الفصل السادس عشر

أنواع النقد

كنا حتى الآن نتحدث عن وظيفة واحدة فقط للنقد، وهي وظيفة الحكم أو التقدير، أي الاهتداء إلى مبررات تؤيد حكم القيمة. غير أن للنقد وظائف أخرى.

فهو يحاول أن يفسر أو يوضح العمل الفني؛ فقد يفسر الناقد للقارئ الذي لا يعرف اللغة الاسكتلندية معنى الكلمات التي وردت باللهجة المحلية في شعر الحب عند روبرت بيرنز؛ وقد يفسر الإشارات التاريخية في رواية؛ وقد يفسر معاني الرموز؛ وقد يتتبع البناء الشكل ويكشف عن دلالته التعبيرية؛ وقد يصف، من خلال «تذوقه» للعمل، التأثير الذي ينبغي أن يكون لهذا العمل في المدرك، ومن المؤكد أن إيضاح معنى العمل وبنائه من أهم أغراض النقد، بل إن بعض النقاد في الآونة الأخيرة — كما سنرى فيما بعد — يرون أنه أهم من التقدير. وسوف أطلق على هذه الوظيفة اسم الوظيفة «التفسيرية» للنقد.

إن النقد التفسيري ضروري نظرًا إلى طبيعة الفن ذاته؛ فالأعمال الفنية التي تستحق الكلام عنها تكاد كلها تكون شديدة التعقيد. وكثيرًا ما يكون بناؤها الشكلي عميقًا مركبًا؛ وهي في عمومها غنية بارتباطاتها التعبيرية. وعندما نتعلم تذوق العمل، ندرك أن له قدرًا كبيرًا من الوضوح، ويكون تأثيره فينا مباشرًا. ولكن ينبغي أولًا أن تكون لدينا معرفة وثيقة بالعمل.١ وحتى عندئذٍ قد لا تكون جهودنا كافية؛ فمن الواجب أن نستعين بجهود النقاد، وإلا ظل العمل غامضًا غير قابل للفهم، ولم نتمكن من التجاوب معه.
ويرى الناقد المشهور «بلاكمير R. P. Blackmur»، أن النقد التفسيري ضروري بوجه خاص في عصرنا هذا. صحيح أن الأدب ليس هو الفن الوحيد الذي يستعين في موضوعاته بأوجه نشاطنا وشواغلنا في «الحياة»، ولكنه يفعل ذلك أكثر مما يفعله أي فن آخر. ويشير بلاكمير إلى أن هذا يثير بالنسبة إلى القارئ، في عصرنا هذا، مشكلة خطيرة؛ «فعبء المعرفة الوصفية والتاريخية أثقل بكثير مما يستطيع أي رجل أو مجموعة من الرجال تحمله».٢ ومن هنا فقد يكون القارئ مفتقرًا إلى المعرفة التي يفترضها فيه الفنان، وفضلًا عن ذلك فنحن لم نعُد نعيش في حضارة مستقرة موحدة، يشترك فيها الفنان والجمهور في المعتقدات والقيم؛ «فالجمهور لا يستطيع أن يجلب للعمل الفني إلا أقل مما كان يجلبه في ظروف الحضارة القديمة، بينما الفنان مطالب بأن يجلب له المزيد.»٣ وأصبح من العسير فهم الأعمال الأدبية التي يشهد الجميع بغموضها، بل فهم تلك التي يبدو من السهل استيعابها؛ فأعمال «شو» لا تقل صعوبة عن أعمال جويس، وأعمال توماس مان لا تقل صعوبة عن أعمال كافكا «لو أنك أمعنت النظر فيها بحق».٤
ومن هنا فإن «العبء» المُلقَى على عاتق النقاد هو «صنع جسور بين المجتمع والفنون».٥ فمن الواجب أن يشرح الناقد «ما تنطوي عليه الفنون … أي تلك القوى التي تعمل في الفنون، والتي هي أعظم منا وتأتي من مصادر خارجة عنا، أو من ورائنا».٦

•••

فكيف يرتبط النقد التفسيري بالنقد التقديري؟

من الواضح أنهما مختلفان. فأحدهما يفسِّر العمل، والآخر يحكم عليه. وفضلًا عن ذلك فإن النقد التقديري يفترض مقدَّمًا النقد التفسيري. وكما قال الأستاذ جرين، فإن «السؤال: ما قيمته؟ يفترض مقدمًا السؤال: ما هو؟».٧

ومع ذلك فإن العلاقة بين النقد التقديري والنقد التفسيري ليست على هذا القدر من البساطة. فهاتان الوظيفتان النقديتان تمتزجان وتؤثران كلٌّ في الأخرى. ومن الواجب ألا يؤدي بنا التمييز الذي وضعناه بينهما إلى إغفال حقيقة ما يقوم به النقاد بالفعل. فلو قلنا إن الناقد يبدأ أولًا بالإجابة عن السؤال «ما هو؟» ثم ينتقل إلى «ما قيمته؟» لكان في هذا تشويه لما يحدث فعلًا في مجال النقد.

إن التفسير لا يحدث في فراغ، بل إنه يندمج بسهولة في التقدير. فعندما نقول ما «هو» العمل، نكون أيضًا قد حددنا، بطريق مباشر أو غير مباشر، رأينا في العمل من حيث هو موضوع جمالي، وبذلك نكون قد وصفنا نوع القيمة التي تكون للعمل بالنسبة إلى المشاهد، ودرجة هذه القيمة، والواقع أن القليل، نسبيًّا، من النقد التفسيري هو «المتحرر من القيمة». ومعظم الألفاظ التي نستخدمها في وصف «ما هو عليه» لها معانٍ مرتبطة «بما هو جدير به». فلنفرض أننا نصف قطعة من الموسيقى بأنها «خفيفة»، أو — في الطرف الآخر — «عميقة». أو لنفرض أن ناقدًا يقول هذا العمل ليس تراجيديًّا، وإنما هو مجرد «ميلودراما». مثل هذه الألفاظ تقوم بمهمة «الوصف»، ولكنها أيضًا تقويمية ضمنيًّا.

لهذا كان كثير من النقاد لا يقدمون تقديرًا صريحًا، واضحًا، للعمل؛ إذ إنهم ليسوا مضطرين إلى ذلك، بل إن ما يقولونه عن العمل يعبر عن رأي الناقد بطريقة أدق كثيرًا مما يستطيعه الحكم: «هذا جميل.» ويقول الناقد الكبير ماثيو آرنولد إن المهمة الرئيسية للنقد هي نشر المعرفة. أما التقدير، كما يقول، فيجوز «أن يأتي في ركابه — ولكن بطريقة غير ملموسة، وفي المرتبة الثانية … بوصفه نوعًا من الرفيق أو المرشد، لا بوصفه مشرعًا مجردًا.»٨

وعلى العكس من ذلك فإن إحساس الناقد بالقيم يؤثر عادة في تفسيراته؛ فهو يقبل على العمل بمعتقدات تتعلق بما ينبغي أن «يستخلصه» من هذا النوع من العمل؛ وهذه المعتقدات تحدد ما سيبحث عنه في العمل، وبالتالي كيف سيقرؤه، وتؤدي به ميوله المزاجية والانفعالية إلى أن يرى في العمل أشياء يتجه غيره من النقاد إلى تجاهلها أو تفسيرها على نحو مختلف.

إن العمل الفني مشحون بالقيم. ومن هنا فإننا عندما نتحدث عنه، تتداخل المسائل الواقعية والتقويمية، وهذا يتجلى في كل قطعة من الكتابة النقدية تقريبًا، ومع ذلك فإن التمييز بين النقد التقديري والنقد التفسيري هو تمييز هام؛ إذ إن لهما، على الرغم من تلازمهما، أغراضًا مختلفة كل الاختلاف، وسوف نرى في هذا الفصل فيما بعد ما يترتب على تجاهل التمييز بينهما من خلط.

•••

إن من الممكن القيام بالتقدير والتفسير على أنحاء كثيرة متباينة. وسوف ندرس فيما بعد في هذا الفصل بعضًا من الأنواع الرئيسية للنقد، يستخدم كل منها مناهج متميزة، هذه الأنواع تنبهنا إلى جوانب متباينة من الفن، فبعضها يؤكد أصول العمل، أي عملية الخلق، والمجتمع الذي كان يعيش فيه الفنان؛ وبعضها الآخر يهتم أساسًا بتأثيرات العمل في الشخص الذي يدركه، وغيرها يركز اهتمامه كله في البناء الباطن للعمل.

إننا نستطيع أن نتعلم من كل نوع من النقد، ولكن من الواجب أن نشترط على كل من هذه الأنواع أن يستخدم معايير للتقدير يمكن استخدامها عمليًّا، وأن يبقي على العمل الفني، في تفسيره له، ضوءًا وضَّاحًا.

(١) النقد بواسطة «القواعد»

لا بد لتقدير العمل الفني من معايير للقيمة. فإذا لم يكن الناقد يكتفي بوصف مشاعره فحسب، فلا بد له من فحص خصائص العمل ذاته. غير أنه لا يستطيع أن يدافع عن تقديره إلا إذا استطاع أن يثبت كيف تؤدي هذه الخصائص إلى جعل العمل جيدًا، وبأي الدرجات تؤدي إلى ذلك — وإذن فلا بد أن يكون لديه معيار يعرف به الجودة الفنية ويقيسها؛ هذا المعيار قد يكون هو «مشابهة الواقع» أو «النبل الأخلاقي» أو «القوة الانفعالية»، وبدون هذه المعايير، لا يستطيع أن يدعم حكمه؛ وبدونها أيضًا لا نستطيع نحن أن نفهم السبب في إصداره هذا الحكم.

هذه المعايير تبين، بوجه عام، إن كان العمل جيدًا «في نوعه». فهي تقيس القيمة، لا في العمل المحدد فحسب، بل أيضًا في أعمال أخرى مشابهة له. فنحن نرى أنه عندما تسمى المسرحية «تراجيديا» أو «كوميديا»، فلا بد أن تتوافر فيها صفات شكلية وتعبيرية معينة، يتميز بها ذلك النوع الأدبي. وعندما يصنع نحات تمثالًا لغرض اجتماعي معين، مثل تخليد ذكرى حادث تاريخي، فلا بد أن يكون عمله مرتبطًا بالتراث الاجتماعي، وأن يسهل تذوقه على كل أفراد المجتمع، وهكذا، وبالمثل توجد معايير للسوناتا أو «الفوجية» المحكمة البناء.

غير أن كل شيء، في نقد عمل بعينه، يتوقف على طريقة تطبيق هذه المعايير. فإذا طبقت بطريقة جاهلة، بطل النقد التقديري، وطاش النقد التفسيري عن هدفه.

•••

كان النقد «الكلاسيكي الجديد neoclassical» في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، متمسكًا بالتقاليد والشكليات إلى حد بعيد. وكان هذا النقد، كما يدل عليه اسمه، يتخذ من العصر اليوناني الروماني القديم «أنموذجًا» لكل فن، سواء في الأدب وفي الفنون البصرية. وقد وضع قادة هذه الحركة، ولا سيما بوالو Boileau (١٦٣٦–١٧١١م) قواعد مفصلة لتقدير الفن. وكان يظن أن هذه القواعد تصدق على نحو شامل، لأنها كانت ترتكز على سلطة الفيلسوف أرسطو والشاعر هوراس. وعلى هذا الأساس لم تكن الكلاسيكية الجديدة تشجع التجديد والتجريب في الفن.
ولقد كان نقاد الكلاسيكية الجديدة يصنفون الأعمال الأدبية والتصوير إلى أنواع أو أنماط؛ ففي الشعر مثلًا، نجد وصف الطبيعة، والرثاء، والسونيت sonnet، ووُضِعت قواعد ثابتة تقيس جودة الأعمال التي تنتمي إلى نوع معين، أولى هذه القواعد هي ضرورة احترام الفوارق بين الأنماط الفنية، فلا بد أن يكون العمل «خالصًا»، بمعنى أن يتسم بوحدة الروح والأسلوب، ولا ألا يخلط بين الأنواع الأدبية، وتلي ذلك قواعد لكل نمط معين. مثال ذلك أن أحد نقاد الكلاسيكية المحدثة اشترط أن تشيع روح العقيدة المسيحية في «الشعر البطولي»، وأكد أن «البطل ينبغي أن يكون شخصية تقية أخلاقية» والحوادث ينبغي أن تكون «نبيلة وقورًا».٩ وهذا بطبيعة الحال مثل من أمثلة نظرية محاكاة المثل الأعلى.١٠ كذلك كانت الحركة الكلاسيكية الجديدة تأخذ بنظرية محاكاة «الماهية».١١ ومن هنا وضعت القاعدة التي تقول إن جميع الشخصيات الروائية ينبغي أن تكون من «نمط» محدد المعالم، وأن من الواجب أن تسلك بطريقة متسقة وفقًا لهذا النمط، وينبغي ألا تكشف عن سلوك غير مألوف، أو تعبر عن نزوات شخصية.
ولعل أشهر القواعد الكلاسيكية الجديدة هي «الوحدات الدرامية» الثلاث. وقد عبر كاستلفترو Castelvetro (١٥٧٠م) عن هذه القواعد، مرتكزًا فيها على سلطة أرسطو، فرأى أن من الضروري وجود وحدة للزمان والمكان في الدراما، أي أن المنظر في الدراما ينبغي ألا ينتقل من مكان إلى الآخر، كما أن الزمان الذي تدور فيه الأحداث ينبغي أن يكون متصلًا، وبعبارة أخرى فإن هذه القواعد تحظر وقوع الفصل الثاني — كما في المسرحية الحديثة — «بعد خمس سنوات»، أو في مكان مختلف تمامًا عن مكان الفصل الأول. ولو احتُرمَت وحدتَا الزمان والمكان، لكان من الضروري، في رأي كاستلفترو، أن تترتب عليها وحدة الحوادث؛ ذلك لأن أحداث المسرحية ينبغي، عندئذٍ، أن تكون متصلة ومترابطة. هذه الوحدات — وحدة الزمان، والمكان، والحدث — ظلت تسود قدرًا كبيرًا من الدراما الأوروبية طوال ما يزيد على قرنين من الزمان.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الوحدات الثلاث التي يفترض أنها مستمدة من أرسطو، لا توجد عند أرسطو، فهو لا يؤكد إلا واحدة منها، هي وحدة الحدث التي يعدها كاستلفترو ثانوية، ولقد أكد أرسطو، كما رأينا من قبل، أن من الضروري وجود ارتباط وثيق بين أحداث المسرحية، يؤدي آخر الأمر إلى الذروة. وهو لا يتحدث عن الزمان إلا في فقرة واحدة، وعندئذٍ يتحدث عنه بإيجاز، إذ يقول: «إن التراجيديا تحاول أن تقتصر، بقدر الإمكان، على دورة واحدة للشمس.»١٢ أما وحدة المكان فلم يرِد لها أي ذكر عند أرسطو.

•••

على أن ما يهمنا في هذا المجال ليس تاريخ هذه القواعد، بل إننا نود أن نرى ما هو نوع النقد الفني الذي يترتب على تطبيق هذه القواعد. ومن المفيد لهذا الغرض أن نبحث أولًا حالة ناقد ضئيل الأهمية نسبيًّا، من نقاد الحركة الكلاسيكية المحدثة. ذلك لأن الناقد الهزيل يكشف عن نقاط الضعف الكامنة في مذهب نقدي معين على نحو أفضل مما يكشف عنها ناقد استطاع بذكائه وحساسيته أن يتغلب على نقاط الضعف هذه، والناقد الذي سنختاره ناقد هزيل حقًّا، بل لقد وصف بأنه «أسوأ ناقد عرفته البشرية».١٣
حاول توماس ريمر Thomas Rymer، الذي عاش في أواخر القرن السابع عشر، أن يجعل نقده مرتكزًا على كتاب الشعر لأرسطو، فتحدث عن «أعظم الشعراء الإنجليز … الذين كانوا غير موفقين … نتيجة لجهلهم بتلك القواعد والقوانين الأساسية التي وضعها أرسطو، أو تجاهلهم لها.»١٤ وقد استخدم ريمر هذه القواعد، كما فهمها، في نقد شيكسبير. وهكذا طبق قاعدة «النمط» النفسي — وهي الصيغة التي عبرت بها الحركة الكلاسيكية الجديدة عن فكرة «الشمول» عند أرسطو — على «عطيل»، فهاجم المسرحية هجومًا كان عنيفًا أشد العنف؛ لأن هذه القاعدة لا تُلتزم طوالها؛ ذلك لأن شيكسبير جعل ياجو كذابًا. غير أن هذا لا «يتمشى مع النمط»؛ إذ إن ياجو جندي، والجنود دائمًا «قلوبهم مفتوحة، صرحاء، بسطاء في معاملاتهم»، وبالمثل فقد كان من المستحيل أن تحب ديدمونة رجلًا أسود، كما كان من المستحيل أن يكون عطيل قائدًا في البندقية، وهكذا. وفضلًا عن ذلك فإن شيكسبير يخرق قاعدة «نقاء النمط»؛ لأنه يدخل «ترويجًا هزليًّا» وسط التراجيديا، ومن الواضح أنه لا يحترم «الوحدات الدرامية»، أي أن الأحداث تتنقل من مكان إلى آخر. لهذه الأسباب كلها، انتهى ريمر إلى أن شيكسبير، حين كتب التراجيديا، «يبدو بعيدًا عن مستواه تمامًا، فذهنه معوج، وهو يهذي ويشطح دون أي ترابط»١٥ (عرَض ريمر نقدَه هذا في كتاب اسمه «نظرة قصيرة إلى التراجيديا»، وهو اسم على مُسمًّى بحق!)

ولكي ندرك الأخطاء التي ارتكبها ريمر، ننتقل إلى الكلام عن شخصيات أخرى عظيمة في مجال النقد خلال الحركة الكلاسيكية الجديدة.

كتب جون درايدن J. Dryden هذه الملحوظة على جلدة كتاب من تأليف ريمر: «لا يكفي أن أرسطو قال ذلك؛ لأن أرسطو استمد نماذج التراجيديا عنده من سوفوكليس ويوريبيدس؛ ولو كان قد شاهد تراجيدياتنا الحالية، لكان من الجائز أن يغير رأيه.» فلماذا تعد هذه الملاحظة عميقة إلى حد بعيد؟ لأنها أولًا احتجاج على الخضوع للسلطة في النقد … «لا يكفي … إلخ»، ولهذا الاحتجاج أهمية عظمى في عصر كان يسعى إلى تبرير معايير القيم لديه عن طريق الإهابة بالعصر القديم، ولكن الأهم من ذلك أن درايدن يرى أن الأرسططالية ليست لها إلا صحة محدودة، فلا يمكن تطبيقها بطريقة صحيحة على التراجيديات الحديثة. وهنا يقول درايدن ضمنًا إن الناقد ينبغي أن يعترف بالطبيعة المتميزة للعمل الفني، قبل أن يطبق قواعده؛ فمعايير التقدير ينبغي أن تكون ملائمة للعمل.
وقد سار ألكسندر بوب A. Pope، خليفة درايدن العظيم، بهذه الحجة خطوات أخرى في كتابه «دراسة في النقد Essay on Criticism» (١٧١١م). وكان بوب يسير، إلى حد بعيد، مع التيار الرئيسي للنقد الكلاسيكي الجديد. فهو ينظر إلى «الطبيعة» على أنها «مصدر الفن، ومعياره، وغايته».١٦ وهو يؤمن «بتلك القواعد التي اكتُشِفَت منذ القدم، ولم تُستحدَث». ومع ذلك فإن بوب يؤكد أن من الضروري عدم إطاعة هذه القواعد بطريقة متحجرة عمياء، بل إن من الممكن خرقها، إذا دعت الحال.

فمن الممكن كسر هذه القواعد، إذا ترتب على ذلك وصول العمل «إلى شغاف القلب، وبلوغه غايته كاملة»، ولقد كان ريمر يحكم على العمل دون بحث تأثيره في القارئ. أما بالنسبة إلى بوب، فإن «الغاية» الجمالية للعمل هي التي تهمنا؛ فالعمل يكون قد حقق هدفه عندما «تبعث سورة الانفعال الحرارة في الذهن». وفضلًا عن ذلك فإن ريمر لم يكن يحكم، في تطبيقه لقواعد «النمط»، و«الوحدة» … إلخ، إلا على أجزاء من العمل، وهو يبحث في هذه الأجزاء — مثل طريقة تصوير الشخصيات، والقالب … إلخ — منفصلة. غير أن من المحال الحكم على جودة الأجزاء أو رداءتها بطريقة واعية إلا إذا فهمنا كيف تؤدي وظيفتها داخل العمل بأسره، وهكذا يقول بوب إن من واجبنا أن نبحث في «القوة المشتركة والنتيجة الكاملة للكل».

على أنه ربما كان أفدح عيوب ريمر هو افتقاره إلى «التعاطف» الجمالي. فهو لا يحاول تذوق المسرحية على ما هي عليه، وهو لا يبذل جهدًا لقبولها والتجاوب معها بوصفها عملًا فنيًّا متميزًا؛ فهو يغمض عينيه عن قيمها، ويحاول أن يحشر العمل قسرًا في القالب المحدد مقدمًا القواعد، ويحمل عليه لأنه لا يدخل في هذا القالب. أما بوب فيؤكد ضرورة قراءتنا للشعر بتعاطف، أو أننا — على حد تعبيره — ينبغي أن نقرأ الشعر «بنفس الروح التي كتب بها مؤلفه». وهكذا فإن ناقدًا حديثًا يقول عن زواج ديدمونة من عطيل، وهو الزواج الذي حمل عليه ريمر، إنه «ليس أمرًا منافيًا لطبيعة الشخصيات، وإنما هو غير مألوف وغريب إلى أبعد حد، ولكن كان المقصود منه أن يكون كذلك».١٧

إن بوب يذكرنا بما نسيه ريمر. فلا بد أن يُقرأ العمل ويقدر بطريقة جمالية. ولهذا السبب أكَّد بوب أهمية التأثير الجمالي أو «الغاية»؛ ولهذا أيضًا ركز اهتمامه على العمل الكامل — إذ إن الإدراك الجمالي يدرك العمل من حيث هو وحدة، ولا يحلله إلى أجزاء؛ ولهذا — أخيرًا — حثَّ النقاد على أن يراعوا دائمًا مقصد الفنان.

وفي مرحلة متأخرة من القرن الثامن عشر، شنَّ الدكتور جونسون حملة تفصيلية عنيفة على النقد بواسطة القواعد، ولقد كان هو ذاته، مثل بوب، لا يزال ملتزمًا بتراث الحركة الكلاسيكية الجديدة. غير أن جونسون فضح عيوب هذه الحركة بطريقة كانت فعالة إلى حد أنها سددت ضربة قاصمة إلى هذا التراث، وأصبح من الواضح، في نهاية القرن، أن هذه الحركة كانت متجهة إلى الاضمحلال.

والأهم من ذلك كله أن جونسون يميز، بدقة ووضوح، «بين ما استقر لأنه صحيح، وما هو صحيح لمجرد كونه قد استقر.»١٨ فما الذي يبرر القواعد، التي تُملى على الفنان وعلى عمله؟ لقد كانت هذه القواعد تعد، تقليديًّا، ذات صحة أزلية. غير أن ذلك أضفى عليها سلطة لا تملكها بالفعل؛ «إذ يتضح، بعد اختبار القواعد الموروثة … أنها أوامر اعتباطية لأشخاص جعلوا من أنفسهم مشرِّعين، ولم يمنحهم هذه السلطة أحد … وبعد ذلك حُظِرت كل التجارب الجديدة للقريحة الفنية بقانون ساعد الخمول والجبن على قبوله بسهولة.»١٩ وهكذا ترى أن جونسون لم يقتصر على تحدي القواعد، بل إنه أدانها، على أساس أنها تخنق كل اتجاه إلى التجديد في الفن.

ولقد رأينا كيف التجأ ريمر إلى القواعد في نقده لتراجيديات شيكسبير. أما جونسون، فإنه يوجه إليه لومًا عنيفًا.

فهو، مثل بوب، يهيب بالتأثير الجمالي للعمل؛ فشيكسبير «لا يخفق أبدًا في بلوغ هدفه؛ فهو قادر على أن يجعلنا نضحك أو نبكي أو نجلس صامتين في توقع هادئ حسبما يشاء».٢٠ كذلك فإن جونسون يؤكد، مثل بوب، أن الناقد ينبغي أن يبحث فيما يحاول الفنان أن يحققه؛ «فعندما تفهم خطة شكسبير، تختفي على الفور معظم انتقادات ريمر وفولتير».٢١ وعندئذٍ يتضح أن القواعد سخيفة لا صلة لها بالموضوع، «إن شكسبير لم يعبأ بوحدتي الزمان والمكان».٢٢ ومع ذلك فلو شئنا أن تُستخدم الوحدتان في التقدير الفني، فعلينا أن نضع نصب أعيننا طبيعة الإدراك الجمالي. فالمتفرج يدرك أن المسرحية «إيهام» وهو يعلم أنه مطالب بأن يتخيل نفسه في مصر مثلًا، ومن المؤكد أن «من يتخيل هذا يستطيع أن يتخيل المزيد».٢٣ وعلى ذلك فإن تغيير المكان الدرامي ليس عيبًا، لأنه لا يقلل من الاهتمام الجمالي، وكذلك الحال بالنسبة إلى الزمان؛ «فمن يستطيع أن يمد ثلاث ساعات إلى اثنتي عشرة أو أربع وعشرين ساعة، يستطيع بنفس السهولة أن يتخيل عددًا أكبر.»٢٤ على أن إحدى الوحدات الثلاث موجودة بالفعل عند شيكسبير، وهي بعينها الوحدة التي كان أرسطو يؤكدها؛ «فالحدث الواحد يرتبط بالآخر، والنتيجة تتلو بتعاقب سلس».٢٥ كما أن من الواجب ألا يُلام شيكسبير على مزجه بين التراجيديا والكوميديا؛ فامتزاج «الفرحة والأسى» أمر «طبيعي» في الحياة البشرية، وهو بدوره يزيد من الفعالية الدرامية للمسرحية.

•••

فما هي النتائج التي يمكننا استخلاصها من هذه المناقشة؟

من المؤكد أن هذه النتائج ليست هي أن النقاد ينبغي أن يستغنوا تمامًا عن القواعد، فلا بد أن تكون لدينا معايير لما هو جيد وما هو رديء إذا شئنا أن نقوم بأي تقدير للفن، كذلك فليس المقصود من مناقشتنا أن قواعد الحركة الكلاسيكية الجديدة هي، ببساطة، قواعد محرفة. فلو كانت كذلك، لما ظلت سائدة في ميدان النقد خلال تلك الفترة الطويلة، وإنما الأصح أن لكل من هذه القواعد أهمية معينة؛ «فالوحدات الدرامية» تؤكد أهمية التركيز والتكثيف الدرامي؛ ذلك لأن اهتمام المشاهد كثيرًا ما يتشتت عندما تكون هناك تغيرات كثيرة في الزمان والمكان، وعندما لا تكون أحداث المسرحية مترابطة بعضها مع البعض، وقاعدة «نقاء النمط» تذكرنا بأن الخلط بين عدة أساليب واتجاهات كثيرة ما يحدث تخلخلًا في العمل الفني، وأخيرًا فإن قاعدة «النمط» النفسي مستمَدة من نظرية «الماهية»، وهي من أدق النظريات الفنية وأهمها.

وإذن، فليس عيب النقد الذي كان يوجهه ريمر هو مجرد استخدامه لقواعد، أو استخدامه لقواعد الحركة الكلاسيكية الجديدة، بل إن العيب هو أن القواعد تطبق بطريقة آلية عمياء. ومن ثَم فإن الناقد يكون عاجزًا، نتيجة لاتباع هذا المنهج، عن تذوق قيمة العمل، ويطيش نقده، سواء أكان تقديريًّا أم تفسيريًّا، عن الهدف تمامًا.

وعلى الرغم من أن بوب وجونسون لم يستخدما هذه الألفاظ، فإنهما كشفَا بوضوح عن أن المعايير ينبغي أن تكون ملائمة من الوجهة الجمالية، فقبل أن يتمكن الناقد من الحكم على العمل، ينبغي أن يكون لديه إحساس بما يحاول العمل أن يحققه في تجربة القارئ. وما لم يفهم الناقد «غاية» العمل ويحترمها، فإنه يسيء تفسير «الوسائل» والحكم عليها.

ويترتب على ذلك أن النقد ينبغي أن يبدأ على الدوام باستجابة جمالية يشعر بها الناقد، وربما لم يكن الوصف الصحيح لريمر هو أن إدراكه الجمالي باطل، وإنما هو أنه لم يدرك المسرحية جماليًّا على الإطلاق، ولو كان قد أدركها جماليًّا، لكان من الجائز أن يشعر بقوة العمل، ولكان أكثر ترددًا في تطبيق قواعده؛ «فالغاية» الجمالية، التي ينبغي أن تحكم العملية النقدية بأسرها، لا يمكن أن تتكشف إلا للإدراك الجمالي.

ولقد كان ريمر واثقًا من نفسه إلى هذا الحد الكبير، في إصداره لأحكامه الباطلة؛ لأنه كان يعتقد أنه يستند إلى سلطة التراث، وإذن فها هنا درس آخر ينبغي أن نتعلمه بالنسبة إلى النقد، هو أن الناقد ينبغي أن يظل متيقظًا للتجديد في الفن. وينبغي أن يكون على استعداد للتخلي عن المعايير التقليدية، عندما لا تكون صالحة للحكم على أعمال جديدة مختلفة. وهذه في الواقع نتيجة للمبدأ القائل إن علينا أن نحترم الفردانية الجمالية لكل عمل، والواقع أن كثيرًا من تجاربنا الجمالية إنما هي توتر بين التراث والتجديد. ولقد كان ريمر المسكين واقعًا في قبضة التراث، غير أن كلًّا منا ينمي في نفسه عادات إدراكية، نتيجة لتجربته مع الفن خلال فترة طويلة من الزمان، هذه العادات ينبغي ألا تكون جامدة متحجرة؛ «فكل شِعر جيد تقريبًا يبعث في النفس الاضطراب، خلال لحظة على الأقل، عندما نراه لأول مرة على ما هو عليه، ولا بد من التخلي عن عادة معينة أثيرة لدينا إذا ما شئنا أن نتابعه».٢٦ ولن يكون حكم الناقد ملائمًا من الوجهة الجمالية إلا إذا كان على استعداد للتخلي عن المعايير القديمة إذا دعا الأمر؛ فذهن الناقد الجيد وذوقه مَرِن قابل للتشكُّل.

(٢) النقد السياقي

يشمل «سياق» العمل الفني الظروف التي ظهر فيها العمل، وتأثيراته في المجتمع، ويشمل بوجه عام جميع العلاقات والعلاقات المتبادلة بين العمل وبين الأشياء الأخرى، باستثناء حياته الجمالية؛ فالإدراك الجمالي يتركز على العمل مأخوذًا على حدة. غير أن العمل، إذا ما نظر إليه بطريقة غير جمالية، كان يوجد في سياق؛ فقد ابتدعه إنسان كانت له سمات نفسية معينة. وكان هذا الإنسان يعيش في مجتمع لا بد أن نظمه وقيمه أثرت في تفكيره وكيانه، وكانت له انتماءات سياسية واقتصادية وعنصرية، وفضلًا عن ذلك فإن العمل، بمجرد أن ينشر أو يعرض، تكون له تأثيرات في الحياة الشخصية والاجتماعية، وللعمل تأثير أخلاقي، كما أكد أفلاطون وتولستوي، فمن الممكن استخدامه لأغراض الإصلاح الاجتماعي، ومن الممكن أن يغير تفكير جمهوره واتجاهاته.

والنقد السياقي contextual هو ذلك النوع من النقد الذي يبحث في السياق التاريخي، والاجتماعي، والنفسي، للفن.٢٧

•••

هذا النوع من النقد، في صوره المختلفة، يكاد يكون قديمًا قِدَم النقد الفني ذاته، فبعض الأعمال الفنية نواتج اجتماعية واضحة، لأنها تجسد معتقدات حضارة الفنان ورموزها، وتعكس سمات العنصر الذي ينتمي إليه، وقد ظلت هذه الأعمال، منذ أيام اليونانيين، تدرس في صلتها بالمجتمع، كذلك فإن تاريخ حياة الفنان، في الفنون البصرية والأدب على الأقل، هو موضوع الاهتمام منذ القرن السادس عشر، كما أن التحليل التاريخي للأدب يظهر منذ بداية القرن الثامن عشر.٢٨

غير أن النقد السياقي لم يمارس أبدًا بذلك النطاق الواسع والنجاح اللذين مُورِس بهما في الأعوام المائة الأخيرة، بل إن ظهور النقد السياقي ونموه قد يكون أبرز تطور في تاريخ النقد منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد تمكن السياقيون عن طريق استخدام مفاهيم وأساليب جديدة في التحليل، من الإتيان بقدر ضخم من المعلومات عن الفن، وطبقوا مناهجهم على الفن الكلاسيكي، فضلًا عن المعاصر، وألقوا الضوء على وقائع لم يسمع بها أحد من قبل؛ ففي الماضي كان الفن يُعَد نتاجًا «للجنون» أو «الإلهام»، ومن هنا كان الفن يُعَد بمنأًى عن الدراسة الواقعية. أما النقاد السياقيون فينظرون إلى الفن على أنه ظاهرة تجريبية ضمن ظواهر أخرى، فمن الممكن أن يُدرَس كما تُدرَس الظواهر الفيزيائية أو التاريخ البشري أو النشاط الاقتصادي، ويدل النجاح الذي أحرزته أبحاثهم على صحة موقفهم، فالنقد السياقي في الأعوام المائة الأخيرة هو، في ذاته، واحد من أعظم المنجزات العقلية.

ولن يتسع المقام هنا إلا لعرض موجز للأسباب الرئيسية التي أدت إلى ظهور النقد السياقي ونموه.

ففكرة السياق ذاتها من أقوى أفكار القرن التاسع عشر تأصُّلًا وأعظمها تأثيرًا، والمقصود بها هو أن الشيء لا يمكن أن يُفهَم منعزلًا، وإنما يُفهَم فقط بدراسة أسبابه ونتائجه وعلاقاته المتبادلة، هذه الفكرة الغنية الحافلة بالنتائج تحفز على البحث في ميادين متعددة، ضمنها ميدان النقد الفني، والواقع أن القرن التاسع عشر كان، إلى حد بعيد، ذا اتجاه تاريخي، وكثير من مفكريه وعلمائه البارزين كانوا يدرسون وقائع أبحاثهم بالطريقة المنشئية (genetically)، أي من خلال أصولها.

وهناك سبب آخر أكثر تخصصًا، أدى إلى ظهور السياقية في ميدان النقد الفني على التخصيص؛ فقد كان كثير من مفكري القرن التاسع عشر يريدون أن يجعلوا النقد «علميًّا»؛ ذلك لأنهم كانوا، من جهة، معجبين بدقة العلوم الطبيعية ويقينها، وكانت الحركة المسماة «الوضعية» تشيد بالعلم بوصفه أرفع منجزات العقل البشري. ومن جهة أخرى فقد راعتهم ذاتية الأحكام النقدية، وهي الذاتية التي بدت ميئوسًا منها، كما راعتهم الخلافات التي لا تنتهي بين النقاد. ولو أمكن دراسة الفن علميًّا، أي سياقيًّا، فربما أصبح التقدير بدوره، عندئذٍ، علميًّا في نهاية الأمر.

وفي الوقت ذاته كان يجري تطور عقلي يبشر بتحقيق هذا الأمل؛ فالعلوم الاجتماعية، ولا سيما علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الحضارية والاقتصاد وعلم النفس، كانت عندئذٍ في صعود؛ وكانت تستكشف السلوك الفردي والمجتمع بطريقة علمية، وتحرز في ذلك نجاحًا مذهلًا في بعض الأحيان؛ فقد درست ظواهر، كالعمليات العقلية، كانت تُظن غامضة، وظواهر أخرى كالدين بوصفه نظامًا اجتماعيًّا، كانت تُعد محرمة، فلِمَ لا يدرس الفن على النحو نفسه؟

وما زالت هذه الدوافع التي تشجع على النقد السياقي حية إلى حد بعيد في أيامنا هذه، بحيث يأخذ الباحثون المعاصرون على عاتقهم تلك المهمة التي تطلع إليها المفكرون منذ قرن من الزمان.

وسوف ندرس في هذا القسم بعض المدارس الكبرى للنقد السياقي.

•••

يُعد كارل ماركس أبًا لمدرسة معينة من مدارس النقد السياقي. غير أن تفكيره قوة كبرى في تطور النقد السياقي بوجه عام؛ ذلك لأن ماركس من الشخصيات الكبرى في الحركة التي اتجهت إلى دراسة جميع النظم في المجتمع، وضمنها الفن، بطريقة علمية.

والمجتمع، في رأي ماركس، ليس مجموعة متباينة من النظم، أعني الحكومة والتعليم، والحياة العائلية، والدين، والفن … إلخ، بل إن هذه كلها تشترك في مجموعة معينة من القيم، أو في «أيديولوجية». فليس من قبيل المصادفة أن يوجد نوع معين من التنظيم العائلي في حضارة معينة إلى جانب شكل معين من أشكال الحكم والنظام القضائي؛ ذلك لأن أوجه النشاط هذه تندرج، في رأي ماركس، تحت إطار واضح، معقول؛ لأنها كلها تعبر عن أيديولوجية العصر.

ومن الممكن أن تدرس الأيديولوجية بدورها دراسة علمية؛ فأكثر النظم في المجتمع أساسية هو النظام الاقتصادي، أي أن نظام ملكية وسائل الإنتاج والتبادل هو مصدر الأيديولوجية، وهو يؤثر في جميع النظم الأخرى. ومن هنا كانت النظرية الماركسية تُسمَّى «حتمية اقتصادية»؛ فقد رأى ماركس أن فهم ديناميات النشاط الاقتصادي يتيح لنا فهم تركيب المجتمع، ويمكننا من التنبؤ بمجرى التغير الاجتماعي.

أما التحديد الدقيق للطريقة التي يرتبط بها العامل الاقتصادي بالجوانب الأخرى للمجتمع في رأي ماركس؛ فهو مسألة تفسيرية عسيرة، لا يتسع المقام هنا لخوضها؛ فلو كان ماركس قد قال إن العامل الاقتصادي هو السبب الوحيد والكافي الذي يجعل النظم الأخرى على ما هي عليه، لكان من الواضح أن نظريته غير مقبولة؛ فهذا الرأي ينطوي على تبسيط مفرط، ولا توجد أدلة تؤيده، ومن المهم أن نرى لماذا كان هذا الرأي على خطأ في حالة الفنون الجميلة، على الرغم من أن الانتقادات نفسها تصلح أيضًا في حالة مناقشة نظم الحكومة، والحياة العائلية … إلخ.

فمن الملاحظ أولًا أن الفن يتأثر بقوى أخرى في المجتمع غير العامل الاقتصادي؛ فالأفكار الأخلاقية للعصر، ونظرته الكاملة إلى العالم أو إلى الحياة، ومستوى الثقافة والذوق، والمعتقدات الدينية السائدة — كل هذه العوامل وكثير غيرها، يمكن أن تترك طابعها على الفنان، وبالتالي على أعماله، ولكن الأهم من ذلك أن أهم العوامل التي تجعل العمل الفني على ما هو عليه هي عوامل تنتمي إلى مجال الفنون الجميلة وحده؛ فالفنون الجميلة، بما هي كذلك، لم تكن لتوجد لولا وجود وسط، وقوالب، وأساليب فنية، ولا يوجد لهذه الأخيرة مقابل خارج الفن، بل إن لها حياة ودلالة خاصة بها في نظر الفنان، وهي تفرض حدودًا على نشاطه الخلاق، كما توحي بالاتجاه الذي ينبغي أن يتخذه هذا النشاط.

وهي تُغيَّر أو تُستبعَد تلبية لحاجات فنية، وليس في استطاعتنا أن نفهم تاريخ الفن ما لم نفهم الأسباب الفنية المتخصصة، التي تؤدي إلى تطور مختلف الأساليب والتقاليد الفنية.

لهذه الأسباب كان الماركسيون الأكثر اعتدالًا يرفضون «ذلك الزعم الممتنع القائل إن ماركس يعُد الأعمال الفنية انعكاسًا مباشرًا لأسباب مادية واقتصادية.»٢٩ فهم يرون، بدلًا من ذلك، أن العامل الاقتصادي واحد ضمن عدة عوامل تؤثر في الفن، ومع ذلك فهم يصفون العامل الاقتصادي بأنه هو السبب «النهائي» أو «الحاسم» أو «الأخير».٣٠ وهنا تصبح نظريهم غامضة إلى حد يستحق النقد، ما داموا لا يقدمون تفسيرًا لمعاني هذه الألفاظ، ولكن لما كان ما يهمنا أساسًا ليس هو النظرية الاجتماعية، فإن في استطاعتنا الانتقال إلى التطبيق المحدد للماركسية على الفنون الجميلة.
إن لكل نظرة نقدية ميزتها الخاصة في ميدان الفن، والماركسية تعيننا على إدراك أن «العمل الفني يحيا في عالم اجتماعي».٣١ وفي رأي الماركسية أن المجتمع يؤثر الفن بطريقتين أساسيتين:

ذلك أولًا لأن المشكلات الاجتماعية الحيوية للعصر الذي يعيش فيه الفنان تحفزه على الخلق، ولقد كان ماركس يرى أن جميع المجتمعات تنقسم إلى طبقات، على أساس اقتصادي؛ فهناك صراع لا يتوقف بين المسيطرين على الثروة الاقتصادية وغير المسيطرين عليها. ويولد صراعهما توترات في جميع مجالات الحياة، ويؤدي إلى تغيرات سياسية وقانونية، وإلى عدم استقرار اجتماعي. وهو يؤدي أيضًا إلى خلق الفن؛ فالفنان، شأنه شأن أي فرد آخر في المجتمع، داخل في هذا الصراع؛ فهو قد يرتبط بالقوى الثورية في ميدان الاقتصاد، أو قد يكون متحدثًا باسم النظام القديم وفي كلتا الحالتين يكون أصل عمله، والعامل الذي يحدد اتجاه هذا العمل، هو الديناميات الاجتماعية لعصره.

على أن القوى الاقتصادية ليست قوى خارجة عن العمل فحسب، وإنما هي تدخل في الموضوع الفني ذاته؛ «فالأعمال الفنية تتألف دائمًا من موضوعات لها دلالة اجتماعية (وللألفاظ، والأنغام، والأشكال) ارتباطات انفعالية تتسم بأنها اجتماعية».٣٢ والموضوع الذي يعالجه الفنان — أي الشخصيات، والبيئة، والحوادث … إلخ — وكذلك الرموز التي يستخدمها، تعكس أيديولوجية ذلك العصر، والأفكار والاتجاهات التي يعبر عنها تضعه في جانب أو آخر من الصراع الطبقي، وهكذا فإن جميع عناصر العمل تكشف عن تأثير المجتمع.

•••

ما مدى سلامة هذه النظرية بوصفها أساسًا للنقد الفني؟

إن جزأها الأول، الذي يصف الدوافع إلى الخلق، ليس أساسًا للنقد على الإطلاق؛ فالعامل الذي يدفع الفنان إلى الخلق يخرج عن نطاق العمل الفني ذاته، وقد يكون هو الاندماج في الصراع الاجتماعي، ولكنه قد يكون أيضًا الرغبة في كسب المال، أو خطب ود المحبوبة؛ فهذه مسألة متعلقة بالدراسة النفسية للخلق الفني، أو بالسيرة الذاتية للفنان.

ولو نظرنا إلى الرأي الماركسي على أنه نظرية في الخلق فحسب، لكان فيه بالتأكيد قدر من الحقيقة؛ فمن الواضح أن بعض الفنانين كانت تتملكهم مشاعر التمرد الاجتماعي، ولكن هل كانت المظالم التي يحملون عليها اقتصادية في أساسها؟ لقد كانت كذلك في بعض الحالات، كما هي الحال في الروايات «البروليتارية» في الثلاثينات من هذا القرن، غير أن الفنان، في حالات أكثر جدًّا، لم يكن ينظر إلى المشكلات الاجتماعية من خلال عوامل اقتصادية خالصة، ومن هنا فإن المار كسي يحاول أن يثبت أن المشكلات الاجتماعية، في كل هذه الحالات، كانت جذورها متغلغلة في الصراع الاقتصادي، وعلى الرغم من أن إمكان إثبات ذلك أمر مشكوك فيه إلى حد بعيد، فقد حاوله الماركسيون في تحليلاتهم للفنانين التقليديين.

لقد كرس هنريك إبسن، الكاتب الدرامي في أواخر القرن التاسع عشر، جهوده صراحة للإصلاح الاجتماعي، فقال: «لا يمكن أن يعفي أي شخصٌ نفسَه تمامًا من المسئولية نحو المجتمع الذي ينتمي إليه، أو ألا يكون له نصيب في خطاياه.» وفي عدد من مسرحياته، مثل «براند Brand» و«عدو الشعب» و«البطة البرية» تجد شخصياته تمجد نزاهة الفرد ومثابرته، حتى عندما يقف ضد المجتمع، ومن هنا فإن الماركسيين يرون أن إبسن كان يحركه صراع النزعة الفردية في «البرجوازية الصغيرة» ضد رأس المال الكبير.٣٣ ولنلاحظ أن هذا فرض متعلق بالمصادر الكامنة من وراء التوتر الاجتماعي وهو لا يصف المشكلة الاجتماعية كما فهمها الفنان نفسه. وفضلًا عن ذلك، فحتى لو كان هذا الفرض سليمًا، لما فسر دوافع إبسن في كتابه مسرحيات أخرى، بل إن من العسير أن ندرك كيف تستطيع النظرية أن تعلل معظم أمثلة الخلق الفني، ما لم يتسع لفظها الرئيسي، وهو لفظ «الاقتصادي»، ويصبح غامضًا إلى حد تفقد معه النظرية كل معنى محدد.
على أن الجانب الأهم في الماركسية، بالنسبة إلى أغراضنا، هو، كما لاحظت من قبل، نظريتها في العمل الفني ذاته، فهل من الممكن أن يفيد النقد من هذه النظرية؟ إن الإجابة في رأيي واحدة بالنسبة إلى الماركسية وجميع المدارس الأخرى للنقد السياقي، فإذا كان وصف الأصول التي ينشأ منها العمل الفني يمكن أن يساعد على تفسير «ما ينطوي عليه العمل»، على حد تعبير بلاكمير، فعندئذٍ يكون الجواب بالإيجاب، فمن الممكن أن يكون النقد المتعلق بنشأة العمل مساعدًا للنقد الجمالي، ما دامت له صلة جمالية بالموضوع، فإذا أمكن إثبات أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية ماثلة في تركيب العمل، وبالتالي تحدث فارقًا في أهميته الجمالية، فعندئذٍ يكون من الضروري قطعًا استخدام النقد الماركسي. وعلى الرغم من أن الفهم الاقتصادي للعامل الاجتماعي أضيق مما ينبغي بالضرورة، فإن التحليل الماركسي الدقيق يساعد في إلقاء الضوء على بعض الأعمال، ومن الممكن الاستعانة بنظرة أوسع إلى البناء الاجتماعي والتغير الاجتماعي، من أجل تحليل كثير من الأعمال الأخرى، فمما له صلة بلوحات تيسيان Titian أن نصف الأرستقراطية المعاصرة في مدينة البندقية، كما أن بعض روايات ديكنز وهاردي ودريزر ترجع نشأتها إلى المظالم الاجتماعية والاقتصادية في عصورهم، ولقد كان النقد الماركسي من أهم القوى الدافعة إلى التوسع في طريقة النظر إلى الفن هذه، وكان ملهمًا لدراسات رائدة مثل تحليل بارنجتون Parrington السياسي الاجتماعي للأدب الأمريكي.
على أن الماركسيين بالغوا في أهمية نظرتهم هذه وقيمتها. وهكذا فإن الفكرة التي تكون بالفعل مثمرة إذا استُخدمت بطريقة حكيمة، تحولت إلى «تزييف متعصب».٣٤ والواقع أن «كل صيغة للمعرفة لا بد أن تنهار حالما تُعزى إليها أهمية تزيد عما ينبغي».٣٥ فما هي نواحي القصور في النقد الماركسي؟

من الواضح إلى حد بعيد أن هناك أعمالًا فنية عديدة لا تسري عليها مقولات التحليل الاجتماعية الاقتصادية، ففي استطاعتنا أن نقول، عن حق، إن هايدن كتب سيمفونيات متعددة لراعيه الأرستقراطي. غير أن هذه الحقيقة خارجة عن مجال الموسيقى، بل إننا قد نقول — وإن كانت الأرض التي نرتكز عليها في هذه الحالة أضعف بكثير — إن موسيقى هايدن «تعكس» رشاقة المجتمع الأرستقراطي وتأنقه. أما إذا شئنا أن نقول أي شيء أدق وأكثر تفصيلًا عن الموسيقى، فسوف يتعين علينا أن نبدأ الكلام بلغة «الموسيقى»، فعندئذٍ ينبغي أن نصف الأوركسترا الذي كتبت السيمفونيات من أجله، وطريقة هايدن في استخدام قالب السوناتا، والمرح والرقة اللذين تعبر عنهما الموسيقى.

أما الموسيقى «الخالصة» فهي أوضح الأمثلة على ما نقول، والواقع أن هناك أعمالًا في جميع الفنون لا تسري عليها مفاهيم النقد الماركسي، ولو كان الماركسي يعترف بالحدود التي لا تتعداها نظريته، لسلَّم بهذه الحقيقة، غير أن هناك ماركسيين يحاولون تطبيق مذهبهم حتى على هذه الأعمال. عندئذٍ يترتب على ذلك حدوث أحد أمرين:

قد يُصدِر الناقد حكمًا سلبيًّا على العمل؛ فهو يحمل عليه لكونه «فارغًا». والواقع أن أقوى ألفاظ الذم في النقد الماركسي هي لفظ «شكلي»، وهذا اللفظ يستخدم في وصف تلك الأعمال «الخالصة» التي تفتقر إلى دلالة اجتماعية، فرفض الفن أن يعالج أي موضوع، كما هي الحال في التصوير والنحت التجريديين، يؤدي إلى «هدم الفن ذاته».٣٦ غير أن الماركسي يقع هنا في خطأ «العبادة العمياء للمنهج methodolatry»، أي أن منهجه في البحث، الذي ينبغي أن يكون أداة توصله إلى نتيجة، يصبح هو الذي يملي النتيجة، وعلى حين أن المفاهيم الاقتصادية والاجتماعية ينبغي التخلي عنها عندما نكون إزاء فن «خالص»، فإن هذه المفاهيم تصبح، بدلًا من ذلك، جامدة متحجرة، وتشن حملة على كل ما لا يمكن معالجته عن طريق هذه المفاهيم. أي أن العمل لا يُبحَث ولا يُحكَم عليه من خلال ما هو فيه.
فإذا لم يحمل الناقد على العمل مباشرة، فلا بد أن يحاول تحليله، ومع ذلك فإن مفاهيمه السياقية لا تصلح تمامًا لتفسير التركيب الداخلي للعمل. ومن ثَم فإن الناقد الماركسي يعمل في كثير من الأحيان على توسيع معانيها، غير أن نقده يؤدي عندئذٍ إلى محو التمييز بين نوعين من المعطيات — السياقية والجمالية — مما يولد خلطًا لا نهاية له، مثال ذلك أن الموسيقي «اللانغمية atonal» المعاصرة كثيرًا ما توصف، في كتابات النقاد السوفيت، بأنها «برجوازية»، وهو لفظ له معنًى واضح المعالم، إلى حد ما، في نظرية ماركس الاقتصادية. فمن الممكن أن يوصف شخص، أو نظام اقتصادي، بأنه «برجوازي»، ويكون لهذا الوصف معنى.

أما وصف نوع من الموسيقى بأنه «برجوازي» فكلام لا معنى له على الإطلاق. وكل ما يمكن أن يعنيه هو أن تلك الموسيقى تؤلف وتعزف في بلاد توجد فيها نظم رأسمالية برجوازية، ولكن هذه لا تعدو أن تكون حقيقة سياقية عن الموسيقى وهي تدل على ما هو موجود في الموسيقى، فمفهوم «البرجوازية» لا جدوى منه في التحليل الفني، شأنه شأن أي مفهوم آخر غير مرتبط بالميدان الجمالي.

والواقع أن الخطأ الذي تقع فيه الماركسية في هذا الصدد، هو نفس العيب الكامن في كل نقد سياقي، أي أن المفاهيم الأساسية فيها هي بالضرورة أضيق من أن تفي بأغراض النقد الفني.

إن صاحب النظرية السياقية يتجه بطبيعته إلى الاهتمام بما يقع خارج نطاق العمل الفني، أي بالتركيب الاقتصادي للمجتمع مثلًا. وهو يستطيع الكلام في هذا الموضوع بعبارات تاريخية واجتماعية ونفسية … إلخ. وعندما ينتقل إلى العمل ذاته، يستخدم نفس العبارات، ومن هنا لم يكن في استطاعته أن يتحدث إلا عن عناصر العمل، المستمدة من «الحياة» أو المشابهة لها؛ فالناقد الماركسي يهتم بالموضوع الذي يعالج العمل، و«بالأفكار» التي يعبر عنها، وهذه يمكن أن تناقش بلغة اجتماعية واقتصادية. غير أن ما يسميه الماركسي، دون تمييز، بالعناصر «الشكلية» في العمل، لا يمكن أن يناقش بهذه اللغة، وعلى ذلك فإن جهازه النقدي محدود بدرجة لا أمل فيها.

وفضلًا عن ذلك، فإن المظالم الاجتماعية أو الصراع الطبقي إذا اندمجَا في العمل بوصفهما «مضمونًا» له، فإنهما لا يكونان عنصرَين مستقلَّين؛ فالمضمون والشكل يتبادلان التأثير، والمشكلة أو «الفكرة» الاجتماعية لا تصبح في داخل العمل نفس ما هي عليه وهي خارج العمل، وإنما تتحول عن طريق «الجسم» والتركيب الحسي، وتكون لها دلالة مختلفة، ومن هنا، فحتى عند الحكم على المضمون الفني، وهو الشيء الوحيد الذي يستطيع صاحب النظرية السياقية أن يتحدث عنه، لا تكون مقولاته المستمدة مباشرة من النظرية الاقتصادية أو الاجتماعية كافية.

هذه نواحي نقصٍ خطيرة في النقد الماركسي وفي كل نقد سياقي، ومع ذلك، فعندما تكون الموضوعات الاجتماعية جزءًا من «المضمون»، فإن الناقد الماركسي يستطيع في كثير من الأحيان أن يقدِّم إلينا تفسيرات مفيدة للعمل، ولكن حتى في هذه الحالة نجد بعض الماركسيين يرتكبون خطأ «التزييف المتعصب»، وإن كان في هذه الحالة من نوع مختلف؛ فهم يذهبون إلى أن تفسيرهم هو التفسير الوحيد المشروع للعمل، غير أن هذا زعم لا يمكن أن يدعيه أي ناقد، مهما كانت المدرسة التي ينتمي إليها؛ إذ إن حقائق الفن، وتاريخ الذوق يكذبانه؛ فالأعمال الفنية متعددة القيم، والتفسيرات السليمة للعمل الواحد يمكن أن تتعدد إلى حد يستحيل معه تبرير القول بوجود معنى واحد فريد للعمل.

وفضلًا عن ذلك، فحتى بعد أن يكون النقد التفسيري قد أدى وظيفته، فإن لدى الناقد مهمة أخرى ينبغي عليه إنجازها، وكما يقول إدموند ولسون:

«فمشكلات القيمة النسبية تظل قائمة بعد أن نكون قد فحصنا … العامل الاقتصادي الماركسي والعوامل العنصرية والجغرافية. فمهما كانت دقة تفسيراتنا للأعمال الأدبية واكتمالها … فلا بد أن نكون على استعداد لمحاولة تقدير الدرجات النسبية للنجاح الذي تصل إليه نواتج مختلف العصور ومختلف الشخصيات … ولو لم نفعل ذلك لما كنا نكتب نقدًا أدبيًّا على الإطلاق، بل لكان ما نكتبه مجرد تاريخ اجتماعي أو سياسي كما ينعكس على النصوص الأدبية».٣٧

على أن الماركسيين لا يقفون عند حد النقد التفسيري، وبل إنهم يقومون أيضًا بنقد تقديري.

والواقع أن نفس المفاهيم التي يستخدمونها في وصف سياق الفن، تتحول إلى معايير للحكم على الفن؛ فالماركسيون، كما رأينا من قبل، يرون أن الأعمال الفنية يرجع أصلها إلى الصراع الطبقي، وأنها تعكس هذا الصراع، وسواءٌ أكان هذا الرأي صوابًا أم خطأ، فإنه مسألة متعلقة بالواقع، ويرى الماركسيون أيضًا أن العمل يكون جيدًا عندما يعبر عن احتجاج الطبقة الدنيا في المجتمع ويساعد على تطورها الثوري، بينما يكون العمل رديئًا إذا كان متحالفًا مع الطبقة الحاكمة.

غير أن هذا لا يصلح أساسًا للنقد التقديري؛ «فإذكاء المشاعر الثورية» ليس مفهومًا جماليًّا، والماركسي، شأنه شأن أفلاطون وتولستوي، يتجاهل أو يرفض قيمة الفن «لذاته»،٣٨ فتقديره أخلاقي، لا جمالي.

والواقع أن التصوير الذي تم إنتاجه في الاتحاد السوفيتي يكشف بوضوح عن الفارق بين القيم الأخلاقية السياسية وبين القيم الجمالية؛ فهو «محاكاة» ميلودرامية، قريبة من الواقع، لأبطال الثورة الروسية وحوادثها، وربما كان لمثل هذا التصوير تأثيرات اجتماعية ودعائية يوافق عليها الماركسيون؛ غير أنه من الوجهة الجمالية لا يقل سوءًا عن اللوحات التاريخية في عواصم الولايات المتحدة الأمريكية.

ويعد استخدام المفاهيم التفسيرية التي تعبر عن أمر واقع، «كالوعي الاجتماعي» مثلًا، في التقدير، خطأ آخر نجده يتكرر كثيرًا في النقد السياقي، وسوف نصادف هذا الخطأ مرة أخرى فيما بعد. ولقد كان هذا الخطأ، بما أدى إليه من أحكام قيمة مشوَّهة، هو السبب الرئيسي في ارتياب النقد، خلال عصرنا هذا، في النظرية السياقية.

أما من الناحية العملية، فإن النقد الماركسي ليس دائمًا واقعًا في هذا الخطأ الصريح الذي تحدثت عنه الآن، فكثيرًا ما تتداخل في هذا النقد الوقائع الاجتماعية مع النقد التفسيري والتقدير الجمالي والتقدير الأخلاقي، ونستطيع أن نعد النقد الماركسي لإبسن مثلًا على ذلك.

وكما رأينا من قبل، فإن أصول مسرحيات إبسن ترجع، عند الماركسيين، إلى الصراع بين «البرجوازية الصغيرة» وبين الرأسمالية الكبيرة. وفي بعض المسرحيات، تُعَد الفردية موضوعًا رئيسيًّا هامًّا، ولكن الماركسيين يصفقون المسرحيات إبسن بقدر ما تدعو إليه من ثورة اجتماعية، ومع ذلك فإن إبسن لا ينجح، آخر الأمر، في نظر الماركسيين؛ ذلك لأنه، برغم حملة الفنان على المجتمع المعاصر له، فإنه لا يدعو إلى البديل الماركسي له، وهو الثورة البروليتارية. وهذا بدوره أمر يفسره الماركسيون تفسيرًا سياقيًّا؛ فهم يرون أنه لم تكن قد ظهرت طبقة بروليتارية حقيقية في النرويج، في الوقت الذي كتب فيه إبسن، غير أن لهذا التقدير الاجتماعي الأخلاقي جانبًا جماليًّا أيضًا؛ فالماركسيون يرون، مثل بعض النقاد غير الماركسيين، أن كثيرًا من رموز إبسن غامضة لا تُفهم، وهذه نقطة ضعف في الفعالية الجمالية لمسرحياته، ولو أمكن إثبات صحة هذا النقد، وتأييده بأدلة من التجربة الجمالية، فعندئذٍ يكون بطبيعة الحال مقبولًا من الوجهة الجمالية، ولكنا نجد هنا أيضًا أن الماركسي لا يقصر حديثه على المسائل الجمالية «الخالصة»؛ فهو يرى أن رمزية إبسن تعبر عن التفكير الاجتماعي «المطموس»، «غير المحدد» للفنان.٣٩

•••

وهكذا ترى أن ثمة شيئَين ينبغي أخذهما بعين الاعتبار عند قراءة النقد الماركسي أو معظم أنواع النقد السياقي الأخرى، فلا بد أولًا أن تحرص على تمييز الحقائق المَنشئية (genetic)، أي المتعلقة بأصل العمل، وبين التفسير، أي إيضاح ما ينطوي عليه العمل، والتقدير. وعليك أن تقوم بهذا التمييز بنفسك، ما دام الناقد لا يفعل ذلك عادةً، وينبغي ثانيًا أن تكون واعيًا بحدود النظرة السياقية. فما الذي يوجد في العمل، إلى جانب ذلك، مما لا يمكن تفسيره بعبارات اجتماعية؟ وهل يعالج الناقد الموضوعات الاجتماعية كما لو كانت عناصر مستقلة في العمل، بحيث يتجاهل علاقاتها المتبادلة بالعناصر الأخرى، وهل أدى التحيز الاجتماعي للناقد إلى تشويه فهمه، أعني هل يعد نفس غموض «بير جنت Peer Gynt»٤٠ عاملًا على زيادة قيمتها الجمالية؟

•••

لقد بذل الناقد الفرنسي «إيبوليت تين Hippolyte Taine»،٤١ وهو معاصر لماركس، مجهودًا أعظم مما بذله ماركس نفسه في سبيل نشر النظرية الاجتماعية إلى الفن. وعلى الرغم من أن تين ليس، مثل ماركس، شخصية كبرى في ميدان العلم الاجتماعي، فإنه درس ظاهرة الفن بوصفه عملية اجتماعية بطريقة تفوق في دقتها ومنهجيها طريقة ماركس في دراستها بكثير، وقد أدت جرأة الرأي الذي دعا إليه — وهو أن الفن ناتج مباشر، يمكن التنبؤ به، للقوى الاجتماعية — إلى إثارة خيال الكثيرين، حتى أولئك الذين كانوا يرون أن تين أخفق في إثبات قضيته.
ولقد تأثر تين تأثرًا بالغًا، شأنه شأن الكثيرين في أواسط القرن التاسع عشر، بالنجاح الهائل الذي أحرزه العلم، وكان يسعى إلى تحقيق نفس القدر من اليقين في دراسة التاريخ، لذلك اتخذ من العلم الطبيعي أنموذجًا له، فالفنون، والفلسفة، والسياسة — بل جميع النظم الاجتماعية الكبرى — يتحدد طابعها بأسباب دقيقة، شأنها تمامًا شأن الحوادث الفيزيائية، «إن معطيات العالم المعنوي ترتبط على نفس النحو الذي ترتبط عليه معطيات العالم الفيزيائي، وبنفس الإحكام». ولو كانت لدينا معرفة دقيقة، بل معرفة كمية، بأسباب التغير الاجتماعي لأمكننا أن نستنبط منها خصائص حضارة المستقبل، وكأننا نقوم بعملية استنباط من صيغة دقيقة».٤٢
والأدب بدوره ينبغي أن يُدرس بطريقة تكشف حتميته، أي أن من الواجب أن نعرف الأسباب التي تؤدي إلى حدوثه وتجعل الشكل الذي يتخذه محتومًا. وقد وضع تين الفن في إطار اجتماعي، مثلما وضعه ماركس؛ فهو ليس شيئًا غامضًا، أي «مجرد لهو فردي للخيال، أو نزوة منعزلة لذهن منفعل».٤٣
إن الفن ينشأ من «سمات عامة معينة، وخصائص معينة للعقل والقلب».٤٤ ويعكس هذه السمات والخصائص التي هي مشتركة بين أفراد المجتمع الذي يعيش فيه الفنان، فإذا استطعنا أن نهتدي إلى أسباب هذه «السمات»، أمكننا أن نفسر كيف، ولماذا، أنتجت المجمعات المختلفة نوعًا متميزًا من الأدب، وهنا نصل إلى الثلاثي المشهور عند تين، وهو «الجنس» و«البيئة» و«العصر».٤٥ هذه العوامل الثلاثة هي، في رأي تين، الأسباب الوحيدة لكل المنجزات الأدبية، بل لكل المنجزات الاجتماعية.
ويشير مفهوم «الجنس» إلى «الاستعدادات الفطرية الوراثية».٤٦ فهناك فروق جنسية أو عنصرية واضحة بين الشعوب، «فبعضها ذكي شجاع، وبعضها الآخر هيَّاب ذليل»،٤٧ إلخ، والبيئة مقولة فضفاضة، تتسع لكل شيء، وهي تشمل المناخ؛ ومن هنا يقول تين إن الفوارق المميزة بين الأجناس الجرمانية واللاتينية ترجع إلى حد بعيد إلى أن الأولين كانوا يعيشون في أقاليم باردة رطبة، وفي أعماق غابات وعرة مليئة بالمستنقعات، أو على سواحل محيط قاسٍ، على حين أن الآخرين كانوا يعيشون «في أجمل المناظر الطبيعية، وعلى ساحل بحر متألق بهيج».٤٨ غير أن البيئة تعني أيضًا تأثير المجتمعات الأخرى، والضغوط الاجتماعية، والحروب … إلخ. أما «العصر»٤٩ فهو الفترة التاريخية الخاصة. ويقول تين في «تاريخ الأدب الإنجليزي» إنه «حاول تعريف هذه المصادر الأساسية، وعرض تأثيراتها التدريجية وتفسير الطريقة التي توصلت بها آخر الأمر إلى إلقاء ضوء على … أعمال أدبية عظيمة».

وربما لم يكن هناك من يعتقد اليوم أن تين قد نجح في هذه المحاولة، والواقع أن التأثير الباقي لتين يرجع إلى استكشافه المنهجي للأصول الاجتماعية للفن، ولكنه كان مفرِطًا في الطموح، شأنه شأن معظم الرواد العقليين، وهو لم يبرهن في الواقع على وجود علاقة سببية دقيقة بين ثالوثه السببي وبين أعمال الأدب الإنجليزي.

ويبدو أنه يفعل ذلك في مواضع معينة من «تاريخ الأدب الإنجليزي». غير أن هذا راجع إلى أنه يصف العمل الأدبي بطريقة مفرطة في التبسيط، وبذلك جعله مشابهًا لما «تنبأ» به على أساس «الجنس، والبيئة، والعصر»، وكثيرًا ما كان تين يضطر إلى تجاهل الصفات المميزة للفنان الفرد، كيما يُدرجه ضمن ممثلي عصره. وعندئذٍ يظهر الكاتب في صورة «شخصية مركبة مصطنعة … وتجريد لا لون له».٥٠
ولكن فردية الفنان هي بعينها التي تميزه عن غيره، وتجعله جديرًا بأن يدرس منذ البداية. وهكذا فإن تين قد أخفق، مثله مثل كل الآخرين الذين حاولوا تفسير العبقرية الفنية على أساس الأصول الممهدة لها.٥١
«لقد وُلد لافونتين وراسين معًا في شامباني، لا تفصل بينهما إلا مسافة قصيرة وعدد ضئيل من السنين، وكانا معًا من مستوًى اجتماعي واحد تمامًا، ولكن أحدهما كتب حكايات خرافية هزلية ساخرة، على حين كتب الآخر تراجيديات مشبوبة بعاطفة تؤدي بأبطالها إلى حتفهم. ولم يكن هناك من يمكن مقارنته بهم من بين ألوف أهل شامباني الذين كانوا من حيث «الجنس والبيئة والعصر» مماثلين لهما.»٥٢
بل إنه ليبدو أن تين قد تخلى عن نظريته في أحد مواضيع كتابه هذا، وهو موضع حاسم، إذ كان يتحدث فيه عن أعظم الكتاب الإنجليز؛ فهو يقول عن شيكسبير إن «كل شيء فيه أتي من داخله — أعني من روحه وعبقريته، أما الظروف والعوامل الخارجية فلم يكن لها إلا دور ضئيل في تطوره».٥٣

•••

وهناك أخطاء أخرى أقل وضوحًا في موقف تين، ولكن من المهم كشفها لأنها تظل متأصلة في تفكيرنا ولغتنا. ألسنا نقول في كثير من الأحيان إن فنانًا معينًا «يعكس مجتمعه»؟ كذلك تحدث بين عن الرواية بوصفها «مرآة عصرها». وهكذا تظهر ثنائية بين العصر، باتجاهاته وقيمه من جهة، وبين العمل الفني، وهو نتاج للعصر و«مرآة له»، من جهة أخرى.

وقد أثبت الأستاذ «بوس» بوضوح أن هذه الطريقة في التفكير مضطربة من بدايتها فقال:

«من الأوهام الشائعة، الاعتقاد بأن العصر مختلف عن مظاهره … فالأعمال الفنية ليست تعبيرات عن عصر، وإنما هي تساعد على صنع العصر … فإذا حذفت من العصر الفيكتوري روايات ديكنز، وشعر تنيسون، والتصوير بالأسلوب الأكاديمي وبالأسلوب السابق على رافاييل، ونحت وولنر woolner وثورنيكروفت، وواصلت العملية حتى محوت كل النتاج الجمالي في تلك الفترة، فما الذي يتبقى بعد ذلك من ذلك العصر؟ ستبقى فلسفته، وعلمه، وسياسته، واقتصاده، ولكن حتى لو فرضنا أن هذه لم تتأثر بالفن في ذلك العصر — وهو أمر مخالف للواقع — فإن العصر لا يمكن التعرف عليه دون أعماله الفنية، وهذه الملاحظة ذاتها تصدق على أي عصر؛ ذلك لأن العصر إنما هو حصيلة كل أوجه نشاط البشر الذين يعيشون خلال الفترة الداخلة فيه.»٥٤

وهناك خطأ آخر في النظرة إلى الفن على أنه «مرآة» لعصره. ويعد هذا الخطأ أشد خطورة من وجهة نظر النقد الفني؛ ذلك لأنه يؤدي إلى تجاهل فردانية الفن الجميل.

علينا أن نتذكر مرة أخرى أن تشبيه «المرآة» بأسرة تشبيه مضلل؛ فالمرآة إنما هي ازدواج للأشياء التي تنعكس عليها، والتي تظل في صورة المرأة مثلما هي خارجها — أعني رجالًا بدينين، ومناضد خشبية … إلخ، ولكن هذا لا يصدق على المعتقدات والقيم الاجتماعية عندما «تندمج» في العمل الفني؛ فهي تتجسد هناك في الوسط الحسي للفن، وتتخذ لها من القالب الفني تركيبًا، وهي تكتسب قالبًا دراميًّا في الشخصيات العينية التي تحيا حياة خاصة بها داخل العمل الفني.

ونتيجة لذلك فإن معتقدات مجتمع الفنان وقيمه تكتسب معنى وقوة تعبيرية تفتقر إليها وهي خارج مجال الفن. فالاعتقاد الاجتماعي ليس الآن في بيئته المعتادة، وهي السلوك اليومي الشخصي والتنظيمي، بل يدخل في سياق فريد مختلف — هو سياق الفن. وإذن فهو يصبح بالضرورة مختلفًا. فالعمل إذن ليس «مرآة». وإنما هو أشبه بنسيج. أو هو — حسب التشبيه القديم — كائن عضوي، أي تنظيم فريد لعناصر تربط بيها علاقات متبادلة.

ولو نسينا ذلك. وتصورنا الفن على أنه «انعكاس» للمجتمع، لاقتصرنا في بحثنا على عناصر «الحياة الواقعية» في العمل. ودرسنا هذه مجردة عن العمل في مجموعه، ومن الصحيح بالنسبة إلى تين، كما هو بالنسبة إلى ماركس، أن نظرته إلى الفن تؤدي إلى هذا. وعندئذٍ نستخدم العمل الفني وثيقة تاريخية، كأنه دستور أو مذكرة سياسية. وليس هذا خطأ بالطبع إذا كان اهتمامنا منصبًّا على مجال علم الاجتماع. غير أنه يكون خطأ فادحًا إذا حاولنا أن نفهم العمل جماليًّا. وقد احتج ناقد حديث على النظرة التاريخية لأنها «ترد الأدب إلى تاريخه. فهل الباحثون يدرسون الأدب أم لا؟ هذا هو السؤال».٥٥
والنتيجة التي نستخلصها من ذلك هي نفس النتيجة التي استخلصناها من قبل: ففي استطاعتنا، بل من واجبنا، أن نستخدم المعرفة الاجتماعية المنشئية (genetic) عندما تساعدنا على فهم ما هو «متضمن في» العمل … ولكن هذا بعينه ما ينبغي أن يكونه النقد السياقي — أي أن يكون مساعدًا. ومن الواجب ألا يسمح له بالطغيان على التقدير الجمالي أو تشويهه.

وهناك خطأ أخير عند تين، يتمثل أيضًا عند الماركسيين، وعند كثير من السياقيين الآخرين، هو تحويل المفاهيم الواقعية السياقية إلى معايير للتقدير.

فقد كان جهد تين بأسره متجهًا إلى بيان كيف يكون الفن ممثلًا لمجتمعه. على أنه يرى أيضًا أن العمل يكون أفضل عندما يكون ممثلًا لعصره بوضوح، ومن هنا كان قوله: «كلما كان الكتاب أصدق تمثيلًا … لطريقة وجود أمة بأسرها وعصر بأكمله، كانت مكانته في الأدب أرفع».٥٦ كذلك يصدر عنه تصريح شاذ يقول إن الأعمال الأدبية «مفيدة للمؤرخ؛ لأنها جميلة»٥٧ ولكن من المؤكد أنه لا يوجد تضايف واضح بين درجة «انعكاس» المجتمع في العمل الفني ودرجة «جمال» هذا العمل. وكثيرًا ما تكون أعمال سطحية ضئيلة القيمة أقرب من كل ما عداها إلى التيار الرئيسي للعرف والرأي الاجتماعي السائد، وكثيرًا ما يتمكن الفنان الكبير، بفضل جرأته التخيلية وبصيرته، من تجاوز قيم عصره؛ فالنمطية الاجتماعية لا يمكن أن تكون معيارًا للقيمة الجمالية.

•••

كان اهتمام ماركس وتين منصبًّا على المجتمع. أما الفنان الفرد فيُعد، أساسًا، حصيلة لتحكم العوامل الاجتماعية، وهناك نوع آخر من النقد السياقي يبدي اهتمامًا أعظم بنفسية الفرد.

وقد اكتسبت هذه الحركة النقدية بدورها قوة دافعة في أواسط القرن التاسع عشر، وكان من بين الشخصيات التي شجعت على نموها، الناقد العظيم سانت بيف Sainte-Beuve. ولم يكن سانت بيف من أنصار الحتمية الدقيقة، مثل تين، ولكنه كان يرى أننا إذا استطعنا أن نكتسب معرفة بحياة الفنان، والمؤثرات الرئيسية عليه … إلخ، أمكننا أن نصل إلى فهم صحيح لعمله، وأن نتجنب بالتالي الاهتمام بالعوامل التي لا تدخل في صميمه، ونتجنب أيضًا فقدان معناه الحقيقي.

على أن الشخصية الرئيسية في تطور النظرة النفسية إلى الفن كانت، دون شك، شخصية فرويد، الذي ناقشنا من قبل نظريته في منشأ الخلق الفني.

ولقد كان تفكير فرويد حافزًا على ظهور عدد لا حصر له من الدراسات النفسية والتحليلية النفسية في الفنون.٥٨ وكان الفرويديون يستخدمون العمل الفني على أنه وثيقة يكشف تحليلها عن القوى النفسية اللاشعورية في شخصية الفنان، أو كانوا يربطون بين العمل وبين ما يُعرف أو يستنتج عن التكوين النفسي للفنان. ومن الواضح أن النظرة الأولى لا تهم إلا علم النفس. أما النظرة الثانية فكثيرًا ما كانت ذات نفع جزيل في النقد التفسيري، وخاصة عندما تكون رمزية العمل غامضة أو ملتوية، بل إن أعظم ما أسهمت به الفرويدية قد يكون إظهارها لثراء المضامين الرمزية في أعمال متعددة، والمعاني الكامنة الخفية التي انبثقت منها. وقد تمكنت الفرويدية من إظهار ذلك عن طريق كشفها لأصول هذه الرموز في حاجات الفنان ودوافعه النفسية.
وسوف أقدم بعد قليل بعض أمثلة التحليل النفساني، ولكني أود أن أشير، قبل أن أفعل ذلك، إلى أن الفرويدية تعاني من نفس مظاهر القصور وسوء الاستعمال التي تعاني منها بقية مدارس النقد السياقي التي درسناها من قبل، فنظرًا إلى كونها نظرية في علم النفس، لا نظرية جمالية، فإنها مهيأة على أفضل نحو لمعالجة عناصر العمل الفني ذات الدلالة النفسية، وهي تؤكد الموضوع، والرمز، و«الفكرة»، وجميع عناصر العمل التي ترتبط بحوادث نفسية خارج الفن، والتي يمكن معالجتها بمفاهيم علم النفس، وهي في الوقت ذاته غير مهيأة، نسبيًّا، لمعالجة الشكل، والوسط المادي، والأسلوب، و«التكنيك» الفني، وهي كلها عناصر ينفرد بها مجال الفن، ويترتب على ذلك أن الفرويدية، شأنها شأن الأنواع الأخرى من النظرية السياقية، لا تكفي لإصدار نقد تقديري، فلما كان تبحث أساسًا في «المضمون» الفني، الذي هو مجرد جزء من العمل الفني، فإنها لا تستطيع إصدار حكم شامل عن القيمة الجمالية للعمل، وفضلًا عن ذلك فإن بعض الفرويديين قد استخدموا أفكارًا واقعية تفسيرية لأغراض تقديرية، كما فعل تين والماركسيون. وهناك ناقد ليس فرويديًّا ولكنه يلجأ إلى وجهة النظر النفسية، كان ينتقص من قدر «ماكبث» ويعدها مفتقرة إلى الطرافة، لأنها ضئيلة الارتباط بما يتصور أنه شخصية شيكسبير.٥٩ وهنا أيضًا نرى كيف أن السياق، الذي هو عنصر ثانوي، يستطيع أن يؤثر في التقدير الجمالي للعمل بأسره.
إن الناقد النفسي، شأنه شأن أي ناقد آخر، ينبغي أن يحترم الدلالة الباطنة للفن الجميل، وعليه ألا يرتكب خطأ الانقياد لاهتماماته النفسية إلى حد إغماض عينيه عن المزايا الجمالية للعمل، فلو فعل ذلك، لكان نقده، على الرغم من كل ما ينطوي عليه من تعالم وتعبيرات عصرية، مجرد نقد من نوع نقد «ريمر»، أي لكان عاجزًا من الأصل، نتيجة لموقفه ذاته، عن إدراك العمل على ما هو عليه، ومن هنا فإن من الواجب ألا يوثق في حكمه؛ ذلك لأن محاولة جعل الموضوع الفني معادلًا للقوى النفسية التي كانت تعمل في نفس الفنان، إنما هو، كما رأينا من قبل، مثل من أمثلة «المغالطة المنشئية (genetic)».

أما إذا كان الناقد حريصًا على ألا «يرد» الفن إلى علم النفس، فإننا نستطيع أن نتعلم منه الكثير، وعلينا ألا نمضي إلى الطرف المضاد، الذي يقول إن شخصية الفنان لا شأن لها على الإطلاق بالعمل الفني. فلننتقل الآن إلى ذكر أمثلة محددة توضح كيف تعين المعرفة النفسية في النقد التفسيري.

•••

وسوف نتحدث في هذا الصدد عن روايتَي فرانتس كافكا: المحاكمة، والقلعة. ويكاد هذان العملان يكونان نموذجًا كاملًا لنوع الفن الذي ساعدت الفرويدية على زيادة إحساسنا به، ألا وهو الأعمال المحتشدة بالرمزية، التي يكون كل حدث محدد فيها عينيًّا، بل عاديًّا، ولكن يكون مجموع هذه الأحداث غامضًا لا معقولًا، كما هي الحال في الحلم (ولقد عرف كافكا نظريات فرويد، ولكن من غير المحتمل أن يكون قد كتب روايته وفي ذهنه هذه النظريات، والواقع أن من الواجب أن نأخذ في اعتبارنا أيضًا، عند تقديرنا لأهمية فرويد، ذلك التأثير الهائل الذي مارسه على الفنانين أنفسهم، سواء في الأدب وفي التصوير) غير أني لن أستشهد بتحليل فرويدي معين، بل أود أن أبين كيف يمكن استخدام تاريخ حياة الفنان في إلقاء ضوء على أعماله.

إن القارئ المحدود الذكاء جدًّا هو وحده الذي يأخذ أي «تلخيص» لروايتَي «المحاكمة» و«القلعة» مأخذ الجد (أما القارئ الذكي حقًّا، فسوف يقرأ الكتابين ذاتهما، إن لم يكن قد فعل ذلك من قبل) ومع ذلك فلا بد أن أقول شيئًا عن موضوع كل منهما لكي أفسر صعوبتهما.

إن البطل في رواية «المحاكمة» يُقبَض عليه ذات صباح، ولا يُبلَّغ بالاتهامات الموجهة إليه، وهو لا يُسجن، ولا يُقدم للمحاكمة. بل إنه هو ذاته يبذل كل جهد لمقابلة من يتهمونه ومواجهتهم، غير أنه لا يتمكن من ذلك أبدًا. وفي النهاية يأتي جلادوه لأخذه، فيسير معهم طائعًا مختارًا، ويُطعن في مقتل، ويموت، كما يقول «كالكلب!».

أما بطل رواية «القلعة» (ولنلاحظ أنه في كلتا الروايتين بلا اسم أخير فيما عدا الحرف الأول «ك») فيؤمن بأن السلطات في «القلعة» قد طلبت إليه أن يقبل وظيفة مشرف؛ فيرحل إلى المدينة التي تقع فيها القلعة، ويحاول الاتصال بهذه السلطات، غير أن القلعة أعلى من المدينة، ولا يمكن الوصول إليها، وتنتهي محاولاته لمقابلة من هم أعلى منه، كما في «المحاكمة»، بالإخفاق شبه التام، فتجربته كلها، كما في حالة «المحاكمة»، تجربة إخفاق وإحباط أشبه بالكابوس، ولكنه لا يستسلم، بل يثابر على جهوده من أجل الوصول إلى من في القلعة. ومع ذلك يستمر إخفاقه، ويموت دون أن ينجح في تحقيق هدفه.

والآن، فلا شك في أن السؤال المعتاد: «ما معنى هذا؟» سؤال معقول؛ وفي اعتقادي أن حياة الفنان يمكنها أن تساعدنا في هذا الصدد، فالوقائع النفسية البارزة لا تأتي، في هذه الحالة، من نقد سياق، بل من الفنان ذاته.

إن تلك الرسالة المشهورة التي كتبها كافكا، أعني «رسالته إلى أبيه»، هي وثيقة شخصية تمزق القلوب، ففيها يصف كافكا بأمانة مؤلمة ودقة شديدة، علاقاته بأبيه منذ الطفولة، بعد أن أصبح الآن في منتصف العمر. وأهم ما في هذه الرسالة، من وجهة نظرنا، هو قوله في أحد المواضع: «إن كل ما كتبته كان عنك.»٦٠
وقد رسم كافكا صورةً لأبيه، وصفه فيها بأنه صريح، قوي، لا يعرف الالتواء، كما رسم صورة لنفسه، قال فيها إنه منطوٍ على نفسه، ولا جدوى منه. ولما كان الأب على ما هو عليه، فإنه كان يطلب من ابنه مطالب لا يستطيع هذا تحقيقها، ويخاطبه كافكا في رسالته بقوله إنك، بوصفك أبًا، «كنت أقوى من اللازم بالنسبة إليَّ».٦١ ومن هنا كان ذلك الرعب الهائل الذي بثَّه أبوه فيه.٦٢ ولما كان كافكا يعترف بالتزاماته نحو أبيه، فإن إخفاقه خلق لديه «إحساسًا بذنب لاحد له».٦٣

ويصف كافكا بالتفصيل «الحادثة الوحيدة في السنوات الأولى التي انطبعت في ذاكرتي انطباعًا مباشرًا»:

«ظللت في إحدى الليالي أنادي طالبًا ماءً، وأنا واثق أن ذلك لم يكن راجعًا إلى أني كنت عطشان، بل ربما كنت من جهة أريد أن أضايق الناس، وكنت من جهة أخرى أريد أن أتسلى. وبعد أن أخفقت عدة تهديدات قوية وجهها إليَّ، انتزعتني من السرير، وحملتني إلى الشرفة، وتركتني هناك بعض الوقت في جلباب نومي، خارج الباب المغلق … وأستطيع أن أقول إني أصبحت مطيعًا تمامًا فيما بعد … ولكن ذلك أضرَّ بي داخليًّا؛ ذلك لأن الأمر الذي كان في نظري مُسلَّمًا به، وهو الطلب الذي لا معنى له للماء، والخوف الشديد من أن أحمل إلى الخارج، كانا شيئين … لم أستطع أبدًا أن أربط بينهما ربطًا صحيحًا، بل إني حتى بعد سنوات كنت أقاسي من خيال يؤرقني بأن يأتي ذلك الرجل الضخم، أبي، وهو السلطة النهائية، وينتزعني من سريري في الليل لغير ما سبب، ويحملني إلى الشرفة، وكنت أتصور بالتالي أنني مجرد لا شيء بالنسبة إليه».٦٤
وعلى ذلك فإن الأب كان قويًّا إلى غير حد،٦٥ غير أن قوته كانت غاشمة٦٦ وكان يمارسها على أنحاء لا يمكن تفسيرها.

فهل يمكن أن تساعدنا هذه الواقعة الفعلية المنتمية إلى «الحياة الواقعية»، والتي تخرج عن نطاق روايات كافكا، على تفسير هذه الروايات؟ في اعتقادي أنها تستطيع أن تعطينا نقطة بداية على الأقل. وهذا أمر لن يأباه ذلك الذي يقف حائرًا تمامًا عندما يقرأ كافكا للمرة الأولى (وهو وصف يكاد ينطبق على معظم الناس).

فلننظر إلى السلطات في «المحاكمة» و«القلعة» على أساس أنموذج الأب كما وصفه كافكا، عندئذٍ تعبر الروايات عن حقائق معينة عن السلطة الاجتماعية؛ فالنظم التي تمارس السلطة على البشر لا معقولة، ولا يوجد أساس مشروع لسلطتها، وهي تمارس ضغطها بطريقة تفتقر إلى العقل، وحتى القانون الذي يحاول أن يكون دقيقًا وشكليًّا، والذي يحاط بمظاهر الجلال والاحترام الذاتي، لا معنى له في نهاية الأمر.

ومع ذلك فإن أعمال كافكا تزيد بكثير عن أن تكون نقدًا لنظم اجتماعية، وهو موضوع نجده أيضًا في كثير من الأعمال الفنية الأخرى، بل إن الأهم من ذلك استجابة البشر لنظامهم؛ فهُم لا يديرون ظهورهم للسلطة، على الرغم من أن فهمها مستحيل وميئوس منه. فلنتأمل العلاقة بين الأب والابن، إن انفعالات الابن تتجه بعمق إلى أبيه ولا تتحول عنه. ومهما فعل الأب، ومهما كان طاغيًا مستبدًّا، فلن يتغير من هذا الأمر شيء؛ فالابن لا يستطيع أن ينفصل عن أبيه، والدليل القاطع على ذلك هو أنه يشعر بالإثم إذا لم يتمكن من تلبية مطالب أبيه، ولو كان الأمر على غير ما نقول، لشعر بعدم الاكتراث أو التمرد، فإذا اتخذنا من هذه العلاقة أنموذجًا، ففي استطاعتنا أن نقول إن سلطة النظم الإنسانية أساسية لحياة الإنسان، فهو لا يرضى بالهرب منها، حتى لو استطاع، وعلى الرغم من عدم معقولية السلطة، فإن الإنسان يظل ملتزمًا بها، وهو يتحمل ما يقاسيه بسببها من إحباط، ويقبل حكمها راضيًا، والإثم الذي يشعر به هو معيار التزامه، وهو يكشف عن إثمه بإبداء استعداده لأن يموت «كالكلب!».

فكيف يؤدى هذا التفسير إلى جعل الروايات أوضح معنى وأعظم قيمة؟

إن أكثر ما يبعث على الحيرة في الروايات، عند قراءتها للمرة الأولى، هو إصرار ك على محاولة الوصول إلى المحكمة والقلعة. ولو أحس القارئ بقدر كاف من خيبة الأمل عند قراءة «المحاكمة»، لجاز أن يوجه السؤال المعقول الآتي: «إن المحكمة تتركه وشأنه، فلم لا يترك المحكمة وشأنها؟» أو قد يقول، في صدد «القلعة»: «لم لا ينسى كل شيء عن الناس الذين يعيشون في القلعة، ما داموا على ما يبدو لم يسمعوا به أبدا؟» ولكننا لو استخدمنا وقائع حياة كافكا، لسقط السؤال، فليس في استطاعة «ك» أن يفصم الروابط التي تجمعه بمن هم أعلى منه. إن «القضاة» بعيدون، ولكنهم ليسوا قضاة لا شخصيين؛ فانفعالاته وقيمه مرتبطة بهم، وسعيه إليهم إنما هو علامة ارتباطه، والأمر الذي يبدو سخيفًا غير مفهوم عند أول قراءة، يتضح الآن أنه عمل من أعمال الإخلاص والولاء.

فإذا ما أصبح الإدراك الجمالي متجهًا هذه الوجهة، فإن الضوء يلقي على جوانب أخرى في العمل، والواقع أن من أجمل ما تتصف به كتابات كافكا ذلك الطابع الغني التعبيري الذي يسود أعماله كلها. غير أن التعبير ينشأ من الموضوع والفكرة الرئيسية ويلونهما بدوره، والقارئ الذي يروعه «المعنى» ستفوته تلك النغمة الثقيلة، التي هي أشبه بالكابوس، والتي تخيم على رواية «المحاكمة»؛ فالنغمة التعبيرية تنبثق عن محنة ك التي لا أمل منها، ولكن لا بد أن يفهم القارئ الصفة المميزة لهذه المحنة، التي هي أكثر من مجرد سعي لا نهاية له. ومع ذلك فمن الغريب حقًّا أن هذه الفكرة الرئيسية نفسها كثيرًا ما تؤدي إلى مواقف مرحة، ولا سيما في «القلعة»، بل إن «ك» منغمس في موقف كلاسيكي كوميدي، هو ذلك التناقض الذي يتسم به شخص يحاول أن يفعل ما هو واضح الاستحالة، وعندما يهزم، يعاود الكرة ثانية، وهو موقف، قريب من السلوك «الآلي» و«التكراري» عند برجسون، ولكن ينبغي أن نلاحظ ثانية أنه بمجرد أن نفهم الخطورة العميقة لمحنة «ك»، فإن كوميديا كافكا تصبح أكثر من مجرد كوميديا؛ فهي تصبح ذات طابع ساخر كئيب، يزيده الألم حدة.

فهل من الممكن تفسير «المحاكمة» و«القلعة» بأسرهما على أساس «خطابه إلى أبيه»، أم أن طفولة كافكا مجرد مفتاح لمراحل معينة في الروايات؟ لو وضعنا في اعتبارنا التمييز بين أصول العمل الفني ودلالته الباطنة، لأصبح الاحتمال الثاني أرجح بكثير؛ فالرواية ليست مجرد سرد لتجارب الكاتب الأولى، ولا يوجد تناظر حرفي بين «الرسالة» وبين تفاصيل القصة وتصوير الشخصيات في الروايتين، ولو حاولنا أن نحشر الرواية قسرًا في إطار «الرسالة»، لضاع منا قدر كبير مما تنطوي عليه الرواية، وأدى ذلك قطعًا إلى تشويه قدر أكبر بكثير، مثال ذلك أن وصف كافكا لطفولته يشير إلى أنه لم يكن يستطيع التخلص من شعوره بالخوف والإثم، ومن المؤكد أنه لا يوجد شيء مضحك في تلك الليلة التي قضاها في الشرفة، ومع ذلك فهناك، كما رأينا من قبل، كوميديا من نوع معين في الروايتين. كما نجد في كل من «المحاكمة» و«القلعة» معًا، أن «ك» يوجه إليه اللوم لأنه لا يستطيع أن «يتقبل النكتة» (وبهذه المناسبة فإن كافكا ذاته كان يجد «المحاكمة» مضحكة إلى حد صاخب). وهذا يذكرنا، مرة أخرى، بأن للعمل الفني حياة ودلالة خاصة به.

حتى لو كانت المهمة الوحيدة لتفسير الروايتين على أساس أنموذج العلاقة بين الأب والابن، هي أن يساعدنا على السير في جزء من الطريق، فإن من الضروري اختبار هذا التفسير، شأنه شأن أي فرض آخر في النقد التفسيري؛ فهل يفي التفسير بمعايير «الانطباق على الموضوع» من الوجهة الجمالية٦٧ وهل يتناسب مع حوادث العمل وشخصياته ويوضحها؟ وهل يساعد على جعل بناء العمل كله متماسكًا؟ وهل يمكن استيعابه في الإدراك الجمالي، بحيث يحدث فارقًا حقيقيًّا نشعر به في التجربة الجمالية؟ أم أنه مجرد نظرية تنظيمية، اقترحها كافكا، ولكن لا تفيد شيئًا عند قراءته؟ إن كان الأمر كذلك، فإنه يتعرض لذلك الخطر الدائم الذي يتعرض له كل نقد سياق، وهو إخضاع الأدب لعلم النفس والنظرية الاجتماعية، وفضلًا عن ذلك فإني لم أقدم إلا عرضًا تخطيطيًّا سريعًا لهذا التفسير، وهناك أسئلة متعددة لا حاجة بنا إلى خوضها في هذا المقام، ولكن ينبغي مواجهتها في أية مناقشة تفصيلية كاملة، فما هي بالضبط النظم التي ترمز إليها المحكمة والقلعة؟ أهي تدل على الكنيسة، أم على مثل أخلاقي أعلى، أم على جميع النظم، أم على العلاقة العائلية ذاتها فحسب؟ أم أن هذا أمر يتعين علينا أن نبت فيه بأنفسنا؟ وهل نكون أعظم إخلاصًا لكافكا لو تركنا الرمزية غامضة غير محددة؟

وأخيرًا، فحتى لو تبين أن هذا التفسير مفيد محكم الترابط، فإنني لا أستطيع أن أدعي لحظة واحدة أنه هو التفسير الوحيد الممكن؛ فكل الأعمال الفنية التي تستحق أن يتكلم المرء عنها متعددة القيم، وكافكا، بغموضه الظاهر، من أفضل الأمثلة على ذلك، وقد سبق لي أن أشرت إلى العدد الهائل من التفسيرات المتباينة «للقلعة».

•••

وإذن، فالنظرة النفسية إلى الفن تستمد مادتها من حياة الفنان، غير أنها تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك بكثير؛ ففي استطاعتها أن تطبق على العمل ما عرفه علم النفس عن الدوافع والشخصية الإنسانية، وعلى هذا النحو بدوره تستطيع أن توضح سلوك الشخصيات في الدراما والقصة، والرموز في الأدب والتصوير … إلخ. مثل هذا النوع من النقد النفسي لا ينطوي بالضرورة على أية إشارة إلى تاريخ حياة الفنان.

وقد طُبِّق هذا النقد على تلك المشكلة التي هي دون شك أكثر مشكلات النقد التفسيري بأسره تعرضًا للجدل، وللجدل الحاد — وأعني بها «مشكلة هاملت».

لقد كُتبت حول نقد «هاملت» مؤلفات لا حصر لها، وقدم للمسرحية كل تفسير يمكن تصوره تقريبًا، وكثيرًا ما كانت هذه التفسيرات تتعارض بعضها مع البعض تمامًا، بل إن بعضها كان مغرقًا في الخيال بحق. وكان من بين المسائل التي حيرت النقاد، «جنون» هاملت، فهل هو مجنون حقًّا، أم أنه يدعي الجنون فحسب؟ وقد تساءل أحد الظرفاء، بعد أن قرأ قدرًا كبيرًا من النقد المكتوب حول «هاملت»: «هل نقاد هاملت مجانين أم أنهم يتظاهرون بذلك فحسب؟»

ومن حسن الحظ هنا أننا لسنا مضطرين هنا إلى مناقشة هذا السؤال، إذ ليس هدفي هو أن أقدم عرضًا شاملًا لنقد «هاملت» (كما أنني لا أود حتى أن أشير إلى السؤال: «من الذي كتب هاملت؟») وإنما أود أن أبين كيف يعالج النقد الفرويدي «مشكلات هاملت»، وسيكون هذا أكثر الأمثلة تفصيلًا، في هذا القسم، للطريقة التي يستطيع بها النقد السياقي أن يخدم أغراض النقد التفسيري.

وتهدف مناقشتنا ﻟ «هاملت» إلى غرض آخر. فقد حاولنا عدة مرات من قبل أن نواجه السؤال: «هل نستطيع أن نقول في أي وقت إن تفسيرًا معينًا للعمل الفني «أفضل» أو «أكثر مشروعية» من تفسير آخر؟ وإن كان الأمر كذلك، فمتى؟ وسوف نرى الآن كيف يمكن اختبار عدة تفسيرات متعارضة، أثناء محاولتنا الملاءمة بينها وبين الوقائع الداخلية للعمل.

•••

إن ما أسميته «بمشكلة هاملت» هو في الواقع مجموعة المشكلات المتعددة. على أن أهم هذه المشكلات جميعًا، السؤال: «لماذا يتأخر هاملت؟» فالشبح يخبره، منذ وقت مبكر في المسرحية، أن عمه كاوديوس قد قتل أباه، ولكن استجابة هاملت هي:

على اتخاذ هيئة محببة إلى النفوس. (٢–٢)

فمن الجائز إذن أنه كان يشك في عمه من قبل. ومع ذلك فإنه لا يفي بوعده للشبح بأن ينتقم لأبيه، بل يبدو أنه يرجئ هذا الانتقام في مناسبات متعددة.

ربما كان أبسط تفسير هو ذلك الذي «يقرأ» المسرحية من خلال تقاليد الأدب الدرامي في الوقت الذي كتبها فيه شيكسبير (ولنلاحظ أن هذا بدوره نوع آخر من النقد السياق). وهنا تظهر هاملت على أنها واحدة من «مسرحيات الثأر»، التي كانت نمطًا دراميًّا شائعًا في ذلك العصر؛ فهناك عناصر مشتركة بين القصص التي تدور حولها هذه المسرحيات؛ إذ إنها تبدأ بجريمة، هي عادة جريمة قتل؛ ويصبح واجب الثأر مفروضًا على أقرب الناس إلى القتيل، الذي ينبغي عليه أن يعرف القاتل، وقبل أن يستطيع أداء واجبه هذا، يصادف عقبات متعددة ويتغلب عليها، وفي النهاية يقتل المنتقِم والمنتقَم منه عادة؛ ولا بد أن يقاسي الأخير عذابًا مقيمًا في الحياة الأخرى، نظرًا إلى ما ارتكبه من خطايا.

ولو كانت هاملت مسرحية كهذه، لكان بطلها شابًّا شجاعًا قوى العزيمة، على استعداد تام لقتل عمه، فلماذا إذن يترك أربعة أشهر تنقضي، لا يفعل خلالها شيئًا، ما بين رؤياه للشبح ووصول الممثلين إلى القصر؟ من الضروري، تبعًا لهذا التفسير، أن يتأكد هاملت من أن الشبح ليس وهمًا أو روحًا شريرة:

… إن للشيطان القدرة
على اتخاذ هيئة محببة إلى النفوس. (٢–٢)

وفي هذا الصدد يقول أحد النقاد:

… إنه لا يتهرب من «واجبه»، بل هو يتريث فقط طوال الوقت الذي يكون من الضروري فيه تبديد كل شك معقول في حقيقة التزامه؛ فهو لا يريد أن يسلك مسلكًا متهورًا، وإنما يريد أن يتصرف بحكمة.٦٨

ويقتنع هاملت بجرم كلوديوس بعد أن يرى تصرفه إزاء المسرحية التي تحدث داخل المسرحية الأصلية، وهنا يصبح قتل كلوديوس أمرًا له ما يبرره تمامًا. ومع ذلك فإن هاملت لا يستطيع أن يفعل ذلك لأن الملك محاط بحرسه دائمًا. ولا يجده هاملت دون حراسه إلا مرة واحدة في المسرحية، وهي المرة التي كان فيها كلوديوس يصلي. (٣-٣). ولو قتله هاملت عندئذٍ، لما قاسى كلوديوس من اللعنة الي تشترطها «مسرحية الثأر».

وهناك تفسيرات أخرى قريبة الشبه من هذه، يكون فيها إبطاء هاملت راجعًا إلى العقبات التي ينبغي عليه التغلب عليها فحسب. غير أن العقبات في هذه الحالة أقل وضوحًا مما هي في حالة النظرية التي عرضناها الآن؛ إذ يقال مثلًا إن العدالة لا تكون قد تحققت ما لم يعرف الشعب الدنمركي أسباب قتل كلوديوس؛ إذ إن عملية الثأر تهدم نفسها بنفسها لو كان مواطنو هاملت يرونها فعلًا بلا وازع، وبلا دافع سوى طمع الأمير في العرش.

هذان التفسيران، شأنهما شأن تفسيرات أي عمل فني، ينبغي أن يكونا متمشيَين مع تفاصيل المسرحية، ولا بد أن يؤديا إلى تنظيم «ما يحدث في مسرحية هاملت» في كل محكم الترابط. غير أن العقبة الكبرى في وجه التفسيرين اللذين تحدثا عنهما الآن هي ما يقوله هاملت ذاته عن تأخره.

إن المناجيات الذاتية في مسرحيات شيكسبير ينبغي، بوجه عام، أن تُقبل على أساس مضمونها الظاهر، فليس ثمة رغبة في خداع الجمهور أو بعث الحيرة فيه (وإن كان المتحدث ذاته قد يختلط عليه الأمر أو يخطئ فيما يؤمن به). على أن هاملت، في مناجياته الذاتية المشهورة، لا يعزو إبطاءه إلى عقبات «تكتيكية»، كحراس الملك مثلًا، بل إنه يلوم نفسه مرارة على تأخره، وهو ما لم يكن ليفعله لو كانت العقبات خارجية فحسب.

نذل خامل مسلوب الروح، أروح وأغدو بلا عزم
كالحالم، بلا تحمس لمشكلتي. (٢–٢)

وعندما يتحدث بالفعل عن أسباب خارجة عنه، كاحتمال أن يكون الشبح قد خدعه، يبدو هذا أشبه بفكرة لاحقة ومحاولة مصطنعة للتبرير.

فلا بد للتفسيرات السابقة إذن أن تأخذ المناجيات الذاتية، على نحو ما، بعين الاعتبار؛ فبعض النقاد يرون أن هذه المناجيات ليست أساسية بالنسبة إلى قصة المسرحية أو إلى شخصية هاملت، ويعتقدون أن شيكسبير يستخدمها من أجل مكانتها الشعرية فحسب. وهناك تفسير أبرع قليلًا، يرى أن المناجيات الذاتية مجرد أساليب لتأخير القتل، حتى تظل المسرحية تجتذب اهتمام المشاهد أطول وقت ممكن، وتلك أساليب درامية مألوفة في «مسرحية الثأر».

على أن كلا التفسيرين ليس مرضيًا تمامًا، بل إنهما يقللان، بطريقتين مختلفتين، من أهمية المناجيات الذاتية، فتبعًا للتفسير الأول تكون أحاديث هاملت نقاط ضعف واضحة في البناء الشكلي للمسرحية، وتكون عناصر خارجية أُقحمت دون أن ترتبط بالعمل الكامل ارتباطًا محكمًا، أما في التفسير الثاني، فلا يكون لها إلا غرض درامي ثانوي؛ فهي ليست ذات أهمية أساسية في ذاتها، أو بوصفها تعبيرًا عن شخصية هاملت.

والواقع أن لنا الحق في رفض أي تفسير يقلل من قيمة العمل، لو كان هناك تفسير آخر يزيد من قيمته، ولا شك أن المناجيات الذاتية، تكون لها أعظم طرافة في نظرنا إذا أمكن إثبات أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بكل ما عداها في المسرحية، عندئذٍ يكون كل شيء منبثقًا عن حوادث القصة، ومؤديًا إلى صبغها بلون خاص، ويؤدي، بكشفه لشخصية هاملت، إلى زيادة الأهمية النفسية للمسرحية وإثراء مضمونها التعبيري. فلا بد لنا إذن من البحث عن تفسيرات للمناجيات الذاتية غير تلك التي عرضناها الآن.

ويمكن القول بوجه أعم إن جميع التفسيرات التي تلجأ إلى أنموذج «مسرحية الثأر» تبدو غير كافية؛ ذلك لأنها تؤدي، في حالة هاملت، إلى فقدانها مكانة التراجيديا، وتحولها إلى ميلودراما. ومثل هذا التفسير ليس متمشيًا مع المشاعر التي تثيرها المسرحية فينا؛ فالمسرحية تبدو أعمق من ذلك وأعقد، وفضلًا عن ذلك فإن هذه التفسيرات تعزو أقل أهمية لذلك العنصر الذي أصبح محور الاهتمام في المسرحية في العهود القريبة على الأقل، ألا وهو شخصية هاملت؛ فهي تجعله قويًّا شجاعًا، ولكنها تجعله أساسًا إنسانًا بسيط الشخصية، ومع ذلك فإن هاملت، حتى قبل أن يعرف شيئًا عن الشبح، قد ظهر في مناجياته الذاتية الأولى شخصية مرهفة الحس، واعية بذاتها.

إن «هاملت» تبدو، على أساس فكرة «مسرحية الثأر»، مسرحية مثيرة، حافلة بالدم والمفاجآت العنيفة، ولكنها لا تزيد عن ذلك كثيرًا، وفضلًا عن ذلك فإن المناجيات الذاتية من حيث طولها ومادتها، لا تتلاءم مع هذا النوع من المسرحية، بحيث تبدو «هاملت» أشبه بعمل أساسه الترقيع، بل لقد خمن البعض أن المسرحية كما نعرفها نتاج لعدة مؤلفين، من بينهم شيكسبير وكيد Kyd.

وهكذا نظل ننتظر تفسيرًا آخر، ونريد تفسيرًا يعمل حساب لجميع تفاصيل المسرحية، ويمدنا «بقراءة» مترابطة للكل، ويعمق الأهمية الجمالية للعمل.

وعلى حين أن التفسير الأول يقلل أهمية شخصية هاملت، فإن كولريدج يجعل المسرحية بأكملها تدور حول هذه الشخصية وفي هذه الحالة لا يرجع الإبطاء إلى عوامل خارجية، بل إلى طبيعة هاملت ذاتها؛ فهو لا يتردد لأنه جبان، بل إننا نلمس فيه «نشاطًا عقليًّا هائلًا، يكاد يفوق الوصف، ونفور من السلوك الفعلي بنفس المقدار».٦٩ فهاملت يضيع في «التفكير المفرط في الحادث» (٤–٤)، وهو بالتالي يفتقر إلى القدرة على الفعل؛ فهو «يرجئ الفعل حتى لا يعود في الفعل فائدة، ويموت ضحية الظروف والمصادفات العارضة».٧٠

من الواضح أن كولريدج يتغلب على الاعتراضات الموجهة إلى التفسير الأول. فهو يعمل حسابًا للطابع الاستنباطي الواضح للمناجيات الذاتية، بل يؤكده هذا الطابع وتبعًا لتفسيره يصبح هاملت شخصية أكثر تعقيدًا وطرافة بكثير. وهو يندرج تحت النمط الكلاسيكي للبطل التراجيدي؛ إذ إن «خطأً معينًا» (١–٤) يحول بينه وبين مواجهة تحدي الظروف، ونظرًا إلى الأهمية الرئيسية للبطل في «هاملت»، فإن المسرحية تغدو أكثر توحدًا، من الناحيتين الشكلية والتعبيرية، عما كانت عليه في التفسير الأول، وهي على وجه العموم تكتسب من جديد مكانتها بوصفها تراجيديا.

ومع ذلك فإن تفسير كولريدج لا يمكن أن يتمشى مع جميع الشواهد في المسرحية؛ فهو يجعل من هاملت شخصًا مفرطًا في «التأمل»، وبالتالي بطيئًا في سلوكه العملي، ومع ذلك فإن هاملت يبدو بعيدًا عن ذلك كل البعد في مواضع متعددة من المسرحية؛ فهو ليس فقط شجاعًا قوي العزيمة، كما يقول كولريدج، بل إنه في المشهد الرابع من الفصل الأول، عندما ينادي الشبح هاملت، يحاول أصدقاؤه أن يمنعوه من السير وراءه. ويحذره هوريشيو الحريص قائلًا:

ماذا لو كان يغريك نحو الطوفان يا مولاي؟

ولكن هاملت يهتف:

… كفوا أيديكم عني، يا سادة
بحق السماء، سأجعل من يمنعني عنه شبحًا،

ثم يندفع نحو الشبح.

وفي المشهد الرابع من الفصل الثالث يندفع فورًا صوب بولونيوس. عندما يسمعه وراء الستار ويقتله. وتصف الملكة ذلك بأنه «سلوك دامٍ متهور». وفي المشهد السادس من الفصل الرابع يتبدى شخصًا مغامرًا جريئًا حين يترك السفينة التي تحمله إلى إنجلترا، وفي المشهد الثاني من الفصل الخامس يصف سلوكه الحاسم، السريع البديهة، في تدبير موت روزنكرانتس وجلند شترن. وفي المشهد الأول من الفصل الخامس، لا يتردد في قبول تحدي لايرتس للقتال باسم أوفيليا وفي سبيل ذكراها، ومن هنا فإن تفسير كولريدج لا يبدو صحيحًا إلا جزئيًّا.

وهنا بالضبط يبدأ التفسير الفرويدي، وقد عرض هذا التفسير إرنست جونس في كتابه «هاملت وأوديب»، الذي ربما كان أشهر دراسة فرويدية في النقد السياقي القريب العهد.

إن جونس، مثل كولريدج، يرى أن سبب الإبطاء لا بد أن يكون في داخل هاملت نفسه. غير أن هاملت، كما رأينا الآن، لا يتلكأ عادة عندما يكون السلوك ضروريًّا، فلِم يفعل ذلك في هذه الحالة، أي قتل عمه؟ لقد ظل هاملت، حتى المشهد الرابع من الفصل الرابع، لا يعرف السبب:

… لست أدري
لِم أظل أعيش لأقول «هذا شيء ينبغي عمله»
ما دام لديَّ الدافع، والإرادة، والقوة،
والوسيلة لفعله؟
وهكذا يرى جونس أن هاملت «رجل قوي يعذبه كبت غامض معين».٧١
وعلى حين أن بعض النقاد يُبدون استعدادهم للاستسلام، ويقولون إن المسرحية غامضة أساسًا، فإن جونز يرى أن هاملت يندرج تحت نمط السلوك العصابي الذي درسه فرويد وأتباعه؛ «ففي كل حالة لا يستطيع فيها شخص أن يفعل شيئًا ينبئه كل تفكير واعٍ بضرورة فعله … يكون ذلك على الدوام راجعًا إلى وجود سبب خفي معين يجعل جزءًا منه غير راغب في فعله؛ هذا السبب لا يعترف به لنفسه، ولا يشعر به إلا شعورًا خافتًا، إن كان يشعر به على الإطلاق، وهذه بالضبط هي حالة هاملت».٧٢

ولما كانت حالة هاملت هي حالة قوى لا شعورية، فإن جونس يعتقد أن نظرية التحليل النفسي يمكن أن تطبق عليها.

إن جونز يرى في هاملت تأثير «عقدة أوديب»، أي أن هاملت، حين كان طفلًا، كان متعلقًا بأمه تعلُّقًا جنسيًّا قويًّا، وبالتالي كان يتمنى «سرًّا» موت منافسه، وهو أبوه. وعندما وصل إلى سن النضج، «كُبتت» هذه الرغبات بالضرورة.٧٣ ومع ذلك فإن «الرغبة التي كُبتت منذ زمن طويل، في الحلول محل أبيه بالنسبة إلى حب أمه، أثارتها من جديد، بطريقة لاشعورية، رؤية شخص معين يغتصب نفس المكانة التي طالما اشتاق هو ذاته إليها، والأدهى من ذلك أن هذا الشخص في نفس الأسرة، بحيث أن الاغتصاب الحالي يشبه الاغتصاب الخيالي من حيث إنه محرم».٧٤
وهكذا فإن الرجل الذي أقسم هاملت على قتله هو نفس الرجل الذي حقق أعمق رغبات هاملت نفسه. وعلى ذلك فإن عملية الانتقام محاطة بمشاعر آثمة تضفي على الواجب الأخلاقي غموضًا وتشل السلوك؛ «فرفضه التخلي عن رغباته المحرمة يعني الاستمرار في الخطيئة، وبالتالي دوام وخز الضمير المعذب. ومع ذلك فإن قتل زوج أمه يعادل ارتكاب الخطيئة الأصلية ذاتها، وهو فعل أشد إثمًا».٧٥

والواقع أن الشواهد التي يتعين فحصها من أجل اختبار صحة هذا التفسير، هي شواهد مفرطة في التعقيد، فلن يكون علينا فقط أن نحدد مدى ملاءمة هذا التفسير لتفاصيل المسرحية؛ بل إن صحة النظرية النفسية التي يرتكز عليها هذا التفسير توضع بدورها موضع الشك. على أننا نستطيع أن نقول عن يقين إن نظرية جونس، على الأقل، نظرية معقولة؛ وهي، على الأكثر، لها حق معقول في أن تعد أفضل رد قُدِّم حتى الآن على «مشكلة هاملت»؛ فهي تتغلب على الاعتراضات الموجهة إلى تفسير «مسرحية الثأر» وتفسير كولريدج، وهي تجعل المناجيات الذاتية متسقة مع بقية المسرحية، وهي قد تعلل جاذبية المسرحية الدائمة، ويبدو أن هناك وقائع تؤيدها، منها تلك الواقعة التي عبر عنها أحد النقاد تعبيرًا دقيقًا حين قال: «إن هاملت يبدو مهتمًّا بحياة أمه الجنسية اهتمامًا كبيرًا.»

ويستخدم جونز هذه النظرية، لا في تحليل العمل الفني فحسب، بل في تحليل الفنان أيضًا. فهو يرى أن ضروب الصراع التي يواجهها هاملت تعكس صراعًا مماثلًا كان يعاني منه الرجل نفسه، شيكسبير.٧٦ وهذه نظرية فرضية إلى حد بعيد. ولما كان ما يهمنا هو الفن، لا علم النفس، فلسنا في حاجة إلى الدخول في تفاصيلها. ومع ذلك فمن الجدير بالملاحظة أن جونز يقول عن العمل الفني وشخصية الفنان إن «زيادة معرفتنا بأحدهما يؤدي آليًّا إلى تعميق فهمنا للآخر».٧٧ غير أن لفظ «آليًّا» هذا مشكوك فيه إلى حد بعيد؛ وهو يدل، كما دلت شواهد أخرى رأيناها من قبل في هذا القسم، على أن الناقد السياقي يبالغ في عرض موقفه، وبالتالي فقد يضلل قراءه؛ فالواقع أن قدرًا كبيرًا من شخصية الفنان لا «يتمثل» في العمل على الإطلاق؛ فالمضمون النهائي للعمل يتوقف إلى حد بعيد على عوامل مثل حدود الوسط الذي يعبر عن نفسه من خلاله، وتفاعل العناصر في العمل، الذي يستغرق، بذاته، اهتمام الفنان. كما أننا لا نستطيع أن نستدل «آليًّا» من العمل على الفنان؛ فمثل هذا الاستدلال، كما رأينا من قبل، هو عادة محفوف بالمخاطر، وكثيرًا ما يكون باطلًا تمامًا.

إن من السهل في عصرنا الحالي، الذي أصبح فيه علم النفس جاريًا على ألسن الناس جميعًا، أن نقع في خطأ النظر إلى العمل على أنه مجرد «انعكاس» لشخصية الفنان، وعندما يكون من الصحيح على أي نحو، أن يوصف أي عمل فني بأنه «انعكاس» كهذا، فإن هذا الوصف لا يكون، كما ذكرت من قبل، إلا حقيقة جزئية؛ فالعمل ينطوي دائمًا على ما هو أكثر من ذلك. ومن الواجب أن نتذكر أن الأعمال الفنية يمكن تذوقها ونقدها جماليًّا في كثير من الأحيان، دون أن نقول كلمة واحدة عن الفنان؛ إن من المؤكد أن الوثائق النفسية لها طرافة خاصة، وأن الأعمال الفنية يمكن أن تعالج أحيانًا على أنها وثائق نفسية. غير أن من الخطأ الفادح، الباهظ التكاليف، أن ننظر إلى الأعمال الفنية على أنها ليست إلا هذا، وأن نُغمض عيوننا، وبالتالي، عن طبيعتها الكامنة، وقيمتها بوصفها موضوعات للإدراك الجمالي.

•••

لقد كان من الضروري، طوال مناقشتنا، أن نحذر القارئ من مبالغات النقد السياقي وسوء استخدامه، ولكن من الخطأ أن نختم هذا القسم بنغمة سلبية؛ ذلك لأن السياقيين قد علمونا عن الفن أمورًا لا تقدر قيمتها بثمن، وبفضلهم أصبحنا الآن نرى أوضح مما كنا نرى في أي وقت آخر من تاريخ الفن، مقدار ما يستمده العمل الفني من الفنان ومجتمعه. وهكذا أصبحت للعمل دلالة إنسانية أعظم بالنسبة إلى المشاهد، وصار أكثر ثراءً في معناه وقوته التعبيرية.

وهناك قدر كبير، من أفضل أمثلة النقد السياقي، لا ينتمي إلى أي من المدارس التي ناقشناها؛ فالناقد السياقي لا يتعين عليه أن يكون من أنصار ماركس أو فرويد، بل إن من الممكن أن يجمع بين علم النفس، والتحليل النفسي، والتاريخ، وعلم الاجتماع، وغير ذلك من فروع العلم، وكثيرًا ما تكون هذه لازمة لتفسير رمز معقد عميق، أو أسطورة كانت تقليدية في مجتمع الفنان.

وهناك لوحة للفنان تيسيان، هي «أسطورة الحكمة» (انظر اللوحة رقم ٢٧) تحمل «شعارًا». ولو ترجمنا هذا الشعار من اللاتينية، لكان نصه: «من «تجربة» الماضي، يسلك الحاضر بحكمة، خشية أن يفسد السلوك في المستقبل».٧٨
وتصور اللوحة ثلاثة وجوه، أحدها وجه رجل عجوز، أداره نحو اليسار، والثاني وجه رجل متوسط العمر، في الوسط، والثالث وجه شاب، أداره نحو اليمين. وقد تتبع الناقد المشهور إرفن بانوفسكي هذا الرمز الوارد في الشعار طوال فن العصر الوسيط وفن عصر النهضة، وبيَّن أن الوجوه ترمز إلى الماضي والحاضر والمستقبل على التوالي. غير أن اللوحة تصور أيضًا ذئبًا، في اليسار، وأسدًا في الوسط، وكلبًا في اليمين. ويرجع بانوفسكي أصل هذه الرموز إلى الديانة المصرية القديمة، ويبين أن معناها هو نفس معنى الرءوس الثلاثة. فما الذي كان يمكن أن يدفع أعظم المصورين جميعًا إلى الجمع بين موضوعَين متباينَين يقولان، على ما يبدو، شيئًا واحدًا؟ وبعبارة أخرى، فماذا كان الغرض من لوحة تيسيان؟»٧٩
لا بد من مزيد من البحث. وهنا يبدأ الناقد في بحث حياة الفنان ولوحات أخرى له. وهكذا يتمكن بانوفسكي من كشف شيء لم تدركه الأجيال السابقة، وهو أن وجه الرجل العجوز هو وجه تيسيان ذاته. أما الرجل المتوسط العمر فهو ابنه، وأما الشاب فهو حفيده «بالتبني»؛ فاللوحة إذن ليست ذات معنى أسطوري فحسب، وإنما هي وصية شخصية للفنان. غير أن «من المشكوك فيه أن تكون هذه الوثيقة البشرية قد كشفت لنا على نحو كامل جمال موضوعها وصدقه، لو لم يكن لدينا الصبر على فك رموز لغتها الغامضة».٨٠

وفي هذه الحالة بدورها يتبين لنا مدى وثوق الصلة بين النقد التفسيري والنقد التقديري. فعن طريق «فك الرموز» الذي قام به بانوفسكي، أصبح العمل يحدثنا على نحو أوضح وأقوى، بوصفه «وثيقة بشرية».

•••

وأخيرًا، فإن النظرية السياقية كان لها تأثير خفي، ولكنه قوي، في كل تقدير فني.

فهذه النظرية تبين لنا أن خلق الفن ليس مسألة «إلهام» فردي فحسب. فالفن نشاط اجتماعي من بين أوجه النشاط الأخرى. قد كان الأنثروبولوجيون يدرسون فن أية حضارة مثلما يدرسون تركيب الأسرة فيها، وقد جعلونا أكثر تعاطفًا مع الفن البدائي وفن الشعوب الأخرى، بأن وجهوا انتباه الغرب إلى هذا الفن. وحين أصبحت أذواقنا أرحب وأوسع نطاقًا، أصبحت معايير الحكم لدينا أعظم مرونة؛ ففي العهود الأسبق، كان النقاد في ميدان الفنون البصرية يرون أن الفن اليوناني أو فن عصر النهضة المتوسط هما «معايير الحكم على كل فن».٨١ أما الآن فإن النقاد أصبحوا أكثر استعدادًا للاعتقاد بأن «الفن الكامل ممكن في أي موضوع أو أسلوب».٨٢

وفضلًا عن ذلك فإن موقف النظرية السياقية من الفن الغربي ذاته قد شجع أيضًا على توخي المزيد من التسامح واتساع الأفق في تقدير الفن، فعندما نعرف الأصل الذي يرجع إليه شيء ما، والمؤثرات التي تحكمت في تشكيله، نصبح أقل ميلًا إلى النظر إليه على أنه يسري على نحو «أزلي» أو «مطلق». وعندما نفهم تاريخه الطبيعي نفهم أيضًا حدوده التي لا يتعداها، فلهذا الشيء قيمة في حدود الموقف الخاص الذي نشأ فيه، لا في جميع المواقف. وهذا يصدق على النظام السياسي، كالملكية، وعلى القانون الأخلاقي، وهو يصدق أيضًا على الفن؛ فالنظرية السياقية وضعت الفن في إطاره الطبيعي، والفن الجميل ليس «سرًّا روحيًّا غامضًا»، وإنما هو ينشأ في ظروف الحياة البشرية، ويفي بحاجات بشرية، وفضلًا عن ذلك، فإن أصول الفن متعددة إلى غير حد، وبقدر ما تؤدي إلى جعل العمل الفني على ما هو عليه في تركيبه الباطن، فإنها تخلق قيمًا مختلفة في النواتج الفنية لمختلف العصور والثقافات، وهكذا ندرك الآن أن الأنواع المختلفة من الفن يمكن أن تكون كلها قيمة «على طريقتها الخاصة». والخلاصة أن النظرية السياقية زادتنا قربة من النزعة النسبية.

(٣) النقد الانطباعي

أراد أصحاب النظريات السياقية في أواسط القرن التاسع عشر أن يكونوا، قبل كل شيء، علميين، وكأن المطلوب من النقد الفني أن يقتدي بالعلوم الفيزيائية في موضوعيها ودقتها.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك رد فعل قوي على هذا النوع من النقد، وكان رد الفعل يرجع إلى عوامل متعددة.

أول هذه العوامل هو أن حركة «الفن لأجل الفن» كانت تنادي «بالعزلة» الجمالية، وانطواء الفن الجميل على ذاته. وقد كشف السياقيون عن العلاقات المتبادلة بين العمل الفني وبين أشياء أخرى، وكثيرًا ما كانوا يطمسون القيم الجمالية للعمل أو يتجاهلونها، وعلى ذلك فقد كان من الضروري أن تنتقل حركة «الفن لأجل الفن» إلى الطرف المضاد للنظرية السياقية، وفضلًا عن ذلك فإن النظرية السياقية، أو ما يبدو أنه أشهر فروعها، كانت في نهاية القرن التاسع عشر تبدو وكأنها أخفقت؛ ذلك لأن الحتميين، أمثال ماركس، وتين، قد وضعوا تصميمات مفصلة «للتفسير» المنشئ (genetic) الكامل للفن. غير أن هذه التصميمات ظلت مجرد تصميمات فحسب. ولم يكن من الممكن تفسير الفن أو الفنان على أنهما مجرد نواتج للقوى النفسية والاجتماعية؛ ذلك لأن العبقرية لا يمكن تفسيرها بنفس الطريقة التي تفسر بها الجاذبية.
وفضلًا عن ذلك، فإن أولئك الذين قادوا الثورة على النظرية السياقية تأثروا بالنظرية الوجدانية تأثرًا قويًّا. ولقد قال أوسكار وايلد: «الفن انفعال».٨٣ ولما كان من الضروري أن تثور انفعالات الناقد، فإن الموضوعية، حتى لو كانت مرغوبًا فيها، مستحيلة:
إن النقد الموضوعي لا وجود له، مثلما أن الفن الموضوعي لا وجود له، وكل من يخدعون أنفسهم فيعتقدون أنهم يضعون في أعمالهم أي شيء غير شخصياتهم إنما هم واقعون في أشد الأوهام بطلانًا. فحقيقة الأمر هي أننا لا نستطيع أبدًا أن نخرج عن أنفسنا.»٨٤
وأخيرًا، فقد كانت الحركة الجديدة تشك في جميع القواعد «النقدية»، سواء منها السياقية، والكلاسيكية الجديدة، وأية قواعد غيرها؛ فالقواعد أكثر جمودًا وشكلية من أن يتأثر بها الناقد «الذاتي» الذي يستجيب للعمل الانفعالي، والفن لا يمكن أن يحكم عليه بالقواعد.٨٥

وعلى ذلك فإن التاريخ، وعلم النفس، وماشابههما من العلوم، لا تفيد الناقد في شيء، وهو يتحرر من القواعد، فكل ما يريده الناقد هو «نوع معين من المزاج، والقدرة على أن يتأثر بعمق بوجود الموضوعات المادية».

•••

وإذن، فما الذي يقوم به الناقد فعلًا؟ يقول أناتول فرانس في عبارته المشهورة: «إن الناقد الجيد هو ذلك الذي يروي مغامرات روحه بين الأعمال الفنية الكبرى».٨٦ وهو يسجل، ويصف، تلك الأفكار، والصور، والأحوال النفسية، والانفعالات، التي يثيرها فيه العمل الفني. وقد عرض أناتول فرانس هذا الفهم للنقد في مجال الأدب، وعرضه أوسكار وايلد وولتر باتر في مجال الأدب والفنون البصرية، كما عرضه ديبوسي في مجال النقد الموسيقي، وكان ذلك كله عند مطلع القرن العشرين. وقد قال الأخير: «إن وصف المرء لانطباعاته أفضل من النقد، وكل التحليل التكنيكي مقضيٌّ عليه بأن يكون عقيمًا».٨٧

والواقع أن رد الفعل لدى «الانطباعيين» على «النقد الموضوعي» هو رد فعل انطباعي؛ ذلك لأن الانتباه يركز، في حالة النقد السياقي والنقد بواسطة القواعد معًا، على الموضوع. أما بالنسبة إلى الانطباعي، فإن الأسئلة الرئيسية هي:

«ما الذي تعنيه هذه الأغنية أو اللوحة، وهذه الشخصية الجذابة التي تعرض في الحياة أو في كتاب، بالنسبة إليَّ؟ وما تأثيرها الحقيقي فيَّ؟ أهي تعطيني لذة؟ وإن كان الأمر كذلك، فما نوع هذه اللذة أو درجتها؟٨٨
وفضلًا عن ذلك فإن في استطاعة الناقد أن يطلق العنان لخياله وانفعالاته، أثناء مشاهدته للعمل الفني؛ فليس من الضروري أن يقتصر نقده على ما هو في العمل: «إن جميع الكتب عامة، بل أروعها، تبدو على أقل قيمة إلى حد لا متناهٍ، من حيث مضمونها، بالقياس إلى ما يضعه القارئ فيها».٨٩
ويستطيع الناقد أن يستمتع بهذه الحرية لأن الانطباعية ترفض الوظائف المألوفة للنقد؛ إذ إن المهمة الأولى للناقد ليست إصدار حكم على العمل، أو تفسيره للقارئ، بل إن النقد الفني ليس له غرض وراء ذاته. وهو، كالفن … سبب وجود ذاته.٩٠ ومن هنا فليس مما يعيب الناقد أن يخفق في وصف مضمون العمل بدقة. ويتساءل وايلد: «من الذي يهمه أن تكون آراء رسكين في تيرنر صحيحة أم لا؟ وفيم يهم ذلك؟» إن وايلد يعد النقد عملًا فنيًّا في ذاته، وهو يمتدح نثر أرسكين «القوى الفخم … المليء بالانفعال وبالألوان الملتهبة في فصاحته النبيلة، والغني في موسيقاه السيمفونية الفياضة.»٩١

•••

إن النقد الانطباعي لم يبدأ بالانطباعيين؛ فقد كانت كتابات عدد كبير من النقاد السابقين، إلى حد معين على الأقل، أوصافًا لاستجابات الناقد ذاته، والأرجح أن أناتول فرانس كان على حق حين قال إن العنصر الشخصي لا يمكن أن ينفصل عن النقد الفني. أما اللاشخصية الكاملة فكثيرًا ما تتمثل في «إعطاء الدرجات»، وهو عادةً نوع آلي عقيم من النقد، ويكاد جميع النقاد الكبار يكون لهم طابع شخصي مميز.

ولكن، برغم أن لدى معظم النقاد قدرًا من الانطباعية، فمن المشترك فيه أن تكون الانطباعية في ذاتها أساسًا سليمًا للنقد. صحيح أن للانتقادات الانطباعية في كثير من الأحيان، أهمية أدبية في ذاتها. ومع ذلك فلو طلبنا من الانطباعية شيئًا أكثر من ذلك، لوجدناها تخذلنا عادة.

إن الانطباعية لا تضع حدودًا لما يقوله الناقد؛ ففي استطاعته أن يتحدث عن أي شيء وكل شيء، ولو كنا ننشد تفسيرًا لما هو متضمن في العمل، لما استطعنا أن نحصل عليه منه إلا بالمصادفة البحتة، وبالمثل فإنا لا نستطيع أن نتوقع منه تقديرًا معقولًا منظمًا للعمل.

إن آفة الانطباعية هي خروجها عن النطاق الجمالي؛ فالناقد الانطباعي لا يكون له، في كثير من الأحيان، شأن بالتركيب الباطن للعمل، وقيمته، ولا شك أن الخروج عن الموضوع خطر دائم يتعرض له كل ناقد، ولا يوجد أي نوع من النقد معصوم تمامًا من هذا الخطر، وقد رأينا أن هذا يصدق على كل من النقدين الكلاسيكي الجديد والسياقي، ومع ذلك فإن الانطباعية هي النوع الوحيد من النقد، الذي يشجع عمدًا على الخروج عن الموضوع، بل إنه يرحب به، كما هي الحال عند أوسكار وايلد.

لقد وقع ريمر في خطأ الخروج عن الموضوع لأنه طبق قواعد الكلاسيكية الجديدة بطريقة غشوم لا تصرف فيها، ومع ذلك فإن هذه القواعد تنطبق على بعض الأعمال الفنية على الأقل، ولو كان هناك ناقد أذكى من ريمر، حتى لو لم يكن ناقدًا من الطراز الأول، لكان لنا أن نتوقع منه أن ينبئنا بشيء عن العمل، عن طريق استخدام القواعد بحكمة. أما الانطباعية فهي تطرح جميع القواعد جانبًا، ومن ثَم فإن من السهل أن تتحول إلى تدفق انفعالي صرف. وكثيرًا ما يكون هذا التدفق منعدم القيمة تمامًا، سواء من وجهة النظر الأدبية أم النقدية.

بل إن هناك من الدلائل ما يشير إلى أن كبار الانطباعيين أنفسهم لم يكونوا يؤمنون بالانطباعية الكاملة المطلقة. مثال ذلك أن وايلد يسلم بأهمية التحصيل التاريخي والتحليل المفصل للعمل.٩٢ كما يقول إن الناقد يمكن أن يشارك في نفس الانفعالات التي يعبر عنها العمل.٩٣ ويقول أخيرًا إن الناقد يستطيع «بالتحصيل العلمي المتعمق والرفض الحازم»٩٤ أن يحدد قيمة العمل الأرفع ويميزه من الأعمال الأقل قيمة، وفي هذه الفقرات يعود أوسكار وايلد إلى العمل ذاته، وتفسيره وتقديره.
والأهم من ذلك أن قادة الحركة الانطباعية ليسوا انطباعيين تمامًا في ممارستهم العملية للنقد؛ ذلك لأن وايلد، وأناتول فرانس، وباتر، ولوميتر Lemaitre، لم يكونوا يقتصرون، في انتقاداتهم للأعمال المعينة، على تسجيل مشاعرهم الشخصية، بل كانوا أيضًا يشرحون بناء العمل الفني وطابعه التعبيري. كما كانت لديهم استبصارات «موضوعية». صحيح أن هذه الاستبصارات كانت تمتزج عادة «بانطباعاتهم»، ومع ذلك فقد كانت موجودة بالفعل، وكثيرًا ما كانت تمثل نقدًا تفسيريًّا على أرفع مستوى، وهكذا فإنهم لم يسمحوا للنقد بأن ينحدر إلى مستوى حلم اليقظة الطليق الجامح.

وعلى الرغم من أن الانطباعية التامة لا يمكنها القيام بالعمل الذي نتوقع من الناقد أن يقوم به، فإن قدرًا معينًا منها يمكن أن يكون نافعًا له ولنا في آن واحد. وربما أفضل ما يمكنها عمله هو أن تبث في القارئ حماسة الناقد نفسه للعمل، فإذا انتقلت إلينا حُمَّى الحماسة هذه، كان من الأمور شبه المؤكدة أننا سنفهم قيمة العمل على نحو أفضل. غير أن الحماسة وحدها ليست كافية، بل ينبغي على الناقد أن يوضح لنا ما تحمس له، وسبب هذا التحمس.

(٤) النقد القصدي

تساءل وايلد، بطريقة بلاغية: «من الذي … يهمه إن كان السيد باتر قد وضع في لوحة الموناليزا شيئًا لم يحلم به ليوناردو أبدًا؟»٩٥ أما خصوم الانطباعية فقد أخذوا الأمر مأخذ الجد؛ فقد كان ذلك يهمهم، ومن هنا قالوا عن الانطباعي: «إننا لن نحرم هذه الروح الرفيعة من لذة مشاعرنا»، ولكنهم سارعوا بالإشارة إلى «أن … الانتباه قد تحول عن العمل الفني».٩٦ ومن المفارقات الغريبة أن نفس التهمة قد وجهت إلى مدرسة تين»،٩٧ في نواحٍ أخرى مضادة تمامًا لما كان يقول به الانطباعيون، وهي المدرسة التي حولت الانتباه من الفن إلى التاريخ وعلم الاجتماع، ومن هنا فقد بذلت في أوائل هذا القرن محاولة لإعادة الانتباه إلى العمل الفني.
وأفضل طريقة لتحقيق هذا الهدف هي أن «نهتم» بمقصد الفنان، فهنا يصبح السؤال النقدي الرئيسي هو: «ما الذي حاول الشاعر أن يفعله، وكيف حقق مقصده؟»٩٨
على أن النقد القصدي Intentionalist لا يمكن أن يقتصر، من الوجهة التاريخية، على رد الفعل على الانطباعية، فهو يتكرر دوريًّا طوال تاريخ النقد، وهو يتمثل طوال القرن التاسع عشر، بوصفه نتيجة مترتبة على اهتمام الرومانتيكية بشخصية الفنان و«عبقريته»، بل لقد رأينا بوادره تظهر من قبل عند بوب وجونسون، في القرن الثامن عشر، وهو ما زال في عنفوان حيويته في أيامنا هذه، وقد كتب أحد الكتاب في الآونة الأخيرة يقول: «يبدو لي أن أرفع نوع من الاستجابة للموسيقى … هو ذلك الذي يضعنا بطريقة كاملة في علاقة مباشرة مع مقاصد مؤلفها.»٩٩ ولا جدال في أنك صادفت أمثلة للمذهب القصدي في الكتب المؤلفة عن الفن، وفي المحاضرات التي تلقى في الفنون، إلخ.

إن النظرية القصدية هي على الدوام دعوة إلى «التعاطف» الجمالي، هي تحذِّرنا من تأمل العمل «بروح» غريبة عن روح الفنان، على حد تعبير بوب، وبذلك فإنها تحول بيننا وبين البحث عن أمور غير مطلوبة في العمل، ولو تأملنا المذهب القصدي على هذا النحو، لكان فكرة صحية بالنسبة إلى أي نوع من النقد.

•••

غير أن كل شيء يتوقف على ما نعنيه «بالقصد»؛ فللفظ عدة معانٍ متباينة. كثيرًا ما نخلط بينها في حديثنا عن الفن، ولهذا الخلط عواقب وخيمة؛ ذلك لأن «القصد»، في أحد معانيه، لا يمثل أساسًا عمليًّا سليمًا للنقد.

في هذا المعنى يكون «القصد» لفظًا نفسيًّا، يشير إلى شيء حدث في ذهن الفنان؛ فهو الفكرة التي كانت لديه، قبل الخلق وأثناءه، عن العمل الفني النهائي الذي أراد إنتاجه. وبعبارة أخرى فالقصد هو هدف نشاطه، كما تخيله. وعلى ذلك فإن هذا «القصد النفسي»، كما أسميه، هو شيء يقع خارج العمل الفني ذاته (ولما كانت النظرية القصدية، في هذا المعنى، تهتم بأحد أصول العمل، فمن الممكن أن تعد نوعًا من أنواع النقد السياقي).

وثمة اعتراضات قوية على استخدام «القصد النفسي»، إما في تفسير العمل الفني، وإما في تقديره؛ فهناك أولًا مشكلة «عملية»، ليست على الإطلاق بالمشكلة الضئيلة الشأن، تلك هي صعوبة معرفة المقصد الحقيقي، بل استحالة معرفته في كثير من الأحيان؛ فالقصد شيء يقع في نطاق تجربة الفنان الخاصة، وما لم يصفه، في رسائله أو محادثاته أو سيرته الذاتية، فإنه يظل غير معروف إلا له هو ذاته، وعلى ذلك فلا يمكن تطبيق معيار القصد على الأغلبية الساحقة من الأعمال الفنية، وفضلًا عن ذلك، فحتى في الحالات التي يكون فيها الفنان قد وصف قصده، فإن وصفه يتعرض لكل العيوب المعتادة التي يتعرض لها كلام الفنانين عن الخلق الفني، كالتبرير، والخداع المتعمد، والخداع الذاتي اللاشعوري.

ولنضف إلى ذلك أنه يكاد يكون من الخطأ دائمًا الكلام عن مقصد واحد، وكأن لدى الفنان فكرة ثابتة، موحدة، عن العمل منذ أول عملية الإبداع إلى آخرها؛ فالعملية الخلاقة، كما رأينا من قبل، ليست في العادة حركة مباشرة، غير منقطعة، نحو هدف الفنان، وإنما هي تنطوي على تجريب، وإعادة نظر، وتتبع «مسالك» جديدة يوحي بها الوسط المستخدم في الفن، وما إلى ذلك، وعلى ذلك فإن قصد الفنان يتغير أثناء سيره في عمله، وكثيرًا ما يكون للفنان مقاصد متعددة، فأيها تستخدم في نقد العمل؟

ومع ذلك، فلنفرض جدلًا أن للفنان قصدًا محدَّدًا واضحًا طوال إبداعه الفني، وأننا نعرف هذا القصد، وحتى في هذه الحالة يكون القصد شيئًا خارجًا عن العمل. فمن الممكن، منطقيًّا على الأقل، ألا يفسر القصد ما هو متضمن في العمل ذاته، وقد لا يتحقق القصد في العمل لأن الفنان عاجز عن السيطرة على الوسط الذي يعبر عن فكرته من خلاله، أو لأنه يختار موضوعًا غير مناسب، أو لأسباب أخرى، وعندئذٍ يكون القصد خارجًا عن مجال النقد التفسيري.

ومن ناحية أخرى، فليس في وسعنا أن نحكم على قيمة العمل على أساس نجاح الفنان أو عدم نجاحه في تحقيق مقصده، فمن الجائز أن يكون قد أخفق، ولكن العمل تكون له قيمته الجمالية في ذاته، كما أن من الجائز أن يكون قد نجح، ولكن إذا كان قصده تافهًا أو عقيمًا، كان العمل ضئيل القيمة من الوجهة الجمالية.

وأخيرًا، فحتى لو نجح الفنان، فإن قصده لا يكون بالضرورة الوسيلة الوحيدة، أو أفضل وسيلة، لتفسير العمل، فما إن يخرج العمل إلى حيز الوجود، حتى تكون له حياة مستقلة خاصة به، ومن الممكن أن يفسره مختلف النقاد على أنحاء متباينة، كما تفسره الأجيال المتعاقبة تفسيرات مختلفة، فقد تجد في العمل قيمة مغايرة تمامًا لتلك التي كان يقصدها الفنان؛ بل إن هذا يكاد يصدق في كل الأحوال، إذا وضعنا في اعتبارنا تعدد القيم التي اهتدى إليها النقد في معظم الأعمال الفنية، وفضلًا عن ذلك، فإن التفسيرات اللاحقة قد تجعل العمل أفضل من ذلك الذي اختمرت فكرته في ذهن الفنان:

«فعندما استمع ديبوسي إلى رباعيته الوترية تجرب لأول مرة، قال للعازفين: «إنكم تعزفون الحركة الثالثة بضعف السرعة التي تصورت أن من الضروري أن تُعزف بها.» ثم تريَّث برهة ليستمتع بالبلبلة التي أثارها، وأضاف: «ولكنها أفضل بكثير على طريقتكم!»»١٠٠
لهذه الأسباب كلها، كان «القصد النفسي» مفهومًا ضعيفًا ومضللًا في مجال النقد، ومن هنا فقد اقتُرح معنًى آخر «للقصد»: «فالقصد الحقيقي للشاعر يتمثل، لا في أحد المشاريع المتعددة التي تطوف بمخيلته، بل في العمل الفني الفعلي الذي يخلقه؛ فقصيدته هي «مقصده».»١٠١ ومع ذلك، فلو كان القصد هو العمل الفني فحسب، لبدا أن استخدام هذا اللفظ لم تعد له إلا أهمية ضئيلة، وفضلًا عن ذلك، فإن الكلام عن «القصد» بهذا المعنى مضلل إلى حد ما، ما دام اللفظ يشير عادة إلى حالة ذهنية، وهي شيء يختلف تمامًا عن العمل الفني.
غير أن للفظ معنًى آخر غير هذه المعاني؛ ذلك هو «القصد الجمالي»، وهذه طريقة مجازية للإشارة إلى التأثير الكامل الذي يفترض أن العمل يمارسه على المدرك الجمالي، وبطبيعة الحال فإن استجابة المدرك شيء يختلف عن العمل ذاته، مثلما أن «القصد النفسي» للفنان يختلف عنه، غير أن «القصد الجمالي»، على خلاف «القصد النفسي»، يركز اهتمامنا على العمل بوصفه موضوعًا جماليًّا، وهو تصحيح مفيد لنقد ريمر Rymer؛ فهو يحث الناقد على أن يتساءل: «ماذا يحاول هذا العمل أن يحققه، بوصفه أداة للتعبير الجمالي؟» وهذا يحُول بين الناقد وبين تطبيق للقيم لا صلة لها بأهمية العمل وجدارته. وبذلك يزيد مفهوم «القصد الجمالي» من احترامنا لفردانية العمل، وهو أمر لا يقل ضرورة في النقد الفني عنه في التذوق الجمالي.

وحين يضع الناقد «القصد الجمالي» نصب عينيه، يستطيع بعد ذلك أن يطرح السؤال الثاني في النقد القصدي: «كيف تتحقق النتيجة؟» وهذا يؤدي إلى فحص البناء الداخلي للعمل، ويكون مفهوم «القصد الجمالي» أحيانًا ذا فائدة عظمى عندما يحكم الناقد بأن العمل لم يحقق المقصود منه. إذ قد يتضمن العمل شواهد واضحة على نوع التأثير الذي يحاول تحقيقه، فمن الجائز أن التأثير كان يفترض فيه أن يكون «ضخمًا» أو «ملحميًّا»، وأن العمل «يحاول أن يكون» عميقًا، ولكن العمل لا يحقق هدفه، فبدلًا من أن يكون عميقًا، نراه يتظاهر بالعمق فحسب؛ وبدلًا من أن يكون مثيرًا لمشاعر قوية، نراه يثير انفعالات سطحية فحسب، وفي هذه الحالة بدورها يكون تحليل عناصر العمل ضروريًّا.

وبعد أن حددنا معالم التمييز بين «القصد النفسي» و«القصد الجمالي»، ينبغي أن يلاحظ أن الأول قد يكون في بعض الأحيان مفيدًا من وجهة النظر الجمالية، فإذا كان «القصد النفسي» قد تحقق في العمل، بحيث يؤثر في طبيعة العمل الكامنة، فعندئذٍ يكون استخدامه مفيدًا للناقد، ويكون في استطاعة الوصف الذي يقدمه الناقد أن يوضح عناصر معينة في العمل، ويكشف أيضًا عن «القصد الجمالي» للكل، وهذا يصدق في أحيان كثيرة على الفن المعاصر، في الحالات التي يكون العمل فيها، في الأصل، مستغلقًا على أفهام الجمهور بسبب أسلوبه أو الرمزية المستخدمة فيه.

إن المبدأ الموجه في الالتجاء إلى «القصد النفسي» في النقد هو نفس المبدأ الموجه بالنسبة إلى جميع الوقائع السياقية، فلا بد أن يكون مفيدًا في تفسير ما ثبت أنه موجود بالفعل في العمل، وأن يلقي ضوءًا على طبيعة الموضوع الجمالي وقيمته.

(٥) النقد الباطن

وهنا نصل إلى أهم حركة نقدية في هذا القرن، وهي الحركة المعروفة في مجال النقد الأدبي باسم «النقد الجديد» The New Criticism.
وهناك عبارة قالها ماثيو آرنولد، ويمكن أن تُتخَذ شعارًا لها، هي: «رؤية الشيء في ذاته كما هو بالفعل»؛ فأنصار حركة النقد الجديد يحاولون تركيز اهتمامهم على الطبيعة الباطنة للعمل وحدها، وهذا يؤدي بهم، في الوقت ذاته، إلى تجنب كل ما يقع «خارج» العمل. «فمن الواجب حصر الاهتمام في القصيدة من حيث هي قصيدة».١٠٢

ولو قلنا إن حركة النقد الجديد تُفنِّد كلًّا من أنواع النقد التي درسناها حتى الآن، لكان هذا القول صحيحًا بقدر ما يمكن أن يكون مثل هذا التعميم صحيحًا.

فكثير من أبرز الشخصيات في هذه الحركة قد هاجموا النقد السياقي هجومًا مريرًا، إذ يتهمونه بتحويل الانتباه عن «القصيدة من حيث هي قصيدة»، إلى تاريخ حياة الفنان، وإلى علم الاجتماع والتاريخ وما إلى ذلك. ولهذا السبب نفسه يهاجمون الانفعالات المتدفقة عند الانطباعيين، وكل ما هنالك من فارق هو أن الانطباعية تحول الانتباه إلى الناقد ذاته.

ويتميز «النقاد الجدد» بالصبر الشديد، والدقة والعمق البالغين، في تحليلاتهم؛ فعملهم «احترافي» بأفضل معاني هذه الكلمة. وليس من العسير أن نفهم سبب احتقارهم للانطباعية التي تبدو لهم مهوشة مفتقرة إلى التنظيم، ولكن حتى لو لم تكن كذلك، لظلوا يرفضونها لأنها تؤكد التأثيرات التي يحدثها العمل في القارئ.

فالنقاد الجدد يتجنبون عمومًا الحديث عن الانفعالات التي أثارها العمل. وهكذا يقول جون كرو رانسوم John Crowe Ransom الذي يرجع إليه الفضل في اسم «النقد الجديد» على هذه الحركة، إن الناقد ينبغي عليه أن «ينتبه إلى الموضوع الشعري ويدع المشاعر تتولى أمر نفسها».١٠٣ وكما تتجاهل هذه الحركة تأثيرات العمل، فهي تتجاهل أيضًا أصوله. وهي تهاجم النظرية القصدية أيضًا.١٠٤
وإذن فلحركة النقد الجديد، في نواحٍ معينة، صلة أوثق بالنقد «الموضوعي» في القرنَين السابع عشر والثامن عشر منها بالأنواع الأقرب عهدًا من النقد. فهي تركز الاهتمام على العمل، ويحاول الناقد أن يظل لا شخصيًّا، ومع ذلك فإن حركة النقد الجديد لا تقبل النقد بواسطة القواعد أيضًا، ومن الملاحظ أن النقاد الجدد أكثر اهتمامًا بكثير بالنقد التفسيري منهم بالنقد التقديري. ففي استطاعتك أن تتصفح قدرًا كبيرًا من كتاباتهم دون أن تجد حكم قيمة صريحًا واحدًا، فهم يسعون قبل كل شيء إلى تفسير العمل وإيضاحه، وإذا وجدت عندهم تقديرًا فإن ذلك لا يكون عن طريق تطبيق قواعد؛ إذ إن «النقاد الجدد»، الذين يعرفون تاريخ النقد، يشكون في القواعد، وهم يكرسون جهودهم لتحليل أعمال محددة، ويجعلون التقدير ينبثق عن التفسير، وكما يقول ليفيس Leavis، فإن «جهدي كله منصب على العمل من خلال أحكام عينية وتحليلات جزئية». ومن هنا فإنه لا يلجأ كثيرًا إلى «المبادئ والمعايير التي تقبل صياغة مجردة».١٠٥
إن كل نقد «باطن» يحترم فردانية العمل الخاص فهو، مثل الإدراك الجمالي ذاته، يدرك ما هو مميز في العمل، وما يفرق بينه وبين الأعمال «المماثلة». أما النقد بواسطة القواعد فيفترض مقدمة أن الأعمال الفنية يمكن أن تقسم إلى «أنواع»، وأنها بالتالي تخضع لمعايير تقيس الجودة في كل «نوع» … ويشك «النقاد الجدد»، بما عُرف عنهم من تعلق بفردانية كل عمل، في مشروعية هذا التصنيف؛ ففي رأيهم أن معايير القيمة ينبغي أن تتكيف وفقًا للعمل الخاص موضوع البحث، بل ينبغي أن تصنع خصيصًا لهذا العمل، وكما يقول رانسوم: «إن كل قصيدة هي قصيدة جديدة، وكل تحليل قد يؤدي إلى توسع جديد في النظرية بحيث تستطيع أن تفي بمتطلبات القصيدة.»١٠٦ (ومن الجدير بالملاحظة أن النقاد الجدد يمارسون عملهم عادة على قصائد أو روايات منفردة، على حين أن النقد السياقي يتجه إلى جمع كل أعمال المؤلف الواحد أو العصر الواحد سويًّا.)

وهكذا يرفض «النقاد الجدد» القواعد، مثلما يرفضون السياق، والقصد، و«انطباعات» الناقد، والواقع أن إيضاح ما لا تكونه حركة النقد الجديد، يساعد على تفسير ما تكونه، ومع ذلك ينبغي أن ندرس الآن أساليب هذه الحركة وأهدافها بطريقة أقرب إلى الطابع المباشر.

•••

إن حركة «النقد الجديد» حركة نقد أدبي، ومع ذلك فإن هناك أوجه شبه واضحة تجمع بينها وبين حركة أسبق منها في نقد الموسيقى والفنون البصرية، وهي الحركة الشكلية formalism.
كان هانسليك Hanslick، كما رأينا من قبل، ينادي بالمعنى الباطن للموسيقى، وقد تحدث بازدراء عن أولئك الذين يتخذون من الموسيقى حافزًا للانفعالات، ثم يقيسون قيمة القطعة الموسيقية تبعًا لشدة انفعالاتهم؛ ففي نظر هؤلاء الناس يكون «للسيجار الجيد أو الحمام الدافئ» نفس قيمة السيمفونية، كما ذكرنا من قبل، كذلك ينبغي على الناقد أن يعمل حسابًا لحياة المؤلف أو العصر الذي عاش فيه.١٠٧ فقوام الموسيقى هو عناصر الوسط، من «صوت وحركة» «التي تكون … كُلَّا تامًّا قائمًا بذاته».١٠٨ وعندما حاول بل وفراي تدريب الأذواق على تقدير التصوير «الخالص»، اتخذا من الموسيقى أنموذجًا لهما؛ فهُما بدورهما كانَا يجدان أن قيمة الفن تنحصر في العناصر المميزة للوسط — أي الخط، والكتلة، والسطح … إلخ، في التصوير والنحت، وهي العناصر التي تتفاعل بعضها مع البعض لتكون بناءً شكليًّا فريدًا، وهم يستخدمون في وصف هذه العلاقات الشكلية ألفاظًا مثل «الإيقاع» و«الانسجام» و«التوتر».
وليس من قبيل المصادفة أن نجد إشارات إلى هانسليك وفراي في كتابات حركة النقد الجديد،١٠٩ إذ إن نظرتهما إلى الفن كانت مشابهة إلى حد بعيد لنظرة «النقاد الجدد». ويُقِيم رانسوم توازيًا بين القصيدة وبين التصميم الشكلي للفنون البصرية.١١٠ كما يقول بروكس إن القصيدة هي «نمط من حالات الاستقرار التوافقي، والتوازن، والانسجام».١١١ ولنلاحظ أن لفظي «الاستقرار التوافقي» و«الانسجام» مستمدان من لغة الموسيقى، ولفظ «التوازن» مستمد من لغة الفنون البصرية؛ فالقصيدة نمط شكلي، ينطوي على قوى وتوترات داخلية، ويوحد بينها في كلٍّ منطوٍ على نفسه.
وهنا ينصب الاهتمام على الوسط الذي يستخدمه الفنان، كما هي الحال عند هانسليك وفراي. وهكذا يقوِّم «النقاد الجدد» خطأ السياقيين، الذين يتركز تفكيرهم في «الأفكار» أو «الموضوعات» التي تأتي من خارج الفن، والذين يتجاهلون بالتالي الوسيط الذي تتجسد فيه هذه الأفكار، والذي ينفرد به الفن. وفي حالة الأدب، يكون الوسيط هو اللغة، بمعانيها الصريحة، وارتباطاتها، وإيحاءاتها الخيالية والانفعالية، ودلالتها التقليدية والحضارية، وينظم هذا الوسيط في كل نوع من الأدب بوسائل شكلية كالإيقاع، وفي الشعر خاصة بالوزن والقافية (ويظهر تأثير الشكليين أيضًا في التحليلات الحديثة للشكل والإيقاع في الرواية والدراما، وهو مجال يجري استكشافه الآن على نحو لم يسبق له مثيل في النقد الأدبي؛ ذلك لأن الدراسات السابقة للشكل والإيقاع كانت تنصب أساسًا على الشعر). غير أن الألفاظ اللغوية ذات معنًى، وفي هذا بعينه يبدو أن الموسيقى و«التصوير الخالص» لا يصلحان أنموذجًا للأدب، والواقع أن السبب الذي دعا هانسليك وفراي إلى القول بأن هذين الفنَّين «منطويان على ذاتهما» هو أنهما لا يشيران، من وراء ذاتهما، إلى «الحياة»؛ فالأدب (فيما عدا الشعر المنعدم المعنى) لا يمكنه تجنب مثل هذه الإشارة، ولعلك تذكر ما قاله «بل Bell» من أن الأدب ليس «فنًّا خالصًا» لهذا السبب عينه؛ فهل يمكنك أن تعالج رواية أو قصيدة على أنها مجرد زخرف شكلي؟ ألا ينبغي أن نضع في اعتبارنا «المضمون»، فضلًا عن «الشكل»، وهلا يؤدي بنا ذلك إلى العودة إلى مقولات النظرية السياقية؟
هذه المسائل أثارت قدرًا كبيرًا من المناقشات بين «النقاد الجدد»، ولا سيما فيما يتعلق بقيمة «الحقيقة» في الفن، وطبيعة «الاعتقاد» الجمالي.١١٢ وإنه لمن الخطأ القول إنهم وصلوا إلى إجابة موحدة. غير أن الكثيرين منهم يرون، بل يؤكدون أن الشعر ينطوي على «معرفة»، وأنه بالتالي بناء معرفي.١١٣ ولكن، على الرغم من أن هناك قطعًا «معنًى» في الأدب، فإن هذا المعنى خاص بالعمل الفني المحدد، ولا يمكن التعبير عنه على أية صورة أخرى؛ «فالمعنى» يعبر عنه، ويخصصه، ويميزه، تفاعل الصور والأفكار والتأكيدات والتوترات داخل بناء العمل الفني. ولهذا السبب كان من «التجديف» تلخيص هذا المعنى في نثر مباشر.
ولقد قال ت. س. إليوت في فقرة مشهورة: «ليس في وسع المعايير الأدبية وحدها أن تحدد «عظمة» الأدب؛ وإن كان من الواجب أن نتذكر أن المعايير الأدبية هي وحدها التي تحدد إن كان ذلك أدبًا أم لا»١١٤ وهكذا ترى الطريقة التي يواجه بها إليوت الموقف من كلتا ناحيتيه؛ فهو يؤكد فردانية الوسيط المستخدم في الفن وأهميته، على طريقة الشكليين؛ ومع ذلك فإنه يعترف أيضًا بارتباط الأدب «بالحياة»، وبالتالي بأهمية عمقه الأخلاقي، و«حقيقته»، واتساقه الفلسفي، وما إلى ذلك، وهذا الازدواج ذاته يتمثل عند كثير من النقاد الجدد.

•••

والآن، ما هي بالضبط مهمة الناقد، في رأي حركة النقاد الجدد؟ لا جدال في أن أولئك الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «النقاد الجدد» سيقدمون إلينا إجابات مختلفة، وربما كانت عبارة بلاكمير أفضل إجابة موجزة نستطيع الاهتداء إليها؛ فهو يرى أن من الضروري أن «يركز الناقد أقصى انتباهه على العمل الذي تمارسه الألفاظ وحركات الألفاظ — وأنا أعني بالحركات جميع الأساليب التكنيكية الأدب — بعضها على البعض».١١٥ (ولنلاحظ التشابه مع وصف هانسليك للموسيقى؛ «الصوت والحركة».) فمن حيث الألفاظ يكون الناقد شارحًا للمعاني.١١٦ فلا بد له أن يوضح المعنى الحرفي، ولكن الأهم من ذلك أن يتتبع الفروق الدقيقة في المعنى، والإيحاءات التي اكتسبتها الألفاظ، إما في الاتصال العادي وإما في أنواع خاصة من الحديث، وليس من الضروري أن يكون التحليل «لفظيًّا فحسب»؛ إذ إنه قد يؤدي إلى مناقشة الرمزية الحضارية وغيرها من العلاقات السياقية للألفاظ. وأما «الحركات» فهي الوزن والإيقاع والمجاز و«اللهجة» التعبيرية والاستعارة والمفارقة … إلخ، وأخيرًا، فإن «العمل الذي تمارسه … بعضها على بعض» يقصد به تلك المعاني الغنية الخفية التي تكتسبها الألفاظ في علاقتها المتبادلة بعضها مع البعض.
وعندما يصادف القارئ إشارة في إحدى الكتابات إلى أن عصرنا هذا هو «عصر نقاد» (وهي إشارة تنطوي في بعض الأحيان على مقارنة ضمنية مع عصر آخر يوصف بأنه «عصر خلاق»)، فإن هذه الإشارة تدل عادة على حركة النقد الجديد؛ ذلك لأن هذه الحركة أنجزت من الأعمال ما جعل لها تأثيرًا هائلًا في عصرنا الحاضر، فلم يسبق أبدًا، في تاريخ النقد، أن ظهر كل هذا القدر من التحليل المنهجي، الشكلي، المرتبط بالنص ارتباطًا وثيقًا، والذي يقوم به نقاد من الطراز الأول، ولقد كان رواد «النقد الجديد» هم إليوت ورتشاردز في العشرينات، ويليهم بروكس Brooks ورانسوم Ransom وليفيس Leavis وتيت Tate، من بين مجموعة كبيرة من النقاد اللاحقين.

•••

وأود أن أقدم بضعة أمثلة محددة لعمل هؤلاء النقاد، وإن كانت أعمالهم بطبيعتها ليست مما يمكن تلخيصه؛ فهذه الأعمال شديدة التماسك، وكثيرًا ما تبدو، في ترابطها وإحكام بنائها، مماثلة للأعمال الفنية «العضوية» التي تدرسها! ولذا يكاد يكون من المحال أن يستطيع التلخيص أن يوفي تفاصيلها الثرية العميقة حقها، على عكس التفسيرات الفنية للنقاد السياقيين، التي يمكن تلخيصها بسهولة أكبر.

لا جدال في أن أفضل ما يستطيع الطالب عمله هو أن يقرأ للنقاد الجدد أنفسهم.١١٧ ويلي ذلك في ترتيب الأفضلية أن أشير بإيجاز إلى تحليل كذلك الذي قام به بروكس ووارين لقصيدة روبرت فروست «بعد قطف التفاح After Apple-Picking».

إن الأبيات الثمانية الأولى من القصيدة هي:

سُلَّمي الطويل، بطرفيه، يستند إلى شجرة
ثابتة نحو السماء
وعلى جانبه زكيبة لم أملأها،
ربما كانت فيها تفاحتان أو ثلاث
لم أقطفها من غصن.
ولكني فرغت الآن من قطف التفاح
خلاصة نوم الشتاء مُذابة في الليل
وعبير التفاح: إنني أغيب في غفوة.١١٨
هذه الأبيات وما يليها تصف عملية قطف التفاح وشعور الراوية بالتعب، وبدء تفكيره في النوم؛ ففي أحد التفسيرات تُعد القصيدة وصفية راوية. غير أن ما يميز حركة النقد الجديد أنها تجد «المزيد» في العمل. ويؤدي التحليل الوثيق «للألفاظ وحركاتها» إلى الكشف عن «إيحاءات رمزية» جديدة١١٩ في القصيدة التي تبدو في ظاهرها سطحية.

ويقول بروكس ووارين عن البيتين السابع والثامن:

«إن لفظ «خلاصة»١٢٠ يحتل موقعًا غريبًا في القصيدة؛ فهو ليس من نفس نوع الألفاظ اليومية، العادية، التي تميز لغة الجزء السابق من القصيدة، بل إن (هذا اللفظ) يبعث في الذهن على الفور فكرة نوع من العطر … غير أنه ينطوي أيضًا على المعنى الفلسفي لشيء باقٍ أزلي … أما لفظ عبير (في مقابل مرادفات له مثل «رائحة») فيؤيد الفكرة الأولى عن معنى «الخلاصة»، ولكن المعاني الأخرى المرجحة فلسفيًّا موجودة هناك أيضًا. إن عبير التفاح رائحة قيمة … ولكن من الواجب أيضًا ربطها على نحو له دلالته «بنوم الشتاء».١٢١

ويتابع التحليل هذا الإيحاء؛ «فنوم الشتاء» يضع الراحة والمكافأة في مقابل الجهد وحياة اليقظة، وهنا تتخذ قصيدة «بعد قطف التفاح» معنًى أعمق، بل معنًى فلسفيًّا.

«لو مضينا خطوة أبعد من ذلك، لكان لنا أن نقول إن التقابل إنما هو بين المتحقق واقعيًّا والمثالي، وفي استطاعتنا الآن أن نعود مرة أخرى إلى البداية الأولى القصيدة وندرك أن ما كان يبدو مجرد تفصيل حرفي عارض — أي السلم المستند إلى شجرة — هو الذي يستهل هذا الاتجاه في المعنى؛ فاتجاه السلم «ثابت نحو السماء»؛ فالسلم ليس متجها إلى أعلى. … بل إلى «السماء»، أي المقر الذي ينال فيه الإنسان المثوبة، ومحط آمال البشر».١٢٢
وهناك إيضاح لفظي آخر، إلى جانب تحليل الوزن (ولنتذكر مرة أخرى أننا لا نستطيع أن نقدم هنا جميع تفاصيل العرض النقدي). وأخيرًا، يتم الوصول إلى «الفكرة الجذرية» في القصيدة؛ فالمثل العليا للإنسان ينبغي أن تكون متغلغلة في حقائق الحياة العادية، وألا تحاول إنكار هذه الحقائق.١٢٣

وفي استطاعة القارئ أن يرى بنفسه مدى ابتعاد هذا عن الحكاية البسيطة المتعلقة بقطف التفاح، وأغلب الظن أن معظم القراء لا يشكون أبدًا في وجود هذه «الفكرة الجذرية» في القصيدة، فهل لهذا التفسير الذي قدمه بروكس ووارين ارتباط جمالي بالموضوع، أم أنه مجرد فرض خيالي؟ إن الوسيلة الوحيدة للإجابة هي أن نطرح الأسئلة المعتادة: هل هذا التفسير مرتكز على ما ثبت أنه متضمن في العمل؟ وهل هو متسق؟ وهل يمكن استيعابه في الإدراك الجمالي، حيث يمكنه أن يعمل على تهيئة استعداد القارئ وتوقعاته نحو العمل، وتوجيه انتباهه، على نحو يؤدي إلى إحداث فارق في طابع تجربته الذي يشعر به؟

على أن حركة النقد الجديد، شأنها شأن أنواع أخرى من النقد، تتسم بأن «مزاياها تتحول إلى عيوب»؛ فهي قد أعادت الاهتمام النقدي إلى العمل ذاته، بعد أن كان بعض النقاد الأسبق عهدًا قد نسوه تقريبًا، وهي قد صححت مبالغات النظريات السياقية والانطباعية والقصدية وتجنبت عيوبها، ومع ذلك فان بعض «النقاد الجدد» كان رد فعلهم على السابقين عليهم من القوة بحيث وقعوا في الأخطاء المقابلة بالضبط؛ فهُم أولًا قد استبعدوا المعرفة السياقية تمامًا، كما لو لم تكن تزيد، في كل الأحوال، عن أن تكون مجرد علم أو تاريخ لا صلة له بالعمل الفني، وهذا اتجاه لا يقل خطأً عن الاعتقاد بأن الفن ليس إلا علم نفس أو تاريخًا؛ فهو يؤدي إلى إفقار النقد بلا داعٍ؛ ذلك لأن الناقد يجوز له، بل ينبغي عليه، أن يستخدم كل ما يمكن أن يساعده. ولما كان تاريخ حياة الفنان، ومشكلات مجتمعه، وأساطير حضارته، تدخل ضمن عمله أحيانًا على الأقل، فإن النقد التفسيري لا يكاد يستطيع المضي في طريقه دون معرفة بهذه العناصر.

إن «النقاد الجدد» يركزون اهتمامهم على النمط الشكلي للعمل. غير أن الشكل يكون على ما هو عليه نظرًا إلى تفاعله مع كل شيء آخر في العمل. والعمل يكتسب وحدة عن طريق استغلال المعاني التاريخية للفظ أو مفهوم واحد، وإماطة اللثام عن رمز حضاري يؤثر في الصورة المجازية، وعلى ذلك فإن التحليل الشكلي لا يمكن أن يكون «شكليًّا» فحسب، وإنما ينبغي أن يبحث في الدلالات التاريخية والاجتماعية للألفاظ والرموز، وبالتالي ينبغي أن يكون سياقيًّا إلى حد ما (ومن الصحيح، للأسف، أن بضعة نقاد جدد رفضوا الانتفاع من علم النفس، والتاريخ الاجتماعي … إلخ، نظرًا إلى أن خوفهم من سيطرة «العلمية» على حضارتنا جعلهم ينفرون من كل علم. غير أن هذا موقف لا عقلي فحسب). ومن الجدير بالذكر أن بروكس ووارين، في الطبعة الثانية من كتابهما الواسع التأثير: «فهم الشعر»، يعترفان بأن مسائل التاريخ وسير الحياة لم تعالج في الطبعة الأولى بما فيه الكفاية، ويأخذان على عاتقهما تصحيح هذا الخطأ.١٢٤

والحق أنه ليس ثمة نقاد أبرع من النقاد الجدد. وهم قد أظهروا براعتهم بالاهتداء إلى «مستويات جديدة للمعنى» في العمل، وتتبع الإيحاءات المتعددة الألوان للفظ الواحد، ويستطيع القارئ أن يدرك ذلك حتى في العرض الموجز الذي قدمناه لتحليل قصيدة «بعد قطف التفاح». وقد أدى عمق تفكيرهم إلى إلقاء الضوء على قيم لم يكن أحد يشك في وجودها من قبل في الأعمال الأدبية، غير أن لهذه «الميزة» أيضًا «عيوبها». ففي بعض الأحيان يصل حرص الناقد على استخلاص «معنًى رمزي» إلى حد يصبح معه النقد غاية في ذاته؛ فالفكرة التي توحي بها الرواية أو المسرحية تستحوذ على الناقد إلى حد يفقد معه اتصاله بالعمل ذاته، وعندئذٍ يكون الجزء الأكبر من نقده تعبيرًا عن خواطره الخاصة، في هذه الحالات تقع حركة النقد الجديد في خطأ الخروج عن المطلوب، تمامًا كما يقع فيه أي نقد سياقي أو انطباعي، ويقترب من ذلك أن يكون إيضاح الناقد لنقطة تفصيلية معينة متصلًا بالعمل، ولكن هذا الإيضاح يستحوذ عليه إلى حد لا يستطيع معه أن يربط بين هذه النقطة التفصيلية وبين دلالة العمل ككل، عندئذٍ لن يكون التفسير الذي يقدمه للعمل متسقًا.

وهناك أخيرًا «عيب» لا يسهل كشفه لأنه يحدث في المسلمات الأساسية للناقد، فقد لاحظنا من قبل أن «النقاد الجدد» يتجهون إلى تجنب أحكام القيمة الصريحة، ومع ذلك فإن بعضًا منهم يفترض مقدمًا نظرية في تقدير القيمة ينبغي أن توضع موضع الشك.

فالاهتمام الدائم لهؤلاء النقاد منصب على «العمل ذاته». ولهذا لم يكونوا يعبئون بالناقد الانطباعي الذي تستحوذ عليه انفعالاته، فوصفه لسيرته الذاتية «ليس شيئًا يمكن دحضه، أو شيئًا يستطيع الناقد الموضوعي أن يأخذه بعين الاعتبار؛ فالوصف الوجداني المحض إما أن يكون فسيولوجيًّا أكثر مما ينبغي، وإما غير محدد أكثر مما ينبغي».١٢٥ وهكذا فإن «الناقد الموضوعي» لا يقول الكثير، أو لا يقول شيئًا على الإطلاق عن تأثير العمل في القارئ. وكما رأينا من قبل، فإنه يركز اهتمامه على بناءً المعاني الذي هو باطن في القصيدة ذاتها.

ولقد أخذ البعض هذا الاتجاه على النقاد الجدد، فقال:

«إن قيمة الأدب إنما تكون قطعًا في تأثيره الفعلي أو الممكن على القراء، أو على الأصح، على القراء المدربين الحساسين … أما مَن ينكر ذلك فإنه يقع في … مغالطة الاعتقاد بأن عملًا فنيًّا يحقق غرضه ويكتسب قيمته من مجرد وجوده فحسب.»١٢٦

ولهذه «المغالطة» نتائج هامة.

فالذي يحدث، في حالة بعض النقاد الجدد، هو أن اهتمامهم «بالعمل ذاته»، يؤدي بهم إلى الأخذ «بالنظرية الموضوعية». ونستطيع أن نعبر عن هذه الفكرة ذاتها بطريقة أخرى فنقول إن ازدراءهم للانطباعية قد يؤدي بهم إلى رفض النسبية؛ فمنهجهم في النقد — وهو التحليل البنائي الباطن — يُفضِي إلى الرأي القائل إن القيمة الأدبية كامنة غير علائقية، وفي كثير من الأحيان تكون النزعة الموضوعية، عند هؤلاء النقاد، غير مصرح بها، بل قد تكون لاشعورية. ومهما يكن فهم يقولون صراحة، في بعض الأحيان، إنهم يحاولون الهرب من «متاهة النسبية والانطباعية».١٢٧

وقد تحدثنا من قبل عن عيوب النظرية الموضوعية، ولكن يجدر بنا أن نتأمل الآن الصورة التي اتخذتها هذه العيوب في حركة النقد الجديد.

إن القضية الأساسية للنظرية الموضوعية هي أن القيمة كامنة في الموضوع، بغض النظر عن أي مشاهد له. وهكذا فإن القائلين بالنظرية الموضوعية من بين النقاد الجدد يفترضون أنه، بمجرد إيضاح بناء العمل، تتحدد قيمة ذلك العمل. وليس من الواجب إجراء أي اختبار آخر لحكم القيمة، سواء أكان صريحًا أم ضمنيًّا فحسب.

وكثيرًا ما يطلق النقاد الجدد على أنفسهم اسم النقاد الجماليين، وهم يعنون بذلك أنهم يلتزمون البناء الباطن للعمل، ولكن إذا فهمنا لفظ «الجمالي» على أنه يشير إلى العلاقة بين الانتباه النزيه وبين العمل، فهل يمكن عندئذٍ القول إن التحليل الشكلي يصف على الدوام قيمة العمل في التجربة الجمالية ويفسرها؟ لا يمكن أن يكون الأمر كذلك إلا إذا سلمنا بما يبدو أن الناقد القائل بالنظرية الموضوعية يسلم به، ألا وهو أن التجربة الجمالية ما هي إلا معاناة أو ممارسة التحليل النقدي، فلا بد له أن يفترض أن التجربة انعكاس، في مجال الإدراك والانفعال، لما يصفه العمل النقدي بطريقة تحليلية لفظية، أي أن المعاني التي كشف عنها الناقد ستكون قيمًا يشعر بها القارئ.

على أن هذا الافتراض غير سليم؛ فهو يُدعى أكثر مما ينبغي بالنسبة إلى النقد، وهو — ككل نزعة موضوعية — يبدي اهتمامًا أقل مما ينبغي بالتجربة الجمالية؛ فهناك فوارق حاسمة بين هذين النوعين من النشاط، والتحليل النقدي، في ذاته، لا يمكنه أن يضمن القيمة الجمالية للعمل، وقد لا تترابط التفاصيل التي يكشف عنها التحليل في موضوع جمالي موحد. كما أن ما يصفه الناقد بأنه دلالة الكل قد لا يتمثل للإدراك الجمالي المباشر، ومن الجائز أن إطار المعاني المفصل، الذي يبدو واضحًا للناقد، قد يكون مختلطًا أو مهوشًا في نظر المدرك؛ كما أن الإيحاءات الرمزية التي تهم الناقد قد لا تؤثر في القارئ إلا تأثيرًا ضئيلًا، أو لا تؤثر فيه على الإطلاق، وليس ذلك دليلًا على عدم حساسية القارئ — إذ إنني افترضت أن المدرك واعٍ قادر على التمييز — بل هو يدل على أن هناك فارقًا هائلًا بين العمل عندما يدرس بطريقة تجزيئية، تحليلية، وبين نفس العمل عندما يُدرك بوصفه وحدة جمالية.

فحكم القيمة الجمالي ينبغي أن يختبر في التجربة الجمالية، كما تؤكد النظرية النسبية؛ إذ إن الحكم الذي يبدو معقولًا، حين يكون جزءًا من عرض نقدي، قد لا يتمشى على الإطلاق مع الاستجابة الجمالية.

ويستطيع القائلون بالنظرية الموضوعية من بين النقاد الجدد أن يقولوا، كما قال أصحاب النظرية الموضوعية الذين تحدثنا عنهم من قبل، إن العمل تظل له قيمته بغض النظر عن الاستجابة التي نشعر بها، أو أن القيمة لا يدركها إلا من كان لديه «ذوق سليم»، وهم في بعض الأحيان يقولون ذلك بالفعل، ولكن لا بد لهم، في سبيل تبرير هذه الادعاءات، من أن يعرضوا نظريتهم الخاصة في التقدير بطريقة منهجية، وقد لمسنا في الفصل السابق ما يواجهونه من مشكلات، فلا بد لهم من الدفاع عن تعريف «القيمة» في الادعاء الأول، وإثبات أن الادعاء الثاني لا يقع في خطأ المصادرة على المطلوب.

ولما كانت النظرية الموضوعية ترى أن القيمة سمة غير علائقية، فإنها كانت عادة تذهب إلى أن هناك تقديرًا واحدًا للعمل هو وحده الصحيح، ويبدو في كثير من الأحيان أن بعض النقاد الجدد يقولون ضمنًا بهذا الرأي ذاته، إذ يبدو أنهم ينكرون مشروعية أي تفسير آخر، أو صحة أي حكم قيمة آخر، على أن هذا الوجه من أوجه النظرية الموضوعية يكون له ضرر وخيم عندما يتمثل في كتاباتهم؛ ذلك لأن النقاد الجدد قد أوضحوا مدى الثراء والتعقُّد اللذين يمكن أن يتسم بهما العمل الفني، وذلك على نحو قد لا يكون له نظير في تاريخ الفن، وقد أتاح لهم علمهم، وصبرهم، وذكاؤهم، أن يعيدوا تفسير أعمال تجاهلتها الأجيال السابقة، وأن يكشفوا عن معانٍ جديدة أعمق في الأعمال التي كانت معروفة ومألوفة منذ عهد بعيد. ولا بد لهم أن يعرفوا، خيرًا مما تعرف أية فئة أخرى من النقاد، أن هناك على الدوام تفسيرات مشروعة متعددة للعمل الواحد.

ولقد كانت النظرية الموضوعية هي علة مظاهر الضعف التي لا داعي لها في عدد من النقاد الجدد … فليس من الضروري، لكي يكون المرء ناقدًا موضوعيًّا، أن يكون آخذًا بالنظرية الموضوعية. فما هو المعنى الهام «للموضوعية»، كما تطبق على النقد؟ إن القوة الحقيقية للفظ تكمن في أنه يؤدي إلى استبعاد المعرفة التي لا تتصل بالميدان الجمالي، كتلك التي نجدها لدى بعض السياقيين، والتدفق الانفعالي الذي لا يخضع لنظام، كذلك الذي نجده لدى بعض الانطباعيين، ومن الممكن تمامًا أن يكون الناقد موضوعيًّا بهذا المعنى، ويكون في الوقت ذاته من أنصار النسبية، مثل هذا الناقد يركز اهتمامه على ما هو كامن في العمل، وهو لا يستعين بالمعرفة السياقية إلا عندما تكون ذات صلة بالموضوع الجمالي، ولا يخلط بين استجابته المباشرة وبين التقدير. غير أنه يحكم على العمل دائمًا في صلته بما يشعر به الناس عندما ينظرون إليه بوصفه موضوعًا له طبيعته الباطنة، وهو يعلم، بل يؤكد، أن التفسيرات والتقديرات الأخرى للعمل تعادل تفسيره وتقديره الخاص، على الأقل، في صحتها.

•••

وهناك كلمة أخيرة نتوجه بها محذرين من سوء فهم محتمل؛ فهذا الفصل قد ميَّز بين أنواع متعددة من النقد، لكل منها مسلماته ومناهجه وأغراضه، ولكن من الخطأ الاعتقاد بأن النقاد يمكن أن يصنفوا، بسهولة، تحت واحد فقط من هذه الأبواب؛ فمعظم الكتابات النقدية مزيج من واحد أو أكثر من الأنواع النقدية؛ فحتى أكثر النقاد «موضوعية» أو «شكلية» يقدم إلينا عادة استجاباته الشخصية للعمل، كما أن الجميع، فيما عدا أشد الانطباعيين تطرفًا، يفسرون العمل ذاته، حتى لو كان ذلك بطريقة غير مباشرة فحسب، بل إنه ليس من التناقض المنطقي أن يجمع البحث النقدي الواحد بين أنواع النقد الخمسة جميعًا، وإن كان مثل هذا الخليط المهجن سيبدو، على الأرجح، شاذًّا غير مترابط، ولكن على الرغم من أن معظم النقاد يستخدمون عددًا من المناهج، فإنهم يفضلون عادةً نوعًا بعينه منها.

ومع ذلك فإن الناقد الجيد يكيف أساليبه ومعايير القيمة لديه تبعًا للعمل الخاص الذي يدرسه، ومن ثَم فإنه يستخدم في الحالات المختلفة أنواع مختلفة من النقد. كما أنه يضع في اعتباره الجمهور الذي يكتب له، ومستوى ذوقه، ومدى تعوده على عمل له هذا الأسلوب أو النمط.

مراجع

() ريدر: مرجع حديث في علم الجمال، ص١٣٢–١٧٩، ٥٣٧–٥٧١.
() شورر، مايلز، ماكنزي (الناشرون): النقد.
Schorer, Miles, Mc Kenzie, eds., Criticism. (N. Y., Harcourt, Brace, 1948).
() فنتوري، ليونللو: تاريخ النقد الفني. ترجمة ماريوت.
Venturi, Lionello, History of Art Criticism, Trans. Marriott (N. Y., Dutton, 1936).
() فيفاس وكريجر: مشكلات علم الجمال، ص٤١٤–٤٣٠، ٤٩٨–٥١٤.
() فيتس مشكلات في علم الجمال، ص٢٧٥–٣٠٥، ٣٦٠–٣٧٩، ٦٦٠–٦٨٢.

ديموث، نورمان (الناشر): مختارات من النقد الموسيقي.

Demuth, Norman, ed., An Anthology of Musical Criticism (London, Eyre and Spottiswoode, 1947).

فراي: التحولات.

Fry, Transformations.

جراف، ماكس: المؤلف الموسيقي والناقد.

Graf, Max, Composer and Critic (N. Y., Norton, 1946).

هاوزر، آرنولد: التاريخ الاجتماعي للفن (أربعة مجلدات).

Hauser, Arnold, The Social History of Art (N. Y., Vintage, 1958).

بانوفسكي، إروين: المعنى في الفنون البصرية.

Panofsky, Erwin, Meaning in the Visual Arts (Garden City, Doubleday, 1955).

ستولمان، روبرت (الناشر): أبحاث ودراسات في النقد.

Stallman, Robert W., ed., Critiques and Essays in Criticism (N. Y., Ronald, 1949).

ستاوفر، دونالد، (الناشر): مقصد الناقد.

Stauffer, Donald A., ed., The Intent of the Critic (Princeton U.P., 1941).

سليفان: بيتهوفن.

Sullivan, J. W. N., Beethoven (N. Y., Mentor. 1953).

ويليك، رينيه، ووارين، أوستن: نظرية الأدب.

Wellek, René and Warren, Austin, Theory of Literature (N. Y., Harcourt, Brace, 1949).

ويمزات (الابن) وبروكس، كلينث: النقد الأدبي: تاريخ موجز.

Winsatt, W. K., jr., and Brooks, Cleanth, Literary Criticism, A Short History (N. Y., Knopf, 1957).

أسئلة

  • (١)

    حلل بدقة بعض الكتابات النقدية المتعلقة بأعمال معينة في المراجع الواردة في القائمة السابقة. ما أنواع النقد التي تمثلها هذه الكتابات؟ وهل يستخدم الناقد أكثر من نظرية واحدة من النظريات التي وصفناها في الفصل؟ وما هي العلاقة بين تفسيره للعمل وبين حكمه على قيمته؟

  • (٢)
    «لو تأملنا هذا النشاط الروحي الخاص لوجدناه دون شك يستجيب في بعض الأحيان لمؤثرات من الحياة، ولكنه أساسًا منطوٍ على ذاته؛ فالتعاقبات الإيقاعية للتغير تتحدد بقواها الداخلية الخاصة، وبإعادة تعديلها لعناصرها الخاصة في داخلها، أكثر مما تتأثر بالقوى الخارجية» (فراي: الإبصار والتصميم … Fry, Vision and Design ص٩).

    حلل مدى صحة هذا الرأي عن طريق اختبار تغير تاريخي رئيسي في الفن، على النحو الذي وصفه «هاوزر» في الكتاب المذكور في قائمة المراجع.

  • (٣)

    ادرس بعض تفسيرات «هاملت» في كتاب ويليامسون، المذكور من قبل، هل هناك أية تفسيرات منها تبدو لك أوفى من تلك التي نوقشت في هذا الفصل؟ وكيف تحدد مدى صلاحية التفسير؟

  • (٤)
    يقول سليفان، في الكتاب المذكور في قائمة المراجع، إن «سيمفونية الإيرويكا Eroica تعبير مترابط، متحقق على نحو يدعو إلى الدهشة، عن تجارب بيتهوفن الروحية.» (ص٧٦). ادرس عرض سليفان هذا الرأي، واذكر ما الذي يعنيه بلفظ «التعبير»؟ وما هي أدلته على هذا الرأي؟ هل هو يستدل من وقائع حياة المؤلف الموسيقي على طبيعة الموسيقى، أم العكس؟ وما مدى قوة حجته؟
  • (٥)

    انظر إلى تصوير لوحة تيسيان «أسطورة الحكمة» (شكل رقم ٢٧). هل يؤدي النقد السياقي لبانوفسكي إلى زيادة القيمة الجمالية للعمل؟ وإن كان الجواب بالإيجاب، فكيف يؤدي إلى ذلك؟

  • (٦)

    اقرأ دراسات أناتول فرانس النقدية «في الحياة والثقافة» هل هي انطباعية تمامًا؟ وهل لها أية صحة «موضوعية»؟

  • (٧)

    عُرِّف «المقصد النفسي» بأنه فهم الفنان للعمل الذي يريد أن يخلقه. وقد يكون مقصده، بمعنًى مخالف، هو كسب المال، أو تنبيه سامعيه إلى وجود مظالم اجتماعية معينة، أو الوصول إلى الشهرة، إلخ. فهل يمكن أن يكون للمقصد، بهذا المعنى، علاقة جمالية بالموضوع؟ وإن كان كذلك، فكيف؟ هل يمكنك تقديم أمثلة محددة؟

  • (٨)

    أي نظريات الفن التي درسناها من قبل (في الفصول ٥–٨) هي في رأيك أوثق ارتباطًا بكل نوع من أنواع النقد التي درسناها في هذا الفصل؟ اشرح إجابتك.

  • (٩)

    اذكر، بالنسبة إلى كل نوع من أنواع النقد التي درسناها في هذا الفصل، أعمالًا فنية معينة تعتقد أن من الممكن دراستها بواسطة هذا النوع من النقد على نحو أفضل مما تدرس بواسطة أي نوع آخر. اشرح إجابتك في كل حالة.

١  انظر من قبل القسم الثاني من الفصل الثالث.
٢  بلاكمير: «عبء على النقاد A Burden for the Critics» من كتاب «الأسد وخلية النحل»، ص٢٠٢. The Lion and the Honeycomb (N. Y., Harcourt, Brace, 1955).
٣  المرجع نفسه، ص٢٠٦.
٤  المرجع نفسه، ص٢٠٥.
٥  المرجع نفسه، ص٢٠٦.
٦  المرجع نفسه، ص٢١٠-٢١١.
٧  المرجع المذكور من قبل، ص٣٧١.
٨  «وظيفة النقد في العصر الحاضر The Function of Criticism at the Present Time» في «مقالات أدبية ونقدية» ص٢٤ Essays, Literay and Critical (London, Dent).
٩  جورج سانتسبري: تاريخ النقد والذوق الأدبي في أوربا. الجزء الثاني، ص٩٠-٩١ George Saintsbury, A History of Criticism and Literary Taste in Europe (Edinburgh, Blackwood, 1902).
١٠  انظر من قبل القسم الثالث من الفصل الخامس.
١١  انظر من قبل القسم الخامس من الفصل الخامس.
١٢  المرجع المذكور من قبل، المجلد الخامس، ص٨.
١٣  قارن سانتسبري: المرجع المذكور من قبل، ص٩٣١ قارن أيضًا ص٣٩٧.
١٤  مقتبس من مقدمة «نام Nahm» لكتاب أرسطو المذكور من قبل، ص١٠ من المقدمة.
١٥  اقتبسه ماكس جراف في كتابه: «المؤلف الموسيقي والناقد» ص٢٩١.
١٦  يلاحظ أن هذه الاقتباسات من بوب هي في الأصل أبيات شعرية، أو أجزاء من أبيات. (المترجم)
١٧  برادلي: التراجيديا الشيكسبيرية، ص٧١.
١٨  «النثر والشعر عند جونسون Johnson, Prose and Poetry» ص٢٤٧؛ «ذي رامبلر The Rambler» العدد ١٥٦.
١٩  The Rambler، العدد ١٥٨، ص٢٧٣.
(London, Bohn, 1850).
٢٠  «مدخل إلى شكسبير Intr. to Shakespeare في: «النثر والشعر عند جونسون» ص٤٩٥.
٢١  المرجع نفسه، ص٤٩٦.
٢٢  المرجع نفسه، ص٥٠١.
٢٣  المرجع نفسه، ص٥٠٢.
٢٤  The Rambler العدد ١٥٦.
٢٥  «مدخل إلى شكسبير»، في المرجع المذكور من قبل، ص٥٠٠.
٢٦  رتشاردز: النقد العملي، ص٢٥٤.
٢٧  قارن ويليك ووارين: نظرية الأدب، ص٦٧ وما يليها.
René Wellek and Austin Warren, Theory of Literature (N. Y., Harcourt, Brace, 1949).
٢٨  أدموند ولسون: «التفسير التاريخي للأدب، في كتاب «مقصد الناقد The Intent of the Critic» ص٤٣–٤٥.
٢٩  رالف فوكس «الماركسية والأدب» في كتاب «النقد Criticism»، ص١٣٦، نشرة. Shores Miles, Mckenzie (N. Y., Harcourt, Brace 1948).
٣٠  المرجع نفسه، ص١٣٥.
٣١  كريستوفر كودويل: الشعراء الإنجليز Christopher Caudwell, English Poets في كتاب «النقد Criticism» ص١٢٩.
٣٢  المرجع نفسه، ص١٢٩.
٣٣  إينجل فلوريس (الناشر): إبسن في مواضع متفرقة من الكتاب. Angel Flores, ed. “Ibsen” (N. Y., Critics Group, 1937).
٣٤  ب.، بلاكمير «طبيعة عمل الناقد A Critic’s Job of Work» ص٢٧٨، في كتاب «العميل المزدوج The Double Agent».
٣٥  المرجع نفسه، ص٢٧٠.
٣٦  نيكولاي بوخارين «الشعر والمجتمع» (Nikolai Bukharin, “Poetry and society”) في كتاب فيفاس وكريجر المذكور من قبل، ص٥١١.
٣٧  المرجع المذكور من قبل، ص٥٧.
٣٨  انظر كودوبل، المرجع المذكور من قبل، ص١٢٩ وما يليها.
٣٩  انظر «فلوريس Flores»، المرجع المذكور من قبل، ص٣٦-٣٧، ٣٩-٤٠، ٧٤.
٤٠  دراما شعرية لهنريك بسن، ألفها عام ١٨٦٧م. (المترجم)
٤١  تين: مقدمة لكتاب «تاريخ الأدب الإنجليزي» ترجمة فان لون، المجلد الأول، ٣١ Yan Loun (London, Chatto and Windus, 1877).
٤٢  المرجع نفسه، ص٢٥؛ قارن أيضًا ٢٣-٢٤.
٤٣  المرجع نفسه، ص١.
٤٤  المرجع نفسه ص١٣.
٤٥  المرجع نفسه، ص٢٥.
٤٦  المرجع نفسه، ص١٧.
٤٧  المرجع نفسه، ص١٧.
٤٨  المرجع نفسه، ص١٩.
٤٩  المرجع نفسه، ص٣٦.
٥٠  مارتين تيرنل: «النقد الأدبي في فرنسا» Martin Turnell, “Literary Criticism in France” في كتاب «نماذج من النقد ودراسات فيه» Critiques and Essays in Criticism الناشر Stallman (N. Y., Ronald, 1949).
٥١  انظر من قبل، القسم الثالث من الفصل الخامس.
٥٢  ألبير جيرار: الأدب والمجتمع Albert Guérard, Literature and Society (Boston, Lothrop, 1935) ص١٣٥.
٥٣  «تاريخ الأدب الإنجليزي»، الجزء الثاني: ص٥٠.
٥٤  «مرشد للنقاد Primer for Critics»، ص٤٦.
٥٥  تيت Tate، المرجع المذكور من قبل، ص١٠.
٥٦  المرجع المذكور من قبل، الجزء الأول، ص٣٥.
٥٧  المرجع نفسه، ص٣٤.
٥٨  انظر مثلًا: فريدريك هوفمان: الفرويدية والذهن الأدبي Frederick Hoffman Freudianism and the Literary Mind (Louisiana State U.P., 1945).
أوتو رانك: الفن والفنان Otto Rank, Art and Artist, Trans. Atkinson (N. Y., Knopf, 1932).
٥٩  ويليك ووارين Wallek and Warren المرجع المذكور من قبل، ص٧١.
٦٠  فرانتس كافكا: «أبي الأعز Dearest Father» ترجمة Kaiser and Wilkins (N. Y., Schocken, 1954)، ص١٧٧.
٦١  المرجع نفسه، ص١٤٠.
٦٢  المرجع نفسه، ص١٣٨.
٦٣  المرجع نفسه، ص١٧٠؛ قارن أيضًا ص١٥٠، ١٥٧، ١٦١.
٦٤  المرجع نفسه، ص١٤٢-١٤٣.
٦٥  المرجع نفسه، ص١٤٧.
٦٦  المرجع نفسه، ص١٤٥.
٦٧  انظر من قبل، القسم الثاني من الفصل الخامس.
٦٨  روبرت جراي R. Gray ١٨٩١م، في «قراءات حول شخصية هاملت Readings on the Character of Hamlet»، نشره Claude Williamson (London, Allen & Unwin, 1950) ص١٧٧.
٦٩  ويليامسون، المرجع المذكور من قبل، ص٣٢.
٧٠  المرجع نفسه، ص٣٣.
٧١  أرنست جونس: هاملت وأوديب، ص٣٩.
Ernest Jones, Hamlet and Oedipus (Garden City, Doubleday, 1955).
٧٢  المرجع نفسه، ص٦٠.
٧٣  المرجع نفسه، ص٧٨، ٩٠-٩١.
٧٤  المرجع نفسه، ص٩٣-٩٤.
٧٥  المرجع نفسه، ص١٠٢-١٠٣.
٧٦  المرجع نفسه، الفصل السادس.
٧٧  المرجع نفسه، ص١٤.
٧٨  إرفين بانوفسكي: «أسطورة الحكمة» لتيسيان: حاشية. «في كتاب» المعنى في الفنون البصرية، ص١٩٤.
Ervin Panofsky, “Titian’s Allegory of Prudence, A Postscript,” in “Meaning in the Visual Arts” (Garden City, Doubleday, 1955).
٧٩  المرجع نفسه، ص١٦٥.
٨٠  المرجع نفسه، ص١٦٨.
٨١  ماير سابيرو «الأسلوب» في كتاب «الأنثروبولوجيا اليوم»، نشره كروبر، ص٢٩١.
Meyer Shapiro, “Style” in “Anthropolgy Today,” ed.
Krober (Univ. of Chicago Press, 1953).
٨٢  المرجع نفسه، ص٢٩١.
٨٣  «الناقد بوصفه فنانًا» في كتاب «مختارات موجزة من أوسكار وايلد» ص١٩٧.
“The Critic as Artist,” in “The Portable Oscar Wilde”.
٨٤  أناتول فرانس «في الحياة والثقافة On Life and Letters» ترجمة إيفانز (N. Y., John Lane, 1911) ص٧-٨ من المقدمة.
٨٥  باتر المقدمة «في كتاب» عصر النهضة، ص٢٧.
٨٦  المرجع المذكور من قبل، ص٧ من المقدمة.
٨٧  اقتبسه ماكس جراف في كتابه: «المؤلف الموسيقي والناقد» ص٢٩١.
Max Graf, Composer and Critic (N. Y., Norton, 1946).
٨٨  باتر: المرجع المذكور من قبل، ص٢٦ من المقدمة.
٨٩  أناتول فرانس، المرجع المذكور من قبل، المجموعة الثانية، ص١١-١٢ من المقدمة؛ وانظر أيضًا أوسكار، المرجع المذكور من قبل، ص٨٧.
٩٠  وايلد، المرجع المذكور من قبل، ص٨٢.
٩١  المرجع نفسه، ص٨٤.
٩٢  المرجع المذكور من قبل، ص٩١.
٩٣  المرجع نفسه، ص١٠٠-١٠١.
٩٤  المرجع نفسه، ص١٠٧.
٩٥  المرجع نفسه، ص٨٤.
٩٦  ج. أ. سبنجارن «النقد الجديد» في كتاب «النقد الخلَّاق».
J. E. Spingarn, “The New Criticism,” in “Creative Criticism” (N. Y., Harcourt, Brace, 1931) p. 6.
٩٧  المرجع نفسه ص٣٥.
٩٨  المرجع نفسه ص١٨.
٩٩  تشاندلر Chandler، المرجع المذكور من قبل، ص٢٣٢.
١٠٠  شارل مونش: «أنا قائد فرقة موسيقية» ص٥٢.
Charles Munch, I Am A Conductor, trans. Burkat (N. Y., Oxford U.P., 1955).
١٠١  «نمو أسطورة أدبية The Growth of a Literary Myth» في كتاب سبنجارن Spingarn المذكور من قبل، ص١٦٧.
١٠٢  بروكس ووارين Brooks and Warren: المرجع المذكور من قبل، ص١٥.
١٠٣  «النقد بوصفه نظرًا خالصا» في كتاب «مقصد الناقد»، ص٩٦-٩٧ “The Intent of the Critic”.
١٠٤  و. ك. ويمزات الابن وم. بيردسلي:«مغالطة القصد»، ص٤٦٨–٤٨٨ W. & Wimsatt, Jr, and M. C. Beardsley, “The Intentional Fallacy,” Sewanee Review, LIV (1946).
١٠٥  المرجع المذكور من قبل، ص٢١٥.
١٠٦  مقتبس من مقال ر. و. ستولمان «النقاد الجدد» في كتاب ستولمان Stallman المذكور من قبل، ص٤٩٦.
١٠٧  «الجميل في الموسيقى»، ص٩٩–١٠٣.
١٠٨  المرجع نفسه، ص٦٨.
١٠٩  ويمزات، وبيردسلي «المغالطة الوجدانية» “The Affective Fallacy,” Sevanee Review, LVII (1949), p. 30.
١١٠  المرجع المذكور من قبل، ص١٢٣.
١١١  المرجع المذكور من قبل، ص٢٠٣.
١١٢  انظر الفصل الثاني عشر من قبل.
١١٣  انظر مثلًا: تيت Tate، المرجع المذكور من قبل، ص٩، جون كرو رانسوم. النقد الجديد The New Criticism (Norfolk, New Directions, 1941) ويمزات وبيردسلي: المغالطة الوجدانية The Affective Fallacy، ص٤٦، ٤٨، ٥٢.
١١٤  «الدين والأدب Religion and Literature» في «مقالات قديمة وحديثة» Essays, Ancient and Modern (N. Y., Harcourt, Brace, 1936) ص٩٢.
١١٥  بلاكمير: «عملية النقد القديرة The Enabling Act of Criticism».
١١٦  ويمزات وبيردسلي: «المغالطة الوجدانية»، ص٤٨.
١١٧  انظر مثلًا: بروكس ووارين: فهم الشعر Understanding Poetry: بروكس: The Well Wrought Urn ستولمان: أعمال نقدية ودراسات في النقد الأدبي الحديث Ray B. West, jr. (ed.), Essays in Modern Critiques and Essays in Criticism.
١١٨  أبيات من قصيدة «بعد قطف التفاح» من «الأشعار الكاملة لروبرت فروست» ص٥٥٨.
Complete Poems of Robert Frost (Henry Holt and Co., 1930).
١١٩  المرجع المذكور من قبل، ص٣٨٩.
١٢٠  اللفظ الإنجليزي هو essence، ويدل من جهة على «خلاصة العطر»، كما يدل من جهة أخرى على معنًى فلسفي، هو «ماهية الشيء»، ومن المحال جمع هذين المعنيين معًا في لفظ عربي واحد. (المترجم)
١٢١  المرجع نفسه، ص٣٩٠.
١٢٢  المرجع نفسه، ص٣٩١.
١٢٣  المرجع نفسه، ٣٩٤-٣٩٥.
١٢٤  المرجع المذكور من قبل، ص٢١ من المقدمة.
١٢٥  ويمزات وبيردسلي: «المغالطة الوجدانية»: ص٤٥.
١٢٦  ديفد ديتشس: «النقد الجديد»: بعض التحفظات في كتاب (دراسات).
David Daiches, Literary Essays (Philosophical Library, 1957).
١٢٧  ثيودور سبنسر (المشكلة الرئيسية في النقد الأدبي) ص١٦٠-١٦١.
Theodor Spencer, The Central Problem in Literary Criticism, College English, 4. (1942).
وانظر أيضًا بروكس، المرجع المذكور من قبل، التذييل الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤