الفصل السادس

نشأته وشخصيته

ترجمة عثمان ترجمة سوية، لا نستغرب من لاحقها بعد الإسلام شيئًا مما نعلمه عن سابق سيرته قبل إسلامه، وإذا فاجأنا بالغرابة لأول وهلة فإنما نستغربه من أثر المفاجأة، ثم نعود إلى دواعيه؛ فإذا هو مطرد لا غرابة فيه.

نشأ في نعمة وعيش خفيض، وكانت ولادته بالطائف أخصب بقاع الحجاز، لسِتِّ سنوات مضت من عام الفيل، ولم يُؤْثَر عنه أنه اختبر شظف العيش قط في صباه أو طفولته.

وهو ابن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، كان أبوه تاجرًا واسع التجارة، وكان يحمل قوافله إلى الشام على دأب الأكثرين من تجار بني أمية، وفي إحدى هذه الرحلات التجارية مات عن ثورة عظيمة، وترك ابنه بين الصبا والشباب.

وإذا صح ما جاء في أنساب الأشراف للبلاذري فقد كان عفان يعمل في حياكة الثياب: «عفان أول حائك لثيابكم»، ولكننا نستبعد جدًّا أن يجمع الثروة من حياكة الثياب بيديه، ومن الراجح إذن أنه كان يدير مصنعًا من مصانعها، أو أنه عمل بها في صباه، ثم تحول عنها إلى التجارة.

وأم عثمان هي أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأمها أروى البيضاء بنت عبد المطلب عمة النبي عليه السلام، وقد سبق أن أختها تتكهن وتنقطع للكهانة، ففي وراثته من جانب أمه جنوح إلى طبيعة التدين التي اشتهر بها عبد المطلب وآباؤه وبنوه.

ويُروى كما جاء في ابن الأثير أن عقبة بن أبي معيط شكاه إلى أمه — وكان قد تزوج بها بعد وفاة عفان — فقال لها: إن ابنك قد صار ينصر محمدًا؛ فلم تنكر ذلك من ابنها، وقالت: «ومن أولى به منا؟ … أموالنا وأنفسنا دون محمد.»

وقد كان مألوفًا في الجاهلية أن تتزوج المرأة بعد تطليقها من زوجها أو بعد وفاته، ولكن هذه العادة المألوفة لا تمنع أن ينقبض لها الابن وأن ينكسر لها بينه وبين نفسه، فيلازمه منها بعض الخجل ولا يرتاح إليها بأية حال.

ويبدو من دراسات علم النفس الحديث أن «مشكلة الأب» قد تمكنت من طوية الصبي؛ فكان لها فعلها في توجيه شعوره من ناحية ذويه ومن ناحية البيئة بأسرها؛ فضاعفت ما في وراثته الأموية من الإيواء إلى ذوي قرباه، وهيأت نفسه للنفور من الوضع القائم في البيئة؛ فلم يصعب عليه أن ينكر الأوضاع القائمة في نطاقها الأعم الأوسع، وهو نطاق الشعائر الجاهلية.

ذلك أنه نشأ وهو يحس أن رب البيت الذي نشأ فيه غاصب ينتزع مكان أبيه؛ فتمكنت من نفسه الريبة في الأوضاع القائمة، ولم يحتملها إلا على مضض الكاره وترقب المتربص، وبخاصة حين تأتي من ناحية الأم التي تتمثل لابنها في هذه الحالة كأنها مغلوبة على أمرها منتزعة ممن هو أحق بها.

وقد أسلفنا أننا لا نعول كثيرًا على الرواية التي تعود بإسلام عثمان إلى نصيحة خالته الكاهنة؛ فليس في كلامها مقنع للفكر يحول رجلًا في الثلاثين عن دينه وتراث بيته، ولكنها على هذا تدل على داعية من الشعور لا نهملها ولا نستبعد مكانها من السريرة الباطنة، ويعززها أن أسرة أمه كانت لا تخلو من عطف قوي نحو صاحب الدعوة إلى الدين الجديد؛ عطف يبدو من قول أمه: «أموالنا وأنفسنا دون محمد»، وهي كلمة لا ينبغي أن ننساها في مواطن كثيرة من سيرة ابنها رضوان الله عليه.

ونقرأ وصف عثمان على ألسنة معاصريه؛ فنراهم مجمعين على صفتين لم ينسها أحد منهم: وهما الجمال والحياء.

كان رَبْعَة لا بالقصير ولا بالطويل، حسن الوجه، مشرف الأنف، بوجنتيه نكتات من آثار الجدري، رقيق البشرة، أسمر اللون، كثير الشعر، له جمة أسفل أذنيه، وبه صلع مع طول في لحيته وغزارة في عارضيه.

وكان خفيف الجسم، ولكنه لم يكن بضعيفه ولا معروقه، بل كان ضخم الكراديس بعيد ما بين المنكبين.

أما خلائقه فقد أجمع واصفوه على أنه كان عذب الروح، حلو الشمائل، محببًا إلى عارفيه، ومن ذاك أن نساء قريش كن يُرقِّصْن أطفالهن فيقلن:

أحبك والرحمن
حبَّ قريش عثمان

وكان يوتد أسنانه بالذهب، ويخضب لحيته، وربما تركها بغير خضاب.

وفي كتاب «الرياض النضرة» يروي المحب الطبري عن عمرو بن عثمان أن عثمان بن عفان قال: «كنت رجلًا مستهترًا بالنساء، وإني ذات ليلة بفناء الكعبة في رهط من قريش إذ أتينا فقيل لنا: إن محمدًا قد أنكح عتبة بن أبي لهب رقية، وكانت رقية ذات جمال رائع.

قال عثمان: فدخلتني الحسرة لِمَ لا أكون أنا سبقت إلى ذلك؟ فلم ألبث أن انصرفت إلى منزلي؛ فأصبت خالة لي قاعدة وهي سعدى بنت كريز، وكانت قد طرقت وتكهنت عند قومها، فلما رأتني قالت: «أبشر وحييت ثلاثًا تترى» إلى آخر الأبيات. وروى ما تقدم من حديثها في غير هذا الفصل إلى قوله: «وكان لي مجلس عند أبي بكر، فأتيته فأصبته في مجلس ليس عنده أحد، فجلست إليه فرآني مفكرًا فسألني عن أمري، وكان رجلًا متأنيًّا، فأخبرته بما سمعت من خالتي، فقال: «ويحك يا عثمان إنك لرجل حازم ما يخفى عليك الحق من الباطل»، ثم قال: فما كان أسرع من أن مرَّ رسول الله ومعه علي بن أبي طالب يحمل ثوبًا؛ فلما رآه أبو بكر قام فسارَّه في أذنه بشيء، فجاء رسول الله ثم أقبل عَلَيَّ فقال: «يا عثمان، أجب الله إلى جنته، فإني رسول الله إليك وإلى خلقه.» قال: فوالله ما تمالكت حين سمعت قوله أن أسلمت؛ وشهدت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله …»

وتتكرر قصة كهذه في كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني، وهي قصة يُلاحظ عليها أن زواج السيدة رقية من عتبة بن أبي لهب قد كان قبل البعثة النبوية، فلما بعث النبي قال أبو لهب لابنه: «رأسي من رأسك حرام إن لم تطلق ابنته»؛ ففارقها ولم يكن دخل بها.

فلا يبقى من هذه القصة ما يستبقى للتعريف بخلائق عثمان إلا قوله عن نفسه إنه كان في الجاهلية مستهترًا١ بالنساء، ولو لم يرد حديث هذه القصة في رواية من الروايات؛ لما علمنا قط أنه كان كذلك في الجاهلية؛ لأن أحدًا من معاصريه في الجاهلية لم يشهده على حال يحسبها من الاستهتار بالنساء، فإنهم كانوا يبيحون كثرة الزوجات لمن استطاع أن يجمع بينهن، وإنما نعرف من هذه القصة خلائق عثمان بنعمته وحيائه، وبقدرته على المتعة والتعفف عما يُشينه منها، وبالخلق الذي لازمه طول الحياة، وهو خلق ربيب النعمة الكريم.

روى عمرو بن أمية الضمري قال: «إني كنت أتعشى مع عثمان خزيرًا من طبخ من أجود ما رأيت، فيها بطون الغنم وأُدُمها اللبن والسمن، فقال عثمان: كيف ترى هذا الطعام؟! فقلت: هذا أطيب ما أكلت قط، فقال: يرحم الله ابن الخطاب. أكلت معه هذه الخزيرة قط؟ قلت: نعم، فكادت اللقمة تفرث بين يديَّ حين أهوى بها إلى فمي وليس فيها لحم، وكان أدمها السمن ولا لبن فيها، فقال عثمان: صدقتَ: صدقتَ! إن عمر رضي الله عنه أتعب والله من تبع أثره، وإنه كان يطلب بثنيه — أي منعه — عن هذه الأمور ظلفًا — أي غلظًا — في المعيشة. ثم قال: أما والله ما آكله من مال المسلمين، ولكني آكله من مالي، وأنت تعلم أني كنت أكثر قريش مالًا وأجدهم في التجارة، ولم أزل آكل من الطعام ما لان منه وقد بلغت سنًّا، فأحب الطعام إليَّ ألينه، ولا أعلم لأحد عليَّ في ذلك تبعة.»

ودخل زياد على عثمان في خلافته بما بقي عنده لبيت المال، فجاء ابن لعثمان فأخذ شيئًا من فضة ومضى به؛ فبكى زياد، قال عثمان: «ما يبكيك؟» قال: «أتيت أمير المؤمنين عمر بمثل ما أتيتك به، فجاء ابن له فأخذ درهما، فأمر به أن ينتزع منه حتى أبكى الغلام، وإن ابنك هذا جاء فأخذ ما أخذ؛ فلم أر أحدًا قال له شيئًا.» قال عثمان: «إن عمر كان يمنع أهله وقرابته ابتغاء وجه الله، وإني أعطي أهلي وأقربائي ابتغاء وجه الله. ولن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر، لن تلقى مثل عمر.»

وقد سُمع غير مرة يقول: «يرحم الله عمر، من ذا يطيق ما كان يطيقه!»

•••

وصفوة القول في خلائق عثمان أنه كان إلى صفات الطيبة والسماحة أقرب منه إلى صفات البأس والصرامة، وأن نشأة العيش الخفيض صحبته من صباه إلى شيخوخته، وفي غير تبعة عليه كما قال.

اختصم يومًا هو وأبو عبيدة بن الجراح، فقال أبو عبيدة: «أنا أفضل منك بثلاث»، فسأله عثمان: «وما هن؟» قال: «الأولى: إني كنت يوم البيعة حاضرًا وأنت غائب، والثانية: شهدت بدرًا ولم تشهده، والثالثة: كنت ممن ثبت يوم أحد ولم تثبت أنت»، فلم يغضب عثمان ولكنه قال له: «صدقت». ثم أجابه معتذرًا فقال: «أما يوم البيعة فإن رسول الله بعثني في حاجة، ومد يده عني وقال: هذه يد عثمان بن عفان، وكانت يده الشريفة خيرًا من يدي، وأما يوم بدر فإن رسول الله استخلفني على المدينة ولم يمكنني مخالفته، وكانت ابنته رقية مريضة؛ فاشتغلت بخدمتها حتى ماتت ودفنتها، وأما انهزامي يوم أُحد، فإن الله عفا عني وأضاف فعلي إلى الشيطان، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (آل عمران: ١٥٥).»

والحق أن تخلف عثمان عن يوم البيعة وعن يوم بدر لم يكن باختيار منه، ولم يكن فيه إحجام عن خطر مخوف، بل تخلف في اليومين طوعًا لأمر النبي عليه السلام، أما يوم «أُحد» فقد انهزم معه فيه كثيرون من شجعان الصحابة، وكانت الهزيمة فيه صدمة من صدمات البغتة التي يكاد النكوص فيها أن يكون دفعة آلية، ثم يثبت الجأش بعد الصدمة الأولى كما حدث من أكثر المنهزمين في ذلك اليوم العصيب.

بيد أن المعارك الأخرى لم تحفظ لعثمان موقفًا من تلك المواقف النادرة التي تتناقلها الألسنة ويتساير بها الركبان من أخبار زملائه الخلفاء، فإن كان فيها غير متخلف ولا محجم فليست هي بفخره الأول وفضيلته العليا. إنما كانت فضيلته العليا السخاء حيث يعز السخاء على أمثاله من ذوي الثراء، ولا سيما ذوي الثراء من بني أمية الذين ضنوا بأموالهم في الجاهلية والإسلام إلا لمطمع أو مصلحة، وهذه هي آية العقيدة في مناقب عثمان.

لقد أشربت النفوس من العقيدة الجديدة غيرة لا عهد لها بمثلها في التنافس بين أكفائها: غيرة في العقيدة، وغيرة لها، وغيرة عليها، فجمعت من معاني الغيرة أشرفها وأصدقها وأبعدها عن التنازع بين الناس بالباطل والتلاحي بينهم بالعَرَض الزائل، إذ كانت تجمع من معاني الغيرة الشريفة: غيرة الحماسة للعقيدة، وغيرة التنافس عليها، وغيرة الصدق في منافستها، وأشرف ما في هذه الغيرة الشريفة أنها لم تكن تغري أحدًا بغمط حق لأحد، أو بادعاء حق لا يؤمن به من يدعيه في قرارة ضميره؛ لأنها لم تكن غيرة العرف الظاهر قصاراها الوجاهة عند الناس، بل كانت الوجاهة عند الله قصاراها ومبدأها ومنتهاها، فلا يدعيها مدعٍ بالباطل، ولا يأمن إذا ادعاها بالباطل أن تذهب جميعًا فلا تبقى لها عنده ولا عند الناس أو عند الله باقية؛ ومن ثم كانت غيرة بناء وصدق، ولم تكن غيرة هدم وادعاء.

ومضى الناس يتنافسون، ويؤمرون أن يتنافسوا في مثل هذا الفضل، فهم فيه متنافسون مجدون، وقد رأينا كيف كان أناس في رجاحة أبي عبيدة وعثمان يتعارفون على هذا التنافس الذي لا يخجل فيه أخ من أخيه ولا صديق من صديقه؛ فلا ينقم مسبوق على سابق، ولكنه يغبطه ويستحث عزائمه على سبقه ما استطاع.

وهكذا نظر عثمان إلى أكفائه فوجد أنه لم يسبقهم في ميادين الجهاد؛ بالسيف فآلى على نفسه ليسبقنهم في ميادين الجود والسخاء، وثابر على ذلك من أول أيامه في الإسلام إلى ختام أيامه في الحياة، فهاجر إلى الحبشة وهو يعلم أن ماله كله عرضة للضياع من جراء هذه الهجرة؛ فلم يُبالِ ما بقي منه وما ضاع، وتقدم في كل محنة أصابت المسلمين من فاقة أو قحط أو نقص في السلاح والعتاد، فبذل من المعونة والعطاء ما لم يبذله أحد من أمثاله في ثرائه، وما لم يبذله الذين هم أقدر منه على معونة أو عطاء، ولم يكن على أية حال بأغنى الأغنياء.

وكانت له سماحة محببة حيث يجود ويتكلم بكلام التجار في مساواتهم، وهو على غاية الجود.

قال ابن عباس: «قحط الناس في زمن أبي بكر، فقال أبو بكر: لا تمسون حتى يفرج الله عنكم، فلما كان من الغد جاء البشير إليه، فقال: لقد قدمت لعثمان ألف راحلة برًّا وطعامًا، فغدا التجار على عثمان؛ فقرعوا عليه الباب فخرج إليهم وعليه ملاءة قد خالف بين طرفيها على عاتقه، فقال لهم: ما تريدون؟ قالوا: بلغنا أنه قدم لك ألف راحلة برًّا وطعامًا. بعنا حتى نوسع على فقراء المدينة، فقال لهم عثمان: ادخلوا! فدخلوا، فإذا ألف وقر قد صب في الدار، فقال لهم: كم تربحوني على شرائي من الشام؟ قالوا: العشرة اثني عشر. قال: قد زادوني. قالوا: العشرة أربعة عشر. قال قد زادوني. قالوا: العشرة خمسة عشر. قال: قد زادوني. قالوا: من زادوك ونحن تجار المدينة؟

قال: زادوني بكل درهم عشرة. هل عندكم زيادة؟ قالوا: لا. قال: فأشهدكم معشر التجار أنها صدقة على فقراء المدينة.»

ويشير عثمان هنا — كما هو ظاهر — إلى جزاء الحسنة بعشرة أمثالها عند الله، ولن تعدم في هذا المقام ابتسامة سخف على فم متذحلق يقول: أما أعطى عطاءه وهو ينتظر الجزاء في الآخرة؟ فلقد آمن بالآخرة ألوف من ذوي الأموال التي لا تفنى، وهم لا يبضون بدرهم يوقنون من جزائه ما أيقنه عثمان.

وكان يدخل عرف الإحسان في صفقات التجارة، وهي تلك المعاملة التي اصطلح الناس قديمًا على أنها شيء يتقدم فيه حساب المنفعة على حساب المودة، بل القرابة، وممن يعبرون اليوم عن هذا المعنى ويقولون باصطلاح العصر مَن يعبرون عن معنى قديم تفاهم عليه المتعاملون بالبيع والشراء من أقدم الأزمنة، فقيل من أخباره في هذه الخصلة: إنه ابتاع حائطًا — أي بستانًا — من رجل، فساومه حتى قام على عثمان فالتفت عثمان إلى عبد الرحمن بن عوف، فقال: سمعت رسول الله يقول: إن الله عز وجل أدخل الجنة رجلًا كان سمحًا بائعًا ومبتاعًا وقابضًا ومقبضًا، ثم زاد البائع العشرة الآلاف.

وأسعدت شمائل السماحة فيه بخصال أندر في أبناء النعمة من خصال الكرم والإحسان، فقد يهون على المرء أن يتجرد من بعض ماله، ولا يهون عليه أن يتجرد من بعض كبريائه وخيلائه وتعاليه على أنداده ونظرائه فضلًا عمن يعلوهم بالبسطة والجاه، وكان المأثور عن عثمان كما روى صاحب الصفوة عن مولاة له أنه «كان لا يوقظ أحدًا من أهله إلا أن يجده يقظان فيدعوه.»

وروى الحسن أنه «رآه نائمًا في المسجد ورداؤه تحت رأسه فيجيء الرجل فيجلس إليه، ثم يجيء الرجل فيجلس إليه، كأنه أحدهم.»

وربما أُحْرَج كما يُحْرَج أصحاب الحياء حين يجترئ على حيائهم مَنْ هو أولى بتوقيره فيبدر منه بعض ما يسوء مخاطبه، ثم لا يلبث أن يندم على بادرته ويتوب إلى الله، ومن قبيل ذلك غضبه على عمرو بن العاص حين واجهه بالزجر وهو يخطب الناس؛ فثارت ثورته أن يكون هو من يعظه عمرو بمثل ذلك الكلام وما فيه من إغراء بالفتنة عليه، قال عمرو: يا عثمان إنك قد ركبت بالناس النهابير٢ وركبوها منك، فتُب إلى الله عز وجل ليتوبوا. فالتفت إليه مغضبًا وأجاب قائلًا: وأنت هناك يا ابن النابغة؟ ثم لم يلبث أن رفع يديه، وقال: أتوب إلى الله تعالى. ثم كررها فقال: اللهم إني أول تائب إليك.

فهذه شخصية سمحة، تساندت فيها مناقب السماحة، وأوشكت أن تستوفيها على مثال منقطع النظير فيمن عرفناها من الأعلام بين الجاهلية والإسلام: كرم، وحياء، ودعة، ورفق، وأريحية ومروءة تعين على المروءات. فهل يقال على هذا: إنها شخصية سمحة وكفى؟! هل يقال: إنها شخصية خلت من صفات البأس والصرامة، أو كان حظها من هذه الصفات ضئيلًا لا يلتفت إليه؟! هل يقال إنها شخصية ضعيفة بكلمة متيقنة لا تردد فيها؟!

من السهل أن يقال ذلك متابعة لجمهرة المؤرخين الذين درجوا على تعليل الحوادث الجُلَّى في عصر عثمان بضعفه واستسلامه لمن حوله، وعلى رأسهم ابن عمه مروان بن الحكم، فإن السهولة هنا توحي إلى المؤرخ أن يختار سبيلها، ويعفي نفسه من النظر إلى طريق غيرها قد يعترضه فيها اعتراض من حيث لا اعتراض على سالك السبيل السهل الذلول.

لكن القول بضعف عثمان صعب على من يعلم أن السماحة نفسها قوة لا يضطلع بها طبع ضعيف، وصعب على من ينظر في أعماله جميعًا، ولا يكتفي منها بأعماله التي يبدو عليها الضعف والتردد، ولم يكن عهد من عهود سيرته يخلو من عمل يدل على قوة نفس ومناعة خلق وثبات لا يتزعزع أمام الهول والخطر، وحسبنا من عهود سيرته ما أحاطه بأطرافها من أول إسلامه إلى ختام حياته؛ فقد كان إسلامه تحديًا قويًّا لخاصة أهله ثبت عليه مع بقاء العلية من قومه بين عدو للإسلام أو مسالم له على دخل وسوء نية، وقد تلقى في أول خلافته صدمات لم يتعرض الفاروق لأخطر منها في جميع أيامه ومنها: هزيمة الجيوش، وفناء بعضها بين عوارض الأجواء القصية، وانقضاض الروم والخزر على أطراف الدولة الإسلامية الحديثة، وبعض مواقفه في تلك الأيام لا يمكن الرجوع به إلى رأي مروان بن الحكم، كوصاياه في إعداد الحملات البحرية من المتطوعين بغير إكراه على أحد من المجندين، وليس من السهل أن يوصف بالضعف رجل يحيط به خطر الموت من كل جانب ولا يذعن لمن توعدوه به جهرة ورددوه على مسمعه ليل نهار.

كلا، لا يقول القائل عن رجل كهذا: إنه ضعيف، ثم يستريح إلى قولته، إلا أن يبتغي الراحة ولا يبتغي سواها.

ولكنا نحسب أن مكان عثمان من القوة والعزيمة هو المكان الذي يحتاج إلى التوضيح، ولا يتضح لأول نظرة في سيرته وحوادث عصره، فليس هو بالمكان الذي يتراءى على القرب والبعد كأنه العلم البين الغني عن التوضيح.

•••

من الناس من يقتحم طريقه ولا ينتظر من يدله أو يدفعه، بل لعله يقتحمه ويصر على اقتحامه كلما كثر المعارضون له وقل من يدلونه عليه، ومن شأنه أن يحسم تردد المترددين واعتراض المعترضين؛ فلا يلبث أن يقودهم معتزمًا فينقادوا له معتزمين.

ليس عثمان من هؤلاء.

ومن الناس من لا يعرف العزم تابعًا أو متبوعًا، ولا يثبت عليه إذا عرفه إلا ريثما يدفعه الخطر عنه، وقد ينثني عن عزمه بغير خطر؛ لأنه من الوهن والعيِّ بحيث لا يقوى على الثبات.

وليس عثمان من هؤلاء.

فليس هو مقتحمًا ولا هو منقادًا عاجزًا عن العزم والثبات، ولكنه وسط بين الاقتحام والانقياد لغيره في جميع الأحوال.

إنه ينقاد ويسوغ انقياده لنفسه بمسوغ ترضاه، ولا بد له من المسوغ المرضي في جميع الأحوال.

هؤلاء أيضًا يختلفون في مسوغ الانقياد للآخرين، فمنهم من ينقاد لمن هم أكبر منه ويأبى الانقياد لمن هم مثله أو دونه في المنزلة، ومنهم على نقيض ذلك مَنْ ينقاد لمن هم أنداده أو ينقاد لمن هم دونه، ويأبى الانقياد للنظراء والرؤساء.

ومسوغ الأولين الذين ينقادون لمن هم أكبر منهم أن الانقياد للأكبر طبيعة في كل علاقة بين رئيس ومرءوس، ويدين بهذا المسوغ مَن لا حق له في الرئاسة، أو من لا مطمع له فيها على الأقل إلى حين، فقد يكون صغيرًا يرجو أن يكبر، أو خاملًا يرجو أن يُعرف، أو مبتدئًا يرجو أن ينتهي إلى العظمة كما انتهى إليها من يعظمهم من الرؤساء.

أما مسوغ الآخرين الذين ينقادون لمن هم أنداد لهم أو من هم دونهم، فهو أنهم أمنوا أن ينسب انقيادهم إلى ذلة أو خوف، وبخاصة حين يكون المنقاد معروف الوجاهة والرئاسة، مساويًا لمن يدله ويشير عليه، أو راجحًا عليه بالمكانة والسلطان.

وكذلك كان عثمان في اهتدائه إلى الإسلام بنصيحة أبي بكر الصديق، فقد كان عثمان أجمع لأسباب الوجاهة من أبي بكر في عرف عصره: كان من أمية وأبو بكر من تَيْم، وكان أغنى منه وأقدر على مخالفته، وكان أبو بكر إلى جانب هذا وذاك يدعوه إلى الإيمان برسول يتبعانه معًا فيقبل إن شاء، ويأبى إن شاء، ولا سلطان له عليه.

وكذلك كان عثمان في إصغائه لمروان بن الحكم حيث أصغى إليه، فقد كان مروان كاتبه وتابعه، وكان إصغاؤه له لغير خوف أو مذلة، وعلمًا منه بأنه محسوب عليه.

وسماحة عثمان واضحة هنا أيضًا؛ لأنها فرض كفروض الحساب لا يتأتى بغيره تقدير الحقيقة الملتبسة، فمن الناس من يأبى الانقياد للأنداد والرؤساء حسدًا ونكدًا، ومن يأبى الانقياد للأتباع والأعوان تيهًا وتجبرًا وذهابًا مع شهوة الترفع والاستعلاء، فهؤلاء كأولئك لا يعرفون السماحة ولا يُوصفون بها، ولو لم يكن عثمان سمحًا مُبَرَّأً من الحسد والنكد ومن شهوة الترفع والاستعلاء؛ لما أصغى إلى ندٍّ ولا إلى تابع، ولا سوغ الإصغاء إليهما بمسوغ من المسوغات ترضاه نفسه وتطمئن إليه.

من أشد ما يُرْوَى استدلالًا على ضعفه وانقياده لرأى مروان بن الحكم قصة رواها ابن عباس عن أبيه، وهو ثقة فيما عاينه وحكاه، قال:

ما سمعت من أبي شيئًا قط في أمر عثمان يلومه فيه أو يعذره، وما سألته عن شيء من ذلك مخافةَ أن أهجم منه على ما لا يوافقه، فأنا عنده ليلة ونحن نتعشى؛ إذ قيل: أمير المؤمنين بالباب، فقال: ائذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه، وأصاب من العشاء معه، فلما رفع قام من كان هناك وثبت أنا، فحمد عثمان الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا خال، فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليٍّ … سبَّني وشهر أمري، وقطع رحمي، وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب. إن كان لكم حق تزعمون أنكم غُلِبتم عليه فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم، وأنا أقرب إليكم رحمًا منه، وما لمت أحدًا منكم إلا عليًّا، ولقد دعيت أن أبسط يدي عليه فتركته لله والرحم، وأنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه.

قال: فحمد العباس الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يابن أختي فإن كنت لا تحمد عليًّا لنفسك؛ فإني لأحمدك لعلي، وما عليٌّ وحده قال فيك بل غيره، فلو أنك اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك، ولو أنك نزلت مما رقيت وارتقوا مما نزلوا فأخذت منهم وأخذوا منك؛ ما كان بذلك بأس.

قال عثمان: «فذلك إليك يا خال، وأنت بيني وبينهم.»

قال: «فأذكر لهم ذلك عنك؟»

قال: «نعم» وانصرف.

فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، فقال: ائذنوا له. فدخل فلم يجلس، وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك.

فنظرنا فإذا مروان بن الحكم جالسًا بالباب ينتظره حتى خرج، فهو الذي ثناه عن رأيه.

فأقبل عليَّ أبي وقال: يا بني! ما إلى هذا — يعني عثمان — من أمره شيء.»

فإذا أخذت هذه القصة على عجل؛ فعثمان قد كان أداة لمروان يذهب به ويجيء كما يشاء ويمضيه على رأي أو يثنيه عنه على هواه.

ولكننا إذا تخيلنا عثمان على هذه الصورة وجب أن نسأل: من غير مروان كان يصنع بعثمان هذا الصنيع؟ فإن الرجل إذا كان هين المقادة إلى هذا الحد؛ هان على كل موسوس له أن يقوده، ولا سيما أقربهم إليه وألزمهم له من حرمه ومُسَاكِنيه في داره، وقد عرفنا من تاريخ تلك الفترة أو ما قاربها أنه كان يستمع في بيته إلى من يوغر صدره على مروان فلا يستجيب لتوغيره، ومنهم نائلة بنت الفرافصة زوجته، وقد كان للزوجات أثر في قصور ذوي السلطان ممن عرفوا بالقوة والسطوة، لم ينقطع في عصر من العصور.

فالطاعة هنا ليست بطاعة نفس ضعيفة لكل من يوسوس لها على مقربة منها، ولكنها طاعة اختيار لسبب له شأنه عند عثمان، وإن لم يكن له هذا الشأن عندنا نحن اليوم أو عند ناقديه من معاصريه.

ونحن على يقين أننا اليوم نتردد في الجواب إذا سُئِلنا: «من غير مروان بن الحكم كان خليقًا أن يعمل لعثمان عمل الكاتب الوزير الذي يعمل له كأنه يعمل لنفسه في سره وجهره؟»

إننا نعرف رجال تلك الفترة المرشحين لمثل هذا العمل، فمن منهم يتولاه إذا استغنى عن مروان؟!

ليس مروان بأفضل من يكتب للخليفة في عصره، ولكن الذين هم أفضل منه لا يرتبطون بهذا العمل ارتباطه، ولا يطالبهم عثمان بما يطالب به مروان من خدمته وولائه.

لقد ذهب عثمان إلى العباس يشكو عليًّا، ويكاد يعم بالشكوى بني عبد المطلب؛ لأنه يحسبهم ذوي حق غُلبوا عليه، فإذا خامرته هذه الشكوى صوابًا أو خطأ وخامرته في أناس كبني عبد المطلب على مثل ذلك الصواب أو ذلك الخطأ، فهو لا يتخذهم وزراء كتبة يعملون له ويرتبطون بخدمته كارتباط مروان ومن إليه، ولعله لو لم يشكهم لا يخطر له أن يكلفهم عملًا كعمل كاتبه ووزيره؛ فإنهم في مقام الأنداد ولهم شاغل عن عمل يرتبطون به إلى جواره.

ولا نقول: إن عثمان لم يكن يستمع لمروان، ولا إنه كان يستمع للصواب من رأيه ويعرض عن الخطأ منه، ولكنما نريد أن نقول: إن ما بينهما ليس بطاعة الضعيف يلعب به القوي، وإنه اختيار له سببه الذي يوضع في ميزانه عند عثمان وغير عثمان حين يكون في مكانه.

والسؤال الواجب على أية حال في كل مقام كهذا المقام هو: «ماذا كان أجدر وأجدى من هذا؟» فإن كان الجواب قاطعًا فقد أمكن القطع بالخطأ، وإن كان الجواب يحتمل رأيًا هنا ورأيًا هناك؛ فليس التردد بينهما بالدليل حتمًا على الضعف والاستسلام.

واتباع عثمان لمشورة مروان أو لمشورة غيره، لم يكن قط ذلك الاتباع الذي يُعاب جملة أو يستحسن جملة، ولم يكن طاعة المُستسلِم الذي لا يدري فيم يستسلم، ولكنه أشد ما يكون من قبيل الحيرة التي يشترك فيها سالكان لا يأمن أحدهما إذا ضل صاحبه، ومن حار معك كما تحار أقرب إليك ممن يهتدي وهو في طريق وأنت في طريق.

ونعود فنقول: إن شخصية عثمان بما اشتملت عليه من نواحي قوتها وضعفها شخصية سوية، لا تناقض بين ما علمناه من أخبارها وأعمالها، وبين ما نرجحه من المؤثرات فيها من فعل البيئة والعقيدة، وقد ذكرنا بين مؤثرات البيئة: وراثته الأموية، ويتمه في صباه، ونشأته في بيت يتولاه غير أبيه، وانتماءه من جانب الأمومة إلى بيت عبد المطلب؛ وعلينا أن نشير إلى مؤثر آخر يلحق بهذه المؤثرات ولا يورد على أنه مؤثر يتواتر في جميع الحالات؛ ولكنه يورد لأنه لا يهمل في اعتبار بعض النفسانيين.

ذلك السبب هو إصابته بالجدري في شبابه، وعند بعض النفسانيين أن الجدري يعقب أثرًا في بنية المصاب به إذا أهمل علاجه — بعد سن الطفولة خاصة — وليس إهمال علاجه يومئذ بالأمر البعيد.

أما أثر العقيدة فمن الواجب ونحن نتعرف معادن الشخصية الإنسانية أن نثبت من معاييره في تقويم الأخلاق والتفرقة بين فاضلها ومفضولها، ويجب هذا التثبت خاصة في الزمن الذي يكثر فيه الخلط بين قيمة الفضيلة وبين التعريف بأسبابها، فيُعَذِّر بعض المقصرين أنفسهم أن يكونوا دون المؤمنين بالدين شجاعة وسخاء، ويقولون: إننا كنا خلقاء أن نُقْدم مثل إقدامهم، ونسخو مثل سخائهم، ونجود بالروح والمال مثل جودهم، لو كنا ننتظر الجزاء في اليوم الآخر أضعافًا مضاعفة من النعيم والسعادة.

وتلك في الواقع خديعة الطبع اللئيم، وإنهم ليزعمون أنهم يشجعون ويجودون لو آمنوا بالجزاء بعد الموت، والواقع أنهم واهمون أو مغالطون، وإن لهم أشباهًا صدقوا بالجزاء بعد الموت ولم يتركوا الجبن والشح، ولا تركوا ما هو أقبح من الجبن والشح وهو: السلب والغصب والعدوان على النفس والمال.

فانتظار الجزاء بعد الموت لا يبطل قيم الأخلاق، ولا يجعل الشجاع غير شجاع، أو الكريم غير كريم في ميزان الخلق المحمود.

قلنا في كتابنا أبي الشهداء: «كذلك يقول من يقول: إن الأريحية التي سمت إليها طبائع أنصار الحسين إنما هي أريحية الإيمان الذي يعتقد صاحبه أنه يموت في نصرة الحسين؛ فيذهب لساعته إلى جنات النعيم. فهؤلاء الذين يقولون هذا القول يجعلون المنفعة وحدها باعث الإنسان إلى جميع أعماله، حتى ما صدر منها عن عقيدة وإيمان، وينسون أن المنفعة وحدها لن تفسر لنا حتى الغرائز الحيوانية التي يصاب من جرائها الفرد طوعًا أو كرهًا في خدمة نوعه، بل ينسون أن أنصار يزيد لا يكرهون جنات النعيم ولا يكفرون بها؛ فلماذا لم يطلبوها كما طلبها أنصار الحسين؟ إنهم لم يطلبوها؛ لأنهم منقادون لغواية أخرى؛ ولأنهم لا يملكون عزيمة الإيمان ونخوة العقيدة، ولا تلك القوة الخلقية التي يتغلبون بها على رهبة الموت، ويقرعون بها وساوس التعلق بالعيش، والخنوع للمتعة القريبة، فلولا اختلاف الطبائع؛ لظهر شغف الناس جميعًا بجنات النعيم على نحو واحد، ومضى الناس على سنة واحدة في الأريحية والفداء. ومرجع الفرق إذن في آخر المطاف إلى فرق واضح بين طبائع الأريحيين وطبائع النفعيين.»

وهذا الفرق بين الطبائع هو الذي نرجع إليه في رجل يمتاز بالشجاعة البالغة، ورجل يمتاز بالسماحة البالغة، ولا يمتازان بمزية واحدة، وكلاهما يؤمن بالثواب والعقاب.

وهذا الفرق بين الطبائع هو الفرق بين من يطمح إلى المثل الأعلى ولا يقنع بما دونه، وبين من يكفيه من الجزاء أنه يؤمن العذاب.

وهذا الفرق بين الطبائع هو الفرق بين فرقتين من المسلمين تحارب كلتاهما في صف، وكلهم مصدقون بجزاء السماء واطلاع علام الغيوب بما يطوونه في الخفاء.

فالعقيدة الدينية لا تبطل سماحة عثمان ولا تغض من قيمتها، وتظل هذه السماحة سماحة مقومة في معيار كل فضيلة ومعيار كل فاضل، لا يغير منها أن العقيدة بعثتها في مبعثها هذا، أو حركتها بعد سكون، أو خلقتها خلقًا من حيث لم تكن. فقد كان مع عثمان أناس من منبته لم يعتقدوا كما اعتقد، ولم يزل بينهم وبين الاعتقاد حجاب من: عوج العقول، وعمى الأبصار، وأثرة الجهالة، وكل أولئك محسوب معدود في معايير الأخلاق.

ونُعَمِّم هذا القول في تقويم الفضائل والمواهب؛ فنفرق بين التقويم والتقدير وبين التعليل والتفسير، فليست كل فضيلة عللناها أو فسرناها شيئًا قد أبطلنا قيمته وقدره، وليس قولنا: إن هذه الروضة تنبت الرياحين والثمرات مبطلًا ما بينها وبين الفلاة المجدبة من الفرق والاختلاف، وليس قولنا: إن هذا الإنسان شجاع؛ لأنه استمد مناقب الشجاعة من وراثته أو من تعليمه أو من اعتقاده ذاهبًا بفضل الشجاعة، مسويًا بينه وبين الجبان، أو بينه وبين الشجاع الذي هو دونه في شجاعته وإقدامه.

فالأسباب تثبت الفضائل والمواهب ولا تنفيها، وهي من أجل هذا جديرة بالإثبات وجديرة بالطلب وجديرة بالثناء، وإن من تعرَّف أسباب حُسنه لحَسَن، وإن من تعرف أسباب قبحه لقبيح؛ فلن يصبح الحسن قبيحًا لأنه معروف السبب، ولن يصبح القبيح حسنًا لأنه معروف السبب، وإن قل العجب مع عرفان السبب كما قيل، فقد يذهب العجب ولا يذهب الإعجاب.

والشاعر قد بلغ غاية الإعجاب بيحيى حفيد علي بن أبي طالب حين قال:

كَدأبِ عليٍّ في المواطن كلها
أبي حسن والعرق من حيث يخرج
وأين له من ذاك؟ لا أين! إنه
إليه بعرقيه الزكيين محرج

تفسير للشجاعة هو غاية التقدير، وإبطال للعجب هو غاية الإعجاب، وإنما يتجنى على الفضائل الإنسانية بتفسير أسبابها من يتمحل للنوع الإنساني كأنه يتمحل لعدو لا يرضيه أن يوصف بخير؛ إلا أن يتعلل لمعابته بعلة، ويبطل العجب منه والإعجاب به سواء.

١  مستهترًا بالنساء: أي مولعًا بهن.
٢  الرمال المشرفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤