في عرين الأسد

والأسد الذي نعنيه هنا هو وليام شكسبير William Shakespeare، الذي يعتبره الجميع أعظم شاعرٍ أنجبته البشرية قاطبة، والذي لا تكتمل ثقافة أيِّ إنسانٍ إلا إذا عرَف عنه وقرأ له، ومن المعروف أنه حين يُذكر اسم The Bard أي الشاعر، على إطلاقه، يكون المقصود به هو شكسبير. وقد اعترف أكبر نُقاد أمريكا الأحياء وهو هارولد بلوم بأن الموروث الأدبي الغربي بحاله هو شكسبير، وأن أعماله تتخطَّى حدود الزمان والمكان، وتترك آثارها في كل عصرٍ وفي كل ثقافة، وأنه هو أول من جسَّم اصطلاح التعدُّدية الثقافية على أكمل وجه.

وعلى الرَّغم من قلَّة المعلومات عن حياة شكسبير، إلى الحدِّ الذي تشكَّك معه الكثيرون في وجوده أصلًا، ونسبوا أعماله إلى أدباء آخرين معاصرين له، فإن آثاره الباقية في مسقط رأسه، ستراتفورد — أبون — إيفون، غزيرةٌ ووافيةٌ وتستحقُّ شدَّ الرحال إليها، بل وتَكرار الزيارة مرات ومرات؛ ذلك أن الكثيرين من عشاق الشاعر الدرامي يحرصون على رؤية أماكن معيَّنة في بلدة شكسبير تحت كل الأوقات والظروف الممكنة؛ ليستخرجوا منها ملامح قد تكون قد أثَّرت في شخصيته، أو صورًا خيالية يكون قد استخدمها في شعره ومسرحياته، ولهذا فإن ستراتفورد — أبون — إيفون هي بلا منازع من أهم مناطق الجذب للسياحة الأدبية في العالم.

وتقع البلدية في مقاطعة واركشير، في الشمال الشرقي من لندن، وتشمل الآثارَ التي لا تزال موجودة في المنزل الذي وُلد فيه الشاعر، والمدرسة التي تعلَّم فيها في صباه، ومنزل والدته ماري آردن، ومنزل الشاعر ناش زوج حفيدة شكسبير الذي يضمُّ متحفًا نموذجيًّا للفترة التي عاش فيها شكسبير، ثم كوخ «آن هاثاواي» زوجته، وكنيسة الثالوث المقدَّس حيث يوجد قبره. وقد رتَّب المكتب الإعلامي للبلدة جولة شاملة تضمُّ كل هذه الأماكن بتذكرة واحدة مخفَّضة، تسهيلًا للسائحين والزوَّار الذين يتوافدون على البلدة من كل أنحاء العالم، والذين يبلغ متوسطهم (٢٠٠٠) ألفَي زائرٍ كل يوم.

وقد وُلد وليام شكسبير في ٢٣ أبريل ١٥٦٤م في شارع هنلي بستراتفورد، وأمُّه هي ماري آردن، وكان أبوه جون شكسبير تاجر أصوافٍ وصانع قفَّازات.

التحَق شكسبير بمدرسة ستراتفورد حين بلغ السابعة من عمره، واستمرَّ فيها حتى سن الرابعة عشرة، وكان يقوم بالتدريس فيها أحد خرِّيجي جامعة أكسفورد الشهيرة، وتتركَّز الدراسة في اللغة اللاتينية، وبعض النصوص الإنجليزية، والكتاب المقدس، ولا بُدَّ أن شكسبير قد بدأ دراسته لكتاب بلوتارك عن حياة العظماء في هذه المدرسة، وهو الكتاب الذي استمدَّ منه حبكة بعض مسرحياته، وكتاب «هولنشيد» في التاريخ الذي اعتمد عليه في كثيرٍ منها مثل مكبث وهملت والمسرحيات التاريخية.

وحين كان شكسبير في الثامنة عشرة من عمره تزوَّج آن هاثاواي التي كانت تكبُره بسبع سنوات. وطبقًا للتقاليد السائدة آنذاك، انتقلت الزوجة للإقامة مع زوجها في منزل أسرة الزوج بشارع هنلي، حيث أنجبا ثلاثة أطفال: سوزانا، ثم التوأمين هامنت وجوديث، وهكذا بدا وكأن شاعرنا قد كُتب عليه أن يعيش حياة تقليدية هادئة في بلدته الصغيرة وبين أسرته، ولكن القدَر كان قد خطَّ له غير ذلك، فقد وقعت أحداثٌ غامضة، إما نتيجة مشاكل قانونية، وإما مشاكل زوجية، أرغمت شكسبير على مغادرة البلدة والتوجُّه إلى العاصمة لندن، حيث بدأ حياته كمسرحيٍّ هناك.

وكانت إنجلترا حين وفَد شكسبير إلى لندن تمرُّ بأكثر أوقاتها إثارة وأهمية، بعد أن اكتشفت مؤامرة كاثوليكية للإطاحة بملِكتها البروتستانتية إليزابيث الأولى، وتنصيب ابنة عمِّها ماري ملكة إسكتلندا على العرش بدلًا منها، بمساعدة فيليب الثاني ملك إسبانيا، وبعد إعدام ماري، عمد الملك الإسباني إلى تجهيز حملته البحرية المعروفة باسم «الأرمادا» لتأديب إنجلترا، وكانت البلاد تغلي استعدادًا للحرب آنذاك، وبعد اندحار الإسبان وخروج إنجلترا منتصرة، عمَّت البلاد فترةٌ من الرخاء والازدهار ترعرعت في ظلِّها الآداب والفنون، وأُنتجت من بين ثمارها روائع شكسبير.

وقد عمل شكسبير بعد انتقاله إلى لندن في أعمالٍ مختلفة، أهمُّها كممثِّلٍ مسرحي، ولكن شهرته كمؤلف مسرحي وشاعر طغَت على كل شيءٍ عداها.

ويتَّفق النُّقاد على أن كتاباته بدأت بمسرحية «كوميديا الأخطاء»، وانتهت بمسرحية «هنري الثامن»، وتخلَّلتهما مسرحياته الكبرى مثل: ريتشارد الثالث، وروميو وجولييت، وهاملت، ومكبث، والملك لير. ويبلغ عدد مسرحيات شكسبير ٣٧ مسرحية عدا السونيتات الشهيرة وعددها ١٥٤ سوناتة، ثم ثلاث قصائد طويلة هي «اغتصاب لوكريس»، و«فينوس وأدونيس» و«العنقاء والسلحفاة».

وقد ازدهرت أحوال شكسبير المالية بعد فترة من انتقاله إلى لندن، مما مكَّنه من المشاركة في ملكية مسرح «الجلوب» في لندن، الذي كانت مسرحياته تُقدَّم على خشبته، كما أنه اشترى منزلًا مستقلًّا لأسرته في ستراتفورد أطلق عليه اسم «نيو بليس»، ولم يبقَ منه الآن سوى أساساته، بعد أن أمر أحد موظفي البلدية في منتصف القرن الثامن عشر بهدمه إثرَ مُشادَّة حول الضرائب المستحقَّة على المبنى؛ بَيد أنه لا يزال يوجد بئر المياه الخاصة بالمنزل وشجرة توتٍ عتيقةٌ ضخمةٌ يقال إن شكسبير قد زرع نبتَتَها بنفسه في ذلك المكان.

وبعد الاستقرار المالي والأدبي الذي حقَّقه الشاعر في لندن، عاد إلى ستراتفورد في ١٦١٠م، وتُوفي ١٦١٤م في نفس اليوم الموافق لمولده: ٢٣ أبريل، عن ٥٢ عامًا، ودُفن في كنيسة الثالوث المقدَّس بستراتفورد، ويرى الزوَّار قبر شكسبير في الكنيسة، وعليه السطور التي أعدَّها بنفسه قبل وفاته وهي تقول — كما ترجمها الدكتور لويس عوض: «أيها الصديق الكريم؛ مرضاة ليسوع أحجِم عن نبش الرماد المحتوَى ها هنا، بُورك مَن تجاوز عن هذه الأحجار، واللعنة على من حرَّك رميمي.»

وأهم الآثار في البلدة هو المنزل الذي وُلد فيه شكسبير، وفيه يرى الزائر ما يُفترض أن يكون عليه مهد الشاعر وليدًا، ويشرح المرشد كيف جلبوا إلى البيت من الأثاث والأدوات ما يمثِّل العصر الذي عاش فيه شكسبير، حتى يبدو للرائي، كما كان يوم كان يعيش فيه؛ كما يحتوي البيت على عددٍ من مخطوطات أعمال شكسبير وطبعاتها النادرة يتفحَّصها الزائرون عبر أغطية زجاجية.

وقد مرَّ هذا المنزل بمراحل متعددة بعد وفاة أفراد الأسرة، فقد كان حتى عام ١٨١٣م محلًّا لتأجير العربات والجِياد، مع لوحة صغيرة تشير إلى أن شكسبير قد وُلد في هذا المنزل، وحين انتشرت شائعةٌ بأن ثريًّا أمريكيًّا من المُولَعين بالفنون يعتزم شراء المنزل ونقله إلى أمريكا، سارع الغيورون بالاكتتاب لشراء المبنى وتحويله إلى متحفٍ لشكسبير.

وما بين عامَي ١٨٤٧ و١٩٣٠م، كانت جمعية شكسبير تمتلك كل الآثار الشكسبيرية في البلدة، واكتفى الأمريكان الذين يحاولون وضع بصماتهم أينما استطاعوا، بلوحة في البلدة تُبين المشاهير من أمريكا الذين زاروا ستراتفورد — أبون — إيفون!

ومن معالم البلدة الأخرى تمثال شكسبير الذي يتوسَّط أحد ميادينها، ويرجع تاريخه إلى عام ١٧٦٨م، وقد تبرَّع به آنذاك الممثِّل الكبير دافيد جاريك بعد أن عجزَت البلدة عن جمع المال اللازم لإقامة التمثال، بَيد أن متعة زيارة «عرين الأسد» لا تكتمل إلا بمشاهدة إحدى مسرحياته هناك، في مسرح شكسبير الملكي، وهي تجرِبةٌ فريدةٌ مررتُ بها، ولم يُضارعها إثارةً غير تجرِبة حضور مسرحية روميو وجولييت التي قدَّمَتها فرقة «الأولد فيك» عند سفح الأهرامات المصرية في أوائل الستينيات.

ولشكسبير شهرة كبيرة في اللغة العربية والعالم العربي، وقد قُدِّمَت العديد من مسرحياته على المسرح منذ أوائل القرن العشرين، وصدرت عنه عدة كتب، أشملها كتاب العقَّاد «التعريف بشكسبير»، وكتاب لويس عوض «البحث عن شكسبير»، وهناك ترجمة رائعة للسونيتات لبدر توفيق، وقد تُرجمت معظم مسرحياته إلى العربية، ومن أشهر مترجميه: خليل مطران ولويس عوض ومحمد حمدي وجبرا إبراهيم جبرا ورياض عبود ومصطفى حبيب، وقد توفَّر منذ سنوات عدة الدكتور محمد عناني على إصدار ترجمات جديدة للمسرحيات الكبرى، وهي ترجمات فريدة تجمع بين النثر والشعر، على نحو ما يرِد في النص الأصلي، ومن ثَم فقد جاءت أقربَ ما تكون إلى الأصل في سلاسة وطلاوة لم يجتمعا من قبل في الترجمات السابقة، وكلنا أملٌ أن يُصدر الدكتور عناني المزيد من هذه المسرحيات، ثم تُجمع في مجلد أو مجلدين فتكون مرجعًا للمسرحيات الشكسبيرية بالعربية، كما هو الحال في اللغات الرئيسية الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤