نظرة إلى الماضي

ماذا يريد الناسُ مني
إنْ كنتُ قد أكثرتُ حُزني
أفنيتُ عمري في البُكا
ءِ وفي الرَّجاءِ وفي التمنِّي
ذهبَ الشبابُ وما ملأْ
تُ بنوره قلبي وجفني

•••

يا منزل الفِتيان والفتيات ضا
عتْ عليكَ شبيبتي وحياتي
وبقيتُ فيك مخلَّدَ الحسرات

•••

إنما العمرُ الطويلُ
يشبهُ العمرَ القَصيرا
إنما الحظُّ القليلُ
يُشبه الحظَّ الكَثيرا

•••

ودفنتُ فيك مودَّتي ووِدادي
وأطَلْتُ عنكَ تغيُّبي وبِعادي
وجهلتُ بعدكَ موردَ اللَّذاتِ

•••

فَطَمُوني عنكَ طفلًا
لاهيًا في غفَلاتي
تاركًا صَحبًا وأهلًا
تاركًا فيكَ حياتي

•••

فنزلتُ في أرض الغريبِ وحيدا
متحمِّلًا بأسَ الزمانِ شَديدا
طاوي الضُّلوع على لظَى الجمراتِ

•••

إننا كنا جميعًا
ستَّةً أُمًّا وأَبْ
رُزقا أربعةً غُـرًّا
ميامينًا نُجُبْ

•••

فتفرَّقَ الأبناءُ قبل أوان
أسفًا وغُيِّبَ في الثرى الأبوَان
في فترةٍ حُسِبا مع الأموات

•••

دفن الأبناءُ بدرًا
دفن الأبناءُ شمسا
قد أعادا الجفنَ بحرًا
وأعادا القلبَ رَمسَا

•••

هلا ذكرتَ أبي وطولَ حنانه
وسناءَ طلعته وحُرَّ جَنانِه
وكمال أخلاقٍ وغرَّ صفات

•••

كان لم يُبلِ الشَّبابا
مُشرقًا كالنيِّراتِ
إنه صارَ تُرابا
وعظامًا نخِرات

•••

فذكت عليه أضالعٌ ونفوسُ
أَخذَت عليها للشَّقاء نحوسُ
عهدًا على أن تسكُن الظلمات

•••

يا لها اللهُ نفوسًا
حُرةَ الطبعِ كريمَة
حالفتْ يأسًا وبؤسًا
وجراحاتٍ أليمَة

•••

لم تنسَ أمي وهي جوهرةُ الحِمى
بنتُ الطَّهارة أختُ سكَّان السَّما
نزلَ الكمالُ بها بأكرَم ذات

•••

أنها عاشَت حزينَة
بعدَه عشرين شَهرا
وهي للدَّاء رهِينَة
تحسَب الليلةَ دَهرا

•••

نزلَ السقامُ بها فأكثر همَّها
وأزال رونَقها وأبلى جسمَها
وغدتْ كذابلةٍ من الزَّهَرات

•••

فقضَت ذاتَ مساءِ
وابنُها في البُعدِ مُكرَه
في ديارِ الغُرباءِ
لم تباركْهُ بنظرَة

•••

اليومَ يذكرُها ويبكي آيِسا
من عُمره ذاكي الأضالع تاعِسا
دامي الجُفون مفلَّلَ العزَمات

•••

إيه يا أمُّ، حَياتي
ذهبَتْ فيكَ أنِينا
صامتًا في خلَواتي
أَذرفُ الدمعَ السَّخينا

•••

أتذكَّر العيشَ القديمَ وكلُّنا
يلتفُّ حولَكِ ناعمِين بأُنسنا
لاهين عن دهرٍ وعن أوقَات

•••

قاتلَ الله القضاءَ
لم يراع لك حُرمَة
إنه صبَّ البلاءَ
قاتلًا من غير رَحمة

•••

لو كنتِ بالمهجات تُوقَين الرَّدى
يا أمُّ قَلَّت أن تكونَ لك الفِدا
فتمتَّعين بهذه المُهجات

•••

ليتَ أني ما وُلدتُ
ما الذي في العيشِ أَلقَى
أنا يا أمُّ وَجدتُ
أنني يا أمُّ أَشقَى

•••

كنتِ الأمانَ لرُوحيَ المتفزِّع
كنتِ الشِّفاءَ لقلبي المتقطِّع
كنت الحياةَ إذا فقدتُ حَياتي

•••

إنَّ قلبَ الأم كَنزٌ
كلُّه حبٌّ وسَعد
وهو بين الناس رمزٌ
فيه لُطفُ الله يبدو

•••

لكن فقدتُ حنانَه المتدفِّقا
يروِي شبابي في الحَياة ليُورِقا
مستبشرًا بالزهر والثمَرات

•••

أنضبَ الأدمعَ دهري
غيرَ أن النفسَ تبكِي
بدموعٍ مثلِ جمر
في الحشَا تذكو وتُذكي

•••

قومِي انظريني بعد موتك عانيا
يا أمُّ، إني متُّ موتًا خافِيا
لما فقدتُ لنَدبِك العبَرات

•••

من ليَأسي واحتِراقي
ولبُؤسي وشَقائي
ما الذي صرتُ أُلاقي
من تَباريح العَناء

•••

ضاعَت عليكَ شَبِيبتي وحَياتي
وبقيتُ فيك مخلَّدَ الحسَرات
يا منزلَ الفتيان والفتياتِ

•••

ماذا يريدُ الناسُ مني
إن كنتُ قد أكثرتُ حُزني
أفنيتُ عُمري في البُكا
ءِ وفي الرَّجاءِ وفي التمنِّي
ذهبَ الشبابُ وما ملأ
تُ بنُوره قلبي وجفني
فبراير سنة ١٩١٥

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤