قاهرة نجيب محفوظ

كثيرًا ما يُقال في دوائر الأدب العالمي أنه لو افتُرض أن زالت مدينة دبلن من الوجود، لأمكن إعادتها مرة أخرى بناءً على ما وصفها به جيمس جويس في روايته «عوليس»، ويكاد هذا القول ينطبق كذلك على أحياء القاهرة القديمة وكتابات نجيب محفوظ عنها، مع بعض الاختلافات التي أملَتها روح الإبداع، ومعظم روايات وقصص «الأستاذ» يدور في القاهرة، وقليلها في الإسكندرية، ونادرًا ما يَرِد الريف والقرية في أعماله، ولا عجب؛ فهو قد عاش حياته في العاصمة، ما بين أحيائها القديمة والجديدة، عشِقَها، وطاف بشوارعها وحواريها وأزقَّتها، وتنقَّل بين مقاهيها، وجال في منطقة «وسط البلد» كما نسمِّيها نحن القاهريون؛ فانعكست كلُّ هذه الأماكن في رواياته وقصصه وخاصَّة الأحياء القديمة، وأول ما يلفت النظر إلى استحواذ القاهرة القديمة — قاهرة المُعز — على قصص وروايات الأستاذ، عناوين الروايات التي أخرجها في فترته الواقعية الصِّرفة، مثل: خان الخليلي، وزقاق المدق، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، ومن الجدير بهذه المنطقة أن تكون بداية لمشروعٍ جديدٍ للسياحة في مصر، وهو السياحة الأدبية، وهو نوعٌ قد استقرَّ في كثيرٍ من الدول الأوروبية، خاصَّة إسبانيا وفرنسا؛ ففي إسبانيا هناك «طريق سرفانتس» ودون كيخوته، وطريق لوبي دي فيجا، وطريق لوركا، وهكذا … وهي رحلاتٌ تشمل زيارة الآثار المتعلِّقة بهؤلاء الكتَّاب، وفي فرنسا تقوم مكاتب الإعلام في كثيرٍ من المدن بتنظيم جولاتٍ لشرح أعمال وحياة الفنانين والأدباء الذين عاشوا فيها، مثل: آرل بالنسبة لفان جوخ، وكومبور لشاتوبريان، وشارلفيل لرامبو، وغيرها كثير، وبالفعل، بدأت الكتب السياحية التي تُكتب بالفرنسية عن مصر تتضمَّن فصولًا عن نجيب محفوظ وقاهرته وأعماله، بالإضافة إلى فنانين مصريين آخرين.

وقاهرة نجيب محفوظ تشمل أساسًا مناطق الجمالية والغورية والحمزاوي وباب الخلق والدرب الأحمر والحلمية والموسكي والأزبكية وباب الشعرية والبغَّالة والحسينية والسكاكيني والوايلي. وعَصَبُ هذه المنطقة هو شارع المعزِّ لدين الله، الذي يخترق معظمها، والذي تُعرف أجزاءٌ منه بأسمائها القديمة، ومنها بين القصرين وقصر الشوق؛ واسم بين القصرين يرجع إلى العصور الماضية، حين كان المكان بين قصرين كبيرين أحدهما غربي والآخر شرقي، وتضمُّ المنطقة مجموعاتٍ أثرية متكاملة، تَشِي بمرور العصور التاريخية عليها، وكلٌّ منها ينتمي لفترة تاريخية واضحة في تاريخ القاهرة، منها مجموعة قلاوون الأثرية، ومجموعة السلطان الناصر، ومجموعة السلطان برقوق، ومجموعة عبد الرحمن كتخدا، وأحد مراكز العالم المحفوظي يتمثَّل في المشهد الحُسيني، حيث مقام سيدنا الحسين الذي يتردَّد ذِكره كثيرًا في روايات الأستاذ، ويُمثِّل خيطًا جاريًا في كل أجزاء الثلاثية، حيث لكل شخصية فيها نظرتها الخاصة للحسين، خاصَّة كمال عبد الجواد الذي تلقَّي أول صدمة له عندما عرف من مدرِّس التاريخ أن مسجد الحسين لا يضمُّ رفاتَه بعكس ما كان يظنُّ دائمًا؛ بَيد أن بعض كتب التاريخ يقصُّ علينا أن رأس الشهيد الكريم سيدنا الحسين مدفونٌ في مقامه، حين نُقلت إلى القاهرة من «عسقلون» بعد أن تهدَّدت تلك المدينة الحملات الصليبية عام ١١٥٣م.

وهذه المنطقة عامرةٌ بالمساجد الأثرية: جامع المؤيَّد، جامع تغري بردي، جامع الغوري، جامع السلحدار، جامع أبي الدهب، الجامع الأزرق، جامع السلطان برقوق، جامع الفكهاني، الجامع الأقمر، ثم جامع الحاكم بأمر الله الذي كان قد طاله الإهمال إلى أن قامت طائفة البهرة الهندية بتجديده وتعميره.

وهناك علامات بارزة في حياة نجيب محفوظ ورواياته، فهي عامرة بالأسبلة والوكالات والخانقاوات والقصور والمدارس القديمة والزوايا والحارات والقصبات، ومن هذه: بيت السحيمي الذي يرجع إلى عام ١٦٤٨م، وهو الآن ملك للدولة، وبيت الرزاز، ووكالة الغوري، ووكالة قايتباي، ثم قصر المسافر خانة الذي فقدناه حديثًا ونأمل أن يُستعاد بكل رَونقه.

ومن المعروف أن نجيب محفوظ قد وُلد في ١١ ديسمبر ١٩١١م في الجمالية، في ميدان بيت القاضي الذي كان يقع في مواجهة قسم شرطة الحي، والقسم لا يزال في مكانه، إلا إن بيت مولد الأستاذ قد حلَّ مكانه الآن منزلٌ حديث، وكانت نوافذ البيت الجانبية تُطل على درب قرمز، الذي ورد ذكره في الثلاثية، حيث اختبأت الأسرة فيه هربًا من الغارات الجوية.

وبالقرب من درب فرمز مبانٍ أثرية عديدة، قام المعهد الأركيولوجي الألماني بترميمها ونالت جائزة أغا خان عام ١٩٨٣م. وقد بدأ نجيب محفوظ دراسته في كُتَّاب الحي الذي يقع في حارة «الكبابجي»، وآثاره المتهدمة لا تزال موجودة، ثم التحق بمدرسة خليل أغا الابتدائية، التي كانت تقوم مكانها إدارة الجامع الأزهر، ثم في مدرسة بين القصرين الابتدائية، وكان من أوائل المقاهي التي تُطالعها عيناه مقهى «خان جعفر» ما بين ميدان بيت القاضي والحسين، والذي كانت تُتلَى فيه قصص أبي زيد الهلالي على الربابة، قبل ظهور الراديو الذي قضى على هذا الفن الشعبي الجميل ذي التاريخ الطويل.

وفي سينما الكلوب المصري شاهد أول العروض السينمائية في حياته، وكانت أشرطة المغامرات والمسلسلات الصامتة؛ وقد ذهب بطل «قصر الشوق» إلى هناك لمشاهدة أفلام شارلي شابلن الأولى. وفي الحسين أيضًا يقع مقهى الفيشاوي الذي يمثِّل أحد أشهر أماكن التجمع المحفوظي؛ ومن المقاهي الأخرى في هذه المنطقة قهوة أحمد عبد الله في خان الخليلي، التي قال عنها الأستاذ أنه ذكرها بالاسم في الثلاثية من فَرْط إعجابه بها.

وفي عام ١٩٢٤م تنتقل أسرة نجيب محفوظ إلى حي العباسية، حيث اشترى والده بيتًا هناك بعد أن غادرت معظم الأسَر حي الجمالية، وكانت العباسية أيامها تختلف عن عباسية أيامنا هذه، فقد كانت تتكوَّن من بيوتٍ منفصلة على هيئة فيلات، تقوم مكانها الآن العمائر الحديثة الشاهقة. والعباسية هي المحور الثاني في حياة الأستاذ ورواياته؛ فمن المعروف أن مقاهي العباسية لعبت دورًا هامًّا في لقاءاته مع أصدقائه وخلصائه؛ فهناك تقع «قهوة عرابي» التي كانت الشلة تجتمع فيها مساء كل خميس، ومن قبلها مقهى قشتمر الذي أصبح الرابطة التي تجمع شخصيات رواية بنفس الاسم، والعباسية وأهل العباسية مذكورون بالتفصيل في رواية «صباح الورد»، كما أن قصة حب كمال عبد الجواد لعايدة شدَّاد، في الجزء الثاني من الثلاثية، تدور كلها في سرايا آل شداد في العباسية، التي كانت تمثِّل أيامها الفروق الطبقية بين سكانها وسكان الأحياء الشعبية التي ينتمي إليها كمال. وقد تجسَّدت تلك الفوارق في القول الذي تردَّد بين كمال وسليم عن الفرق بين «ابن التاجر وابن المستشار»، وكانت صدمة كمال في حبِّه الفاشل لعايدة من التجارِب التي صهرت روحه وأثَّرت في مستقبل حياته، وهي من أحداث الثلاثية التي تمسُّ قلوب قارئيها أكثر من غيرها؛ فمَن منَّا لم تكن له مثل هذه التجرِبة؟ سواءٌ كان الاسم عايدة أم شريفة أم ليلى… وقد ذكر نجيب محفوظ أن قصة عايدة لها أساسٌ واقعيٌّ في أول حبٍّ رومانسيٍّ يمرُّ به في حياته، مع فتاة كان يراها في الشُّرفة فيبدو وجهها له كلوحة الجيوكندا، فتاة «كانت تميل إلى الطابع الأوروبي في مظهرها وتحرُّكاتها»، ويُقارن هذا بعايدة شداد «ذات الطابع الباريسي».

والأساس الذاتي في شخصية كمال عبد الجواد والمؤلف لا يحتاج إلى بيان، وقد أشار إليه الأستاذ بنفسه حين قال: «ولقد صوَّرتُ قصتي مع تلك الفتاة في قصر الشوق، مع تعديلاتٍ تتفق مع الإطار العام الذي وضعته للرواية.»

وقد ظلَّ الأستاذ في حي العباسية حتى ١٩٥٤م، وشهدت تلك الفترة دراسته الجامعية في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، ووفاة والده في عام ١٩٣٧م، ثم قراره تكريس نفسه للأدب والفن القصصي بوجه خاص، ومشروعه في تقصِّي تاريخ مصر الفرعونية، الذي كان نتاجه الروايات الثلاث الأولى، ثم انتقل بعد ذلك إلى الروايات الواقعية التي استمدَّ بيئتها من الأحياء التي عاش فيها وعرفها تمام المعرفة؛ فبالإضافة إلى زياراته للقاهرة المُعزِّية التي لم تنقطع أبدًا، عاد إليها أيضًا كموظف في أوائل الخمسينيات للعمل في مكتبة تابعة لوزارة الأوقاف بقبَّة الغوري التي تُطل على حي الغورية، وقد انتقل إليها بناءً على طلبه، وأنجز فيها الكثير من قراءاته واطِّلاعه، وحين يتزوَّج نجيب محفوظ عام ١٩٥٤، ينتقل للسكن في عوامة في النيل بالقرب من كوبري الجلاء بالدقي، والعوامات تظهر في عددٍ من أعماله، منها الثلاثية، وبصورة أبرز في ثرثرة فوق النيل. ثم ينتقل الأستاذ بأسرته إلى شقة بحي العجوزة لا يزال فيها حتى الآن.١

وقد تنقَّل الأستاذ في وظائف كثيرة، بدأت بوظيفة في إدارة الجامعة، ثم تنقَّل في مكاتب وزراء الأوقاف، تخلَّلتها وظيفة بمكتبة الغورية، ثم تقلَّد مناصب هامَّة في مجال السينما بوزارة الثقافة، حتى أُحيل إلى التقاعد عند بلوغه الستين عام ١٩٧١م.

ولنجيب محفوظ أثر عميق عريض في ثقافة كل عربي، وقد حظِيَ بمكانة ثابتة في ميدان الرواية والقصة لم يحظَ بها أي روائي عربي آخر، حتى كُلل عملُه الدءوب في ذلك المجال بجائزة نوبل للآداب عام ١٩٨٨م، واتساعِ شهرته الأدبية إلى أقطار العالم أجمع. ومن المناسب أن تبني مصر على هذه الشهرة العالمية لتلبية الطلب العالمي على المعلومات عن أديبنا الكبير بطرق شتَّى، منها الاهتمام بتنظيم «طريق نجيب محفوظ»؛ ليكون بندًا من بنود السياحة الأدبية التي دعوتُ إليها في أول هذا المقال، ويتطلَّب هذا الاهتمامَ بكل ما يتعلَّق بالأستاذ وأعماله من أماكن، بالإضافة إلى اختيار أحد القصور المناسبة كيما يكون مركزًا لنجيب محفوظ، يُعرَض به كل ما يتعلَّق بحياته وأدبه، ويجد فيه الزوَّار نُسَخًا من أعماله بكل ما صدرت به من لغات.

وقد صدرت عدة كتب باللغات الأجنبية عن نجيب محفوظ، غير أنه لا يزال هناك كتاب هام أعدَّته مصورة أمريكية معروفة هي السيدة «بريتالي فا»، التي أعدَّت كتابًا مصوَّرًا عن الأماكن المذكورة في روايات نجيب محفوظ، مع نبذة قصيرة عنها، وقد زارت هذه الفنانة نجيب محفوظ عدة مرات، وحصلت منه على مقدِّمة للكتاب جعل لها عنوانًا «كتاب في الحنين»، وهي في حدِّ ذاتها دُرة شاعرية يُبدي فيها حنينه إلى تلك الأماكن وإعجابه بكتاب السيدة لي فا، وإن عدم نشر هذا الكتاب حتى الآن لهو خسارة لكل عشاق أدب الأستاذ في بلادنا وفي الغرب، وآملُ أن تلتفت إليه أجهزة النشر عندنا، خاصَّة المجلس الأعلى للثقافة، الذي بوسعه إصدار طبعة عربية من الكتاب بالصورة المرجوَّة، والجامعة الأمريكية بالقاهرة بالنسبة لطبعة اللغة الإنجليزية.

[صدر الكتاب بعد ذلك عن الجامعة الأمريكية في القاهرة.]

وهذا المقال يجيء لنجيب محفوظ في ذكرى شهر مولده، واحتفاءً بأهمِّ كتابٍ صدر حديثًا عن الأستاذ، وهو كتاب الأستاذ رجاء النقاش. لقد ألقى ذلك الكتاب أضواء كثيرة على أفكار ومشاعر وحياة الأستاذ بصورة تجعل شخصيته وأدبه تتضِح أمام الباحثين والدارسين على نحوٍ شاملٍ ودقيق.

وإني لأعجب للضجَّة التي أثارتها آراء الأستاذ السياسية؛ ففي الكتاب آراء ومقترحات أخرى جديرة أيضًا بالنقاش والحوار الجادَّين، وبدلًا من ذلك هاجم عددٌ من النُّقاد نحيب محفوظ لتلك الآراء التي يختلفون معه فيها، بل وتعدَّى هجومهم إلى مُحرِّر الكتاب، دون أن يلتفتوا إلى أنه وعدَ بكتابٍ آخر تعليقًا على ما جاء بالكتاب الأول، ودون أن يدركوا أن ما ذكره الأستاذ في الكتاب من آراء سياسية مبثوث بوضوح في رواياته وقصصه، مثل: ثرثرة فوق النيل، والخوف، والكرنك، وتحت المظلة، وأمام العرش وغيرها.

إن ردَّ الفعل الذي سبَّبه هذا الكتاب لهو أصدق دليلٍ على أزمة النقد التي يمرُّ بها الأدب العربي الآن، والتي نرجو أن يُنهَض منها في وقت لا يطول.

١  ظل فيها حتى وفاته — رحمه الله — عام ٢٠٠٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤