أبو قير

أبو قيرِ١ والأمسُ لا يرجعُ
عفَتْ فيك من بعدِنا الأربُعُ
وهُدَّت خيامُ المَصيف فلا
ظلالَ بأكنافها يطمع
وقد طرد الناسَ عنك الخريفُ
فأَوحشَكَ المؤنسُ المقلع
وأغضبَ بحرَكَ هجرانُنا
فجاشَ به الموجُ يستَدفع
ورُوِّعَ حصنُك وهو الأشَمُّ
يحاذره البطَلُ الأروع
ولم يخفِق العلمُ المستطيلُ
عليكَ وحراسُه هُجَّع
وقد صرتَ يأوي إلى شجَراتِـ
ـكَ وحْشُ فلاةٍ بها يظلَع٢
فجرَّت على وجهِك الرَّامِساتُ٣
ذيولًا هي الكفَنُ المفجع

•••

ليالي أبو قير أينَ الليالي
وأين النجومُ التي تلمَع
وأين الهلالُ وكان مساءً
على البَحر من خَيمةٍ يطلع
أغار أخاه بكبد السَّماء
مُكَوِّنُ بهجته المبدع
وتسرح فوقَ الرمالِ الظباءُ
على شاطئ البَحر تستتبع
عيونٌ تغازلها أعينٌ
قدودٌ تطوِّقُها أذْرُع
نواعمُ كالأغصُن الناعماتِ
فوائحُ كالعطر يَضَّوَّع
طوالعُ بعد العشيِّ شموسًا
ترافقُها الأنجم التبَّع
نواشرُ فوق المتونِ ليالي الشـُّ
ـعُورِ وهنَّ الدُّجَى الرُّوَّع
جوالسُ فوق الصُّخور غصونًا
على الصَّخر نضرتُها تمرَع
سوافرُ عن فاضحاتِ البُدور
ضواحكُ عن درر تسطع
سواحرُ لبٍّ سواءٌ أخو الـْ
ـهِداية والعاشقُ المولَع
سواهٍ لواهٍ بملكِ الجمالِ
لهُن الخلودُ وما يتبَع

•••

وليلٍ به بتُّ مستَلقيًا
على الرَّمل والجفنُ لا يهجَع
تحيَّرُ فيه النجومُ كما تَـ
ـتَحيَّرُ في المُقَل الأدمُع
يداعبُ وجهي نَسيمُ المساءِ
وترمُقني الخيَمُ الخشَّع
بما علَّقوا من سراجٍ منيرٍ
على بابها نورُه أسفَع
وقد وقَفَ الحصن طودًا منيعًا
يؤَمِّنُ مَن قلبُهُ يهلع
وسادَ السكوتُ كأَنَّ البرايا
مظنَّاتُ أنفاسُها تُنزَع
فحدَّثني الصَّخرُ عما رأَى
وأسمَعني الماءُ ما يسمَع
حوادثَ ملءَ الزَّمان استقلَّت
على البَحر أحرفُها تُطبَع
مسطِّرةً بالدماءِ خُطوطًا
عصيٌّ بها الناظر الطيِّع
فتقرأَها في الظلام عيونُ الـْ
ـفؤادِ وتضمَنُها الأضلُع

•••

أساطيلُ تحسِدها الرَّاسخاتُ
تسِير الرياحُ بها الأربع
تَروعُ البحارَ إذا ما جرَت
ففي قلبها الحُوتُ مُستفزَع
تُقِلُّ جيوشَ المنايا استثارت
ومصرُ لنَسرِهم مَوقِع

•••

رمَى بالمماليك حتى تشتَّـ
ـتَ شملُهمُ فهْوَ لا يُجمَع
وجاءَته كلُّ وفودِ البِلاد
تِباعًا لإِمرته تخضَع
ولكنْ كبارُ الرجال يرونَ
بأتباعهم صَمَمًا إن دُعوا
كذلك خالفَ أمرَ الكبيرِ
أميرُ المياهِ٤ فما يسمَع
وألقى مراسِيَه فيكَ لا
يبالي العدوَّ ولا يفزَع
فيا يومَ فاجأَه الإنكليزُ
على رأسِه حُوَّمٌ شُرَّع٥
فدمدمَ في أفقيكَ الرصاصُ
وأرعد في بَحرك المدفعُ
وطبَّقَ في جانبيك الدُّخَانُ
كأَنَّ الجهاتِ لُهًى جُوَّع
فروَّى بحارَك قاني النَّجيعِ
وإن العُطاشَ٦ لها أنجَع
وأطعَمها من تجالِيدهِم
لحومَ الأُلوف وما تشبَع
وأَخَّرَ نجدتهم جاهلٌ
من الخَوف مهجتُه تخلع
فحاق الدَّمارُ بهم وكذلـ
ـكَ تهوي الجبالُ وتصَّدَّع

•••

شفى نفسَهم أَنهم أَدركوا
بك الثأرَ والموتُ لا يقنَع
أتى التركُ من بعد حَولٍ لكي
يردُّوا البلادَ ويستَنزِعوا
عديدَ الرِّمالِ أتى بُونابار
ـتُ والنارُ في قلبه تلذَع
رماهم بمَوج الحديدِ قضاءً
عليهم وعنهم فَلا يُدفع
فسل عن بسالتهِمْ مُصطفى
وقَد جاءَ مورا به يشفَع
رمَى بطَبنجته مُصطفى
فتًى قلبه الصخرُ لا يهلَع
فقطَّ أناملَه بالحُسا
مِ مورا وجاء به يظلع
وأرسَل فرسانَه كالصُّقو
رِ والخَيل في شوطها تمزع٧
ومزَّق شملَ الجنودِ فما
تَبَقَّى لهم أثرٌ يُتبع
فكانوا طعامَك في الحالتَين
لهم وعليهِم بكَ المَصرع

•••

مضَوا وبقيتَ تحدِّث عما
أتَوه فلم ينضبِ المَنبع
فقل ليَ هل يرجعُ الغائبون
وقل ليَ هل يُفطم المرضَع
يقولونَ عنك غدا بَلقعًا
على أن عمرهمُ البلقع
أرى الجامِداتِ أطوَل عُمرًا
من العاقِلات فما نصنَع
وأنَّهم في المقالِ افتروا
بما لفَّقوه وما شنَّعُوا
وأعجبَهم طالعٌ مُشرِقٌ
وأعجبَهم مُورِقٌ مُفرع
فراحوا وشاعُرهم مفلقٌ
لهم وخطيبُهمُ مِصقَع
فماذا أفاداهمُ في الحيَا
ةِ والدَّهر في سَيره يُسرع
وكلهم في البِلى صَائرٌ
وذِكرهمُ سُحُبٌ قُشَّع

•••

أبو قير أنت سميرُ الجليس
ووعظُك أبلغُ ما يُسمَع
ورَغمَ العفاءِ أراك رِياضًا
تسيرُ بها النُّسُم الضُّوَّع
سماؤك صافيةٌ وهَواكَ
يعيدُ الشبابَ ويسترجِع
وبحرُك أجملُ ما يُجتلى
وماؤُك أعذبُ ما ينبُع
وحصنك عالٍ يرفُّ عليه
لواءٌ هو الشَّرفُ الأَمنَع
فدُمْ سارحاتٍ بكَ الظبياتُ
ودُم كاملًا بدرُك المُبدَعُ
ودم وارفاتٍ عليك الظِّلالُ
وغُلَّةُ رائدِها تنقع
تُرى راجعاتٍ لياليَّ فيك
أبو قير والأمسُ لا يرجِع
نوفمبر سنة ١٩١٤

هوامش

(١) هذه اللفظة أعجمية؛ لذلك آثَرنا استعمالَها، كأنها لفظةٌ واحدة مغفِلين التركيبَ في إضافة أبٍ إلى قير؛ حِفظًا لصِدق رنَّتِها في الأذن.
(٢) ظلَع: غمَز في مشيِه.
(٣) الرياحُ الدوافن للآثار.
(٤) قالوا: إنَّ لفظة أميرال الفرنسية لا بدَّ أنْ تكون مقتبسة من العربية، من قولهم «أمير المياه»؛ لتناسُب اللفظ، ولعلَّها كذلك.
(٥) لمعة تاريخية: نشِبت معركةُ أبو قير البرِّية في غُرة شهر أغسطس سنة ١٧٩٨، وكانت العمارة الفرنسية راسيةً في مياه أبو قير، ومعظَمُ رجالِها مسرَّحين في البر، أو في الإسكندرية، أو في رشيد، غافِلين عن الطوارئ. وكان الجنرال بونابارت قد أكَّد على قائدِها الأميرال برويس بالالتجاء إلى ثغر الإسكندرية، أو الإبحار إلى جَزيرة كورفو؛ تهرُّبًا من مفاجأة العمارة الإنكليزية لها، مُفضِّلًا نشوبَ معركة بحريةٍ في عرض البَحر على نُشوبها في بعض المراسي، ولغير ما سببٍ أغفَل الأميرال برويس هذا الأمر، وظلَّ بعمارته في مياه أبو قير، وفي مُنتصف السَّاعة الثالثة من ذلك اليوم طلَعت على أفق أبو قير عمارة الأميرال نلسن ناشرةً أشرِعتَها، مؤلَّفة من إحدى عشرةَ قطعةً تتبعها قطعتان أُخريان كانتا غربَي الإسكندرية، ما وصلتا إلى أبو قير إلَّا بعد الساعة الثامنة، وكانت العمارة الفرنسية مؤلَّفة من عشرين قطعة ونيف، فما دار في خلَد أحد من قادَتها أن يُجازف نلسن بالمعركة، بل فكَّروا جميعًا أنه يرجِئها إلى غداة الغد، وقد دُهش نلسن عندما قرب من العمارة الفرنسية، وصارتْ مراكبُه في إمكان مَدافعها كيف أنه لم يبادَأ بالقِتال، لذلك أمرَ كل قطعة من عِمارته أن تهاجِم مثلها من العمارة الفرنسية، ونشِب القتال في الساعة الخامسة، أما الأميرال برويس فإنه تعجَّل إصدارَ أوامره إلى المراكب والرِّجال، ولكنَّها لم تنفَّذْ بتمامها، فكان إهمالُ القادة التابعين له وإزراؤهم بالقوة الإنكليزية عاملَين على انخذالهم، ولازم الأميرال برويس مرقبَه من المركب لوريان «الشرق»، وتفانى في تنظيمِ الموقعة، وفي التَّحريض والشجاعة، وجُرح ثلاث مرات، فلم يغادر المرقب؛ حتى أصيبَ في الساعة التاسعة بقذيفةٍ أودت بحياته. وفي الساعة العاشرة اشتَعل مستودعُ البارود على ظهر المركب لوريان، وهو أكبر مراكبِ العمارة، فانفجَر وكان انفجاره رائعًا إلى حدِّ أن المعركة وقفَت نصف ساعةٍ بعده، ثم استأنفت المراكب الفرنسية إطلاقَ النار، وكانت رحى المعركة دائرة على مسمَع من الكونتراميرال فيلنوف قائد مركب العدل «جوستيس» وأربعة مراكبَ أخرى راسية في ثغر الإسكندرية، فلم يبادر هذا القائدُ إلى نَجدة رِفاقه معتذِرًا فيما بعد بأنه لم يتلقَّ بذلك أمرًا … واحتدم القتالُ بين المراكب إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، ثم فتَر قليلًا إلى الساعة الخامسة، وعاد سيرتَه من الاحتدام إلى الساعة الثانية بعد ظُهر الغد، وقد قُضِي الأمر ودمِّرت المراكب الفرنسية، وفي تلك الساعة فطن الكونتراميرال فيلنوف إلى القِتال الناشِب منذ ثمان عشرة ساعة، فنشَر أشرِعة مراكبه وأقلع هاربًا، وبقي الإنكليز أربعًا وعشرين ساعة بعد انتهاء المعركة، وليس في مقدِرتهم إطلاقُ مدفعٍ واحد على مركب فرنسي «لتنَّان: الراعد»، كان لواؤه لا يزالُ منشورًا، وقد سرَّ نلسن بهرَب المراكب الأخرى، ولم تحدِّثه نفسه باللَّحاق بها، وقُتل وجرح ثلاثة آلاف بحري فرنسي وثمان مائة إنكليزي.
ونمى خبر الرزيئة إلى بونابارت وكان قافلًا من الصالحية إلى مصر، فكتَمه أولًا ثم نشَره على الجيش، وأخذ يعمل على توطيد قدمِه في القطر، ولكي يأمن كلَّ طارئ على جيشه من سورية؛ راسل عبد الله باشا الجزار حاكم عكا، يستميلُه إليه، لكنَّما سبقه الإنكِليز إلى ذلك، وبلغَه أن هنالك خطةً ترمي إلى مناوأَته فعقَد العزيمة على غزوة سورية، وكان ما كان من تلك الحَملة التي فشلت بحصار عكَّا ثلاثة شهور، وأغلق فتحُها على بونابارت فعاد إلى مصر، وقد أطمع دفاع عكا الإنكليز، فحرَّضت البابَ العالي على جَرد حملة على مصر، فتقرَّر إرسالها بقيادة سعيد مصطفى باشا الروملي، مستعينًا بالكومودور سيدني سمث، الذي ساعد عبد الله باشا الجزار في الدفاع عن عكَّا، وفي ١٤ يوليو سنة ١٧٩٩؛ أي بعد انقضاء عام كاملٍ من تاريخ المعركة البحرية رسَت المراكب الحربية والمراكب الناقلة في مياه أبو قير، فلم تزعَج في تفريغ وِسقِها، ونزل الجيش إلى البر وحاصر القرية واحتلَّها، وأسَر وقتَل من في الحصن. وكان بونابارت في مصر فأبلغه هذا الخبر الجنرال مرمون قائد حامية الإسكندرية، فغضِب بونابارت؛ لأنه كان قد أمَر هذا القائد أنْ يهدم بيوتَ القرية ويزيد في الحصن خطًّا أماميًّا فما نفَّذ الأمر؛ بل أبقى البيوت مباءةً لبعض الجنود، وأرسل بونابارت في الحال إلى الفِرق المنتشرة في البلاد بين بلبيس والصالحية ودمياط، وأمرها بالاجتماع في الرحمانية، وانتقل بأركان حَربه إليها، ثم قاد الجيش إلى بِركة غطاس مشرفًا على بحيرة المعدية، حيث اجتمع جانب كبير من الجيش التركي آمنًا غافلًا، ففكَّر بمفاجأته لولا أن بعض الجنود ضلَّ الطريق، فأسرَه الترك وعظُمت دهشتهم عندما علموا أنَّ العدو على قيد بعض غلَوات منهم، فاستعدُّوا للقتال واستعد بونابارت وجعل أركان حربه في الإسكندرية، وكانت الجيوش تبلغُ ثلاثين ألفًا للترك وعشرين ألفًا للفرنسيين، فأقام بونابارت الجنرال مورا على الخيل والجنرال لان على الميمنة، واحتفظ بالقلب والميسرة. وتحصَّن الترك في أبو قير، وانتشرتْ فرقهم ثلاثة خطوط دفاعية، تحميها المراكبُ الحربية الراسية في بحيرة المعدية وفي مياه أبو قير، ونشِبت المعركة يوم ٢٥ يوليو سنة ١٧٩٩، فدحَرت المدافع الفرنسية مراكبَ البحيرة وزحفتْ إلى الأمام، وقبل اشتباك القتال كان بعض الفرسان الإنكليز يركضون بخيولهم أمام الخطوط الفرنسية، ويبادلونها التحية والحديث مما أثار غضب الترك عليهم، على أن المعركة لم تطل أكثر من ثلاث ساعات حتى تشتَّت الجيش التركي، وأبلَتْ فرسان مورا بلاءً حسنًا، وقد قال بونابارت لمورا: «هل أقسمت أن تستأثر بشرف المعركة»، وخاض مورا غمار الحرب إلى مصطفى باشا، وطوقه بمن معه من الانكشارية، وتقدَّم إليه يسأله التسليم، فأطلق مصطفى باشا طبنجته على مورا، فأصاب حنكَه الأسفل فضربه مورا بسيفه ضربةً نثرت أصبعين من يده اليمنى، وأمر فقبض عليه فارسان، أما الكومودور سمث، فلم يلبث أن هرب مُبحرًا إلى المراكب ونجا بمَن معه، وانجلَت المعركة عن انتصار الفرنسيس، فأسروا ألوفًا وغنموا أربعمائة جواد واثنين وثلاثين مدفعًا، ومائة وعشرين صندوقًا من الذخيرة بأختامها ومائة علم، وكذلك أعلام مصطفى باشا التي يقال لها الأذناب الثلاثة، وغير ذلك من بقايا المعارك.
(٦) داء يصيب الإنسان، يشرب الماء فلا يروَى.
(٧) مزَع الفرسُ: أسرَع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤