مدينة الجريمة والعقاب

من نافذة الحجرة التي كان عملاق الرواية الروسية دستويفسكي Fyodor Dostoevsky يُسطِّر فيها رائعته «الأخوة كرامازوف»، كان يُطِلُّ على المناظر المألوفة له آنذاك في مدينة سان بطرسبرج، التي قضى فيها ثلاثين عامًا من حياته وكتب فيها جُلَّ رواياته، ومن ثَمَّ ارتبطت به وبكتبه أكثر من ارتباطه بموسكو التي ولد فيها عام ١٨٢١. ورغم أن تلك المدينة تَزخَر بالآثار الباقية لكثيرٍ من الأدباء والفنانين الروس، ومنهم بوشكين وجوجول وألكساندر بلوك وأخماتوفا، فإنها لا تُذكر إلا مقترنة باسم الأديب الكبير الذي برع في تصوير النفس الإنسانية من خلال شخصياته الحيَّة التي عاشت في أحياء سان بطرسبرج.

ورَغم أن الكثير من معالم المدينة قد تغيَّر منذ أيام دستويفسكي، فهي تحمل الآن نفس الاسم الذي عرفها به الروائي العظيم؛ إذ عاد إليها مع الانقلاب الجذرِي الذي طرأ على الاتحاد السوفيتي في الآونة الحديثة، بعد أن كان اسم المدينة قد أصبح لينينجراد في عام ١٩٢٤م، وارتبط هذا الاسم الأخير بنضال المدينة البطولي ضد القوات النازية في الحرب العالمية الثانية، ومع سقوط الاتحاد السوفييتي وعودة اسم سان بطرسبرج إلى المدينة، تغيَّرت أيضًا المناظر التي يمكن رؤيتها من نافذة الحجرة التي كان يكتب فيها مؤلفنا، فلو أنه كان يُطِلُّ الآن من حجرته لرأى البوتيكات الحديثة تبيع البضائع الأمريكية من أحدث طِراز، وفروع الشركات عبر الوطنية تعلن عن نُفسها بأنوار النيون الباهرة، ولَوجَد مَن حوله كل ما كان يحاربه من الأشياء الغربية البحتة التي تفتَئِتُ على الشخصية الروسية التي كان يدافع عنها.

ورغم أن طبعة من المؤلفات الكاملة لدستويفسكي قد صدرت في الاتحاد السوفييتي في أوائل العشرينيات، فإن المسئولين العقائديين هاجموه باعتباره «رجعيًّا ومثبِّطًا للعزائم وعدوًّا فكريًّا للنظام الجديد»، ووجدوا في رواياته نزعة دينية صوفية لا تتفق مع التعاليم الجديدة، وعلى ذلك كانت كتبه تكاد تكون مُحرَّمة، وأصبح من العسير العثور عليها في بلاده. واستمرَّ الحال على ذلك حتى عام ١٩٥٦م، بعد أن تغيَّرت الأوضاع على يد خروشوف، وعندها تمَّ إخراج طبعات جديدة من كتبه، وأُعيد له اعتباره بوصفه كاتب الشعب الذي نفَذ إلى أغوار النفس الإنسانية ليقدِّمها في صور ضعفها وبؤسها وشقائها، وتكلَّل هذا التقدير الوطني عام ١٩٧١م باختيار الدولة لآخر بيت أقام فيه الكاتب لتحويله إلى متحف دستويفسكي.

ومتحف دستويفسكي يقع في شارع «كونزنشني» في قلب سان بطرسبرج، ويتكوَّن من ثلاثة طوابق. وقد خُصِّص جانبٌ منه للَّوحات الزيتية التي أثَّرت على الكاتب وعلى أفراد جيله، وأهمُّها لوحاتٌ عن الثورة الفرنسية، ويضمُّ المتحف مخطوطات رواياته، وعليها ملاحظاتٌ بخط الكاتب، والكتب التي كان يقرأها وتأثَّر بها، ومنها مؤلفات شكسبير وبلزاك وفكتور هوجو وجوته وشيللر. كما يضمُّ المكتب الذي سطَّر عليه مؤلفاته الخالدة، ونسخة الكتاب المُقدَّس التي احتفظ بها منذ أيام منفاه. وتُنظِّم إدارة المتحف جولة للزوَّار يتعرَّفون فيها على أهمِّ معالم المدينة التي ارتبطت بالكاتب ومؤلفاته وشخصياته ورواياته، وهي تبدأ في المتحف، وتمرُّ بالأماكن التي جرت فيها أحداث رواية «الجريمة والعقاب»، وتمرُّ على بعض البيوت التي أقام فيها الكاتب، ثم تنتهي إلى زيارة قبره الواقع في دير ألكساندر نفسكي المجاور للمتحف.

وقد وُلد فيودور دستويفسكي في ٣٠ أكتوبر ١٨٢١م في موسكو في أسرة ميسورة الحال، وإن كانت بائسة نتيجة لعصبيَّة الأب وإدمانه الشراب، مما انتهى إلى موته مقتولًا بيد فلاحي أرضه.

عاش كاتبنا طفولة تعِسة في كنف هذا الأب، الذي استلهمه بعد ذلك في صورة الأب كرامازوف في روايته الخالدة، وبعد وفاة والدته وهو في سن السادسة عشرة، يرحل إلى سان بطرسبرج ليلتحق هناك بمدرسة الهندسة العسكرية، وهناك يُصاب بأُولى نوبات الصرَع عندما يبلغه نبأ مقتل أبيه، وبعد تخرُّجه من المدرسة، يعمل ضابطًا مدة من الزمن إلى أن يستقيل من وظيفته لعدم رغبته في ترك العاصمة والانتقال إلى الأقاليم، ويتفرَّغ للكتابة والترجمة، وكان يعمل في وقت واحد في كتابة أول مؤلفاته وفي ترجمة بعض كتب بلزاك إلى الروسية كي يفي بنفقات معيشته في بطرسبرج، وقد لاقت أولى رواياته «أناس مساكين» قَبولًا لدى الناقد الكبير نكراسوف، مما مكَّنه من نشرها عام ١٨٤٦م، فصادفت نجاحًا كبيرًا، وفتحت الطريق أمام مؤلفها للدخول إلى مصافِّ الأدباء في عصره، وبدأ بعدها يرتاد أوساط المثقفين والمفكِّرين، حيث اشتهر بحِدة طباعة التي ورثها عن والده، وإغراقه في الشراب ولعب القمار اللذَين أدَّيَا إلى اضطراب أحواله المادية وتراكُم الديون عليه.

وكان بطرس الأكبر قد أسَّس سان بطرسبرج عام ١٧٠٣م، وجلب لها المعماريين الفرنسيين والإيطاليين؛ ليُشيِّدوها على نمط الحواضر العظمى، ثم جعلها عاصمة روسيا بدلا من موسكو، وظلَّت العاصمة حتى عام ١٩١٨م بعد قيام الثورة الشيوعية، وتطوَّرت المدينة حتى أصبحت مركزًا دوليًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا، ولذلك كان من الطبيعي أن تصل إليها تيارات الحرية والديمقراطية عن طريق كتب دعاة التنوير الفرنسيين، ولمَّا اعتلَى القيصر نيقولا الأول العرش، أخذ يعمل جاهدًا للقضاء على هذه التيارات التي كانت تحاول القضاء على الظلم الاجتماعي والسياسي في البلاد، وكان من أبرز السبل في موجة القمع القيصري اضطهاد أرباب القلم والفكر ومراقبتهم ومطاردتهم، وكانت هذه هي الدوَّامة الفكرية والسياسية التي وجد دستويفسكي نفسه محاطًا بها حين دلَفَ إلى مجتمع سان بطرسبرج.

وفي هذه الحياة الجديدة في العاصمة، ارتبط ببعض الشبَّان ذوي الميول الثورية، ممن كانوا يدعون إلى ضرورة التغيير وينتقدون الحكم المطلق والظلم الاجتماعي، وينادون بالآراء الاشتراكية التي تعلَّموها من كتابات روبرت أوين وفورييه وبرودون، وتمَّ القبض على أفراد هذه الجماعة ومنهم دستويفسكي، وطلب القيصر من أعوانه أن يجعلوا منهم عبرة لمن تُسوِّل له نفسه الخروج عليه، وكانت النتيجة هي تلك التمثيلية المشهورة التي اقتِيد فيها أفراد الجماعة لإعدامهم رميًا بالرصاص، ويتمُّ عَصبُ أعينهم، ويصدر الأمر بإطلاق النار، حين يتقدَّم رسول القيصر ويعلن إلغاء الإعدام والاستعاضة عنه بالسجن والنفي إلى سيبيريا.

ثم كانت فترة السجن الرهيبة التي سجل الكاتب انطباعاته عنها في كتابه «بيت الموتى»، حيث زادت ظروف سجنه من حدة نوبات الصرع التي تصيبه، وفي فترة المنفى التي تَلَت السجن يعقد صداقات مع الضباط والموظفين في تلك الأصقاع النائية، وتُثمر تلك الصِّلات زواجه من أرملة أحد الضباط من أصدقائه، وقد حمَله العذاب الذي تعرَّض له طوال تلك السنين على التحول للدين، كما كان له أثرٌ كبيرٌ في رواياته يظهر في عطفه الشامل على كل بني البشر.

ويُعد اعتلاء القيصر الجديد إسكندر الثاني سُدَّة العرش، يتمُّ العفو عن دستويفسكي ويُسمح له أخيرًا بالعودة إلى مدينته بطرسبرج في ١٨٥٩م. ويستأنف الكاتب مرحلته الثانية كأديب، فيُصدر هو وأخوه ميخائيل مجلَّة سمَّياها «الزمن» لتُعبِّر عن الآراء الوطنية المعتدلة؛ ونُشرت فيها مقالاتٌ لكبار الكتَّاب إلى جانب القصص التي يُقبل عليها جمهور القرَّاء، وقد نشر فيها دستويفسكي رواياته «بيت الموتى» و«مهانون مجروحون» في ١٨٦٢م، ثم «مذكرات من العالم السفلي» في ١٨٦٤م.

وفي عام ١٨٦٤م تُتوفَّى زوجته، ثم يلحق بها أخوه الحبيب ميخائيل، فيُمثِّل ذلك ضربة قاصمة تملأ نفسَه بالتشاؤم والكآبة التي ستنعكس في أعماله التالية. وتزيد الأعباء العائلية التي تحمَّلها عن أخيه من حاجته الماسَّة للنقود، فيتَّفِق على إنجاز رواية جديدة في زمنٍ قصير، ويعمد إلى استخدام سكرتيرة يُملي عليها ما يريد كتابته، وهي «أنَّا سنتكينا» التي أصبحت زوجته فيما بعد، وكان الكتاب هو «المقامرة». وبعد زواجه من سكرتيرته، يرحلان معًا إلى بعض الدول الأوروبية للاستشفاء، غير أن وَلَعَ دستويفسكي بالمقامرة يفسد عليهما متعة الترحال. وقد أوحت إليه إحدى نوبات الغضب من حاجته للمال بفكرةِ أخلدِ رواياته: «الجريمة والعقاب»، التي كتبها بعد عودته إلى بطرسبرج. ورواية الجريمة والعقاب هي صورةٌ فذَّةٌ للخطيئة والندم والتكفير عن طريق التضحية، وقد تُرجمت هذه الرواية إلى كل اللغات تقريبًا، وصُوِّرت في أفلام كثيرٍ من البلدان ومنها مصر.

وفي الجولة التي يُنظِّمها متحف دستويفسكي، يطوف الزوَّار بالأماكن التي وصفها المؤلف في تلك الرواية؛ فيرون الشقة التي كان يقطنها المؤلف في أثناء كتابته للرواية، وهي أشبه بالزنزانة منها بالشقة، وتقع في حي سوق الأغذية الموصوفة في الكتاب والتي تسمى «معدة» سان بطرسبرج. ويقطع الزوَّار الطريق الذي قطعه بطل الرواية «راسكولنكوف» من منزله إلى منزل المُرابِية العجوز التي قتلها لسرقة أموالها، ثم يَعبُرون الجسر الذي وقف عليه نفس البطل بعد ذلك حين كان يفكِّر في الانتحار.

ورغم النجاح الكبير للرواية، فإنها لم تكفِ لسدِّ حاجته إلى النقود، مما يضطرُّه إلى الرحيل مرة أخرى إلى الخارج هربًا من الدائنين، وكانت هجرةٌ دامت خمس سنوات، وفي تنقُّله مع زوجته بين مدن ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، يُتمُّ روايتين عظيمتين أُخريين: «الأبله» و«الشياطين»، وقد أثارت الرواية الثانية ضجَّة كبيرة لميولها السياسية المحافظة، وللهجوم المُقنَّع الذي شنَّه دستويفسكي فيها على الكاتب الشهير تورجنيف ممثَّلًا في إحدى شخصيات الرواية. وبعد العودة إلى سان بطرسبرج، تضطرُّ الزوجة إلى أن تتولَّى الأمور المالية بنفسها بعد أن بلغت الديون عليهما حدًّا هائلًا. وتثبت «أنَّا» أنها ماهرةٌ في الأمور المالية مهارتها في أعمال السكرتارية التي تقوم بها لزوجها، فتعهَّدت الاتفاق مع الناشرين وأصحاب المطابع، الذين وجدوا فيها امرأة حكيمة تراعي مصالح الكاتب الكبير، ولم تلبث حياتهما أن عرفت نوعًا من الاستقرار، تمكَّن معه دستويفسكي من العمل في هدوءٍ في رواياته التالية. ويعمل في نفس الوقت على الوصول إلى الجماهير العريضة عن طريق كتابة المقالات في صحيفة «جرازدنين» الأسبوعية والتي أصبح رئيسًا لتحريرها، فينشر فيها مقالاته الشهيرة تحت اسم «مذكرات مؤلف» التي جُمعت بعد ذلك في مجلدين كبيرين.

وتصدُر له رواية «الشباب الغض» (١٨٧٥م) التي تُصوِّر تدهوُر العلاقات الأسرية وعجز العلم عن الوفاء بالحاجة الأساسية للبشر، وهي إيجاد هدفٍ للحياة فيما وراء الكفاح من أجل البقاء. وكانت هذه كلها موضوعات روايته الأخيرة العظيمة «الأخوة كرامازوف» التي كتبها في عامَي ١٨٧٩ و١٨٨٠م، والتي ضمَّنها الكثير من فحوى المناقشات التي كان يُجريها في أمور الفلسفة والدين مع أصدقائه من المفكِّرين والأدباء.

ورغم أن الكاتب الكبير قد وضع بعد نشر تلك الرواية برنامجًا لمؤلَّفات جديدة يكتبها عبر عشر سنوات، فإن القدر لم يُمهِله لإتمام أيٍّ منها، إذ فاجأه نزيفٌ رِئويٌّ قضى عليه في ٢٨ يناير١٨٨١م، وقد وضعت إدارة متحف دستويفسكي في قاعة مكتبه ساعة حائط متوقِّفة عند اللحظة التي تُوفي فيها: الساعة ٨ والدقيقة ٣٨ مساءً.

ودستويفسكي عملاقٌ من عمالقة الرواية، تتميَّز كتبه بالتحليل النفسي العميق وبالقدرة الخارقة على التعبير عن الحب لكل البشر والعطف عليهم مهما بلغوا من الشرور.

وقد تأثَّر به كل الروائيين من بعده، ومن بينهم أستاذ الرواية العربية نجيب محفوظ الذي وضعه دائمًا من بين مَن تأثَّر بهم في حياته الأدبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤