الفصل الحادي عشر

الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر وهو الأدب الذي مهَّد للثورة الفرنسية

الفترة التي نطلق عليها اسم القرن الثامن عشر في تاريخ الأدب الفرنسي لا تبدأ ببداية هذا القرن ولا تنتهي بنهايته، وإنما هي فترةٌ تمتد من العام الذي شهد موت العاهل الفرنسيُّ العظيم لويس الرابع عشر (١٧١٥م) إلى العام الذي انفجر فيه بركان الثورة الفرنسية الكبرى (١٧٨٩م)، وعصور الأدب لا تفصلها الفواصل الحاسمة، بل يتداخل سابقها في لاحقها، حتى يفنى في تدرجٍ بطيء رويدًا رويدًا. وهكذا كانت الحال حين بدأ القرن الثامن عشر: بقيت آثار العصر الاتباعي السالف واضحةً ظاهرة، وبدأت بشائر المستقبل وبوادر التحول والانقلاب جلية لا يخطئها النظر، حتى شاء الله للأولى أن تزول، وللثانية أن تسود، فكنت ترى رجال الأدب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر يؤيدون قواعد المذهب الاتباعي من الوجهة النظرية، حتى إذا ما أخذوا يكتبون وينشئون كانوا هم أنفسهم أقوى عوامل الهدم لذلك المذهب بما يكتبونه وينشئونه؛ لأن موجة الزمن عنيفةٌ جبارة، ولا بد أن تسير، فتستطيع أن تقول إن القرن الثامن عشر في فرنسا كان مرحلة انتقال بين الحكم المطلق والحكم الذاتي في السياسة، بين التقيد بأوضاع الكنيسة الكاثوليكية في روما وروح التسامح في الدين، بين المذهب الاتباعي والمذهب الابتداعي في الأدب.

وكانت التغيرات السياسية والاجتماعية في مقدمة العوامل التي انتهت بالبلاد إلى هذا التحول والانقلاب، فقد كان «القرن العظيم» عهدًا سادت فيه الحكومة المركزية المطلقة، حيث الأمر كله في يد وحدة تصرِّفه، فسار كل شيء في ذلك العصر على وتيرةٍ مطردةٍ متسقة كأنها النظام، وظهر القوم في طاعة كأنها استقرار النفس ورضاها، وجاء القرن الثامن عشر، فكان عهد قلقلة واضطرابٍ في أمور الدولة وفي نفوس الناس على السواء، فلئن أنتج النظام السياسي في القرن السابع عشر وحدةً في الأدب بأن ساد المذهب الاتباعي كما رأينا، فقد أنتج اضطراب القرن الثامن عشر تفكُّكًا لتلك الوحدة، وانحلالًا لذلك المذهب. وقد بدأ التدهور السياسي منذ أواخر عهد لويس الرابع عشر، ثم تولى البلاد بعده وصيٌّ كان داعية للفساد الخلقي بفساده، ثم جاء لويس الخامس عشر، فكان فاجرًا عربيدًا في غير حياءٍ ولا خجل، وبذلك وصم الملكية بوصمة العار، وأعقبه حفيده الضعيف المسكين المنكود؛ وهكذا ساءت الحكومة في البلاد، وأصابها الوهن أعوامًا طوالًا، فماذا ينشأ عن هذا في أنفس الناس غير التذمُّر والتبرُّم؟ ثم إلى أي شيءٍ ينتهي الشعب الساخط المتذمِّر إن لم ينتهِ إلى ثورةٍ كبرى تكتسح أمامها كل شيء؟

وتريد الأيام أن تتآمر العوامل وتتحد؛ لتنتهي إلى نتيجةٍ بعينها، فلئن كان الحكم السيئ قد أدى إلى قلقٍ في النفوس، فقد زادت من ذلك القلق النفسي روح التشكك التي نشأت عن ازدهار العلوم ورقيِّها، كما زاد منه موقف الكنيسة التي كانت فيما سبق حصنًا قويًّا يعمل على الحكم المطلق في شئون الدين، كما كانت الملكية تعمل عليه في أمور الدولة، لكن شاء التعصب الأعمى لرجال الكنيسة أن يقفوا في وجه الرقي والتقدم مع ما أصابهم من تحللٍ خلقيٍّ بغيض، فكان أن نفر الناس منهم، ونظروا إليهم بعين الشك والريبة، ومن هنا رأيت التشكك في أواخر القرن الثامن عشر سمةً بارزةً في رجال الفكر إذ ذاك، فجاء هذا التشكك العقلي في سلامة الأوضاع العتيقة عاملًا آخر أدى إلى الثورة عليها وتحطيمها، فلم يَعُدْ لشيءٍ قداسةٌ في أعين الناس، وأخذوا يسألون عن كل شيء، ويَتَحَدَّوْن كل سلطة، ورفضوا أن يكون للعهد الماضي سلطان على حياتهم الحاضرة.

قلنا إن انحلال السلطة السياسية في فرنسا بدأت بوادره في أواخر عهد لويس الرابع عشر نفسه، ولم يَعُدْ للقصر تلك الكلمة العليا التي كان يفرضها على الثقافة في البلاد، وانتقل الحكم في ذلك من فرساي إلى الشعب في باريس، فمن علائم هذا التحول عودة «الصالونات» الأدبية إلى الظهور بعد أن طمسها قصر فرساي حينًا من الدهر؟ لكن تلك «الصالونات» لم تعد — على نحو ما كانت في العهد السابق — تَنْصرف بجهدها إلى تحديد الأوضاع الملائمة في دنيا الحب والغزل والبِدْع، بل أصبحت مراكزَ فلسفية يؤمها قادة الفكر ليكون أهم ما يتحدثون فيه شئون العلم والسياسة والاجتماع، ونشأ إلى جانب «الصالونات» رأيٌ عام ما لبث أن أصبح أقوى عوامل التوجيه في مجرى الحياة الفرنسية، وبات تطور الأدب في فرنسا في القرن الثامن عشر مرهونًا بالحالة الاجتماعية للطبقة الوسطى، لما أصابته التجارة والصناعة من رقيٍّ بعيد؛ ذلك لأن هذا التحول الاقتصادي كان من شأنه أن تثري طبقات الشعب العاملة، وأن تزداد قوتها في السياسة ازديادًا مطَّردًا، وأن تُكوِّن الجمهور القارئ الذي يتجه إليه الأدباء حين يكتبون.

وأُضيفَ إلى هذه العوامل السياسية والاجتماعية عاملٌ جديد كان له في الأدب الخالص أكبر الأثر، ونعني به تيارًا أدبيًّا أخذ يتدفق من إنجلترا إلى فرنسا فيفعل فعله في أدبائها، وهذه حقيقةٌ تستوقف النظر؛ لأن أنصار الاتِّباع في فرنسا إبَّان القرن السابع عشر أغمضوا عيونهم عن الأدب الإنجليزي، بل جهلوه جهلًا كاد أن يكون تامًّا، فشيخ النقد الأدبي في فرنسا في ذلك العهد — بوالو — مثلًا — لم يكن يدري شيئًا عن «الفردوس المفقود» لِملْتُنْ، فكتب عن فن الملحمة، ولكنه لم يذكر شيئًا عن أعظم ملاحم العصر الحديث، وعني بأدب السخرية والهجاء، ولكنه لم يعلم شيئًا عن شيخ الهجاء في الأدب الإنجليزي «جون دريدن»! أما في القرن الثامن عشر فقد انعكس الوضع، وأخذ الفكر الإنجليزي والأدب الإنجليزي يشقان طريقهما إلى فرنسا. فكان من أثرهما أن تحطمت قواعد الاتِّباع في الأدب، وأن ذاعت في رجال الفكر من الفرنسيين مبادئ الحرية والتسامح الديني، وحقوق الأفراد، واحترام الصناعة والتجارة.

وظاهرةٌ أخرى في الأدب الفرنسي في القرن الثامن عشر جديرة بالذكر، وهي أنه اتُّخِذ وسيلة لتحقيق أغراضٍ عملية، فلم يعد الأدب أدبًا خالصًا مقصودًا لذاته، بل أصبح أداة لنقل الأفكار إلى جمهور القراء، أو بعبارةٍ أخرى أصبح أدب القرن الثامن عشر في فرنسا «أدبًا تطبيقيًّا» لا «أدبًا بحتًا» — إن صح لنا أن نستخدم ما يقال في الرياضة والعلوم عند قسمتها إلى ما هو «بَحْتٌ» وما هو «تطبيقي»؛ فالقطعة الأدبية باتت تُقَوَّمُ بمحصولها الفكري لا بجمالها الفني، وانظر في آيات ذلك العصر، تجدها لا تدل على الخيال المبتكر المبتدع، بل هي عبارة عن رسائلَ سياسية، مثل «روح القوانين» لمونتسكيو، و«العقد الاجتماعي» لروسو، أو رسائل في التربية مثل «إميل» لروسو، أو أبحاث في العلوم والتاريخ وما إلى ذلك. بل إن الشعر والمسرحية اتُّخذت كذلك وسائل لغايات، فأصبح الأدب كله أدوات للدعاية السياسية على أيدي «الفلاسفة» — كما كان يُسَمَّى رجال الفكر في الحركة الثقافية الجديدة — يحاربون بها النظم القائمة في الكنيسة والدولة معًا، وينشرون بها آراءهم الجديدة في الدين والسياسة، فلا غرابة إن قلنا — بعد ذلك كله — إن أدب القرن الثامن عشر هو الذي مَهَّدَ للثورة الفرنسية.

(١) النثر

(١-١) مونتسكيو Montesquieu (١٦٨٩–١٧٥٥م)

ولد قريبًا من بوردو، من أسرة اشتهر أبناؤها في القضاء والقانون، ولهذا اشتغل بالقانون جريًا على سُنَّة أهله، وأصبح مستشارًا في محكمة بوردو وهو في عامه الخامس والعشرين، ثم أعقب عمه في رئاسته بعد ذلك بعامَين، ولكنه كان قد درس «نيوتن»، وانهمك في المطالعة العلمية، وانتخب عضوًا في المجمع الفرنسي، ولم يكد يتم انتخابه هذا حتى أنفق ثلاثة أعوام يرتحل في أنحاء أوروبا باحثًا في الأحوال الاجتماعية والنظم السياسية لكل دولة حلٌّ في أرضها، وقضى نصف هذه المدة في إنجلترا وحدها، حيث انصرف بكل مجهوده إلى دراسة «لوك» ودرس مبادئ الدستور الإنجليزي، ثم عاد إلى بلاده ينشئ ويكتب.

كان مونتسكيو في كتابته مصلحًا ينشد الحرية لقومه، لكنه لم يكن في إصلاحه المنشود حالمًا كما كان «روسو»، بل لم يكن ثائرًا يريد هدم النظام القائم وكفى، إنما كان أرستقراطيًّا محافظًا لا تدفعه النزعة إلى الإصلاح إلى أن ينكر على طبقةٍ حقوقها وامتيازاتها، وكان مما كتبه مونتسكيو كتابه في التاريخ «تأملات في أسباب مجد الرومان وانحلالهم».١ ولا شك أنه قد طالع قبل أن يكتب مؤلفه كتاب «جِبُنْ»٢ — المؤرخ الإنجليزي المشهور — المعروف عن «تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، وكان «جِبُنْ» متأثرًا بالثقافة الفرنسية، كما تأثر مونتسكيو بالثقافة الإنجليزية، لكن مونتسكيو في كتابته للتاريخ قد زلَّ في خطأٍ فاحش، وذاك أنه لم يتريَّث عند تعميمه الأحكام. بل تراه يقفز من أمثلةٍ جزئيةٍ قليلة إلى القانون العام في غير روية العالم الحذر، فأنت تطالعه وتأخذ عليه هذا المأخذ، لكنك — مع هذا — يستحيل أن تفرَّ من فتنة حديثه، فهو يمتاز بما يحدثه في نفس قارئه من لذةٍ ومتاع، وأسلوبه متدفِّع متحدِّر يتعرج به هنا وهناك، فيبسط لك شتى الآراء والأفكار.
وله كذلك كتاب «روح القوانين»٣ الذي وضع به أساس البحث المقارن في الحكومات والتشريع، وفيه يبحث الأخلاق والعادات في الأمم القديمة والحديثة على السواء.
على أن أهم ما يعنينا من إنتاجه الأدبي كتابه «خطابات فارسية»،٤ الذي يسخر فيه من أباطيل الكنيسة والدولة والمجتمع والأدب السائد، وفكرة هذا الكتاب أنه يتخيل رجلَين من بلاد الفرس لهما قسطٌ موفور من الثقافة والمال، هما: «ريكا» و«أزبك»،٥ أخذ هذان السيدان الفارسيان يضربان في أرجاء أوروبا، حتى انتهى بهما المطاف إلى باريس وشاهدا الحياة فيها. فاستوقفت أنظارهما بغرابتها، وطفقا يتبادلان الرأي فيما يشاهدان، ثم يسجِّلان ما يلاحظان لينقلاه إلى أصدقائهما في فارس، وكانت تأتي الرسائل في ذلك الحين إلى «أزبك» تنبئه أن مؤامرة تجري في «حريمه»، وإنما أدخل الكاتب هذا العنصر في «خطاباته» ليشبع في قرائه رغبةً شديدة في مطالعة مثل هذه الأنباء عن النساء، حتى يكفل لنفسه متابعتهم لقراءة «خطاباته» بما فيها من نقد للحياة الفرنسية نفسها، وليس الناقد هنا رجلًا تعوَّد ما ألِفَ من أوضاعٍ سياسية واجتماعية فأفقدته العادة رهافة حسه، بل النقد صادر عن سيدَين مثقفَين غريبَين عن البلاد، لا يعميهما الغرض والهوى، وبهذا استطاع مونتسكيو أن يلقي ضوءًا ساطعًا على مفاسد عهد الوصاية، الذي أعقب عصر لويس الرابع عشر، فبيَّن مفاسد السياسة، وانحلال المجتمع والنفاق في الدين.

(١-٢) فولتير Voltaire (١٦٩٤–١٧٧٨م)

لقد قيل إنه لو كان القرن السابع عشر عصر لويس الرابع عشر، فإن القرن الثامن عشر هو عصر فولتير، وهذا حق لا ريب فيه، فلن تجد رجلًا يصوِّر ذلك العهد خيرًا من فولتير؛ ففي القرن الثامن عشر نشأت الطبقة الوسطى، وزاد ثراؤها، وكان فولتير «بورجوازيًّا» ثريًّا، وفي القرن الثامن عشر ازدهرت العلوم الطبيعية التي تسلك أسلوب البحث الجديد، وكان فولتير من هواة العلم يلتمسه أينما وجد إليه السبيل، وفي القرن الثامن عشر استهدف بناء المجتمع بكل ما فيه من نظمٍ دينية وملكية وأرستقراطية للتغيير والتحوير، وكان فولتير في هذا الإصلاح رائدًا وإمامًا، فكأنما كان فولتير لعصره بوقًا يعبر عما يضطرب فيه من مذاهب وآراء، فبات على وجه الدهر وثيقة نطالع فيها نوازع ذاك الزمان.

في عام ١٦٩٤م ولد لأسرة في باريس طفلٌ نحيلٌ ضئيل، أسماه أبواه، إذ عَمَّداه «فرانسوا ماري أَرُويه»،٦ ولكنه أطلق على نفسه فيما بعدُ اسم فولتير، وقد كان له من هزال جسمه ما أكسبه مزاجًا حادًّا عنيفًا، وعلَّةً لا تنقطع أسبابها، حتى نيف عمره على الثمانين وهو يشكو شكايةً متصلة من ضعفه الذي يشرف به على الهلاك، ولكن هذه العلة الملازمة لم تَحُلْ بينه وبين العمل الذي لا ينقطع، والعراك الذي لا يهدأ، والكتابة المتصلة، والسخرية بعباد الله.
أراد له أبوه أن يكون محاميًا، ولكن فولتير الشاب طمع في المناصب السياسية، فاتصل ببعض العِلْية، ووفق إلى السفر إلى هولندا تابعًا للسفير الفرنسي، ولكنه ما لبث أن أثار السخط بسلوكه، من ذلك محاولته الفرار بفتاة أحبها، فأعيد إلى فرنسا حيث الحكومة ضعيفةٌ مستبدة، فحمل فولتير القلم وملأ الدنيا بالرسائل والأناشيد، مع أنه يعيش في زمن تكفي فيه الإشارة من نبيل ليزجَّ في السجن بمن يشاء، فما هي إلا أن أَلْفى فولتير نفسه محكومًا عليه بسنة يقضيها بين جدران الباستيل، فكان ذلك درسًا قاسيًا حفزه إلى التفكير الجاد العميق في أخطاء الحكومة المستبدة، مع أنه عومل في سجنه برفقٍ ولين، وتُركت له الحرية يعمل ما يشاء، فانصرف إلى كتابة القصائد والمآسي فأنجز كثيرًا من ملحمة أخرجها فيما بعدُ، وهي ملحمة «هنرياد»،٧ حتى إذا ما خرج إلى الحياة الطليقة مُثِّلت له رواية «أوديب»،٨ فلقيت نجاحًا عظيمًا، وشاع اسمه بين الناس.

والشهرة في سن الثلاثين متعة، استمتع بها فولتير، وعاش بفضلها بين العظماء، حتى لكأنه يعيش في حلم أذهله عن الدنيا الواقعة من حوله، ولكن حادثًا وقع إذا ذاك أيقظه من ذلك الحلم البديع، وألقى به في مسالكَ وعرةٍ شائكة، وذلك أن نبيلًا استشاط منه غضبًا، فأوحى إلى خدمه أن يوسعوه ضربًا وتعذيبًا، ففزع فولتير إلى العدالة أن تقتصَّ له من الأثيم المعتدي، ولكن هيهات! أيشكو نبيلًا جليلًا فردٌ من الشعب؟ وسارعت أسرة النبيل فقذفت بهذا الذي اجترأ عليها بالشكاية في ظلمات الباستيل، فلما قضى عهد السجن وأطلق سراحه، أقسم ليؤججنَّها حربًا شعواء على المجتمع الذي احتمل مثل هذا الظلم الشنيع.

ها هنا ولد فولتير مولدًا جديدًا، فقد سافر إذ ذاك إلى إنجلترا، ولم يكد يستقر به المقام هنالك حتى صادفه ما ازداد به فكره ثورةً وانقلابًا. فقد شاهد أن أبناء الطبقة الوسطى من الإنجليز لهم أن يطمحوا إلى أرفع المناصب، ورأى بعينَي رأسه في تلك البلاد كيف يمكن للحرية والنظام أن يستقيما جنبًا إلى جنب، وأن الإيمان الديني السليم والفلسفة الحرة الطليقة يمكن أن يقوما في غير تشاحن ولا عداء، شهد المذاهب الدينية الكثيرة تختلف وتصطرع، فتعلَّم الشك، وطالع «جون لوك» فتعلم الفلسفة وقرأ «سوِفْت» فاتخذ طريقته الساخرة نموذجًا يحتذيه، ودرس «نيوتن» فعرف مذهبًا علميًّا جديدًا، وقابل في إنجلترا فريقًا من أعلام أدبائها: «بوب» و«سوفت» و«تومْسُنْ»، وتعلم الإنجليزية قراءةً وكتابةً وحديثًا، فأتقن مطالعة جزءٍ كبير من الأدب الإنجليزي، إذ قرأ «شيكسبير» و«مِلْتُنْ» و«دريدن». حقًّا لقد علمته مرارة السجن في الباستيل أن يتمنى للناس مجتمعًا جديدًا، ثم بينت له زيارته لإنجلترا كيف يمكن لهذا المجتمع الجديد أن يكون.

عاد إلى فرنسا، وسرعان ما أعاد لنفسه الشهرة والثراء، فقد جاء هذه المرة إلى أرض الوطن، وقد تغيَّر وجه الدنيا في رأيه، فأخذ يكتب بقلمٍ من نار كتابه «رسائل فلسفية» أو «رسائل عن الإنجليز»،٩ وقد أراد حين يبسط لقومه النظم الإنجليزية أن يحفزهم إلى إعادة النظر في أفكارهم السياسية والدينية، وبهذا وضع الأساس لمذهبه الجديد، على نحوٍ غير مباشر، وهذا المذهب الجديد يتلخَّص في كلمةٍ واحدة: «الحرية»، فضلًا عن أنه أبان في هذا الكتاب أهمية التجارة وقيمة العلم، فكان هذا الكتاب وحده كفيلًا أن يضعه موضع الزعامة في الطبقة الوسطى فيما نشب بينها وبين الطبقة العليا من عراك، وأدركت الشرطة ذلك فصادرت الكتاب وأحرقته في ساحة العدل بقرارٍ من المحكمة، وكان لا بد لكاتبه — إن أراد لنفسه النجاة — أن يلوذ بالفرار، فاحتمى بصديقته المعجبة به «المركيزة دي شاتليه»،١٠ وأقام في كنفها ستة عشر عامًا، درست معه خلالها علوم الفلك والميكانيكا والكيمياء، كما درست عليه التاريخ بصفةٍ خاصة، ومن أجلها كتب فولتير في التاريخ كتاب «حياة شارل الثاني عشر»١١ وغيره من كتب التاريخ، وقد أرادت «مدام دي شاتليه» — كبعض النساء اللائي أحببن عظماء الرجال — أن يعترف العالم ببطلها، فحاولت أن توفِّق بينه وبين البلاط، وأصابت التوفيق فيما حاولت، كما وفِّقت في ضمه إلى المجمع الفرنسي، ثم أراد الله لفولتير أن يحرم هذا الوكر الهادئ، إذ هامت «مدام دي شاتليه» حبًّا بشابٍّ جميلٍ أذكى فيها العاطفة، وما هي إلا أن جاءتها المنية وهي تضع ثمرة ذلك الحب، فحزن فولتير على فقدها حزنًا شديدًا عميقًا.

عندئذٍ أوى فولتير إلى فردريك الثاني ملك بروسيا، وقد كان بينهما تبادل الرسائل الودية، وكان فولتير يتمنى للإنسان «حكيمًا حاكمًا»، أو مستبدًّا مستنيرًا، وظن أن هذه الأمنية الجميلة تتمثل في فردريك، ولكنه لم يلبث مع ذلك المستبد المستنير في مقر حكمه طويلًا، حتى تبين له أن الملوك الفلاسفة يصطنعون من وسائل الحكم ما يصطنعه الملوك الطغاة في فرنسا، فأين المفر؟ إلى سويسرا. فلعله واجد في تلك الجمهورية من الدعة والأمن ما لم يجده في أحضان الملوك، ولكنه سرعان ما صادف لونًا جديدًا من ألوان العسف البغيض، وهو ما يضطرم في نفوس الناس من تعصبٍ ممقوت، فلم يطمئن رجال الدين في سويسرا إلى مقامه بينهم، وأخذوا يتحرشون به ويثيرون الناس عليه، وإذن فلن يجد الرجل حياة آمنة في سويسرا أو فرنسا، فاتخذ لنفسه منزلَين على جانبي الحدود الفرنسية السويسرية، ليفر إلى هنا إذا عصفت به العاصفة هناك، ثم يقفز راجعًا إلى هنالك إذا دارت به الدوائر ههنا.

على هذا النحو أقام أمدًا طويلًا أتاح الفرصة لاسمه أن يسير بين الناس شُهرةً وذيوعًا، فمن عرينه ذاك الذي كمن فيه واختفى من وجه الشرطة، أخذ ينثر رسائله ومقالاته نثرًا متلاحقًا، فلا تكاد تظهر حتى تشيع في أرجاء أوروبا، وهو في هذه الرسائل يجدُّ حينًا ويسخر حينًا، وكثيرًا ما أخذ على نفسه أن يدفع عن بريء تهمةً باطلة، فاقترن اسمه بين الناس بالشجاعة الأدبية والإنسانية الرحيمة، فسمع عنه من الناس ألوفٌ لم يطالعوا ما كتب، حتى بات فولتير في أفواه الشعب أسطورة تروى.

وكان بين ما أنتجه فولتير في حياته الأدبية الخصيبة في صحبة «مدام دي شاتليه» «الدنيا كما تسير»١٢ و«صادق»١٣ و«ميكرومجا»،١٤ فلما ذهب إلى بروسيا وأقام مع فريدريك كتب «قرن لويس الرابع عشر»،١٥ وانتقل من بروسيا إلى سويسرا حيث أقام قريبًا من جنيف، فكتب قصائده المشهورة «كارثة لشبونة»،١٦ و«القانون الطبيعي»،١٧ كما أخرج «مقالة في السلوك»،١٨ وأخيرًا وهو في مستقرِّه عند الحدود الفرنسية السويسرية، أخرج عددًا من المآسي منها «تانكريد»،١٩ وقصصًا قصيرة منها «كانديد»،٢٠ ونقدًا أدبيًّا من بينه «تعليق على كورني»،٢١ وتاريخًا مثل كتابه «تاريخ الروسيا في عهد بطرس الأكبر»،٢٢ وكتابه «تاريخ محكمة باريس»،٢٣ وفلسفةً منها «رسالة في التسامح»،٢٤ و«قاموس فلسفي».٢٥

إن مؤلفات فولتير تؤلف مكتبةً كاملة، فهي تبلغ عددًا يُربي على مائتين وستين مؤلفًا — منها الطويل ومنها القصير — فيها ملحمة، وفيها قصائدُ تهذيبية، وفيها ضروبٌ مختلفة من الشعر، وفيها مآسٍ وملاهٍ وتاريخ وسِيَر، وفيها أبحاثٌ علمية ورسائلُ دينية ومقالاتٌ فلسفية، وفيها قصص ونقد، أضف إلى ذلك كله أنه كان دائم المراسلة مع أصدقائه العديدين، حتى بلغ ما كتبه من رسائل أكثر من عشرة آلاف! فانظر إلى هذه الخصوبة النادرة التي لم تمضِ بغير أثرٍ سيئ، فقد اقتضته أن يبعثر قواه بعثرةً لم تمكنه أن يكون أديبًا من الصف الأول في إنتاجه! فلم ينتج شيئًا نستطيع أن نضعه في الطراز الممتاز من نوعه.

وسنرجئ فولتير الكاتب المسرحي، وفولتير الشاعر، إلى أجزاءٍ أخرى تالية. أما في هذا الجزء الذي خصصناه للنثر الفرنسي، فلا يسعنا أن نقول عن أسلوبه، إلا أنه المثل الأعلى الذي يطمح إليه كل من حمل القلم؛ فهو أسلوبٌ زاخر بالصور، ولكنه واضح، قويٌّ نفَّاذ إلى القلوب، لكنه سهلٌ سلس، تراه دائمًا كأنما لم تمسسه يد الفنان إلا مسًّا رفيقًا، لكنه مع ذلك مترع بلفتات الذكاء الوقَّاد، فبهذا الأسلوب الموسيقي الرخيم أنشأ فولتير ما أنشأه على اختلافه وتنوُّعه. ولئن حقق له أسلوبه سائر أغراضه، فقد كان قبل كل شيءٍ أداةً طيعة مكَّنته من السخرية التي بلغت في كتابته حدًّا لم تكد تبلغه عند كاتبٍ آخر، فاستحق من أجلها في تاريخ الأدب أن يلقَّبَ «بالساخر العظيم». وممن كان يسخر فولتير؟ من كل ما نفر منه قلبه من القساوسة والملوك والطغاة والظالمين؛ فهؤلاء جميعًا أعداء لما أحب واشتهى وجاهد حياته من أجله، هم أعداء الله والحب والعطف، هم أعداء الحرية في الفكر والعمل. وجديرٌ بنا في هذا الصدد أن ننفي عن فولتير تهمة الإلحاد التي لصقت به مع أنه أنفق حياته يحارب مذاهب الملحدين من معاصريه، وبنى كنيسة نقش على جدرانها «مهداة إلى الله من فولتير.» وفي ذلك قال: «لن تجد كنيسة غير هذه أهديت إلى الله، إنما تبنى الكنائس للقديسين، أما أنا فأوثر أن أكون خادمًا للسيد على أن أكون خادمًا لأتباعه.»

وفولتير — فضلًا عن مكانته الأدبية — مؤرخ بدأ طريقةً جديدة في كتابة التاريخ، فمؤلَّفة «مقالة في السلوك» تحدد بداية طورٍ جديد في دراسة الإنسان لماضيه، وأخذ المؤرخون ينهجون منهجه، فتطور علم التاريخ بهذا تطورًا ملحوظًا، نعم تستطيع أن تأخذ على هذا المؤلَّف بعض المآخذ، فهو أحيانًا يذكر تفصيلاتٍ خاطئة، وهو كثيرًا ما يصل إلى تعميماتٍ لا عمق فيها، وتراه في بعض المواضع يتأثر بالهوى، ومع ذلك كله فهو — كما قلنا — يحدد طورًا جديدًا في كتابة التاريخ؛ لأنه ينتزع من الحوادث التاريخية فلسفةً قائمة على التطور الطبيعي، لا على تدخل قوة فوق الطبيعة، فقد كان المؤرخون قبله يعللون مجرى الحوادث بإرادةٍ عليا تُشرف عليها فتوجهها كيف شاءت. أما فولتير فلا يرى في حوادث التاريخ — بل في حوادث الكون كلها — إلا أسبابًا تعقبها مسببات، وهو أيضًا لا يجعل التاريخ سجلًّا للحروب والملوك، بل يجعله قبل كل شيء تاريخًا للمدنية الإنسانية والتقدم العقلي.

وهو في فلسفته يتابع المدرسة الإنجليزية وعلى رأسها «بيكُنْ» و«لوك»، التي تعتد بإدراك الحواس وبالتجربة في علمها بالأشياء، وفي الدين لا يعادي المسيحية في ذاتها، بل يعادي النظام الكنسي السائد في عصره؛ إذ كان هذا النظام في رأيه مقرونًا بالتعصب والقسوة والهوس، هو يعادي المذهب الكاثوليكي الروماني الذي يراه عاملًا من عوامل الجمود التي تعوق حركة التنوير والتقدم، فهو مؤمن بالله، لكنه لا يحترم الشعائر التي تدل على نفاق، وهو كذلك لا يؤمن بالوحي، وذلك عنده لا يتنافى مع إيمانه بالله، وأما مذهبه في الأخلاق فهو المذهب النفعي الذي يجعل الفضيلة فضيلة؛ لأنها تنفع الإنسان، لا لأنها واجبٌ مجرد يجب أداؤه بغض النظر عن نتائجه، فمصلحة المجتمع هي المقياس الوحيد الذي يقاس به العمل إنْ خيرًا وإنْ شرا.

وفيما يلي موجز لقصته «كانديد» لعلها تدلُّك على شيءٍ من خصائصه:

كان شابٌّ يعيش في قصر بارون بوستفاليا، وكان بطبعه قويم الخُلُق، طيب القلب صريحًا؛ ولهذه الصفات أُطلق عليه اسم «كانديد». وقد كان خُدَّام القصر يظنون كانديد ابن أخت البارون نَجَلَتْه من جارٍ فاضلٍ لم تقبل الزواج منه؛ لأنه لا يحفظ من أسماء أجداده إلا واحدًا وسبعين اسمًا، ومحا الزمان بقية أسلافه، وليس هذا دليلًا على النسب الشريف.

وكان للبارون ابنة اسمها «كونجوند» في السابعة عشرة من عمرها، فتانةً جذابة، وكان «بانجلوس» شيخًا في قصر البارون يلقي فيه المواعظ الدينية التي اعتاد كانديد أن يصغي إليها في سذاجة سِنِّه وبساطة أخلاقه، وكانت أولى تعاليم الشيخ وأهمها «أن لا معلول في هذا العالم بغير علة، وأن هذه الدنيا خير ما يمكن خَلْقُه من الدُّنَى.» يقول بانجلوس: إن الأشياء لا يمكن أن تكون على غير ما هي عليه، فكل شيءٍ أعد لغايةٍ مقصودة، وهي بالضرورة خير غاية يمكن أن يقصد الخالق إليها، فالأنف قد أعدَّ ليحمل المنظار، ومن ثم كانت لنا مناظير، والساق قد أعدت للجورب، ومن ثم كانت لنا جوارب، والصخور أعدت لتُنْحَتَ في حصونٍ وقصور، ومن ثم كان لسيدي البارون هذا القصر الجميل، والخنزير خُلِق ليؤكل، ومن ثم كان لحم الخنزير لنا طعامًا، فلا يكفي إزاء هذا كله أن نقول إن العالم خير، بل ينبغي أن نضيف أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.

أصغى كانديد في انتباهٍ إلى تعاليم الشيخ، وآمن بما سمع، وكان طوال إقامته بالقصر مفتونًا بابنة البارون «كونجوند»، ولكنه لم يجرؤ أن يعلن لها إعجابه بها، فقد تقابلا ذات صباح، وعَلَتْها حمرة الخجل وعَلَتْه، وحَيَّتْه بصوتٍ متقطعٍ وحيَّاها، وفي اليوم التالي تقابلا مصادفة وراء ستار. فأسقطت كونجوند منديلها والتقطه كانديد، فأمسكت الفتاة بيد الفتى، فقبَّل كانديد يدها في لهفةٍ وعاطفةٍ مشتعلة، وتقابلت منهما الشفاه وتلاقت النواظر وارتعشت الأطراف، ثم شاءت المصادفة كذلك أن يجيء البارون على مقربة من الستار، فوقعت عينه على سبب ومُسبَّبٍ من أسباب الدنيا الكثيرة ومسبباتها، لكنه قذف بكانديد خارج القصر وركله ركلًا عنيفًا، وسقطت كونجوند في إغماءة لم تكد تفيق منها حتى صفعتها أمها البارونة على أذنها صفعةً قوية؛ وبهذا اضطرب الأمر كله في قصر كان أبدع ما يمكن لقصرٍ أن يكون.

خرج كانديد من فردوسه الأرضي طريدًا، فطوَّف أمدًا طويلًا، لا يدري إلى أين يسير، يبكي ويُصعِّد البصر إلى السماء، ثم يصوِّبه الحين بعد الحين إلى أجمل القصور التي تحوي أروع النساء، وكان يبيتُ على الطوى، ويفترش الحصباء في الحقول العارية والثلج يتساقط فوقه أكداسًا فوق أكداس، فلما أوشك أن يجمد جمود الموت أخذ يزحف في الصباح، حتى بلغ القرية المجاورة، وليس معه من المال شيء، ثم هَدَّهُ النَّصَبُ، فوقف منهوكًا أمام فندق، فمرَّ به سيِّدَان في ثيابٍ زرقاء، فقال أحدهما للآخر حين أبصراه: «هذا يا أخي رجل جميل البنية ملائم الطول.» وتحدث السيدان إلى كانديد واصطحباه في رفقٍ إلى حيث تناول معهما طعام الغداء.

قال كانديد: ليس معي يا سادة ثمن الطعام.

فقال أحدهما: لا عليك، فإن مَنْ في أسمالك لا يدفعون شيئًا، ألست تبلغ في الطول خمس أقدام وخمس بوصات؟

فقال كانديد: نعم، سيديَّ، فهذا مقياس طولي.

فقال أحدهما: تعال يا سيدي واجلس إلى هذه المائدة، فأنت ضيفنا، بل لن ندع رجلًا مثلك بغير مال، فقد خُلق الناس ليُعين بعضهم بعضًا.

قال كانديد: إنك لعلى حق فيما تقول، وهذا ما أنبأنيه بانجلوس، وها أنا ذا أرى كل ما في العالم يسير نحو الخير.

قال أحدهما: ألا تحب …

فقال كانديد: نعم، أحب كونجوند.

قال أحدهما: بل أسألك هل تحب ملك البلغاريين؟

فأجاب كانديد: كلا، فلم أره.

قال أحدهما: وكيف ذاك! إنه أفضل الملوك، وينبغي أن تشرب نخبه.

فقال كانديد: ها أنا ذا أشرب نخبه بكل قلبي.

فقال السيد: كفاك هذا، فقد غدوت الآن من حماة البلغاريين وبنيتَ مجدك.

ثم قَيَّدَاه في أغلال الحديد وساقاه إلى فرقة بالجيش وعَلَّماه كيف يسلُّ السيف وكيف يطلق النار، وكانا يجلدانه كلما أخطأ حتى بات كانديد بين الجند بارعًا.

ولكن عَنَّ له ذات يوم أن يسير على عقيدة عنده بأن للإنسان ما للحيوان من حق في استخدام أعضاء جسمه كيف شاء، ولكنه لم يكد يَبْعُدُ في مسيره حتى أقبل عليه أربعة رجال وشدُّوا وثاقه، وألقوا به في غياهب السجن، ثم جيء به أمام القضاء، فسألوه أيهما يفضل؟ أن يُضْرَب بالسياط ستًّا وثلاثين مرة، في كل مرة يضربه جنود الفرقة جميعًا، أم أن يُطْلَقَ عليه اثنا عشر رصاصة؟ وعبثًا حاول أن يقيم الدليل على أن إرادة الإنسان حرة، وأنه يرفض العَرْضَين جميعًا، ولكنه أُرغم على الاختيار فآثر العقاب الأول، وكان اختياره هذا دليلًا على ما وهبه الله للإنسان من حرية في الإرادة! فأخذت السياط تنوشه، حتى بلغت الضربات ألفين في مرتين اثنتين، وكان ذلك كافيًا أن يمزق جسده تمزيقًا، فلما هَمَّ الجند أن يبدءوا في المرة الثالثة صاح بهم كانديد أن يرحموه فيقتلوه، وقُبِلَ منه الرجاء وشُدَّ فيه الوثاق، لولا أن ملك البلغاريين مَرَّ بهم، وسأل المذنب ما ذنبه؟ فأجاب الفتى قائلًا: إنه شاب حَدَثٌ اشتغل بالفلسفة فجهل أمور الدنيا وتلك جريرته، فعفا عنه الملك وتولى علاجه طبيب فبرئت جروحه بعد ثلاثة أسابيع، وما كاد يستقيم على قدمَيه حتى نشبت الحرب بين البلغاريين وأعدائهم، ها هي ذي المدافع تحصد الجند حصدًا في هذا العالم الذي هو خير ما يمكن خلقه، وليس في الإمكان أبدع منه! وكان كانديد فيلسوفًا فلم يطق أن يرى تلك المجزرة البشرية فاختبأ، ثم انتهز فرصة كان الجند فيها يرتلون أناشيد الصلاة، وأسرع هاربًا يخطو فوق جثث وأشلاء، حتى بلغ قرية في أرض أعداء البلغاريين، فألفاها رمادًا إذ أحرقها البلغاريون وفقًا للقانون الدولي، وشهد هنالك كهولًا أثخنتهم الجراح يرمقون بعيونٍ كليلة جثث زوجاتهم ملقاةً على الأرض طرحى، وشهد في موضعٍ آخر ناسًا تأكلهم ألسنة النار في بطء، فأخذوا يضرعون إلى الله أن يمُنَّ عليهم بموتٍ سريع، فسارع كانديد إلى قريةٍ أخرى من قرى البلغاريين أنفسهم، فلقي الكوارث بعينها، فها هو ذا يطأ أعضاءً مبتورة لتوِّها لا تزال ترتعش بالحياة، فمضى مسرعًا حتى خلص من ميدان القتال، وليس في وفاضه إلا قليل من زاد، لكنه لم يَنْسَ قط فاتنته كونجوند!

وبلغ كانديد أرض هولنده، وطفق يسأل الناس إحسانًا، فيتهدَّده الناس بالسجن إذا هو لم يكفَّ عن السؤال، وأخيرًا صادف رجلًا كان قد أنفق ساعة كاملة يحاضر جمعًا حاشدًا في وجوب الإحسان، فمدَّ إليه كانديد يد المحتاج، فنظر إليه الخطيب سائلًا: «ماذا أنت صانع هنا يا فتى؟» فأجاب كانديد: إن ضرورة الحوادث قد دفعته إلى طلب الإحسان دفعًا، ولم يكن له قدرة على تحوير مجرى الأسباب والمسببات في هذه الدنيا، فنهره الخطيب قائلًا: عني أيها الوغد!

وهكذا مضى عنه مَنْ كان يدين بالعقيدة المسيحية في الحب والإحسان، وشاءت المصادفة أن يمر به رجل لا يدين بالمسيحية، وأشفق الرجل على هذا الإنسان البائس، وإنه لإنسانٌ كسائر الناس يمشي على قدمَين، وليس هو من ذوات الظلف أو الجناح! فاستصحبه إلى داره وأطعمه وعلَّمه صناعة يؤدِّيها في مصانعه.

وخرج كانديد في صبيحة اليوم التالي يجول في الطريق، فقابل سائلًا كادت حروق النار تمزق جسمه، وقد عشيت عيناه وتآكل أنفه، واعوجَّ فمه واسودَّتْ أسنانه، فتحركت الشفقة في قلب كانديد وناول ذلك المسكين قطعتي النقود اللتين كان رجل الأمس قد أعطاهما إياه، فنظر إليه الشيخ، وكاد يسقط على الأرض ودمعت عيناه، فذعر كانديد وخطا إلى الوراء فَزِعًا.

قال الشيخ: وا أسفاه! ألست تعرف صديقك بانجلوس؟

فأجاب كانديد: ماذا تقول؟ أهو أنت أستاذي العزيز؟ كيف حالت حالك وماذا أصابك من السوء؟ ما الذي أخرجك من أجمل القصور، وماذا حدث لكونجوند؟

قال الشيخ (وقد نقله كانديد إلى إسطبل سيده وأطعمه): ماتت كونجوند.

فطار صواب كانديد، ثم أفاق، فقال: هل ماتت كونجوند؟ أيتها الدنيا وأنت خير ما يمكن خلقه من الدُّنَى! وكيف ماتت؟

فأجاب الشيخ: بَقَرَها الجند البلغاريون، ولما أراد البارون أن يحميها ضربوه، ثم قطعوا البارونة إربًا إربًا، وهدموا القصر، حتى لم يبقَ فيه حجر على حجر، لكننا انتقمنا، إذ أحدث جندنا مثل هذا في قصرٍ لأميرٍ بلغاري.

واستعطف كانديد سيده أن ينفق على علاج أستاذه، وشفي بانجلوس لولا أنه فقد عينًا وأذنًا، واستخدمه السيد حاسبًا؛ لبراعته في الحساب، وبعد حين شاءت الضرورة لذلك الرجل أن يرحل إلى لشبونة، فاستصحب الفيلسوفَين بانجلوس وكانديد، وأخذ بانجلوس يشرح لسيده وهما في الطريق كيف لم يكن في الإمكان أبدع مما كان، فلم يوافقه الرجل على رأيه ذاك، فأضاف بانجلوس: إن طبيعة الإنسان قد فسدت، فالله لم يخلق الناس ذئابًا، لكنهم قد باتوا من الذئاب، إن الله لم يُعْطِ الناس مدافع أو بنادق، لكنهم صنعوها ليفتك بعضهم ببعض … ولكن الشرور الفردية تُكوِّن في النهاية الخير العام، وبينما هو ماضٍ في حديثه ذاك، اكفهرت السماء وهبَّت الريح، وعصفت العواصف بالسفينة وهي على مرأى من ميناء لشبونة.

ولم تَلْبَث السفينة أن باتت حطامًا، وغرق كل مَنْ عليها إلا بانجلوس وكانديد ومعهما بَحَّارٌ فظٌّ غليظ القلب، ولكن لم يكد الفيلسوفان يطآن أرض لشبونة، حتى زلزلت الأرض زلزالها، واندلعت نار بركانها. وامتلأت الشوارع باللهب والرماد وترنحت الدُّورُ فوق أساسها، واندكَّت قوائمها، وقضى ثلاثون ألفًا من سكان المدينة نحبهم صرعى، وأصابت كانديد قطع من الصخر هَوَتْ عليه فجرحته وسقط يتمرغ من الألم.

وبينما الناس في فزعهم والِهون، أخذ بانجلوس يهدِّئ من روعهم، وينزل السكينة على قلوبهم بقوله: إن كل ما يحدث في الدنيا معقول مقبول؛ لأن العالم خير، ولا بد أن يقع فيه ما وقع؛ لأن لكل شيءٍ سببًا، فجذبه شاب يتَّشح بالسواد — وكان عضوًا في محكمة التفتيش — وقال له: يظهر أنك يا سيدي لا تؤمن بالخطيئة الأولى، فلو كان كل شيءٍ خيرًا لما هوى الإنسان من الجنة، ولا كان هناك عقاب، وكأني أسمعك تقول: إن كل شيءٍ مقدور، وإذن فأنت لا تؤمن بحرية الإرادة. فبدأ بانجلوس يجيب بأن حرية الإرادة لا تعارض الجبر؛ لأنه من جبر الإرادة أن تكون حرًّا.

لكن الشاب القسيس لم يمهله حتى يفرغ من جوابه، وأمر به فقبض عليه وزجَّ في السجن، كما سُجِنَ تلميذه كانديد؛ لأنه كان يستمع إليه في إعجاب.

هدأت الأرض بعد زلزالها، وقد تهدم من لشبونة ثلاثة أرباعها، فأجمع حكماء المدينة أن لا وسيلة للإنقاذ خير من أن يُلْقى ببعض المذنبين في النار ليحترقوا احتراقًا بطيئًا في حفلٍ من الناس يرتلون لله الصلاة والدعاء، وإن هي إلا أيام قلائل تمضي حتى جيء برجلٍ رفض أن يأكل الطعام مطهيًّا بالشحم، مع أنه تقليد لا بد من احترامه، وأُلْقِي بالمسكين في النار، كذلك جيء بكانديد وأُمِرَ أن يُجْلَد بالسياط، كما سيق بانجلوس إلى حبل المشنقة؛ لأنه إباحيُّ التفكير، حدث كل هذا والناس من حولهم يرتلون الدعوات وينشدون الصلوات أن ينقذ الله لشبونة من زلزالها المخيف.

فلم يسع كانديد — وقد هاله ذلك كله — أن يصيح: «إن كانت هذه الدنيا خير ما يمكن خلقه، فما عسى أن تكون أسوأ الدُّنى؟»

هذا مثال لفولتير، ولن تخطيء فيه روحه الهازلة الساخرة، فهو يهزأ بمن ينظر إلى الدنيا نظرة التفاؤل، لما يراه في العالم من ألوان الشرور، وقد أمسى أسلوب فولتير — الذي يمتاز بالتدفق والصقل والبساطة والوضوح — مثلًا أعلى يطمح إليه الكاتبون، وأوحت قصة «كانديد» بما أوحت إلى «رينان» و«أناتول فرانس» من كتَّاب فرنسا، ثم تعدى تأثيره أرض الوطن إلى سائر الأقطار المجاورة، فاحتذاه «بيرون» في تهكمه، وتمنى «برناردشو» أن يقوم في إنجلترا بالدور الذي قام به فولتير في فرنسا من نقدٍ وتهذيب يقومان على السخرية اللاذعة.

(١-٣) ديدرو Diderot (١٧١٣–١٧٨٤م)

وهذا رجلٌ آخر وقف بإنتاجه العظيم الضخم إلى جانب فولتير، هذا يذيع في الناس آراء «جماعة الفلاسفة» الذين أرادوا قلب المجتمع عن طريق التنوير العقلي بفطنته وسخريته وسحر أسلوبه، وذاك ينشرها نشرًا علميًّا هادئًا، وقد أراد له أبوه بادئ الأمر أن يلتمس سبيله إلى وظائف الكنيسة، أو أن يدرس القانون أو الطب، فأبى الفتى على أبيه ما أراد له، وفقد بذلك معونته، فأصابه الإملاق، ولم يستطع العيش إلا بمجهوده الشاق، معلمًا وكاتبًا مأجورًا لأصحاب المكاتب، فيكتب لهم ما يؤجرونه على كتابته، فهذا كتاب يطلب إليه ترجمته، وتلك قصة وضيعة يكتبها إجابة لدعوة من الناشر الذي يتلمس موارد الكسب بكل السبل، بل هذه مواعظ يعدها لتلقى في الكنائس، وكان قد جمع نتاجه الفكري الخاص في «آراء فلسفية»،٢٦ لكنها أحرقت بأمرٍ من برلمان باريس، ثم ازداد عليه سخط القابضين على زمام الحكم حين نشر «خطاب عن العُمْي موجَّهٌ إلى المبصرين»، فألقوه في السجن، وبعدئذٍ همَّ بعمله الجسيم الذي لبث مشتغلًا به عشرين عامًا أو يزيد، وهو إعداد موسوعة شاملة للمعارف الإنسانية جميعًا، ولو أن ذلك لم يمنعه أن يتابع إخراج ما يجيش به صدره من خواطر، ومع ذلك كله ألمَّت به ضائقةٌ مالية في أخريات سنيه، فأعانته عليها «كاترين» إمبراطورة الروسيا التي شاءت أن تكون راعية له تحميه، وزارها الكاتب في قصرها زيارةً لم تطل، ثم عاد إلى باريس حيث عاش عيشةً هادئة إلى أن وافته منيته.
هكذا أخذ «ديدرو» ينثر كفايته ومواهبه نثرًا ذات الشمال وذات اليمين، لا يحرص لنفسه على وقتٍ أو عافيةٍ أو مال، قد حباه الله عقلًا يموج بالأفكار المبتكرة، كأنه الحقل الخصيب ينبت في كل يومٍ من صنوف النبات ألوانًا، لكنه مع ذلك أعوزته القدرة على التفكير المتسلسل المتساوق، كما امتنعت عليه القدرة على التركيز، ومن هنا كان غزير الإنتاج، قويَّ الفكر، لامع القريحة، ومع ذلك لم يخلف لنا شيئًا نستطيع في وضوحٍ وجلاءٍ أن نرى فيه فلسفته الخاصة، ولا هو ترك فيما ترك أثرًا فنيًّا واحدًا يدل على الصقل والتجويد، على أن لنا أن نقول عن فلسفته إنها ماديةٌ صميمة، وهو في وجهة نظره إلى الأدب يُبشِّر بمذهب الابتداع، إذ دعا إلى ضرورة اعتماد الفكر العبقري الموهوب على نفسه، فلا حاجة به إلى قواعد القدماء ونماذجهم يحتذيها، فها هي الطبيعة أمامنا، ففيم العودة إلى ما قاله آباؤنا؟ نعم إن للآثار الأدبية القديمة قدرها العظيم، ولكن هل يعني ذلك أن نحدَّ قرائحنا بحدودها؟ لهذا كنت تراه شديد الإعجاب بالخارجين على قواعد الاتِّباع من أدباء الإنجليز، أمثال «رِتْشَرْدْسُنْ»٢٧ و«ليلو»٢٨ و«مور»٢٩ و«سْتِيرنْ».٣٠
ولنا إلى هذا الحديث عودةٌ حين نتناول أديبنا في جزءٍ تالٍ كاتبًا مسرحيًّا، ولديدرو فوق ما ذكرنا «آراءٌ غريبة عن ممثل الملهاة»،٣١ ولعله أمتع كتبه جميعًا، وفيه بحث في قواعد الفن التمثيلي، وله كذلك «ابن أخي رامو»،٣٢ وهي قصة جميلة يسخر فيها من أخلاق العصر، وقد ترجمها «جيته» إلى الألمانية. وقصة أخرى عنوانها «الراهبة»،٣٣ فيها وصف لحياة الأديرة، وله كذلك «جاك المؤمن بالقدر وسيده»،٣٤ وهي ليست قصة بالمعنى الصحيح للقصة، بل هي سلسلة محاورات ومناقشاتٍ تتخللها حكايات ومغامرات. وأخيرًا نذكر مقالاته التي كتبها عن معارض التصوير التي أقيمت في باريس من سنة ١٧٥٩م إلى سنة ١٧٩٥م، وقد نشرها باسم «الصالون»، وهو في هذه المقالات يميل إلى مذهب الابتداع، معترضًا على رجال الفن الذين يشترطون التقيد بأوضاع الفن القديم بقوله: «وماذا لو لم يكن في الوجود قديم؟»

وأجلُّ إنتاجه قدرًا هو «الموسوعة» — أو دائرة المعارف — التي أدارها وساهم في تحريرها، فقد أحسَّ الناس أن المعارف المتفرقة لا بد من جمعها ليكون للإنسانية من مجموعها سبيلٌ مؤدية إلى الحق، وكان هذا الإحساس هو الحافز الذي دفع «ديدرو» إلى إنشاء الموسوعة، فجاءت كنزًا زاخرًا بكل صنوف العلم والمعرفة التي وصل إليها العقل البشري حتى ذلك الحين، بل أضافت إلى ذلك أنها وضعت أساس المذهب الديمقراطي. وقد عاون «ديدرو» في هذا المشروع الضخم طائفة ممتازة من الأعلام والفحول — كان بينهم فولتير وروسو — ولعل هذا الخطاب الذي أرسله فولتير إلى ديدرو، يقرِّب لك أساس هذه الموسوعة، قال: «ما أشبه موسوعتك ببرج بابل؛ فيها الطيب والخبيث، وفيها الحق والباطل، وفيها الجد والمرح، كلها مجتمعة في كتابٍ واحد، ويخيل إليَّ أن بعض فصولها قد كتبه متأنقٌ متحذلق وهو جالس في «صالونه»، وأن بعضها قد كتبه خادمٌ قذر وهو في مطبخه. إن قارئ الموسوعة لينتقل فها من أعلى سماء يحلق فيها الفكر إلى أسخف السفاسف التي تبعث في نفسه الملل.»

ورأى أولو الأمر أن ظهور هذه الموسوعة يفتق الأذهان فيؤدي إلى خطر، فاضطهدوها وقاوموها، واضطر ناشرها إلى إخراج مجلداتها الأخيرة في طي الكتمان خشية أن يصيبه من الشرطة أذًى، وقد حدث أن أصابت ديدرو خسارةٌ فادحة حين داهمت الشرطة يومًا دار المطبعة فأتلف عاملٌ جبانٌ كل «التجارب» بغير إذن من سيده. وهكذا أخرجت موسوعة العلوم للناس، فكانت عملًا جليلًا يخلد اسم «ديدرو» على وجه الزمان، ولو أنه لم يدرَّ على صاحبه من الربح أكثر من جنيهات عشرة في كل شهر مدى عشرين عامًا كاملة أنفقها في إخراجها، وبهذه الموسوعة كان «ديدرو» رسول المعرفة في عصره، فقد كان ينكر الوحي مثل فولتير وروسو، ويؤمن بأن إنقاذ العالم مرهون بنشر المعرفة والفضيلة.

هذا هو «ديدرو» بإنتاجه المتنوع الغزير، فهو — في عصره — الصحفيُّ الموهوب الذي ينتج إنتاجًا سريعًا متلاحقًا فيه سمات الإهمال إلى جانب ما فيه من طابع النبوغ والتجديد واستقلال الرأي. ويقول عنه سانتسبري: «إنه يوشك أن يكون أكثر الأدباء خصوبةً في تنوع آرائه؛ فيستحيل أن تجد موضوعًا لم يعالجه ديدرو، ويكاد يستحيل أن تذكر موضوعًا لم يقل فيه بعض الآراء الخالدة التي تدعو إلى الإعجاب.»

(١-٤) روسو Rousseau (١٧١٢–١٧٧٨م)

كانت «جماعة الفلاسفة»، التي يمثلها فولتير وديدرو، تعتد بالعقل وحده، ولا تؤمن إلا به، فجاء «جان جاك روسو» مزدريًا العقل ومنطقه، مؤمنًا بالعاطفة والشعور، فكان بذلك بمثابة رد الفعل الذي يعقب التطرف ليرده إلى الصواب.

ولد لأبٍ يصلح الساعات في جنيف، ولما بلغ الثالثة عشرة أُمر أن يعاون رجلًا يسجل العقود كي يحترف هذه المهنة بعد تدريبه، لكن سرعان ما رأى فيه «المسجلُ» غبيًّا بليدًا ففصله، فَوُضع الفتى حيث يتعلم فن النحت، وقضى ثلاثة أعوام يعمل مع رجلٍ فظٍّ غليظٍ أخذ يقسو عليه ويستذله، فما وسع صاحبنا إلا أن يعمد إلى الفرار، وهام على وجهه لا يعلم لنفسه غاية يقصد إليها، حتى انتهى به السير إلى قرية تسمى «كونفينيون»،٣٥ وهنالك استطاع القسيس أن يردَّه عن عقيدة أبويه البروتستنتية إلى الكاثوليكية، لقاء غداءٍ طيب قدَّمه إليه، ثم أرسله إلى سيدة في «آنْسِي»٣٦ هي «مدام دي وارِنزْ»٣٧ رجاء أن تعظه وترشده، ولم يكد الفتى يتصل بالسيدة حتى أحبَّها، وما هي إلا أن أرسلته «مدام وارنز» إلى «تورين» ليُعَمَّد على العقيدة الجديدة ويؤخذ بشعائرها، وقضى هنالك فترةً أُطلق بعدها ومعه قليل من الفرنكات أُعطيها، فراح ينفق هذا المال القليل بغير حساب، حتى نفد، واشتغل خادمًا بضعة أشهر، ثم لم يطق على ذلك صبرًا، فهمَّ بالرحيل إلى «مدام وارنز»، وهنالك في دارها أقام ما يقرب من عشر سنوات إقامةً كادت تتصل؛ إذ تخللتها فتراتٌ صغيرة غاب فيها عن دارها؛ ليشتغل معلمًا للموسيقى في لوزان مرة، وليكون خادمًا لأحد الضباط مرةً أخرى، وهكذا. ثم حدث أن طاف بدار «مدام وارنز» حلاقٌ جوال، فاغتصب حُبَّ السيدة لنفسه، وبادلته السيدة الحب، فما عتَّم «جان جاك» أن غادر الدار مغيظًا محنقًا، وقصد إلى باريس وليس معه إلا قليل مال، وملهاةٌ كتبها عنوانها «نارسيس»،٣٨ وطريقةٌ جديدة في الترقيم الموسيقي من ابتكاره، تلك كانت عدته حين قدم إلى المدينة الكبرى، فسرعان ما تبدَّد ماله القليل وبات في باريس خالي الوفاض لا يدري ماذا يصنع، لولا أن شاء له القدر أن تعينه سيدتان عرفتاه، على أن يعيَّنَ كاتمًا لسر السفير الفرنسي في البندقية، فما مضت عشرة أشهر، حتى اشتجر مع السفير، وقفل راجعًا إلى باريس حيث نزل بفندقٍ حقيرٍ قريب من السوربون، وبدأ يرتزق من نَسْخِ «النوتات» الموسيقية، وهنا اتصل بخادمةٍ أمِّيَّةٍ ساذجة، ولبث يعيش في مسغبة، لكنه على الرغم من سوء حالته استطاع أن يلتمس السبيل إلى بعض السيدات البارزات، وطائفة من رجال الأدب الظاهرين، منهم «ديدرو» الذي دعاه أن يكتب فصولًا عن الموسيقى في موسوعته.
ولما بلغ السابعة والثلاثين من عمره، حدثت نقطة التحول في حياته؛ إذ أعلن المجمع العلمي في «ديجون» موضوعًا للتسابق بين الكتَّاب، وهو: هل عمل تقدم العلوم والفنون على رقي الأخلاق؟ فما وقعت عيناه على موضوع المسابقة في الصحف حتى أحسَّ بهزة الوحي في نفسه، واعتزم أن يسابق، وكتب مقالة يهاجم فيها الثقافة كلها مهاجمةً عنيفةً حارة، كان لها السبق عند المحكمين، وأحدث نشرها حركةً قوية، فما هو إلا أن أصبح رجلًا مذكورًا مشهورًا، إذ عدَّه الناس رسولًا لمذهبٍ جديد ينادي بالعودة إلى الطبيعة، ثم أخرج بعد أربع سنوات «بحث في نشأة وأساس التفاوت بين الناس»،٣٩ ورأيه في هذا الكتاب هو أن المدنية كلها فساد في صميمها.
شاع اسم «روسو» في «صالونات» باريس، وكان يستطيع أن يحتل في المجتمع مكانةً عالية، لكن كبرياءَه وغروره أبيا عليه، إلا أن ينفر من الناس وأن يجافي المجتمع، واعتزل في بيتٍ صغيرٍ تملكه إحدى صديقاته، وهناك كتب «جولي أو هلويز الجديدة»٤٠ و«العقد الاجتماعي»٤١ و«إميل»،٤٢ وكان «إميل» يحتوي على نظراتٍ دينيةٍ وسياسيةٍ تزعج أولي الأمر، فصدر الأمر بإحراقه والقبض على كاتبه، ففرَّ روسو من باريس إلى «موتْييه» بسويسرا، لكنه سرعان ما غادرها طريدًا، إذ نشبت بينه وبين أهلها الشحناء على اختلافٍ ديني بينه وبينهم. وهام الرجل على وجهه يضرب في فجاج الأرض لا يعرف لنفسه مستقرا، حتى دعاه الفيلسوف الإنجليزي «دافيد هيوم» أن يهبط على إنجلترا فيتخذ فيها مأوًى له، واستجاب للدعوة رجاء أن يجد في تلك البلاد راحة نفسه، لكنه عندئذٍ كان قد اعترته حالة من الجنون التي تُخيِّل للمصاب بها أنه مضطهد، فظنَّ الظنون بكل شيءٍ، وارتاب في كل شخص، وتوهَّم أن العالم كله يتربص به، فلا يرى في الأصدقاء إلا ألدَّ الأعداء، وقضى في إنجلترا أشهرًا وهو في مثل تلك الحالة النفسية، ثم تسلَّل إلى فرنسا وظل ثلاثة أعوام شريدًا طريدًا، وعلم أولو الأمر بوجوده، فأمَّنوه على نفسه، وعاد إلى باريس واستأنف بها حرفته الأولى وهي نسخ «النوتات» الموسيقية، لكن وساوسه وأوهامه أخذت تتسع وتزداد، فكان يحسبه إذا ما سار في الطرقات متبوعًا بالجواسيس، بل إنه كان إذا ما صادف في طريقه صِبْيَة يلهون جرى مسرعًا لما يراه فيهم من خطر، وظل في هذا العذاب النفسي ثمانية أعوام، كان فيها موضع الإشفاق عند عارفيه. وأخيرًا عرض عليه صديقٌ غني أن يرحل إلى بيتٍ ريفي صغير له على مقربة من باريس، وفي ذلك البيت الهادئ قضى نحبه فجأة في يوليو سنة ١٧٧٨م، ولم يكن مضى إلا شهرٌ واحد على موت فولتير.
ولروسو إنتاجٌ أدبي غزير، لكنه معروف بكتبه الأربعة العظيمة «الاعترافات» و«جولي» و«العقد الاجتماعي» و«إميل»، أما «الاعترافات» فلا نجد لها نظيرًا في كتب السِّيَرْ، وليست قيمة هذا الكتاب في صدق ما ورد فيه من حقائق؛ لأنه كتبه في أخريات سنيه حين انتابته العلة العصبية، واعترته الوساوس والأوهام، فنظر إلى ماضيه وحاضره بمنظار العاطفة المضطربة السقيمة، ولكن قيمته في تصوير نفسه تصويرًا تكاد لا تجد له مثيلًا في آداب العالم كلها، وكانت غاية الكاتب فيه أن يصف نفسه في أمانة تعلن كل شيء ولا تخفي شيئًا، وهو يستهلُّ الكتاب بقوله:

إني بهذا الكتاب أؤدي عملًا لا أجد له مثيلًا، ولن يجد بين الناس مقلِّدًا، وغاية الكتاب أن يعرض رجلًا على حقيقته لا ينْقص من الحق شيئًا، والرجل الذي أعرضه هو نفسي، نفسي دون سواها؛ لأني أعتقد حقًّا أن ليس لي بين الأحياء شبيه. إنني في هذا الكتاب لا أخفي سيئة ولا أضيف حسنة، وأتحدى رجلًا في وسعه أن يقول، بعد أن يكشف عن سريرة نفسه بمثل إخلاصي: إنني خيرٌ منه!

كان مولدي في جنيف عام ١٧١٢م، وأبى إسحق روسو رجل يصلح الساعات، وأمي سوزان، ومولدي — الذي كان أول حلقة من سوء طالعي — قد كلف أمي حياتها، وجئت إلى العالم في ضعف لم يُنتظر لي معه أن أعيش، وكفلتني عمتي حتى غمرتني بحنانها، وأما أبي فقد كان في يأسه يحبني أبلغ الحب.

ولقد شعرتُ قبل أن أفكر، شأني في ذلك شأن سائر الأطفال، بل لعلي ذهبت في ذلك أبعد من سواي، وكان أول ما أيقظ شعوري قصصٌ قرأتها مع أبي، وحدث أحيانًا أن ظللنا نقرأ معًا حتى مطلع النهار، فما بلغتُ السابعة حتى فرغنا من قراءة كل ما احتوت عليه خزانة أمي من قصصٍ قديمة، وارتددنا إلى «بوسويه» و«موليير» و«بلوتارك» و«أوفد» وأضرابهم، وأبعدتني قراءة «بلوتارك» عن القصص، فتراجمه هي التي نفثت فيَّ هذه الروح الحرة الديمقراطية التي لا تصبر على الاستعباد الذي أرَّق جنبيَّ، وأنا مدين لعمتي التي كانت تحفظ ما لا حصر له من الأغاني، وتغنيها بصوتٍ حلوٍ رخيم، أنا مدين لها بعاطفتي نحو الموسيقى، فهذه كانت أول ما تعلق به حبي، تلك هي العوامل التي كونت لي هذا القلب الذي أَسْرَفَ في كبريائه، ولكنه مع ذلك قلبٌ شديد الإحساس، هذه العوامل صاغت لي هذه الشخصية المخنثة التي هي رغم ذلك جَموحٌ لا تُسلس القياد، وقد ظللت بهذه الشخصية أندفع إلى مواقف الضعف مرة وإلى مواضع الفضيلة مرةً أخرى، فقد كنت من التناقض مع نفسي، بحيث أفلتت مني اللذةُ والحكمةُ في آنٍ معًا، فلا أنا بالذي عفَّ عن المتعة ولا بالذي نعم باللذة …

وأما كتاب «جولي أو هلويز الجديدة»، فهو سلسلة من خطابات تبدأ بقصة عن حبٍّ آثم، وتنتهي برسالة في التهذيب. وروسو في هذا الكتاب مدين للقصصي الإنجليزي «رتشردسُنْ» في قصته «كلارسَّا» من حيث الطريقة والنغمة الخلقية التي تسود الكتاب، لكن الكاتب الفرنسي يكتب بعاطفة لا تدنو منها عاطفة زميله الإنجليزي.

و«العقد الاجتماعي» كتاب يختلف عن السابقيْن، فهو رسالة في مبادئ الحكومة والمجتمع، كتبت بالأسلوب العلمي المحكم الدقيق، ولكن اتِّباع الكاتب للأسلوب المنطقي في كتابه هذا لم يمنع أن يجيء الكتاب بعيدًا عن الحقائق التاريخية، سابحًا في الخيال، ومع ذلك فقد كان «للعقد الاجتماعي» أثرٌ قوي في عصر اضطربت فيه الأمور السياسية، بحيث اتخذه رجال الثورة بعدئذٍ انجيلًا يهتدون به ويستمدُّون منه المبادئ، وروسو في هذا الكتاب مؤمن بأن الإنسان خيِّرٌ بطبعه، وإنما أفسده نظام المجتمع، ومن رأيه أن يضحي الفرد بمصلحته في سبيل الصالح العام؛ لأن الغاية المنشودة عنده هي «أعظم خير لأكبر مجموعة من الناس»، وهو يريد بالإنسان الرجوع إلى الحالة الفطرية الأولى التي كانت قائمة قبل أن يفسد الإنسان بالحضارة الدخيلة الطارئة، وهو من جهةٍ أخرى يتمنى العودة إلى الماضي المجيد الذي يتمثل في اليونان والرومان، فقد بهر روسو ذلك الماضي العظيم، وصوره لنفسه أعظم مما تجيز له حقائق التاريخ، ولكن ماله وللحقيقة التاريخية! إنه كاتب يستلهم العاطفة ليثير النفوس ويحفزها على النهوض.

هذه العقيدة التي آمن بها إيمانًا قويًّا — وهي أن الإنسان ولد نقيًّا لا يشوبه شر — أدَّت به إلى رأي في التربية بسطه في كتابٍ قريب في سياقه من القصة. وهو «إميل» ومحور الرأي فيه هو أن الطفل ينبغي أن يترك حرًّا من كل قيد إبان نشأته، فلا يغلُّه معلموه بما يملأ رءوس الكبار من ترهات وأباطيل، وحسب هذا الكتاب قيمة أنه ما يزال عمدة بين المراجع عند علماء التربية. ولهذا الكتاب قيمةٌ أخرى، وهي أن روسو يعرض فيه مذهبه الديني، فهو معتقد بوجود الله، لكنه يرى أن طريقة البرهنة على وجوده لا تكون بالحجج العلمية العقلية، بل بالحدس واللقانة، بإحساسٍ من القلب لا يفهم العقل كنهه.

يستهل روسو كتاب إميل بقوله: «إن كل شيء يكون خيرًا حين تخرجه يدا خالق الأشياء، ثم يفسد كل شيء بين يدَي الإنسان، وفي هذه العبارة تتلخص فلسفة روسو التي قوامها التفرقة بين ما هو طبيعي وما هو صناعي، بين الإنسان الطبيعي كما أرادت له الطبيعة أن يكون، وبين الإنسان المتحضر الذي أفسده المجتمع، إن كل ما هو طبيعي خير، وكل انحراف عن الطبيعة شر، ولهذا فالحضارة الإنسانية غلطةٌ كبرى، لا نتخلص منها بغير العودة إلى أحضان الطبيعة.» وليس يخفى ما في هذا القول من دعوةٍ صريحة للديمقراطية؛ لأنه يمزق لفائف الحضارة عن وجه الإنسان ليخرج العنصر الإنساني من تلك الأكفان فيبدو تحت ضوء الشمس واحدًا متشابهًا في الناس جميعًا؛ لا فرق بين متعلم وجاهل، ولا بين شريف وعامل. وهو بهذه الدعوة أيضًا يمهد للمذهب الابتداعي في الأدب، يمهد له بحبه للطبيعة وباعتداده بالفرد وشخصيته، ويمهد له بحدَّةِ عاطفته وبأدبه الذاتي الذي يُخْرج فيه مكنونَ نفسه.

(٢) الشعر

كاد الشعر يختنق في فرنسا في القرن الثامن عشر، للقيود الثقيلة التي فرضها «بوالو»، والتي ما كان لينجو من أثرها غير النوابغ، وللنزعة العقلية التي سادت في فرنسا إبان ذلك القرن، وإن سيطر منطق العقل نضب معين الشعر، نعم قد تستطيع أن تسمِّي في ذلك العصر طائفةً كبيرة من الشعراء الذين غزُر نتاجهم وتنوَّع، ولكنهم كانوا ينشدون الشعر عن غير طبع وفي صورةٍ آلية، فهو كلامٌ منظوم لا روح فيه، اللهم إلا قليلًا جدًّا مما قيل.

ونبدأ قائمة هؤلاء الشعراء بفولتير الذي عرفناه ناثرًا عظيمًا، وشعره — كنثره — متنوِّع مختلف الألوان، فله ملحمة «هنرياد» التي كان يطمح أن يجاري بها الملاحم العظيمة وهي مقسَّمة عشرة أقسام، وموضوعها الحروب الدينية وبطلها هنري الرابع. وهذه القصيدة الكبيرة في مجموعها لا تخرج عن هجومٍ عنيف يتجه به الشاعر نحو التعصب والهوس الديني والخرافة، وتمجيد للتسامح وحرية الفكر. أما من حيث طريقة الأداء فهو يحذو حذو الملاحم القديمة، ولا سيما ملحمة الإنياذة، فكما أن «إنياس» أخذ يقص قصته للملكة «ديدو» ملكة القرطاجنيين فهكذا أخذ هنري يروي أخباره للملكة اليصابات، وكما أن إنياس أوحى إليه الله بما سيئول إليه أمر شعبه في المستقبل، فكذلك هنري، لكن أين ملحمة «هنرياد» في ضعف خيالها وبرودة أسلوبها من الملاحم القديمة الكبرى؟ ومما زادها ضعفًا أنه لم يُرد أن يختار العوامل الروحية في الملحمة وجوِّها الشعري من اللاهوت المسيحي؛ لأن هذه من القواعد التي حرمها «بوالو»، ولم يستطع من جهةٍ أخرى أن يجعل ذلك الجوَّ الشعري يونانيًّا أو رومانيًّا، ولا أن يستمد عناصرها الروحانية كالآلهة وغيرهم من الأساطير اليونانية والرومانية؛ لأن ذلك لا يناسب موضوعًا مختارًا من التاريخ الحديث، ولكن لا بد للملحمة — جريًا على العرف الأدبي — أن يكون لها جوٌّ روحانيٌّ أسطوريٌّ خيالي تجري فيه الحوادث، فعمد فولتير إلى تجسيد المعاني لتكون له بمثابة الأشخاص الأسطورية: «فالسياسة» و«التعصب» و«الرحمة»، وما إلى ذلك تكتب بأحرفٍ كبيرة وتعامل معاملة الأشخاص، لكن أمثال هذه المعاني المجسدة تعوزها الحياة التي تُكسِب القصيدة حرارةً، غير أن ملحمة «هنرياد» إلى جانب عيوبها تمتاز بحسن السياق التاريخي ووضوحه، والوصف في بعض مواضعها قويٌّ ناصع، مثل وصفه لمذبحة سنت بارثلوميو في الجزء الثاني، وحصار باريس في الجزء الرابع.

ومهما يكن من أمر، فشاعرنا تتم له البراعة إذا ما كان موضوع القصيدة فلسفيًّا، مثل قصيدة «حديث عن الإنسان»٤٣ و«كارثة لشبونة» و«القانون الطبيعي»، وهو كذلك مجيد في بعض رسائله المنظومة مثل «رسالة إلى بوالو» و«رسالة إلى هوراس» وفي قصائده الهجائية الساخرة مثل «المسكين»،٤٤ وله فوق ذلك قصائدُ قصيرةٌ كثير قيلت في مناسباتٍ مختلفة، لا يخلو كثير منها من روعة الخيال وجمال الأسلوب.
ولم يشهد القرن الثامن عشر في الشعر الغنائي إلا شاعرًا واحدًا هو جان بابتست روسو٤٥ (١٦٧٠–١٧٤١م)، الذي ليس بينه وبين سميِّه العظيم «جان جاك روسو» علاقة سوى أن كليهما عانى في حياته البؤس والشقاء، فقد كان شاعرنا هذا ابن حذَّاء في باريس، وشايع في شبابه بوالو في مذهبه، ولم يكد يبدأ في بناء مجده الأدبي، حتى اتهم بالاعتداء على غيره في بعض قصائده وحكم عليه بالنفي من فرنسا، حيث قضى بقية عمره بعيدًا عن بلاده، ولم يكن «روسو» هذا من شعراء الطراز الأول المجيدين، وحسبك أن تعلم أن الناس في عصره أوشكوا أن يبايعوه أميرًا للشعر الغنائي؛ لتعلم إلى أي حدٍّ رضي الناس من موهبة الشعر بالنزر القليل، ومع ذلك فالأدب مدين له بالمحافظة على شعلة الشعر الغنائي حيةً، حتى أسعفتها الحركة الابتداعية الجديدة في مستهلِّ القرن التاسع عشر.
ولعل الشعر التهذيبي أن يكون أكثر ملاءمة لروح العصر الذي ساده التفكير العقلي. وظهر من شعراء التهذيب الخلقي فريق أجادوا الحكمة وفاتهم الشعر فيما نظموا، منهم «لويس راسين»٤٦ — أصغر أبناء الكاتب المسرحي المعروف — وأهم قصائده «العقيدة الدينية»،٤٧ وهي تذكر لما فيها من ورع وتقوى لا لجودة شعرها؛ وشعر الهجاء قريب الشبه بشعر التهذيب؛ لأنه تهذيبٌ سلبي يبين عيوب المهجوِّ، فظهر من شعراء الهجاء «جِلْبير»٤٨ (١٧٥١–١٧٨٠م) الذي ربما انتهى إلى تجويد الشعر لولا أن باغتته المنية شابًّا، وهو عدوٌّ لدود لجماعة الفلاسفة، وهاجمهم بقصيدتَين ساخرتَين إحداهما «القرن الثامن عشر» والثانية «دفاعي».٤٩

•••

وكان الأدب الإنجليزي قد أثر في بعض الشعراء الفرنسيين، فمال بهم إلى الشعر الوصفي فأنشأ «سانت لامبير»٥٠ قصيدة «الفصول» تقليدًا ﻟ «فصول» الشاعر الإنجليزي «تومْسُنْ»، لكن الشاعر الفرنسي قلَّد زميله في أسوأ نواحيه — في تضخيمه اللفظي وخروجه عن مجرى القصيدة ليقول درسًا تهذيبيًّا — ولم يستطع أن يجاريه في خبرته بالطبيعة وحسِّه المرهف إِزاءها، ومع ذلك فقد لقيت قصيدة «الفصول» إعجابًا عند طائفة الفلاسفة، حتى قال عنها فولتير إنها القصيدة الوحيدة من إنتاج العصر، التي ستبقي على الأيام للأجيال المقبلة.
ونذكر كذلك من الشعر الوصفي قصيدة «الشهور» للشاعر «روشيه»٥١ (١٧٤٥–١٧٩٤م)، ثم «الحدائق» و«رجل الحقول» و«ممالك الطبيعة الثلاث» للشاعر «جاك دليل»٥٢ (١٧٣٨–١٨١٣م)، وهو مترجم «أشعار الحقول» عن فيرجيل و«الفردوس المفقود» من «ملتن»، ولكن كل هذه القصائد خالية من الروح والعاطفة.
وربما كان أجدر بالذكر من شعراء التهذيب وشعراء الوصف الذين أسلفنا ذكرهم، شاعران كانا ينظمان شعرًا فكهًا خفيفًا، هما «جرِسِّيه»٥٣ و«فلوريان».٥٤ وللثاني منهما «حكايات خرافية» على غرار حكايات لافونتين الخرافية، لكنها بالطبع لا تدنو منها جودةً وأصالة طبع، ولا يشبه «فلوريان» سلفه العظيم في دقة علمه بالحيوان، ونفاذ بصره إلى صميم نفس الإنسان، وعلى كل حال فحكايات «فلوريان» لا تخلو من جمال، فالشاعر بارع في سوْق القصة، ماهرٌ في النظم السلس المستساغ.

•••

ونختم حديثنا عن الشعراء بشاعرٍ جاء في ختام القرن، فكأنما جاء ليبشر بعصرٍ جديدٍ قادمٍ ينهض فيه الشعر من العقم والجمود اللذين أصيب بهما طوال القرن الثامن عشر كما رأيت، وذلك الشاعر هو «أندريه شينْييه»٥٥ (١٧٦٢–١٧٩٤م)، الذي ولد في القسطنطينية، حيث كان أبوه قنصل فرنسا العام، وهنالك تزوَّج الوالد من امرأةٍ يونانية بارعة الجمال كاملة التهذيب، هي أم الشاعر، وقد انتقل «أندريه» إلى باريس، وهو لم يزل طفلًا، فدخل كلية نافار في باريس، ولما تخرج فيها التحق بالجيش، لكنه سرعان ما ترك الحياة العسكرية كارهًا لها، وأخذ يجول في أوروبا الجنوبية بضع سنين، عاد بعدها إلى باريس، حيث كان لأمِّه «صالون» أدبي، فكان هذا الصالون حلقة اتصال بين «شينييه» وبين كثيرٍ من رجال الفن والشعراء والفلاسفة، وعيِّن كاتمًا للسر مدى ثلاثة أعوام للسفارة الفرنسية في لندن، لكنه كره إنجلترا والشعب الإنجليزي، ولم يكن لإقامته بتلك البلاد أثرٌ فيه كالذي أحدثته في عظماء أسلافه: فولتير وروسو وغيرهما. ولما عاد إلى بلاده انغمس في تيار السياسة، واشتغل بالصحافة، فأيد الثورة في أولى مراحلها، لكنه لم يلبث أن ازورَّ عنها لسياسية اليعقوبيين المتطرفة؛ فأدى ذلك إلى موته تحت المقصلة.
ويظهر من آثار «شينييه» التي لم تنشر إلا بعد موته، أنه كان يجاهد في سبيل الخلاص من ربقة القيود الصارمة التي فرضها أشباه الاتِّباعيين على أنفسهم فقضوا بها على فنهم، فهو في «مراثيه»٥٦ يحاكي شعراء الرومان الأقدمين «تيبلُّس» و«بروبرتيوس» و«أوفد»، و«ريفياته»٥٧ زاخرة بما استقاه من الأدب اليوناني، خذ مثالًا لذلك قصيدة «الأعمى»،٥٨ التي يجعل هومر فيها يغني لطائفة من الرعاة، وقصيدة «السائل»٥٩ التي يقص فيها سائل جوَّال مغامراته لرجل أضافه، فتبين له أن مضيفه هو ابنه، ففي أمثال هذه القصائد تراه يستعير المادة من الأدب اليوناني ويمسُّها بخياله الشعري فيخرجها شعرًا صادقًا، تلك كانت أولى مراحله في الشعر التي اعتمد فيها على الآداب القديمة اليونانية والرومانية على السواء، ثم أخذ يطمح إلى نوعٍ جديدٍ من الشعر، جديد في موضوعه وغايته، وإن اتبع الأصول الفنية عند الأقدمين: «هيا نبدِّلْ» — في استخراج رحيقنا — زهراتٍ لهم (أي للأقدمين) طالت عهودها، وحسبنا أن نستعير منهم الأصباغ في تصوير فكرنا، «هيا نضيء مشاعلنا من شعلة أشعارهم، فنصوغ شعرًا قديمًا للتعبير عن فكرنا الجديد.» في هذه العبارة رسم خطته الجديدة التي تمنى أن يسير على منهاجها، وكان لا بد له أن يفعل لو امتد به الأجل، وقد بدأ فعلًا يحاول تحقيق أمله بأن يعبِّر عن فلسفة عصره، وما ساد في أيامه من مختلف العلوم في شعرٍ يلتزم قواعد الشعر القديم.

هكذا جاء «شينييه» حلقة تصل القديم والجديد، فشعره مزيج من هذا وذاك، ولكن ما زالت الصبغة الاتِّباعية أبرز طابع يميزه، فهو يوناني العاطفة والمزاج، ولعله استمد ذلك من أمه اليونانية، ثم أضاف إلى الطبع والسليقة تحصيلًا من الأدب اليوناني إذ أخذ يغذي فطرته بمددٍ من هومر وغيره من تراث اليونان، فتعاون الدم اليوناني الذي يجري في عروقه مع الاستعداد الفطري الذي مال به نحو الأدب اليوناني، ثم أضيف إلى هذين العاملَين دراسةٌ متصلة لما خلَّف اليونان، فأنتج هذا كله شاعرًا فيه العنصر اليوناني مليء بالحياة، ولم يكن كسائر معاصريه من أشباه الاتِّباعين يسلكون في أشعارهم الأصول القديمة جامدةً ميتة. ولا غرابة أن يُعدَّ «شينييه» بداية للعصر الابتداعي في الأدب لما تراه في شعره من صورٍ حيةٍ ناصعة، وأسلوبٍ واضحٍ مبين يبزر لك المعاني إبرازًا، حتى لتكاد تلمسها وتراها.

وهذا مثالٌ من شعره:

إلى فتاة تارَنْتُو

لقد ماتت «مِيرْتو» فتاة تارنْتو!
أخذتْهَا السفينةُ إلى شواطئ «كامارين» …
وقد غلق مفتاحُ الحِرْصِ — من أجل يوم العُرْس —
خَشَبَ الأَرز على ثوب الزفاف،
وعلى ذهب كان ليزيِّن ذراعيها،
وعطورٍ أُعِدَّتْ لشعرها الأشقر،
لكن، وهي وحدها عند حيزوم السفينة تبتهل إلى النجوم،
لفَّتها الرياحُ الهوجُ التي انتفخ بها الشراع،
فصاحت جازعةً، وهي على مبعدة من البحارة،
ثم هَوَتْ بين أحضان الموج،
لقد أَمْسَتْ بين أحضان الموج فتاة تارنْتُو!
وطَوَتْ موجة البحر جسدها الجميل،
فاغرورقت من «ربة البحر» عيناها — وهي في جوف صخرتها —
فجاهدت أن تُخْفي الجسدَ الجميلَ عن سباع البحر الضارية،
فأَمَرَتْ فرفعتْها عرائس البحر الفاتنة من فورها فوق هام الماء،
وحَمَلْنَهُ إلى الشاطئ … ثم ناديْن رفيقاتهن من بُعْدٍ بصرخاتٍ داوية،
وطفقت عرائس الغابِ وعيون الماء والجبال
تضرب صدورها، وقد جلَّلها الحداد،
مرددةً — وا حسرتاه — حول قبرها:
وا أسفا! إلى حبيبك لم ترجعي،
وثوب عُرْسك لم ترتديه،
وحول ذراعيك أساورُ الذهب لم تُعْقَد
وفي شَعرك لم يَفُحْ ذكيُّ العطور.

(٣) الأدب المسرحي

(٣-١) المأساة

تدهور الشعر في القرن الثامن عشر — كما رأيت — فتدهورت معه المأساة، وكان انحطاطها — في رأي ديدرو — نتيجة للقيود الثقيلة والتقاليد الباهظة التي فُرضت عليها، فأعجزتها عن النهوض والسير، فأصبحت المأساة شيئًا آليًا تُراعى فيه مجموعةٌ معينة من القواعد والقوانين، وتعالَجُ فيها الموضوعات القديمةُ بعينها، بأشخاصها ودوافعها ومواقفها، دون أن تعبأ بحقيقةٍ نفسية تصوِّرها، أو طبيعة تعكسها في مرآتها، فعلى كثرة مَنْ كتب المآسي في القرن الثامن عشر، لا تكاد تجد بينهم كاتبًا يستوقفك بابتكاره، ويسترعيك بجودته، بل لولا كاتبان فيه أجادا في كتابة المأساة بعض الجودة، لما ترددنا في الحكم على ذلك القرن بالنضوب التام في ذلك الفن من فنون الأدب، ونريد بهذين الكاتبَين: «كربيِّون» و«فولتير».

أما «كربيِّون»٦٠ (١٦٧٤–١٧٦٢م) فقد ذاع صوته بين الناس في سنٍّ باكرة، ثم خَفَتَ ذلك الصوت فغمره النسيان، حتى فارق الحياة، وله عبارةٌ مشهورة تلقي ضوءًا على فنه في المأساة، قال: «أخذ كورني الأرض وراسينُ السماءَ فبقيت لي الجحيم.» وقد تكون عبارةً منحولة عليه، ولكنها على كل حال تصف مآسيه التي أراد بها أن يثير في نظارته الرعب أكثر مما يثير فيهم الإعجاب والإشفاق، ومن هنا تراه يعالج في رواياته أحدَّ العواطف وأفظع الجرائم، منها: «أَتْري وثِيِسْت»٦١ و«إلكترا»٦٢ و«رادامِسْت وزنوبي».٦٣  وهو يعلو في أسلوبه آنًا ويهبط آنًا، وكثيرًا ما يكون ثقيلًا على النفس، وقد تغمُض معانيه في بعض المواضع، والجو السائد في رواياته مكفهرٌّ كئيب، ومع ذلك كله فهو جيِّدٌ بارع في فنه التمثيلي في بعض ما كتب.
ومهما يكن من أمر فقد أفل نجمه أمام كاتب سيطر على فن المأساة كما سيطر على سائر ميادين الأدب، واستطاع وحده أن يحتفظ بتقاليد القرن السابع عشر وأوضاعه، حتى دنا القرن الثامن عشر من ختامه، ذلك هو فولتير الذي أخرج عددًا من المآسي يقرب من خمس عشرة، بدأها برواية «أوديب» وختمها «بأيرين»،٦٤ ومنها «بروتس» و«زائير»٦٥ و«محمد» و«تانكريد» و«ميروب»،٦٦ وقد وضعه معاصروه في صف كورني وراسين، بل زعموا أنه جمع في فنِّه محاسن الرجلَين، لكن رجال النقد الحديث لا يضعونه في هذه المكانة العالية، وينكرون عليه قوة كورني، ونفاذ بصيرة راسين، فلئن برع فولتير وأجاد في بناء الرواية التمثيلية وسياقها فقد فاتته الروعة في تصوير الأشخاص، والقدرة على تحليل نفوسهم تحليلًا عميقًا يغوص إلى أغوارها.

وعلى كل حال فلمأساته مكانةٌ هامة في تطور المأساة، فعلى الرغم من تمسك فولتير بقواعد المأساة الاتباعية كما وضعها أسلافه في القرن السابع عشر تمسكًا نظريًّا، فهو من الوجهة العملية قد خرج على تلك القواعد بعض الخروج متأثرًا بشيكسبير، لا سيما في توسيعه لنطاق المأساة، بحيث يشمل موضوعات لم تكن تقرُّها قواعد الاتباع من قبلُ، فقد كان يشترط أن تستمد المأساة موضوعها من أصولٍ يونانية ورومانية، وأن يكون للأشخاص أسماءٌ يونانية ولاتينية، فاتبع فولتير هذا العرف في بعض رواياته مثل «بروتس» و«موت قيصر» و«ميروب»، لكنه خرج عليه في رواياتٍ أخرى، فهو ينقلك في «تانكريد» إلى عالم الفروسية في العصور الوسطى، وفي «محمد» و«زائير» ينقلك إلى بلاد الشرق، وهكذا. بل إنه حتى في رواياته الاتباعية الخالصة تراه خارجًا بعض الخروج على أسلافه ممهدًا السبيل للحركة الابتداعية القادمة، فقد كان أسلافه في المأساة لا يلتفتون إلى تصوير الجو المحيط بهم في عصرهم، ويحاولون أن تظهر رواياتهم في جوٍّ يوناني أو روماني حسب الموضوع المختار. أما فولتير فقد عُني بما أهمله هؤلاء الأسلاف، مثال ذلك أنه أصرَّ على أن يظهر «بروتس» في ثيابٍ فرنسية تمثل الثياب السائدة في القرن الثامن عشر.

(٣-٢) الملهاة

سارت ملهاة النصف الأول من القرن الثامن عشر على قواعد زعيم الملهاة «موليير»، وأهم وأجود ما ظهر إذ ذاك من الملاهي، رواية «تيركاريه»٦٧ لكاتبها «لي ساج»٦٨ الذي سنحدثك عنه بعد قليل قصصيًّا بارعًا، فلو لم يكتب قصته المشهورة «جِيل بلاس»٦٩ لخلَّدته ملهاته تلك التي يسخر فيها سخريةً جميلة من طبقةٍ محدثةٍ من رجال المال والأعمال، ويعرض لأساليبهم وأخلاقهم فيبين مواضع الضعف فيها بتهكمه الظريف.
وكتب الملهاة كاتبٌ آخر سنصادفه مع «لي ساج» بين رجال القصة، وهو «ماريفو»٧٠ (١٦٨٨–١٧٦٣م)، وبدأت الملهاة بفضله طريقًا جديدًا، بأن أخذت توجه مجهودها نحو دقة التحليل النفسي، وتختار «الحب» موضوعًا لها، وموضع التجديد هنا هو أنه اتخذ عاطفة الحب موضوعًا للتحليل، بدل أن يجعلها — كما فعل السابقون — عنصرًا بين سائر العناصر التي تتكون منها حوادث الرواية، وهو يعالج الحب في ألوانه المختلفة؛ الحب حين لا يشعر بوجوده العاشقان، والحب حين يشعران به ويخفيانه، والحب الذي لا يجرؤ على إعلان نفسه، والحب حين يكون موضع شك وريبة، فهو باتخاذه تحليل الحب موضوعًا لملهاته، كان شبيهًا براسين الذي اتخذ تحليل الحب موضوعًا لمأساته. ومن ملاهيه: «لهو الحب والمصادفة»٧١ و«الاعترافات الزائفة»٧٢ و«المخلصون»٧٣ و«المحبة».٧٤
كان «ماريفو» عاملًا على تطور الملهاة نحو ما يسمى «الملهاة الباكية»٧٥ — وهي شبيهة بضرب من الملهاة شاع في إنجلترا في القرن الثامن عشر أيضًا، ويسمى هناك بالملهاة العاطفية — والملهاة الباكية تستدرُّ عبرات النظارة بأن تعرض عليهم حياة الناس الخاصة بما فيها من فضائل وما تعانيه من آلام، أكثر مما تستثير ضحكاتهم بأن تعرض عليهم تلك الحياة الخاصة بما فيها من حماقةٍ وسخف، أو هي بعبارةٍ أخرى تضع مأساة في إطار ملهاة، ولما كانت «الملهاة الباكية» تخالف طبائع الأشياء، فقد ظهرت حركة تقاومها، وعلى رأسها «بومارشيه»٧٦ (١٧٣٢–١٧٩٩م)، الذي حاول أن يعيد للملهاة ضحكاتها الخالصة التي تنبعث من قلوبٍ خليَّةٍ مرحة كما كانت عند موليير، وذلك بملهاتَيه الساخرتَين الرائعتَين «حلاق إشبيلية»٧٧ و«زواج فيجارو».٧٨

وذكر «الملهاة الباكية» التي تمزج بين عنصرَي المأساة والملهاة معًا يؤدي بنا إلى الحديث عن «المأساة البورجوازية» أو «الدراما» كما أطلق عليها، وهي ضرب من المسرحية ظهر في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، فلعلك تذكر أن أصحاب المذهب الاتباعي لم يجيزوا قط أن تختلط ألوان الأدب بعضها ببعض، فلا يجوز لمأساة أن تقبل عنصرًا من عناصر الملهاة. والمأساة عندهم شرطها أن تكون أرستقراطية في موضوعها، فتعالج مصرعًا لعظيم، وتعرض أشخاصًا فوق المستوى المألوف من عباد الله، وأما الملهاة فشرطها عندهم أن تعالج مضحكاتٍ مأخوذة من حياة الطبقة الوسطى أو الطبقة الدنيا، وكان طبيعيًّا في عصرٍ أخذت روح الديمقراطية تظهر فيه وتزداد أن يثور الأدباء على هذه الأوضاع الأدبية التي تفرق بين الطبقات، وقد رأينا بداية هذه الثورة في «الملهاة الباكية»، حين حاولت أن تطمس الفوارق بين المأساة والملهاة، ثم أخذ رجال الأدب يتساءلون: فيمَ هذه التفرقة؟ لماذا لا تتخذ حياة الطبقة المتوسطة إلا موضوعًا للهو والفكاهة؟ لماذا لا تكون كوارث هذه الطبقة من الناس مصدرًا للأسى لا يقل في فجيعته عما تحدثه كوارث عظماء التاريخ القديم وأشخاص الأساطير؟ لا بد إذن من أن يُفْسح في مجال المأساة ليتسع «للمأساة الشعبية» إلى جانب «المأساة الحماسية» المألوفة، ولئن أعوز هذه المأساة الشعبية ما في زميلتها «الحماسية» من أبهةٍ وجلال، فسيعوض عن هذا النقص قربها من الحق الواقع وعمق أثرها في تقويم الأخلاق.

كان هذا — كما ذكرنا — نتيجةً لازمة للتطور السياسي في القرن الثامن عشر الذي كان يسير نحو الديمقراطية، ونحو ثورة الشعب على التفاوت القائم، بخطواتٍ سراع، لكنه كان كذلك نتيجةً مباشرة لرواياتٍ انتقلت من الأدب الإنجليزي إلى فرنسا، فقد ترجمت رواية «لِلُو» «تاجر لندن، أو تاريخ جورج بارنُوِل»،٧٩ ورواية «المقامر»٨٠ لإدوردمور، ولم تكد هاتان الروايتان تنقلان إلى الفرنسية حتى امتدحهما النقاد وقلَّدهما الكتَّاب، وتحمس لهما الشعب، وأصبحتا نموذجًا يحتذيه كل من أراد السير على المنهاج الجديد، وما هذا المنهاج الجديد سوى «المأساة البورجوازية» (وقد تسمى «الدراما» فقط) التي تستمد عناصر المأساة من الحياة المنزلية المألوفة عند أوساط الناس، والتي تتوخَّى الصدق في الوصف والتصوير.
وأعظم رجال «المأساة البورجوازية» — إذا قيست العظمة بعمق الأثر — هو «ديدرو» في مأساتَيه النثريتَين «الابن الطبيعي»٨١ و«رب الأسرة»،٨٢ ولو أنه لم يوفق في تأليفهما، وكان «سِيدِنْ»٨٣ (١٧١٩–١٧٩٧م) أقرب منه إلى التوفيق في رواية «فيلسوف وهو لا يدري»،٨٤ ويعد «سيدنْ» طليعة القرن التاسع عشر في هذا اللون من الأدب المسرحي.

(٤) القصة

كثيرًا ما يتشابه مجرى الأمور في الأمم المختلفة، ففي إنجلترا في القرن الثامن عشر، أخرج الكاتب المسرحي «لِلُو» — الذي سلف ذكره في الكلمة الماضية — روايته «التاجر اللندني» محاولًا بها أن يضع أساسًا لنوعٍ جديدٍ من المأساة يُعالج شئون الطبقة الوسطى في حياتهم الخاصة، وأخرج الكاتب القصصي «رتشردسُنْ» قصة «باملا» يقصد بها إلى الغاية نفسها، فجاء المجهودان في وقتٍ واحد، يشدُّ أحدهما أزر أخيه، وكذلك حدث في فرنسا أن اتجهت جهود الأدباء نحو تحويل المسرحية والقصة في هذا الاتجاه الجديد في آنٍ معًا، فالمسرحية الجديدة والقصة الجديدة كلتاهما أريد بها أن تصور الحياة الجارية لسواد الناس، وكانت كلتاهما نتيجة لتطور الحركة الديمقراطية واتساعها.

(٤-١) لي ساج Le Sage (١٦٦٨–١٧٤٧م)

هو أول من يصادفك بين رجال القصة من الفرنسيين، درس القانون، والتحق بسلك القضاء، لكنه هجر القضاء لينصرف إلى الأدب، ولبث حتى نهاية حياته معتمدًا في عيشه على قلمه، وقصته التي خلدته هي «جيل بلاس»،٨٥ وبطلها طالب فرنسي شاب يدعى «أوفيدو»،٨٦ قصد إلى جامعة «سالامانكا» ليتمم دراسته، وبينما هو في طريقه أطبق عليه اللصوص، لكنه استطاع أن يلوذ بالفرار وتقلَّبت به الحياة؛ فهو آنًا يخدم الكنيسة، وآنًا يعاون طبيبًا، وطورًا يتصل بالمسرح، وبعد أن دارت به عجلة الحظ صعودًا وهبوطًا، عرفه رئيس الوزراء فوثق به وجعله كاتمًا لسره؛ وجمع ثروة عريضة وسلطانًا قويًّا. لكن عجلة الحظ عادت فهبطت به من جديد وطوَّحته أسفل سافلين، ثم صعدت به مرةً أخرى، واستعاد سابق مجده إذ عيَّنه أحد الأشراف كاتمًا لسره، وانتهى به الأمر أن تزوج للمرة الثانية، وأوى إلى قصره، حيث قضى بقية عمره في هدوءٍ وسعادة … وحوادث الرواية — كما ترى — مفكَّكة لا حبكة فيها ولا وحدة ولا منطق يضبط تتابعها، فالمغامرات يعقب بعضًا بعضًا كما اتفق، بغير خطةٍ مرسومةٍ مدبرة، وكثيرًا ما يستطرد الكاتب في قصص فرعية لا تربطها بمجرى الحوادث الرئيسي رابطةٌ قوية، وإن شئت فقل إن «جيل بلاس» مجموعة من القصص سيقت واحدة تتبع واحدة، دون أن تتصل هذه الخرزات بخيطٍ واحدٍ لتصبح عقدًا موصولًا، لكن انتقال البطل في أوساطٍ مختلفة، بحيث يخالط أدناها ويعاشر أرقاها، هيأ للكاتب فرصة نادرة ليُصوِّر أخلاق عصره على اختلاف ألوانها، وساعد الكاتبَ على حسن التصوير دقة ملاحظته التي لم تفلت منها دقيقة ولا جليلة من شئون الحياة في كافة ضروبها، وكذلك براعته في تحليل الأشخاص، حتى ليضرب ببعض أشخاص قصته المثل في جودة التحليل والعرض — مثل شخصية الدكتور سانجرادو٨٧ — والتحليل عند «لي ساج» لا يتميز بالعمق، ولكنه يتصف بالصدق ومطابقة الواقع، وهو في قصته ساخر يهزأ بالتحليل الخلقي الذي أصاب عصره الذي يصوره، لكنها سخريةٌ عفيفة لم تزلَّ مرة في هجر القول وفحشه، حتى لقد نقده تلميذه «سمولِتْ» — القصصي الإنجليزي الذي سنروي لك نبأه في الفصل القادم — بقوله إنه كان أرفق مما ينبغي بحماقات الإنسان وسيئاته.

•••

ونذكر من أصحاب القصة في ذلك العصر أيضًا «ماريفو» الذي أسلفناه كاتبًا مسرحيًّا مجدِّدًا في فن الملهاة، وقصته المشهورتان — وكلتاهما ناقصتان — هما «حياة ماريان»٨٨ و«الفلاح المُحْدَث»،٨٩ أما الأولى فمذكرات على لسانٍ نبيلةٍ تسجل فيها تاريخ حياتها من طفولتها حتى يومها الراهن، وأما الثانية فقصة فلاحٍ شابٍّ يدعى «يعقوب» يهجر قريته في سن الثامنة عشرة ليلتمس الثراء في باريس. وهاتان القصتان شبيهتان بقصة «جيل بلاس» في تفكك الأجزاء وتتابع المغامرات وتلاحق صور الحياة المختلفة الألوان والوجوه، لكن «ماريفو» أقرب إلى تصوير الواقع من «لي ساج»، فبدل أن يقصَّ الحوادث في جو إسباني، ويخلع على أشخاصه ثيابًا إسبانية وأسماء إسبانية ليخفي وراءها رجاله ونساءه من الفرنسيين، كما فعل «لي ساج»، ترى «ماريفو» يحدثك عن رجال فرنسيين ونساءٍ فرنسياتٍ في غير تنكرٍ ولا إخفاء، ويعرض لك أشخاصه في جو فرنسي خالص، وكذلك كان «ماريفو» أحرص من زميله «لي ساج» على تسجيل دقائق الحياة كما تقع، ثم إنه عنى بالتحليل النفسي لأشخاصه، فكانت هذه الأداة عند وسيلة اجتذاب القارئ، وهي تقابل عنصر السخرية والفكاهة عند «لي ساج».
وأخيرًا نذكر من كتَّاب القصة «بريفو»٩٠ (١٦٩٧–١٧٦٣م) الذي بدأ حياته جنديًّا، ثم ترك الجيش لينخرط في جماعةٍ دينيةٍ وأصبح قسيسًا، ولكن نفسه القلقة لم تطمئن إلى حياة الدير، ففر إلى هولنده، ثم ألقى عصا تسياره في إنجلترا، حيث أقام حينًا عاد بعده إلى بلاده.
كتب «بريفو» أكثر من مائة كتاب، بينها قصصٌ ثلاث: «مذكرات ومغامرات رجل ذي شأن»،٩١ وتقع في ثمانية أجزاء، و«الفيلسوف الإنجليزي أو تاريخ مسيو كليفلاند»،٩٢ وتقع كذلك في ثمانية أجزاء، و«أسقف كيلرين»،٩٣ وتقع في ستة أجزاء، وكان مما عمله «بريفو» أن ترجم «رتشردسُن» — القصصي الإنجليزي — وهنا كثيرًا ما يخطئ المؤرخون، فيزعمون أن القصَّاص الفرنسي تأثَّر خطوَ زمليه الإنجليزي بما ترجمه له، فينبغي أن نذكر أن «بريفو» سبق بكتابة قصصه ترجمته لرتشردسن، فهو إذن لا يدين له فيها بشيء، ولم يبق لنا من هذا الإنتاج الضخم إلا شذراتٌ قليلة تكفي وحدها أن تضع الكاتب في مكانةٍ ممتازةٍ بين رجال القصة في الأدب الفرنسي، ولنذكر من هذه الشذرات بصفةٍ خاصة «تاريخ مانون ليسْكُو»٩٤ — وهو في الأصل شطر من الجزء السابع من قصة «مذكرات رجل ذي شأن» — فهذا الجزء يكوِّن قصةً قصيرة هي بحق أول قصة — في موضوعها وصبغتها — تلمح فيها شبهًا بما نسميه اليوم بالقصة، فحكاية الحب فيها تثير عطف القارئ ومشاعره، والحوافز التي تدفع أشخاصها إلى النشاط والعمل طبيعية، تصور الواقع أتمَّ تصوير، وأسلوبها سلسٌ مستقيم، لا يشوبه الإسراف في الصنعة والتكلف. وها قد انقضى على الإنسان قرنان من الزمان يمارس فيهما كتابة القصة منذ «بريفو» ولا تزال «مانون ليسْكُو» تهزُّ قلب القارئ وتحرك مشاعره.
١  Considérations sur les Causes de la Grandeur des Romains et de leur Décadence.
٢  Gibbon The Decline and Fall of The Roman: Empire.
٣  Esprit des Lois.
٤  Lettres Persanes.
٥  Rica, usbek.
٦  François marie Arouet.
٧  Henriade.
٨  Œdipe.
٩  Lettres les Anglais أو Lettres Philosophiques.
١٠  Mme du Châtelet.
١١  Histoire de Charles XII.
١٢  Le Monde Comme il va.
١٣  Zadig.
١٤  Micromégas.
١٥  Siècle de Louis XIV.
١٦  Le Désastre de Lisbonne.
١٧  La Loi naturelle.
١٨  Essai sur les Mœurs.
١٩  Tancrède.
٢٠  Candide.
٢١  Commentaire sur Corneille.
٢٢  Histoire de la Russie Sous Pierre le Grand.
٢٣  Histoire du Parlement de Paris.
٢٤  Traité sur la Tolérance.
٢٥  Dictionnaire Philosophique.
٢٦  Pensées Philosophiques.
٢٧  Richardson ترجم ديدرو رواية رتشردسن المشهورة «كلاريسا» الفرنسية لينشر فنه القصصي في فرنسا.
٢٨  Lillo.
٢٩  Moore.
٣٠  Sterne.
٣١  Paradoxe sur le Comèdien.
٣٢  Le Neveu de Rameau.
٣٣  La Religieuse.
٣٤  Jacque le Fatalisté et son Maître.
٣٥  Confignon.
٣٦  Annecy.
٣٧  Mme de Warens.
٣٨  Narcisse.
٣٩  Discours sur l’Origine et les Fondements de l’inégalité Parmi les Hommes.
٤٠  Julie.
٤١  Le Contrat Social.
٤٢  Emile.
٤٣  Discours sur l’Homme.
٤٤  Le Pauvre Diable.
٤٥  Jean Baptiste Rousseau.
٤٦  Louis Racine (١٨٩٢–١٦٦٣م).
٤٧  La Religion.
٤٨  Gilbert.
٤٩  mon Apologie.
٥٠  Saint-Lambert (١٧١٦–١٨٠٣م).
٥١  Roucher.
٥٢  Jacques Delille.
٥٣  Gresset.
٥٤  Florian.
٥٥  André Chénier.
٥٦  Élégies.
٥٧  Bucoliques.
٥٨  L’Aveugle.
٥٩  Le Mendiant.
٦٠  Crébillon.
٦١  Atrée et Thyeste.
٦٢  Électre.
٦٣  Rhadamiste et Zénobie.
٦٤  Iréne.
٦٥  Zaïre.
٦٦  Mérope.
٦٧  Turcaret.
٦٨  Le Sage.
٦٩  Gil Blas.
٧٠  marivaux.
٧١  Le Jeu de L’Amour et du Hazard.
٧٢  Les Fausses Confidences.
٧٣  Les Sincères.
٧٤  L’Epreuve.
٧٥  Comédie Larmoyante.
٧٦  Beaumarchais.
٧٧  Le Barbier de Seville.
٧٨  Le Mariage de Figaro.
٧٩  London merchant or the History of George Brnwell, by Lillo.
٨٠  The Gawester, by Edward moore.
٨١  Le Fils Naturel.
٨٢  Le Père de Famille.
٨٣  Sedaine.
٨٤  Pbilosople sans le savoir.
٨٥  Gil Blas.
٨٦  Oviedo.
٨٧  Dr. Sangrado.
٨٨  La Vie de Marianne.
٨٩  La Paysan Parvenu.
٩٠  Prévost.
٩١  Memoires et Aventures d’un Homme de Qualité.
٩٢  Le Philosophe Anglais, or Histoire de M. Cléveland.
٩٣  Le Doyen de Killerine.
٩٤  Histoire de manon Lescaut.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤