العالم يحتفل بكاتب كاسترو المفضل

في عام ١٩٧٧م، سأل أحد الصحفيين فيدل كاسترو زعيم الثورة الكوبية عن كاتبه المفضل، وكان ردُّ كاسترو أنه إرنست همنجواي Ernest Hemingway.

ولمَّا كان كاسترو معروفًا بدِقَّة كلامه، وأنه من النوع الذي لا يُلقي الكلام على عَواهِنه، فقد أثار ردُّه هذا دهشة الجميع؛ لأنه جاء في وقتٍ كان العداء مستعِرًا فيه بين كوبا وأمريكا. ولكن هذا الرد يُبيِّن أيضًا النظرة التي يرى بها الكوبيون هذا الكاتب الأمريكي الشهير حين يقولون عنه: إنه واحدٌ منا. ذلك أن همنجواي قد اتخذ كوبا موطنًا ثانيًا له، واستقرَّ فيها لمدة ٢٢ عامًا متصلة، وأقام في ضَيعته الواسعة التي أسماها «الضيعة الخارجية» بقرية سان فرانسيسكو دي باولا، على مَبعَدة عدة أميالٍ من العاصمة هافانا. وقد تأكَّد كلام كاسترو عن همنجواي حين ذكر مساعدو القائد الكوبي أنه يحرص دائمًا على اصطحاب أحد كتب همنجواي معه في سفراته، جنبًا إلى جنبٍ مع التقارير والمذكرات الحكومية! كذلك كان كاسترو هو الذي قرَّر تحويل منزل همنجواي في هافانا إلى متحف، وذلك بعد شهورٍ قليلة من وفاة الكاتب عام ١٩٦١م.

بَيد أن أول بيتٍ اقتناه همنجواي في أمريكا كان في بلدة «كي وست» جنوبي ولاية فلوريدا. وقد سارعت الأوساط الأدبية إلى تحويل ذلك المنزل إلى متحفٍ آخر للكاتب، تُنافس به متحف كوبا. وقد اشترى همنجواي منزل كي وست بعد قليلٍ من اختياره تلك البقعة عام ١٩٢٧م كي يقيم فيها مع زوجته الثانية «بولين فايفر» التي تزوجها في نفس ذلك العام. وكان اسم همنجواي قد ثبت في عالم الأدب بصدور روايته «وتشرث الشمس أيضًا» عن حياته في باريس ومدريد، والجيل الضائع من المغتربين الأمريكيين في أوروبا، وتجاربه هناك مع زوجته الأولى «هادلي». وكان همنجواي عند زواجه الثاني يبحث عن مكان مناسب يساعده على إتمام روايته التي اختمرت في ذهنه عن الحرب العالمية الأولى، والتي صدرت بعد ذلك بعنوان «وداعًا للسلاح». وقد دلَّه صديقه الروائي «دوس باسوس» على كي وست، فأعجبته واستقرَّ فيها. وكانت كي وست آنذاك مكانًا هادئًا يعيش فيه حوالي عشرة آلاف نَسَمة من السكان، يعمل معظمهم في صيد الأسماك وتهريب الخمور من كوبا، في زمن «التحريم»، وهو الاصطلاح الذي يُطلق على الفترة التي حرَّمت فيها أمريكا المشروبات الروحية، ما بين عامي ١٩١٩ و١٩٣٣م. ولكن الكساد الاقتصادي الرهيب الذي ضرب البلاد منذ ١٩٢٩م واستمرَّ إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية كان له أثرٌ جذريٌّ في كي وست، إذ نقلت اقتصادها إلى صناعة أخرى هي السياحة. ولمَّا كان همنجواي قد نال شهرة كبيرة بعد قصصه وروايته الأولى، فقد أدرجت شركات السياحة بيته في عِداد المواقع السياحية الجديرة بالزيارة؛ فكان الكاتب يُفاجَأ بالناس يدخلون عليه الصالون دون إخطار، مما هدَّد هدوءه وأفسد عليه جمال المكان، واضطرَّه آخر الأمر إلى بناء سور عالٍ حول المنزل ما يزال يراه السياح إلى الآن. وهم يرون أيضًا سلالات القطط التي كان يُربِّيها الكاتب في هذا المنزل، وكان يُطلق عليها أسماء نجوم السينما مثل: آفا جاردنر ومارلين مونرو وإيرول فلين. وقد شهد هذا المنزل مولد ابنه الثاني من بولين وهو جريجوري. كما شهد من أحداث حياته رحلته الأولى إلى أفريقيا، التي كان نتاجها كتابين هما «تلال أفريقيا الخضراء» والرواية الشهيرة «ثلوج كليمنجارو»، وقد كتبهما همنجواي على المكتب الذي يشاهده الزوَّار الآن في المتحف. ويُبرِز المرشد للزوَّار أن همنجواي، رغم وجود آلته الكاتبة إلى جواره دائمًا، كان يكتب رواياته بالقلم الرَّصاص، وكان يقيس إنتاجه اليومي بعدد الأقلام التي يستهلكها، والتي كانت تصل إلى سبعة أقلام يوميًّا في المتوسط.

أما الرواية التي خلَّد فيها كي وست باسمها وشخوصها فهي رواية «الغِنى والإملاق»، التي صوَّر فيها حياة بطلها «هنري مورجان»، والتي صبَّ فيها نقمته على ذهاب الهدوء عن كي وست بتحويلها إلى منطقة سياحية، وهو ما أغضب بِدَوره سلطات البلدة منه، ولكنه كان آنذاك على وشك الانتقال إلى منطقة أخرى مع زوجة جديدة. ذلك أن عام ١٩٣٧م قد حمل الكاتب إلى معمعة الحرب الأهلية الإسبانية، وشارك فيها بالتغطية الإعلامية لصالح الجمهوريين، وأعدَّ الفيلم الدِّعائي «الأرض الإسبانية» للدعوة لقضية الجمهورية ضد الفاشية. وقد تعرَّف في أثناء ذلك على «مارتا جلهورن»، التي كانت تُغطِّي أخبار الحرب الإسبانية كذلك، والتي ستصبح زوجته الثالثة. وبعد أن تأكد من عواطفه تجاهها، انفصل عن بولين، وترك منزل كي وست، واختار أن يقيم في كوبا فيما بين رحلاته، إلى أن أقام فيها إقامة ثابتة.

وكانت كوبا أيامها أشبه بالفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، واقعًا وروحًا، إذ إن الأمريكيين كانوا يعتبرونها واحة لهم يلجئون إليها للراحة والاستجمام، ويستثمرون أموالهم فيها. وترجع صلة همنجواي بكوبا منذ إقامته في كي وست، التي كانت لا تبعد عن جزيرة كوبا إلا بمائة مِيل فقط. وقد اعتاد همنجواي منذ ذلك الوقت الصيد في المياه الكوبية، وقضاء إجازاته هناك، خاصة بعد فترات العمل الشاقَّة. وكان يقيم عند نزوله هافانا في فندق «العالَمان»، الذي لا يزال قائمًا حتى الآن.

وبعد طلاق همنجواي من بولين تزوَّج مارتا جلهورن، وقامت الزوجة الجديدة بمَهمة البحث عن مكان مناسب لهما، مستعينة في ذلك بالإعلانات المُبوَّبة، التي هدتها إلى ضَيعة واسعة مساحتها حوالي عشرين فدَّانًا، استأجرتها مبدئيًّا بمبلغ مائة دولارٍ شهريًّا عام ١٩٣٩م، ثم اشتراها همنجواي آخر الأمر بمبلغ ١٨٥٠٠ دولار. وقد تابع فيها الكاتب تأليف روايته عن الحرب الإسبانية «لمن تُقرع الأجراس»، التي بدأها بعد نهاية الحرب التي تابعها عن قرب. وقد استطالت الرواية بين يديه حتى بلغت ٤٣ فصلًا، ونالت نجاحًا هائلًا، واشترتها هوليوود لتصبح فيلمًا عالميًّا بطولة جاري كوبر وإنجريد برجمان. وساعدت مكاسب همنجواي من تلك الرواية في شراء الضَّيعة وفي عمليات إصلاحها وترتيبها لِتُلائِم طريقة حياة الكاتب واستضافة معارفه وأصدقائه العديدين. وقد جلب همنجواي يخته الخاص المسمَّى «بيلار» على اسم شفيعة مدينة سرقسطة الإسبانية، ليُرابِط في تيار الخليج أمام ضَيعته.

ورغم أن زواجه الثالث هذا قد دام خمسة أعوام، إلا إن الزوجين نادرًا ما كانا يجتمعان لمُددٍ طويلة، إذ أن مارتا كانت في رحلات صحفية مستمرَّة، وكانت تُغري زوجها بمصاحبتها، مما خلق بينهما منافسة مِهنية غير محمودة العواقب. وقد كان آخر التغطيات الصحفية لهمنجواي هو هجوم الحلفاء في نورماندي بشمال فرنسا، حيث تقدَّم معهم حتى وصل إلى باريس، حيث قام على حدِّ تعبيره بتحرير فندق الريتز الشهير بميدان فاندوم، واستولى على ما به من تموينٍ وفيرٍ من الطعام والشراب! وقد مَثُل همنجواي بعد الحرب أمام مُحقِّقٍ عسكريٍّ بتهمة تجاوزه حدود العمل الصحفي إلى أعمال القتال، إلا أنه بُرِّئ من التهمة. وقد تعرَّف أثناء الحرب على «ماري ولش» التي كانت تُغطِّي الأنباء لمجلَّتَي تايم ولايف الأمريكيتين. ولكن هذه المرأة التي أصبحت آخر زوجات همنجواي، كانت أحصف من سابقتها؛ إذ أنها اعتزلت العمل الصحفي بعد زواجها وتفرَّغت لرعاية همنجواي.

وقد تزوَّج الكاتب من ماري ولش في ١٩٤٥م، وظلَّا معًا حتى آخر عمره. وعاشت معه ماري في «الضيعة الخارجية» بهافانا، ورافقته في رحلته الثانية الطويلة إلى أفريقيا عام ١٩٥٣م، التي دامت حوالي خمسة شهور. وقد انتهت تلك الرحلة نهاية سيئة، إذ سقطت الطائرة بالزوجين مرَّتين في فترة قصيرة. وكانت الحادثة الثانية خطيرة على صحة الكاتب، وهي التي نسيت في بدء اعتلال صحته الجسمانية والنفسية. وقد طيَّرت وكالات الأنباء خبر وفاة همنجواي حين كانت طائرته مفقودة، مما أتاح للكاتب بعد ذلك التندُّر بالمقالات التي خرجت تنعاه إلى قُرَّائه ومحبِّيه.

وفي هذه الفترة أيضًا كتب همنجواي «عبر النهر وبين الأشجار»، بعد زيارة لإيطاليا، وهي أضعف كتبه، إلا إنه أتبَعَها برائعته «العجوز والبحر» التي نالت جائزة بوليتزر، وتوَّجت أعماله بمنحه جائزة نوبل للآداب عام ١٩٥٤م.

وقد سلَّطت عليه الجائزة المزيدَ من الأضواء؛ فأصبحت حياته مليئة بالأسفار والزيارات والمقابلات التي لا تنتهي، ولكنه استمتع أيضًا باستضافة العديد من أصدقائه في ضَيعته الكوبية، ومنهم آفاجاردنر وسبنسر تريسي ومارلين ديتريش، كما زاره هناك أيضًا سارتر وسيمون دي بوفوار. ولمَّا تسلَّم كاسترو الحكم في كوبا، كان همنجواي يُعَد من أنصاره، حتى أن الكاتب دعاه للتحكيم في مباراة صيد سمك المارلين التي كان يقيمها كل عام، وقد لبَّى كاسترو الدعوة، ولكنه أصرَّ على أن يشارك في المسابقة، لا أن يقتصر على التحكيم فيها. وقد فاز الزعيم الكوبي يومها بالجائزة الأولى، وكانت الفرصة الوحيدة التي تقابَلَ فيها الرجلان والتي سجلتها الصور العالمية. بَيد أن تطوُّرات الموقف بين كوبا وأمريكا حملت همنجواي آخر الأمر على الرحيل عن «ضيعته الخارجية»، وهو ما سبَّبَ له ألمًا نفسيًّا هائلًا، تضافرت معه عوامل أخرى أدَّت إلى سيطرة الوساوس عليه، وأصيب بالبارانويا والاكتئاب الشديد، مما أدَّى به إلى الإقدام على الانتحار في آخر منزلٍ له في «كيتشوم» بولاية إيداهو، حيث يوجد قبره.

وكانت «الضيعة الخارجية» هي أول متحف رسميًّ يُقام لهمنجواي، حين أبدت حكومة الثورة الكوبية بقيادة كاسترو، كما ذكرنا سابقًا، رغبتها في تحويلها إلى متحف عَقِب وفاة الكاتب. وقد نجحت ماري ولش زوجة همنجواي في الذهاب إلى كوبا بإذن خاصٍّ من الرئيسين كيندي وكاسترو، واتفقت مع الحكومة الكوبية على أن تأخذ جميع أوراق ومخطوطات الكاتب، على أن تترك الضيعة كيما تصبح متحفًا. وقد قُدِّر لي أن أزور هذا المتحف عام ١٩٧٩م خلال رحلة إلى هافانا في نطاق عملي في الأمم المتحدة، فكانت فرصة فريدة للتعرُّف على الضيعة الخارجية بكل ما تحويه من آثار الكاتب الكبير. ويتكوَّن المتحف من الفيلا الرئيسية، حيث يُطِلُّ الزائر على غرفها المختلفة دون الدخول إليها، حيث نرى غرفة المعيشة والمكتبة التي تضمُّ رفوفًا من الكتب، والمكتب الذي كتب عليه همنجواي بعض روائعه، وعليه نظارته المستديرة، وقد تُرك كل شيءٍ في الفيلا على حاله حين كان الكاتب وزوجته يقيمان فيها، مما جعل هذا المنزل من المتاحف القليلة التي يشعر فيها الزائر كأن الكاتب ما يزال يقيم فيه، وأنه قد غادر مكتبه وترك نظارته لقضاء أمرٍ ما وسيعود بعد قليلٍ لاستئناف القراءة والكتابة.

وتحتوي غُرَف الفيلا على رءوس حيواناتٍ مُحنَّطة من التي اصطادها همنجواي في رحلتَيه الأفريقيتين، وعلى «بوف» مصري اشترته الزوجة من خان الخليلي خلال زيارة للقاهرة عند مرور باخرتهما بقناة السويس عام ١٩٥٣م. وتضمُّ الضيعة أيضًا البرج السكني الذي أضافته ماري ولش إلى الحديقة كي يخلو فيه زوجها للعمل حين يمتلئ المكان بالضيوف، والذي خُصِّص الطابق الأرضي منه للقطط التي كان همنجواي مُغرمًا بها والتي لم يكن يقِلُّ عددها عن الخمسين في أي وقت. ولا تزال المزرعة التي تحيط بالفيلا تمتلئ بأشجار الفاكهة، خاصَّة المانجو متعدِّدة الأصناف، وتنمو فيها الخضروات كما كانت أيام همنجواي. وكانت ماري ولش مُغرمة بزراعة شُجيرات الورد التي تتناثر في كل مكانٍ بالمزرعة.

وثمَّة مكانان آخران يرتبطان بذكريات همنجواي؛ أولهما بيت والديه في «أوك بارك» بولاية إلينوي، وهو البيت الذي ولد فيه الكاتب، وجرى إعداده كي يُفتح أمام الزوَّار، أما المكان الأخر فهو جناح همنجواي في مكتبة جون كيندي ببوسطن، حيث أهدت ماري ولش كل ما كان لديها من مخطوطات همنجواي وأوراقه ورسائله إلى المكتبة لتكون في متناوَل الباحثين والكتَّاب.

وهمنجواي يحظى بمكانة كبيرة لدى القرَّاء العرب، ومعظم كتبه، إن لم يكن كلها، مترجمٌ إلى العربية، بالإضافة إلى كتبٍ عن حياة الكاتب ودراسة أعماله، وأهمها الدراسة الممتعة التي كتبها كارلوس بيكر. كما أن كتاب «بابا همنجواي» لصديقه هوتشنر، الذي كان أول من أذاع أن موت الكاتب كان انتحارًا وليس عن طريق الخطأ، ظهر بالعربية بعد قليلٍ من صدوره.

وقد قرأ جيلي روايات همنجواي وتأثَّر بطريقته الفريدة في استخدام اللغة السهلة الممتنعة، والتي تقوم — في جملة أمورٍ أخرى كثيرة — على «التواضع في التعبير» والاستغناء عن المُحسِّنات اللفظية والصفات الكثيرة التي تُعطِّل القارئ عن تتبُّع الأحداث.

ويأتي هذا المقال مواكبًا لاحتفال الأوساط الأدبية بمئوية همنجواي التي ستحُلُّ في يوليو القادم،١ والتي سيصدر فيها آخر كتب همنجواي بعنوان «حقيقي من اللمحة الأولى»، وهو نتاج رحلته الأفريقية الثانية، والذي نرجو أن نراه سريعًا في لغتنا العربية.
١  نُشر هذا المقال أول مرة في عام ١٩٩٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤