَّ وكراهيتهم اللتان عبروا عنهما بأقوالهم، ومما زاد هذه الصورة قتامًا وزادني يأسًا من إصلاح الأمور ما قاله أولئك العمال عن الزعماء الذين استُدعوا ولم يعودوا إليهم أبدًا.

وعُقِدَ في اليوم الثاني اجتماع في مركز لجنة الحزب بالمدينة شهده جميع الرؤساء المسئولين في مصانع نيقوبول، وشرحت لهم ما رأيت بكل ما أسعفتني به اللغة من ألفاظ، وأعلن الرفيق برتشكو مدير المصانع أن موظفيه سيُدْعَون ليحاسَبوا على أعمالهم أمام السلطات السوفيتية العليا إن لم يحل بعد خمسة أيام من ذلك الوقت شيء من النظام محل الفوضى الضارية أطنابها في الثكنات، وأعلن الرفيق تسبكياكوف أن اللجنة لن تعود إلى مقرها، بل هي باقية حيث هي لترقب ما يئول إليه الأمر في نهاية الأيام الخمسة.

وكانت هذه أيام ما أعجبها، فقد جيء بمئات من الرجال يمسحون الأرض ويغسلونها ويصلحونها، واهتزت أسلاك البرق والمسرة مرارًا كثيرة إلى خاركوف ومرة على الأقل إلى موسكو نفسها، فجاءت أسفاط ملأى بأغطية الفرش وأكياس الوسائد، وشرع العمال يمدون الأسلاك الكهربائية إلى الثكنات، وكأن الموظفين الذين سمحوا من قبل بأن تتجمع هذه الأمور المروعة قد أصبحوا هم أنفسهم أحرص الناس على إصلاحها وأكثرهم اغتباطًا بهذا الإصلاح.

وتحدث إليَّ أحدهم فقال: «لم توجد هذه الشرور لأنَّا راغبون فيها، بل كان سبب وجودها أنَّا عاجزون عن علاجها، وإن ترك الأمور تجري في مجاريها خير من العمل وبذل الجهود، إنك لا تجد إنسانًا يرغب في تحمل التبعة، انظر مثلًا إلى عملية التنظيف الشاملة، فهي عملية لم تكن مستطاعة إلا لأنكم تمثلون لجنة الحزب الإقليمية، والميزانية لا تحوي اعتمادات للأغطية النظيفة أو الإصلاحات الضرورية، ومَنْ ذا الذي يستطيع العبث بالميزانية؟ إنها كما ترى دائرة مفرغة لا أول لها ولا آخر.»

وتناولت العشاء في الليلة السابقة لسفرنا مع أحد رؤساء المهندسين، وكان رجلًا كبيرًا من غير أعضاء الحزب.

فقال لي في أثناء حديثه: «لست من حزبكم، بل أنا من رجال الفكر الروس وكفى، ولا أريد أن أتدخل في شئونكم الخاصة، ولكني مهندس يعز عليَّ أن تذهب جهودي أدراج الرياح، فأنا أحب بلادي وأبغي لها الخير والرخاء، وأرجو أن تصدقني في قولي هذا.

إن كل ما نتقدم به إلى المركز العام عرضة للنقد الشديد، والذين فيه لا يدرسون ما نتقدم به إليهم على أنه عمل هندسي، بل يدرسونه من وجهة النظر «السياسية»، ومهما يكن قرارهم فإنا مرغمون على إطاعته، مهما يكن من سخافته وبُعْده عن الصواب، فإذا أخطأ الرؤساء قاسينا من جراء خطئهم الأمرَّين، ولكننا لا نستطيع الكلام، بل إننا في الواقع نكون سعداء محظوظين إن لم تلقَ علينا تبعة أخطائهم.»

– «وماذا تقول في أعضاء الحزب المحليين؟ ألا تلقون منهم معونة؟»

– «آه يا عزيزي الرفيق كرافتشنكو، إن لديهم مناصب لا حصر لها للتجسس والرقابة، أما المعونة فليس لها عندهم مناصب كثيرة، إن لجنة المصانع التابعة للحزب تفحص، ولجنة المدينة تفحص، والقسم السياسي يفحص، وأنتم هنا الآن لتفحصوا، وهم يفحصون عنا ويفحص بعضهم عن بعض، وقد تظن أن الواجب يقضي بأنه إذا عُهِدَ بالمال الكثير إلى الذين يحسنون تدبيره فلتُتْرَك لهم الحرية الكافية لإنفاقه على أحسن وجه، لكن الذي يحدث فعلًا أننا نقضي من أوقاتنا نتناقش فيما عسى أن يظن بنا هذا الرجل أو ذاك أكثر مما نقضي منها في الأعمال الهندسية وفي الإنشاء، ولم أكن أجرؤ أنا نفسي على التحدث إليك بهذه الصراحة إلا لأني رجل كبير السن.»

وغادرت نيقوبول وأنا مكتئب محزون، وإذا ما عدت الآن بفكري إلى هذه الزيارة كان أعجب ما فيها أن قسمًا كبيرًا من المصاهر قد تم إنشاؤه بطريقة ما هي أقرب الطرق إلى المعجزات وخوارق العادات، لقد استغرق إنشاؤها أكثر مما قدر له القائمون على أمرها، وأُنفق عليها من المال أكثر مما رصد لها، وقاسى منشئوها ألوانًا من العذاب لا يمكن تصورها، وضُحِّيَ في سبيلها بأرواح لا حصر لها، ولكنها أُنْشِئت آخر الأمر.

ورفعنا إلى الحزب تقريرًا مُفصلًا، ورفعه الحزب إلى موسكو مشفوعًا بتوصياته، ولم أُغفل أنا شيئًا مما لم أرضَ عنه حتى البق وحتى شكوى العمال من اعتقال القسم السياسي لزملائهم، ولست أعرف هل وصل ما ذكرته عن هذه الاعتقالات إلى موسكو أو لم يصل إليها.

وزادتني هذه التجربة تصميمًا على تنفيذ خطة كنت أفكر فيها من عدة شهور، لقد اعتزمت أن أسافر إلى موسكو وأحاول مقابلة الرفيق أورزنكدز والتحدث إليه وجهًا لوجه عما شاهدت حولي من أخطاء ومساوئ، وإذ كانت هذه الخطة تتفق مع حاجة مصنع بتروفسكي-لينين فقد وافق عليها الرفيق جليوبنكو مدير المصنع، ورضي أن يتحمل المصنع نفقات الرحلة.

وذهبت من المحطة إلى وزارة الصناعات الثقيلة مباشرة.

وكانت هذه زيارتي الثالثة لموسكو، ولكني شعرت فيها بما لم أشعر به في زيارتيَّ السابقتين من فرق عظيم بين عاصمة البلاد وسائر مدنها، وكان من أسباب هذا الفرق ما أُدْخِلَ على العاصمة من تحسين عظيم في مظهرها، ولكن أكبر أسبابه ما طرأ على مدن الأقاليم من تقهقر سريع.

وبدت لي موسكو كأنها مهد الرفاهة والرخاء إذا وازنتها بدنيبروبتروفسك أو بخاركوف نفسها، فلم تكن صفوف الناس أمام الحوانيت في العاصمة الكبرى طويلة كصفوفهم في المدينتين الأوليين، ولم تكن الرفوف فيها خالية مثلها فيهما، وكان النشاط فيها ظاهرًا محسوسًا والناس متفائلين، والشوارع نظيفة معتنى بها، والطرقات الكبرى قد رُصِفَت حديثًا بالأسفلت، والمباني الحديثة تبهر القادم إلى المدينة من خارجها، ومر بي السائق في ميدان الأوبرا الذي تحيط به دور التمثيل والفنادق، ودار الأوبرا الكبيرة والحوانيت الجميلة الكثيرة العدد، ورأيت الناس الذين تزدحم بهم طرقات المدينة أحسن ملبسًا من أمثالهم في سائر المدن، وكان أكثر ما سرَّني فيهم أنهم لا يتسكعون في الطرقات ولا يجولون فيها على غير هدًى، بل كانت مشيتهم نفسها تبدو عليها مظاهر النشاط والرشاقة التي تكاد أن تكون غريبة في بلاد الروسيا بأجمعها.

ووصلت إلى حيث كان الرفيق أورزنكدز، وعرفت من كان هناك بنفسي، وحصلت على جواز مرور، ثم قدَّمت نفسي للرفيق سمشكين أمين سره، وكان من حسن حظي أنني قابلته من قبل فيسر لي سبيل المقابلة، وأطلعته على ما معي من رسائل التوصية من جليوبنكو وغيره، ووعدني بأن يبلغ الوزير نبأ قدومي.

وأحصيت ستة عشر شخصًا ينتظرون في حجرة الاستقبال، وكانوا كلهم حسني البزة تلوح عليهم مظاهر النعمة، وكان بعضهم يلبسون ملابس أجنبية في أيديهم كلهم تقريبًا مكاتيب مختصرة، ويدل مظهرهم كلهم على أنهم من ذوي المراكز الهامة ومن ذوي اليسار، ويبدو عليهم أنهم من رؤساء الصناعات المتحدة أو مديري المشروعات الصناعية الكبرى، وكلهم من أعلى طبقات الزعماء الاقتصاديين، وكنت أصغر مَنْ في الحجرة سنًّا وأقدمهم ملبسًا، وأحسست كأني دخيل أو فقير بينه وبين الزعيم قرابة، ونظر الحاضرون إليَّ بشيء من الريبة وكأن لسان حالهم يقول: «ماذا يصنع هذا الإنسان في هذا الحفل من العظماء؟»

وسمعنا فجأة أصواتًا وصراخًا منبعثة من خلف الأبواب الكبيرة المؤدية إلى مكتب الوزير، وتبينت فيها نبرات صوت أورزنكدز الوزير الكرجي، وتطلعت أعيننا كلنا إلى الباب باهتمام وبغير قليل من الرهبة؛ ذلك أننا لم نكن نشك في أن غضبه إن كان غاضبًا سيكون نذير شر لنا وخيبة للأغراض التي جئنا كلنا من أجلها، ثم فُتح الباب بعنف واندفع منه رجل بدين يتصبب العرق من جسمه، وتبدو عليه مظاهر الخوف، يجر حقيبة ملابس مفتوحة، وسقطت من الحقيبة حزمة من أدوات المائدة: ملاعق وسكاكين وأشواك، ووقف المسكين وهو مثقل بحمله ليجمع الأدوات، ثم ألقاها بحركات عصبية في حقيبته، وأغلقها بأصابعه المرتجفة، وهرول من الحجرة دون أن ينظر إلى واحد منا.

وبعد دقيقة أو دقيقتين من ذلك الوقت خرج أورزنكدز مبتسمًا باشَّ الوجه ليس في مظهره أثر من آثار ذلك المنظر العنيف، ووقفنا جميعًا إجلالًا له.

وقال وهو يضحك موجهًا خطابه إلى مَنْ في الحجرة بوجه عام: «لست أشك في أنني قد سلقت هذا الوغد بألسنة حداد، وفي الحق أنه جدير بهذا، لقد جاء يحمل إليَّ أدوات المائدة لتكون نماذج للإنتاج بالجملة، ولكنها كلها بشعة المنظر، بدائية الصنع، شبيهة بالفئوس، لا تصلح حتى للمتوحشين من الآدميين، إن من واجبنا أيها الرفاق أن نمحو من الأذهان تلك الفكرة القائلة بأن أي شيء يصلح لشعب السوفيت، إنا نريد الكيف كما نريد الكم، والآن فلأنظر ما جاء بكم كلكم إلى هذا المكان؟»

وتنقل الوزير من زائر إلى زائر وإلى جانبه سمشكين، وكان إذا سمع مطالب واحد منهم أحاله إلى أحد مساعديه، أو طلب إليه أن يعود لمقابلته في يوم معين، ورأيت أن أورزنكدز قد زاد بدانة عما كان حين رأيته في المرة السابقة، وزاد الشيب في شعره الكث وشاربه المتهدل، ولكن ملامحه الضخمة ذات البشاشة الطبيعية غير المتكلفة، كانت لا تزال تبعث الثقة في نفس من يراه.

ولما وصل إليَّ ناولته ما معي من الرسائل، فألقى نظرة سريعة على واحدة منها ثم نظر إليَّ وقد أبرقت أسارير وجهه وقال: «كيف حالك يا صديقي القديم؟ نعم، إني أذكرك جيدًا يا رفيق كرافتشنكو، وأرجو أن تكون ناجحًا في دراستك، ويسرني أن أتحدث إليك، وليكن هذا في الساعة العاشرة مساء، اعتنِ بهذا الرفيق يا سمشكين، وهيئ له جميع أسباب الراحة.»

ولما عاد الوزير إلى مكتبه جاءني سمشكين وضغط بيده على ذراعي ليهنئني على ما نلت من حظوة، لقد أظهر لي أورزنكدز دلائل الرضا والمودة، وجاء أمين سره يسلك معي مسلك رئيسه، ونظر إليَّ من في الحجرة بشيء من الحسد على ما نلت من رضا، وما من شك في أنهم قالوا في أنفسهم: «أهذا الذي لم يزل في شرخ الشباب يحظى بابتسامة العظماء؟»

وركبت عربة زرقاء كبيرة أقلتني إلى «فندق العاصمة» وقدمت إلى مَنْ فيها ورقة من الوزير، فأخذني من فوري إلى غرفة كبيرة في الطابق الأعلى، وأحسست في خبيئة نفسي بالعظمة التي عادت عليَّ لقربي من ذوي السلطان، وبما يخلعه عليَّ هذا القرب من نفوذ.

وذهبت في المساء إلى مطعم الفندق، وهو حجرة ضخمة عالية الجدران مزينة بأصص النباتات الاستوائية الضخمة، ورأيتها مزدحمة وفيها جوقة جاز تعزف بعض الألحان، وفي وسطها ما يشبه أن يكون بِرْكة سمك وعلى شواطئها الممردة رجال ونساء، يرقص كل اثنين منهم على نغمات الموسيقى، وقد ازدحمت بهم هذه الشواطئ فكانوا كأنهم كتلة واحدة من البشر يموج بهم المكان موجًا.

ولم يكن في مقدوري أن أوائم بين نفسي وبين هذا المنظر الجديد إلا بعد عدة دقائق، وساءلت نفسي: «هل يمكن أن يكون هذا المكان قطعة من اتحاد السوفيت حقًّا؟ أو هل قادتني قدماي خطأً إلى ملهى أرى فيه مناظر تُعْرَض على الشاشة البيضاء؟» وأبصرت من وراء نخلة في أصيص صحاف الطعام والراقصين والراقصات، وشاهدت في أماكن متفرقة رجالًا في قمصان نصفية روسية، ولكن سائر مَن في المطعم كانوا يرتدون الثياب الأوروبية بما فيها أربطة الرقاب، أما النساء فكان بعضهن يرتدين جلابيب قصيرة لم أرَها قط إلا على أغلفة الكتب، وكان عدد الأجانب كثيرًا، ومنهم طائفة ترتدي ملابس العشاء والقمصان البيضاء المنشاة، وشاهدت من خلال إحدى البواكي في نهاية المطعم مكان الشراب، وفيه عدد من الفتيات الحسان يقدمن المشروبات إلى عدد من الرجال الواقفين على كراسي عالية تدل ملامحهم على أنهم من غير الروس.

وما كدت أستقر في المكان حتى طاف بمخيلتي منظر ثكنات نيقوبول، وتذكرت قول أحد نزلائها: «مرحبًا بك إلى مسكننا أيها الرفيق، أتريد جرذانًا أم بقًّا؟» ولكنى أبعدت هذه الفكرة من مخيلتي وقلت لنفسي: إن هذه موسكو، ولن يمضي إلا قليل من الوقت حتى أكون في «حديث» مع واحد من الستة الزعماء الذين يتصرفون في مصاير البلاد.

وقبل أن يحل الموعد المحدد بزمن طويل كنت مرة أخرى في حجرة الاستقبال الملاصقة لمكتب الوزير، وقبل الساعة العاشرة بقليل، اقترب مني سمشكين، وقال لي: «ربما اضطررت إلى الانتظار بعض الوقت؛ لأن الرفيق بوخارين مع الوزير.»

الرفيق بوخارين! ودق قلبي دقة عنيفة، وكأني في هذه الساعة في حضرة لينين نفسه، إذ لم يكن بين أسماء العظماء في الثورة مَنْ هو أعظم من بوخارين إلا لينين وتروتسكي، ولقد درست كتابه المسمى «أبجدية الشيوعية»١ حين كنت أعد نفسى للانضمام للجان الشباب، نعم إن نيقولاي بوخارين قد اتُّهِمَ قبل ذلك ببضع سنين بأنه من المنشقين أنصار اليمين، وجُرِّد من وظائفه الرسمية وحُرِّم على الناس أن يطالعوا كتبه، ولكن اسمه كان لا يزال تحيط به رغم هذا هالة من السحر، وكان مجرد إحساسي بأنه هناك في ذلك المكان، لا يحجبه عني إلا ذلك الباب، كان مجرد إحساسي بهذا كافيًا لأن يهز مشاعري على الرغم مني.

وبعد قليل من الوقت أشار إليَّ سمشكين بأن أدخل وهمس قائلًا: «إن بوخارين لا يزال هناك؛ لأن الوزير طلب إليه أن يبقى وأن يقابلك.»

وما هي إلا لحظة حتى كنت أصافح أورزنكدز وبوخارين، وجلس الوزير خلف مكتب كبير، انتشرت عليه أوراق وكتب وست مسرات، وصفوف من الأزرار الكهربائية وجلست أنا وبوخارين أمامه إلى جوار المكتب في حجرة رحبة، عُلِّقَت على جدرانها صور كبيرة لماركس ولينين وستالين، ووُضِعَت على المكتب صورة شمسية لستالين كتب صاحبها في أسفلها بخط رديء: «إلى سرجو.»

وقال الوزير وهو يحاول على ما أظن أن يهدئ روعي: «مرحبًا يا رفيق كرافتشنكو، حدثنا حديثًا واضحًا مختصرًا بما تعرفه عن مشروع نيقوبول.»

– «أحب أن أحدثك أولًا أيها الرفيق الوزير عن مصنع دنيبروبتروفسك، فإن لي آراء خاصة في عمله أريد أن أبسطها لك.»

– «قل.»

وكان في وسعي أن أبسط المسألة بسطًا واضحًا؛ لأني رتبتها من قبل في ذهني ترتيبًا منتظمًا، فقلت له: أولًا إن بعض أجزاء المصنع في حاجة إلى التوسيع وإلى التنظيم على أحدث الأساليب، وأظهرت له أن بعض مبانيه القديمة قد أُهْمِلَ أمرها لشدة حرص ولاة الأمور على تشييد مبانٍ جديدة، وبرهنت له بالإحصاءات الدقيقة أن إنفاق ملايين قليلة من الروبلات في تحسين بعض الأجزاء القائمة من هذا المصنع يؤدي إلى إنتاج أكثر مما يؤدي إليه إنفاق عشرات أضعافها في تشييد مصانع جديدة.

وابتسم بوخارين ابتسامة عريضة حين سمع هذا الحديث دلالة على رضائه عنه، فقد عُرِفَ عنه من قبل أنه يعارض في الإسراع في تشييد المصانع الجديدة، وكان قبل أن يُرْغَمَ على السكوت قد طعن في بعض نواحي مشروع السنوات الخمس ووصفه بأنه «مجرد نزعة إلى المغامرات».

ورد عليَّ أورزنكدز بقوله: «إني متفق معك بوجه عام يا رفيق كرافتشنكو، وإن كانت المشاكل الخاصة بمصانع بتروفسكي-لينين المتحدة في حاجة إلى الدرس والتمحيص.» ودوَّن بعض ملاحظات على إضمامة من الورق كانت أمامه ثم واصل حديثه قائلًا: «أبلغ المدير جليوبنكو أننا سنُعْنَى ببحث مطالبه، والآن فلتستمر في حديثك.»

ثم أخذت بعدئذٍ أصف ما انطبع في ذهني من زيارتي لنيقوبول، والتزمت في بادئ الأمر العبارات الفنية الشكلية التي أعددتها في عقلي من قبل، ولكني حين واصلت الحديث عادت إلى مخيلتي ذكرى الثكنات وما فيها من قذارة وتبرم، فذهب ما كان لديَّ من حصافة وسَرَتْ في صوتي نغمة الغضب وأنا أشرح ما شاهدته من تلف وإسراف واضطراب، وخاصة حين كنت أصف ما يحيط بحياة العمال من ظروف لا قِبَل لهم بها، وقلت له: «لست أشك في أننا إذا أنفقنا بضعة ملايين من الروبلات في إصلاح الظروف التي يعيش فيها العمال سنوفر مبالغ طائلة من نفقات المشروع، أما إهمال العنصر الإنساني فيه فإنه سيحول المشروع كله في مكان مثل نيقوبول إلى مأساة من السفه والدمار وخيمة العاقبة.»

وما كدت أنطق بهذه العبارة حتى قاطعني بوخارين بقوله: «مرحى، مرحى!» وحاول أورزنكدز أن يكبت ابتسامة ولكنه لم يستطع.

وواصلت حديثي وقد انسقت وراء لساني فقلت: «إن المشكلة الرئيسية هي مشكلة الأجور بأجمعها من أكبر المهندسين إلى أصغر العمال، وتأتي بعدها مشكلة السلع التي يستهلكونها، حتى يستطيع العمال أن يشتروا بما ينالون من الأجور ما يحتاجونه من السلع كالطعام والكساء ولوازم المنازل، ولقد شكوت إليك أيها الوزير حين اجتمعت بك أول مرة من التدخل الذي لا ضرورة له في إدارة المشروعات الصناعية، وما من شك في أن الإدارة الموحدة والتبعة الموحدة لازمتان لنجاح كل مشروع، ولكننا الآن قد ذهبنا في الناحية الأخرى إلى الغاية القصوى، ولم يبقَ للعمال كلمة يقولونها في شئون عملهم، ولقد بلغ من أمرهم أن أصبحوا يُدْعَون أمام القسم السياسي إذا سوَّلت لهم أنفسهم أن يرفعوا أصواتهم بالاحتجاج على ما يقاسونه من متاعب لا قِبل لهم بها، على أني أخشى أن أكون في حديثي هذا قد عدوت طوري، فإن كان الأمر كذلك فلا تؤاخذني لأني أشعر بما أحدثك عنه في أعماق نفسي.»

وصاح أورزنكدز قائلًا: «لا، لا، لا، أيها الرفيق، إني يسرني أن أسمع إنسانًا يفصح عما في قلبه كله لا عن بعض ما فيه، إن كل ما تقوله صحيح ولا تظن أنه خافٍ علينا، وأؤكد لك أن الرفيق ستالين يُعنى أشد العناية بمشكلة الأجور مثلًا، ولكن تشخيص الداء أسهل كثيرًا من مداواته.»

ودام هذا الحديث ما يقرب من ساعة، وسألني الوزير في أثنائه هل خرجتُ في حياتي من بلادنا؟

فأجبته قائلًا: «لا، لم أخرج منها، ولكني قرأت الصحف الفنية التي تصدر في بلاد السويد وألمانيا وأمريكا، فعلمت منها أن في تلك البلاد أشياء كثيرة، نحن في أشد الحاجة إلى أن نتعلمها.»

– «قد نرسلك إلى أمريكا أو ألمانيا بعد أن تتم دراستك في المعهد، والآن فلتنسَ أمر العمل والعمال بعض الوقت، هل شاهدت ما في موسكو من مسارح ومتاحف؟»

– «لا، لم أذهب إليها بعدُ، ولكنني أرجو أن أشاهد منها أكثر ما أستطيع مشاهدته.»

– «حسن، إني أمنحك إجازة خمسة أيام تقضيها في موسكو، فانتظر سمشكين في حجرة الاستقبال، وإلى اللقاء مرة أخرى.»

وكدت أفقد وعيي حين خرجت من عنده، لقد كنت في هذا اللقاء أقرب ما أكون إلى السلطة العليا، وكاد إحساسي بهذه السلطة يذهب بعقلي، وأخذ الجالسون في حجرة الاستقبال ينظرون إليَّ في دهشة لم يحاولوا قط أن يخفوها، وما من شك في أنهم كانوا يعتقدون أن الرجل الذي يستأثر بساعة كاملة من وقت الوزير لا بد أن يكون رجلًا خطير الشأن، وجاءني سمشكين بعد قليل.

وقال لي: «أهنئك أيها الرفيق، لست أشك في أن ما كان معك من المال قد نفد، وإليك تذكرتين، إلى مسرح البلشوا، وإلى مسرح موسكو الفني، وسنؤدي نحن نفقاتك في الفندق، وهذه ألف من الروبلات لنفقتك الخاصة وهي منحة لك من الرفيق أورزنكدز، فمتِّع نفسك كيف شئت، وإذا احتجت إلى شيء فما عليك إلا أن تخاطبني تليفونيًّا.»

وجيء لي مرة أخرى بسيارة كبيرة أقلَّتني إلى الفندق، ولما ذهبت إلى مطعم العاصمة لأتناول عشائي شاهدت فيه جوقة من عشرين مغنية من الغجر، يغنون أغاني بلدية، ولم يدهشني ما رأيت في هذه المرة فقد ذهب عني ما كنت أشعر به قبل من غرابة، وما من شك في أن وجودي مع أورزنكدز وبوخارين قد أشعرني بأني هنا في المكان اللائق بي، كأني أصبحت أحد الصفوة المختارة، ألا ما أسهل على الإنسان أن يخضع لمغريات النعيم والسلطان! ترى كم من الزمن تطول آلامي النفسية مما يعانيه بعض صغار العمال المعذبين المجهولين في مصانع نيقوبول وأمثالها لو أنني كنت أنا أيضًا أعيش في موسكو مثقل الجيوب بالمال، وبالقرب مني سيارة فخمة تقلني إلى حيث أشاء، وفرقة موسيقية تغرق نغماتها ما عسى أن أشعر به من وخز الضمير؟

وشاهدت في الخمسة الأيام التالية تمثيلية راقصة صامتة وعدة تمثيليات غنائية، ومعرضًا للفنون في موسكو، وتمثيلية مسائية في مسرح يختنجوف، وقضيت عدة ساعات في معرض تريتاكوف الفني، وفي متحف الثورة ومكتبة لينين، وغيرها من المعاهد التي يتحتم على كل إنسان أن يشاهدها، ألا ما أكثر ما يحتويه العالم من علم وجمال!

ثم تذكرت أن الرفيق لزريف، المحاضر الأول الذي جذب أفكاري إلى الحزب ومُثُله العليا في مناجم فحم الدنتز من زمن بعيد كان هو أيضًا في موسكو، فاعتزمت أن أذهب لزيارته، فلما دخلت عليه تذكرني وأحسن استقبالي، وكان يسكن في شقة صغيرة في إحدى الوحدات المقامة على الشاطئ الثاني من نهر موسكو، وسرَّني لسبب يصعب عليَّ أن أعبر عنه أن أرى صورة تولستوي لا تزال معلقة في حجرته.

وعرَّفني الرجل بزوجته، وهي شابة حسناء ومن العاملات في الحزب لا تقل نشاطًا عن زوجها نفسه، وقدمت لنا أكواب الشاي، وأخذت وأنا أتناوله أقص عليه ملخص تاريخ حياتي مذ التقيت به في إقليم التعدين، وكانت خاتمة حديثي بطبيعة الحال وصفًا مفصلًا حماسيًّا لاجتماعي بأورزنكدز وبوخارين، وأصغى إليَّ لزريف وهو صامت، وأحسست أن نشوتي هذه قد ضايقته.

وقال بشيء من الأسى: «ألف روبل وتذاكر للمسارح وسيارات ودار الأوبرا! نعم، هكذا كان أمراء الأسرة المالكة في العهود المنصرمة يكرمون المحظوظين من أتباعهم، وكل ما هنالك من فرق بيننا وبينهم هو الاسم لا غير.»

ورددت عليه بشيء من الحماسة: «إنك لا تنصفهم كل الإنصاف يا رفيق لزريف، إن الذي أعجبني في هذا اللقاء أن الوزير كان راغبًا في الاستماع إلى أقوالي، ولست أشك في أنه يدرك آلام الشعب ويعطف عليه، وإذا كان هو يدرك آلامه ويعطف عليه فإني أظن أن لينين لا يقل عنه إدراكًا لهذه الآلام وعطفًا على المتألمين، وهذا هو الذي يوحي إليَّ بالشجاعة والطمأنينة.»

وكان لزريف يشغل وقتئذٍ منصبًا هامًّا في جامعة موسكو، كما كان يُختار في لجان الحزب الهامة ذات السلطات الواسعة، ولكن خُيِّلَ إليَّ ونحن نتحدث في تلك الليلة أن الآية قد انعكست، فخَبَتْ آماله الخداعة وحماسته، وأصبحت أنا الذي أدافع عن الحزب وألتمس المعاذير لأعماله.

وسألني فجأة في أثناء الحديث: «هل سافرت إلى القرى من زمن قريب؟»

– «لم أسافر إليها ولكنني أعرف الكثير مما يحدث فيها.»

– «إن معرفة ما يحدث فيها شيء ورؤيته بالعين شيء آخر، لقد عدت منذ قليل إلى مدينة أودسا في أوكرانيا حيث كنت أشرف على تنفيذ نظام المزارع الجماعية في أحد الأقاليم، وأخشى يا صديقي ألا يكون في وسعي أن أتحدث عن تلك البلاد بمثل الهدوء الذي تتحدث به عن كرم الوزير …»

وكان مما أخبرني به لزريف أنه كان عضوًا في لجنة من أعضاء موثوق بهم أُرْسِلَت إلى ذلك الإقليم بعد أن فُصِلَ كثير من الزعماء المحليين؛ لأنهم عجزوا عن تنفيذ المهام التي كُلِّفوا بها هناك، وكان سبب فشلهم أن مقاومة الزراع فيها اشتدت، وأن الغل ملأ صدورهم، وأن وسائل «القمع الشديدة» التي لا بد من اتخاذها لمعالجة الموقف كانت مما لا يستطيعه الموظفون المحليون، وبدا الموقف شديد الخطورة إلى حد اضطر مولوتوف إلى الذهاب إلى هناك بنفسه نيابة عن الهيئة السياسية العليا ليشد من أزر الحكومة ويزيد في قسوتها.

وواصل لزريف حديثه قائلًا: «وجمع الرفيق مولوتوف أعضاء الحزب العاملين في الإقليم وتحدَّث إليهم حديثًا صريحًا صارمًا، وقال: إن المشروع يجب أن يُنَفَّذ مهما ضُحِّيَ في سبيل تنفيذه من الأرواح؛ ذلك أن الثورة تظل معرضة للخطر ما دام في البلاد ملايين من أصحاب الملكيات الصغيرة، فإذا ما جاءت الحرب، فإن هؤلاء الملاك قد ينضمون إلى أعداء البلاد ليحتفظوا بأملاكهم؛ ولهذا يجب ألا يكون هناك مجال للين ولا للأسف. ولم نخطئ نحن في فهم أقواله، ولم يكن ثمة حد لضروب القسوة التي ارتكبت في البلاد بعد هذا الإنذار الذي وجَّهه مولوتوف للقائمين على تنفيذ المشروع.»

وغطى لزريف وجهه بكلتا يديه كأنه يريد أن يطرد بهما تلك الذكريات المؤلمة.

وزرت عددًا من معارفي قبل أن أغادر العاصمة، وكان منهم من يردد أصداء دعاوى الحزب وأقوال محرري الصحف، وهؤلاء هم الراضون الذين يعيشون في جنان من الدعاوة، وفي عالم منعزل لا يتجاوز أطراف موسكو، ويكاد يكون مقطوع الصلة بسائر البلاد بوجه عام، ومنهم آخرون من أمثال لزريف تبدو عليهم مظاهر مصطنعة من تفاؤل عاصمة البلاد، ولكنهم في حقيقة أمرهم تكاد تتفطر قلوبهم من هول ما دهى أهل البلاد، وهؤلاء هم الذين أفسدوا ما تركته زيارتي للوزير من أثر طيب في نفسي، ووجهوا أفكاري وجهة أخرى.

ولم يستخفَّني الطرب وأنا أقص على مسامع أهلي ما رأيت وما لاقيت في موسكو، أو أنقل ما شاهدته لجليوبنكو، ولم أذكر شيئًا عن الروبلات الألف ولا السيارات ولا تذاكر المسارح؛ لأني أحسست إحساسًا غامضًا بأني إن ذكرتها كشفت للقوم عن جريمة اقترفتها، وإن لم يكن في وسعي أن أحدد نوع هذه الجريمة.

وكان لا بد من مضاعفة الجهد في الحفظ والدرس لتعويض ما فاتني منه بسبب انقطاعي عن معهدي في زيارتي لنيقوبول وموسكو ولغير ذلك من الأسباب، وكان من حسن حظي أني لم أجد صعوبة في تلك الدراسة الفنية، فلم ألبث أن حصَّلت ما حصَّله زملائي في فرقتي.

وجاءت كاتيا الصغيرة إلى منزلنا بعد أشهر قلائل من عودتي من موسكو، فقد عدت من المعهد ذات مساء وهممت بالدخول إلى الحمام لأغتسل استعدادًا للعشاء، ولكن أمي أوقفتني وهمست في أذني قائلة: إن البنت الصغيرة تستحم فيه.

فسألتها: «أية بنت؟»

– «صه، سأخبرك فيما بعد، إن أحداثًا مروعة تقع في القرى.»

وذهبت إلى حجرتي ولحقت بي أمي بعد قليل، وقصَّت عليَّ القصة في بضع كلمات، فقالت: إن نتاشا ابنة عمي، وهي من أعضاء الحزب ومديرة لإحدى الكليات التابعة لمصنع من المصانع، كانت تركب القطار عائدة من رحلة قامت بها لقضاء بعض الأعمال المصلحية، فأقبلت عليها في عربة القطار فتاة صغيرة في أسمال بالية، تبلغ من العمر عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، وطلبت إليها في صوت متهدج لا يكاد يُسْمَع أن تعطيها كسرة من الخبز تتبلغ بها، ولم يكن هذا الصوت غريبًا عليها، ولكن شيئًا في عينَي الطفلة الحزينتين وملامحها المتغضنة ترك في قلب نتاشا أعمق الأثر، فجاءت بالفتاة البائسة إلى المنزل.

وقالت نتاشا لأمي وهي تعتذر عن مجيئها بها: «ولعل الذي أثَّر في نفسي هو البرد الشديد، فإني لم أطق رؤية هذه القطعة من الإنسانية حافية القدمين عارية الجسد إلا من قليل من الأسمال البالية تخرج في البرد القارس في مثل تلك الليلة.»

وقررت أمي من فورها أن تُبْقِي الطفلة في منزلنا، وقالت وهي تبتسم: «إن فردًا آخر يضاف إلى أفراد الأسرة الكثيرين لا يكلفنا شيئًا.» وأخذتها بين ذراعي وعانقتها.

وخاطبت أمي قائلًا: «إنك أم بحق، ويسرني أنك قررت هذا القرار.»

وذهبنا إلى حجرة الطعام فرأيت كاتيا الصغيرة جالسة على الأرض بجوار أنابيب التدفئة، وكانت صفراء اللون مرتاعة، منكمشة الجسم كأنها تريد أن يصغر جسمها حتى لا تراها العين، وكادت بعض تلافيف ثياب أمي أن تحجبها عن ناظري، وكان شعرها الأسود المبتل مجدولًا ومفروقًا في وسط رأسها، ووجهها الصغير بيضاويًّا، ذهب لونه من فرط التعب وتغضَّن قبل الأوان، ولكن معارفها كانت وسيمة وفي وسعك أن تقول: إنها كانت جميلة، وجلست الفتاة في مكانها ساكنة لا تبدي حراكًا، ولا يميزها من الموتى إلا حركات عينيها اللتين كانتا تتقلبان في جميع أركان الحجرة.

وقالت لها أمي: «لِمَ تجلسين على الأرض يا كاتيا؟ قومي واجلسي على الكرسي، هذا هو ابني فكتور أندريفتش، تعالي سلمي عليه.»

وصدعت الطفلة بما أُمِرْت.

وجلستُ على الأرض أمامها وناديتها: «مرحبًا بك يا كاتيا، لِمَ لا تتكلمين؟ لا تخافي شيئًا، فنحن جميعًا نحبك، هل مسَّكِ أحد بأذى؟»

فأجابت بصوت خافت: «لا.»

وكانت كاتيا ونحن جلوس حول مائدة العشاء حيية صامتة، وكانت قبضتها على ملعقتها سمجة غير لطيفة، ولكن الجوع لم يلبث أن تغلَّب على ما كانت فيه من ارتباك، فأخذت تلتهم الطعام التهامًا، وحاولنا أن نتحدث في موضوعات شتى لا تمت بصلة إلى حالها، ولكن بؤس هذه الطفلة أثَّر فينا وأحزننا، ولم يكد أبي ينبس ببنت شفة.

ولما ذهبت والدتي بعد العشاء لتغسل الصحاف أقبلت عليها كاتيا وقالت لها: «خالتي، هل تأذنين لي أن أساعدك؟» ولما حملت الصحاف من المائدة إلى المطبخ بدت لأول مرة بنتًا صغيرة عادية، وكأنها وهي في ثوبها الكبير ذي الذيل الطويل في حفلة من حفلات التخفي، ودخلت في تلك الساعة جارتنا ألجا إيفانوفا، وهي موظفة نشيطة في لجنة الحزب الإقليمية، ولما علمت بأمر الفتاة لم يكفها استحسان ما فعلناه لها، بل عرضت علينا أن تشترك معنا في نفقات كسائها، وسمعنا فجأة صوت الفتاة تبكي في المطبخ.

وقالت أمي: «دعوها تنفِّس عن كربها بالبكاء.»

ولكن صوت بكائها أخذ يرتفع حتى أصبح نحيبًا هستيريًّا، وشرعت تردد في نحيبها باللغة الأوكرانية عويل النادبات وتقول: أين ماما؟ أين بابا؟ آه! أين فاليا أخي الأكبر؟ وذهبنا إلى المطبخ، ورأينا الفتاة منكمشة فوق كرسي تضرب كلتا يديها الصغيرتين الباديتي العظام بالأخرى، والدموع تنهمر من عينيها وتجري على خدَيها الغائرين.

وتوسلت لها أمي أن تسكت قائلة: «أرجو أن تهدئي يا كاتيا، إن أحدًا لن يمسَّك بسوء، وستقيمين معنا وسنأتيك بأحذية وملابس ونعلمك القراءة والكتابة، وثقي أني سأكون لك أمًّا رءُومًا.»

ولكن الفتاة لم تهدأ وشرعت تقص علينا قصتها.

وألحت عليها أمي أن تمسك عن سرد هذه القصة قائلة: «لا تقصيها علينا يا بنيتي العزيزة، لا تقصيها علينا، وستحدثيننا عنها في غير هذا الوقت.»

فقالت كاتيا وهي تنتحب: كلا، لا أستطيع، بل لا بد لي أن أقص عليكم قصتي الآن، إذ ليس في وسعي أن أقف صامتة، بعد أن قضيت عامًا كاملًا من غير أهل، نعم عامًا كاملًا، لقد كنا نعيش في بكرفنايا، ولم يشأ أبي أن ينضم إلى المزارع الجماعية، وأخذ ناس كثيرون يناقشونه، ثم ساروا به إلى مكان بعيد، وشرعوا يضربونه، ولكنه أصر على عدم الانضمام إليها، فصاحوا قائلين: إنه من عمال «كبار الملاك».

وسألتها: «وهل كان والدك من الملاك الزراعيين؟ وهل تعرفين معنى لفظ «عمال كبار الملاك»؟»

– «لا يا عمي لست أعرف معنى هذه الألفاظ؛ لأن معلمي لم يعلمني إياها، لقد كان لنا جواد وبقرة وعجلة وخمس نعاج وبضعة خنازير ومخزن، ولم يكن لنا شيء غير هذا، وكان الشرطي يأتي في كل يوم ويأخذ أبي إلى سوفيت المدينة فيطلبون إليه أن يورد لهم الحبوب، ولا يصدقونه إذا قال: إنه ليس لديه منها شيء، ولكني أقسم لكم إنه كان صادقًا في قوله.» ورسمت على صدرها علامة الصليب في جد ورزانة؛ «وظلوا أسبوعًا كاملًا لا يسمحون لأبي بالنوم، ويضربونه بالعصي والمسدسات، حتى ازرقَّ جلده وتورم جسمه كله.»

وواصلت كاتيا حديثها قائلة: «إنهم بعد أن انتزعوا من أبيها آخر حبة من القمح، ذبح خنزيرًا، وترك لأسرته قليلًا من اللحم، وباع ما بقي منه في المدينة ليشتري بثمنه خبزًا، ثم ذبح العجل، وعادوا «هم» بعدئذٍ يخرجونه من المنزل كل ليلة ويقولون: إن ذبح الماشية من غير إذن جريمة.

ثم جاء إلى بيتنا من نحو عام جماعة أغراب في صباح أحد الأيام، وكان أحدهم من رجال القسم السياسي ومعهم رئيس سوفيت بلدنا، وأخذ رجل آخر منهم يدوِّن في سجل معه كل شيء في منزلنا، بما في ذلك الأثاث والملابس والأواني وغيرها، ثم جاءت عدة عربات ونقلت كل ما كان في المنزل، وسيق ما كان في بيتنا من الماشية إلى المزرعة الجماعية.

وصاحت أمي العزيزة وبكت وتوسلت، وخرَّت على ركبتيها، بل إن أبي نفسه وفاليا أخي الأكبر وأختي شورا أخذوا كلهم يبكون، ولكن هذا كله لم يُجْدِهم نفعًا، وأُمِرْنَا أن نرتدي ملابسنا وأن نأخذ معنا بعض الخبز ولحم الخنزير المملح والبصل والبطاطس؛ لأنا على سفر طويل.»

وكانت هذه الذكرى أكثر مما تطيقه كاتيا فعادت تنتحب بحرقة، ولكنها مع ذلك أصرت على أن تواصل سرد قصتها: «ووضعونا كلنا في الكنيسة القديمة، وكان فيها معنا كثيرون من الآباء والأطفال من أهل قريتنا، يحملون جميعًا أشياء محزومة ويبكون، وقضينا الليلة كلها في ذلك المكان نصلي ونبكي ثم نبكي ونصلي في الظلام، فلما طلع النهار سيقت نحو ثلاثين أسرة إلى الطريق يحيط بها رجال الدرك، وكان الذين يشاهدوننا في الطريق العام يرسمون على أجسامهم علامات الصليب ثم يبكون.

ووجدنا في المحطة جماعات أخرى من الناس مثلنا جيء بهم من قرى غير قريتنا، يحسبهم الناظر إليهم آلافًا، وحُشِرْنَا كلنا في هرء خالٍ مقام من الحجر، ولكنهم لم يسمحوا لكلبي فلتشك بالدخول معي وإن كان قد تبعنا طول الطريق، وسمعته يعوي وأنا في داخل البناء المظلم.

ثم أخرجونا بعد قليل وساقونا إلى عربات من التي تُنْقَل فيها الماشية، مصفوفة صفوفًا طويلة، وبحثت عن كلبي في كل مكان فلم أجده، وسألت عنه الحارس فلم يُجِبْني إلا بركلة من قدمه، ولما امتلأت عربتنا عن آخرها حتى لم يبقَ فيها مكان لإنسان يقف على قدميه، أُغلقت علينا من الخارج، وصرخنا كلنا وأخذنا نصلي إلى العذراء، ثم تحرك القطار، ولم يكن أحد ممن فيه يعرف مستقرنا، فقال بعضهم: إننا ذاهبون إلى سيبيريا، وقال آخرون: إننا ذاهبون إلى أقصى الشمال، وأعلن البعض أننا مسوقون إلى الصحارى الحارة.

وأُذِنَ لي أنا وأختي شورا أن نخرج من العربة لنأتي ببعض الماء، وأعطتنا أمنا شيئًا من المال وزجاجة، وطلبت إلينا أن نحاول شراء قليل من اللبن لأخ لنا طفل صغير اشتد عليه المرض، وتوسلنا إلى الحارس أن يأذن لنا بالخروج؛ فأذن لنا بعد إلحاح طويل، وقال: إن ذلك يخالف القواعد المرعية. وكان على مقربة منا أكواخ لبعض الفلاحين فجرينا نحوها بأسرع ما تستطيع أقدامنا أن تحملنا.

ولما علم مَنْ في هذه الأكواخ منا حقيقة أمرنا أخذوا يبكون، وأعطونا من فورهم بعض الطعام، وملئوا الزجاجة لبنًا، ورفضوا أن يأخذوا منا له ثمنًا، ثم أسرعنا عائدين إلى المحطة، ولكننا جئناها متأخرين، ووجدنا القطار قد غادرها قبل أن نصل إليها.»

وقطعت كاتيا قصتها مرة أخرى لتندب أمها وأباها وإخوتها وأختها، وأخذ كل من كان منا في المطبخ يبكي على بكاء هذه الطفلة، وكلما حاولت أمي تهدئتها زاد صوت بكائها علوًّا، ونظر أبي إليها في حزن وصمت ولم يقل شيئًا، وكان في وسعي أن أرى عضلات وجهه تتحرك بحركات تشنجية.

وانضمت كاتيا وأختها بعد فراق أهلهما إلى جيش الأطفال المشردين الذين لا يُحْصَى عديدهم، وأخذتا تتنقلان من قرية إلى قرية، وتعلمتا التسول والطواف بالقرى طلبًا للطعام، والتعلق بأسوار عربات القطر الحديدية، وأتقنتا رطانة المتشردين أبناء السبيل، ثم افترقت الأختان في سوق إحدى القرى على أثر مطاردة أحد رجال الدرك لهما، وبقيت كاتيا وحدها في هذا العالم حتى جاءت بها نتاشا إلى منزلنا.

وأحببنا كاتيا وأصبحت تشعر كأنها واحدة منا، ولكننا كنا نسمع في بعض الليالي نحيبها المكبوت، وهذه الشكوى القديمة الشبيهة بالنديب: «أين أنتِ يا أماه؟ أين أنت يا أبتاه؟»

١  The ABC of Communism.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤