الفصل الثاني عشر

الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين

في الثامن من أغسطس عام ٢٠٠٨، جلس مليارات من البشر مبهورين أمام شاشات التليفزيون عندما أضاء وهج الألعاب النارية سماء بكين، بينما كان ألفا طبال يُعلنون افتتاح دورة الألعاب الأولمبية التاسعة والعشرين. تلا ذلك وليمة من الألوان، والرقص، والصوت، والإيقاع، والنغمات، وتداخل الألحان والحركات المتمكنة. كان من المثير مشاهدة الصين وهي تذكر العالم باختراعاتها العظيمة الأربعة: البارود، وصناعة الورق، وطباعة الحروف بطريقة قوالب الحروف المتحركة، والبوصلة. كانت أحدث أجهزة العرض التكنولوجية تعرض لوحات الخزف والبرونز والصخور تعقبها لوحات مرسومة بالحبر الصيني بالتزامن مع تحرك أشكال سوداء عبر درج عملاق. في حين كان ثلاثة آلاف مغنٍّ آخرون ينشدون أقوال كونفوشيوس، و٨٩٧ مؤدٍّ يرتدون أزياء على شكل حروف صينية، يشكلون كلمتي: «السلام» و«الوئام». لقد بذل الحزب الشيوعي قصارى جهده لتقديم نفسه لجيرانه ومنافسيه وزبائنه في القرن الحادي والعشرين. وقام زانج يي مو، أهم المخرجين السينمائيين في الصين، بإخراج حفل الافتتاح الذي شارك فيه ١٥ ألف شخص وتكلَّف أكثر من مائة مليون دولار. أثار الاحتفال ذهول العالم. وبعد أربعة أشهر احتفل الصينيون بالذكرى السنوية الثلاثين للإصلاحات الاقتصادية التي أتاحت لهم إقامة هذا العرض العظيم الغني بالثروات الثقافية.

لم تحظَ الهند بمناسبة كي تعلن فيها باستعراض مذهل كهذا عن انضمامها للاقتصادات القيادية في العالم، أو كي تستعرض قدرتها المادية، بدلًا من عضلاتها، لتُحقِّق الغرض نفسه. لكن نمو الهند الاقتصادي جدير باحتفال ضخم أيضًا. لقد حطَّم حراك الصين والهند الافتراضات الغربية الكبرى حول النمو الاقتصادي؛ إذ تبين أن الحكومات — على ما يبدو — تستطيع أن تُحدث تحولًا في المؤسسات الأساسية، وتشجِّع المبادرات الفردية الضرورية لاقتصاد السوق. ومثلما تحطمت نظرية التبعية إثر نجاح النمور الصغيرة الأربعة في خلق رأس مالها دون الحاجة للغرب، قُوضت الافتراضات المتعلقة بالربط بين الديمقراطية والتجارة الحرة بعد تبني الصين ذات النظام الشمولي لرأس المال الخاص واتخاذ القرار الفردي والأسعار التي تحددها السوق، لكن بحرص مدروس. وهكذا اجتاحت الثورة العارمة أكبر بلدين في العالم، وبإمكانهما أن يغيرا طابع الرأسمالية الغربية تمامًا.

تطورت مسيرة الصين والهند حتى هذه المرحلة بوسائل أكثر إلزامية من تلك التي تطورت بها مسيرة روسيا ودول الكتلة الشرقية القديمة التي هجرت هي الأخرى نظام الاقتصاد الموجَّه. كانت الديمقراطية الهندية النشطة متعددة الأحزاب في العقد السادس عندما انتخب الشعب رئيسًا ليُنعش اقتصادها الراكد. وفي الصين، ظل الحزب الشيوعي الصيني مسيطرًا بقوة على دفة سفينة الدولة بينما كانت تمخر عباب البحار متلاطمة الأمواج للتجارة الحرة في الثمانينيات. كانت الولايات المتحدة هي الزبون الرئيسي لكِلَا البلدين. ومن ثَمَّ، كانت الهند والصين لتتطورَا بوتيرة أبطأ من ذلك بكثير لو لم يكن المستهلكون الأمريكيون مستعدين للاستدانة بمبالغ كبيرة. ولأنَّ الهند والصين كانتا تبنيان اقتصاد السوق الحرة على قاعدة اشتراكية، فقد كانتا مصرتين على عدم السماح طويلًا بأن تعاني شعوبهما فجوة الدخل الكبيرة الموجودة في أمريكا، أو عدم توفير الرعاية الصحية والتعليم الرخيص لكافة أفراد الشعب. وهذه مهمة جسيمة بالنسبة لهما نظرًا لأن لديهما مستويات من الفقر ليست موجودة في الغرب، وأن التنمية الاقتصادية تسببت في تفاوت بين الأغنياء والفقراء أوسع بكثير مما هو الحال في الولايات المتحدة.

حمل بزوغ العقد الثاني من هذا القرن الحادي والعشرين حتى الآن تغييراتٍ مذهلة. كان مركز التجارة العالمية قد تحول في الثمانينيات من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي، مثلما تحول قبل ذلك من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطي في القرن السابع عشر. وفي ظل إمكانية الوصول لنصف سكان العالم عن طريق المحيط الهادي، وتنامي القوة الشرائية لهذا النصف، كان من المؤكد أن يحدث التحول بعدما بدأ العملاقان النائمان؛ الصين والهند، يُشعران جميع أنحاء العالم بقوتهما الاقتصادية. وهما بذلك يعودان على نحوٍ ما إلى مكانتيهما السابقة؛ ففي عام ١٨٢٠ كانت الصين والهند مجتمعتين تسهمان بما يقرب من نصف دخل العالم، وبحلول عام ١٩٥٠ انخفضت هذه النسبة إلى العُشر. لكن هذا التراجع توقف على نحو حاسم. وتقدر التوقعات أنه بحلول عام ٢٠٢٥ ستشكل مساهمتهما معًا ثلث الدخل في عالمٍ أكثر ثراء بكثير. تنحدر الصين والهند من حضارتين قديمتين حقتتا إنجازات رائعة في العلم والدين والفنون. ومع نمو قدرتهما على النمو الاقتصادي في العقدين الماضيين، علت أصواتهما في الاجتماعات الدولية.

منظمة التجارة العالمية ونقادها

رفضت الصين والهند قبول جولة المحادثات التجارية لعام ٢٠٠٨ التي أجريت في الدوحة، عاصمة قطر، تحت رعاية منظمة التجارة العالمية. كان انهيار جولة الدوحة يبدو إلى حدٍّ كبير تكرارًا لما سبق أن حدث من قبلُ؛ فقد كان منظر الدول التي تناور للحصول على امتيازات خاصة متجاهلة الاهتمامات المشتركة يعيد للأذهان مشاهد العشرينيات. لكن عمق الكساد الكبير وأهوال الحرب العالمية الثانية أسفرَا عن اقتناع الدول الغربية بالتخلي عن الرسوم الجمركية الحمائية وتقبُّل القيود التي تفرضها اتفاقية بريتون وودز. ثم مرَّ ٦١ عامًا بسرعة، وظهر ثانية ثعبان المصالح الوطنية في جنة عدن العالمية.

لقد حدث «الكثير» من الأمور منذ عام ١٩٤٧، حينما اتفقت ٢٣ دولة على أن تلتقي في اجتماعات دورية بهدف تسهيل الاتفاقات التجارية متعددة الأطراف، وتعزيز التنمية الاقتصادية الدولية في إطار الاتفاق العام للتعريفات الجمركية والتجارة، الذي كان موجودًا قبل منظمة التجارة العالمية. ولعلَّ أكثر الأمور الحبلى بالاحتمالات وسط هذا «الكثير» تراجع هيمنة الولايات المتحدة وتعاظم قوة الصين والهند. أصابت لقاءات منظمة التجارة العالمية المستمرة والمتدخلة بهدف الإصلاح كثيرًا من البلدان بالاضطراب. حيث ترفض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية من خارج الدول الرأسمالية المتقدمة نزوع الدول الغربية المقلق إلى الإشادة بالتجارة الحرة في الوقت الذي توفر فيه الحماية لجماعات المصالح لديها في الداخل. ويستنكر قادتها تقديم الكونجرس مليارات من الدولارات لمزارعي الذرة والقطن والسكر وفول الصويا والقمح بهدف حمايتهم من المنافسة في العالم الثالث. ويشير البعض بنوع من عدم التصديق إلى أن الاتحاد الأوروبي يدعم كل بقرة ترعى في حقول الدول الأعضاء فيه بأكثر من ٩٠٠ دولار.1 والأكثر استحقاقًا للنقد هو تلك التدابير التي اتَّخذها صندوق النقد الدولي لإجبار البلدان النامية على قبول الاستثمار الأجنبي والتدفقات قصيرة الأجل لرأس المال الأجنبي من دون أي قيود، على الرغم من أن سياسات كهذه زادت عدم استقرار اقتصاداتها الهشة بالفعل.

في جولة محادثات كانكون عام ٢٠٠٣، انضمت الهند والصين إلى البرازيل في قلب الطاولة على الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عندما طالبوا بإلغاء أشكال الدعم الزراعي وغيره من الحواجز التي تعوق التجارة. ثم في عام ٢٠٠٨، اتخذت الهند والصين موقفًا مغايرًا لموقف البرازيل ودول نامية أخرى من خلال رفضهما اتفاقات جولة محادثات الدوحة الجديدة. كانت الصين — الحريصة على توريد منسوجاتها إلى الولايات المتحدة — تفضِّل التجارة الحرة في بادئ الأمر، لكن منذ عام ٢٠٠١، برزت مشكلة جديدة في الأفق لكلٍّ من الهند والصين؛ فقد أدى نقص النفط وارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى فرض مخاوف من الاضطرار لرعاية مجموعة من مزارعي الكفاف كانت معدَمة بالفعل من قبل هذه الأزمة. كان البَلدان يريدان الإذن بفرض جدار من الرسوم الجمركية الحمائية في حال ازدياد الصادرات الزراعية. وكان هذا يبدو كتراجع من جانب الدول التي تبنَّت التجارة الحرة بعد الحرب العالمية الثانية. أما بالنسبة للبلدان النامية الأخرى فقد بدَا ذلك بمثابة صدعٍ لتضامنها معًا. ستكون مقاومة هذا المطلب قوية لأن معظم المحللين يدركون أن وراء جدران الحماية التشريعية يترعرع الفساد وانعدام الفعالية.

كانت الهند إحدى أولى الدول في منظمة التجارة العالمية. ومنذ عام ١٩٤٧، انضمت ١٢٦ دولة أخرى للسبع وعشرين دولة الأولى، بينما تتفاوض نحو عشرين دولة للانضمام. ولم تنضمَّ الصين لمنظمة التجارة العالمية حتى عام ٢٠٠١. وكانت تتحرق للانضمام بدرجة جعلتها توافق على إزالة معظم حواجزها التجارية، وهي الصفقة التي أجبرت دولًا أخرى على أن تحذو حذوها عن طريق خفض التعريفات الجمركية على الصادرات الصينية. وحينما دخلت الصين هذا المنتدى العالمي، وقَّعت على السماح للبنوك الأجنبية بدخول اقتصادها بحلول عام ٢٠٠٦، لكن ذلك كان مرهونًا بشروط كثيرة. رغم ذلك ظلت قضية حقوق الملكية الفكرية مشتعلة؛ إذ إن الصين محل الكثير من السخط لانتهاكها حقوق الملكية الفكرية، وهذه نقطة حساسة بالنسبة لصناعة الموسيقى في الولايات المتحدة وأوروبا. ويمكن إدراك مدى صعوبة حماية حقوق الملكية الفكرية إذا علمنا أن نسخ الإصدارات المزورة تمثل ٣٠٪ من إجمالي مبيعات أقراص الدي في دي والأقراص المدمجة في إسبانيا، وهي عضو مرموق في منظمة التجارة العالمية. وربما يستطيع التاريخ أيضًا أن يمنحنا رؤية ما لهذا الأمر؛ فحينما زار تشارلز ديكنز أمريكا عام ١٨٤٢، استاء حينما وجد أرفُف المكتبات الأمريكية تعج بنسخ غير أصلية من أعماله.2

للأسف كان أكبر الخاسرين جرَّاء عدم التصديق على جولة مباحثات الدوحة هي أقل الدول شأنًا في التجارة العالمية؛ البلدان الفقيرة الصغرى التي هي في أمس الحاجة لأن تتوقف دول الغرب عن دعم المحاصيل التي تريد هذه الدول تصديرها إليها. وكان أنصار عقد اتفاق جديد يأملون في أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية ربما يغري الكتل الزراعية المحمية في الغرب بالتراجع. حتى الحزب الديمقراطي في أمريكا — والذي يتولى السلطة الآن — تبنَّى خطاب الحماية. لكن التقدم لن يتوقف بفشل جولة الدوحة. وسوف تحل اتفاقيات تجارية ثنائية محل هذه الاتفاقية متعددة الأطراف، وستبدأ جولة جديدة من المحادثات بالتأكيد. وحينما يحدث ذلك، سيتبين بوضوح أن الأمر لم يعُد مبارزة بين الغرب وبقية العالم، وإنما لعبة تضم ثلاث مجموعات متنافسة على الأقل: الغرب واليابان المتقدمين، والنمور الأربعة الصغيرة، والصين والهند اللتين تتمتعان الآن بتقدم اقتصادي كفيل بأن يجعل مطالبهما مسموعة، وبلدان نامية أخرى مثل البرازيل وتشيلي المهددتين من الهند والصين اللتين كانتا صديقتين لهما من قبل، واللتين تعمل أسواقهما الضخمة وصادراتهما المتسارعة على تغيير أرض الملعب مرة أخرى.

تشكل منظمة التجارة العالمية هدفًا مفضلًا للمحتجين، الذين يتجاهلون أحيانًا أن أعضاءها البالغ عددهم ١٥٣ عضوًا ومراقبيها البالغ عددهم ٢٨ (من بينهم روسيا) يمثلون جميع البلدان في العالم تقريبًا، من الصين إلى ليشتنشتاين. أقيمت هذه المنظمة كي تكون أداة في يد الولايات المتحدة، لكنها تضم أعضاء مثل كوبا التي تناوئها الولايات المتحدة. لكن باعتبارها منظمة للتجارة تعمل في عالم رأسمالي، غالبًا ما تطبق شريعة الغاب، حيث تعمل الأسود على فرض سيادتها على غيرها. ومع امتلاك مقدمي الاقتراحات وأصحاب النفوذ في منظمة التجارة العالمية نصيب الأسد من الثروة والخبراء والغطرسة؛ حاولوا جاهدين تجاهل مطالب أولئك الذين يقعون في أسفل السلسلة الغذائية واحتياجاتهم. ينتقد البعض ما تتمتع به الشركات متعددة الجنسيات من نفوذ ضخم في منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بمجالات تجارة المحاصيل الزراعية، والمستحضرات الدوائية، والخدمات المالية.3 والبعض الآخر يقول إن منظمة التجارة العالمية تمارس حذرًا زائدًا عن الحد في تنفيذها إجراءات الحجر الصحي التي وُضعت لحماية البشر والحيوانات والنباتات. ويبدو أن الحذر في ازدياد؛ إذ إن كثيرًا من اتفاقات منظمة التجارة العالمية بشأن تخفيض التعريفات الجمركية لن تدخل حيز التنفيذ لمدة عشرين عامًا أخرى.

هناك الكثير من المنتقدين لمنظمة التجارة العالمية داخل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أيضًا؛ فالتنظيمات العمالية تعارض بحماس أن تُضطر للتنافس مع العمالة ذات الأجور المنخفضة في جميع أنحاء العالم. وقد أسفر تسابق الشركات الدولية للوصول إلى أقل أجور للعمال مع الحفاظ على ربحيتها عن حملة قوية تدعو لإدراج ضوابط التعامل مع العمال في اتفاقات منظمة التجارة العالمية في المستقبل. لكن المعارضين لهذه الحملة يقولون إنَّ منظمة التجارة العالمية لا يمكنها أن تتبنى جميع الغايات النبيلة التي يدعمها الغربيون. لكن بالنظر إلى أن العمالة عنصر محوري لكل أشكال الإنتاج، فمخاوفها لا تبدو هامشية على الإطلاق. هناك أيضًا الليبرتاريون الذين يستاءون من حجم الدور الفاعل الموكول لمنظمة دولية شديدة البيروقراطية كهذه (فرنسا وحدها لديها ١٤٧ شخصًا يعملون في منظمة التجارة العالمية).

ومثلما صارت الشركات توصَف بأنها «دولية» ثم أصبحت الآن «متعددة جنسيات» في قاموس العولمة، يحل كذلك وصف «عبر الوطنية» محل «الدولية»، مع تزايد عدد الوكالات واللجان والمعاهدات الدولية التي تُملي شروط التصرف على الدول. لكن النشطاء في الغرب يريدون أن تكافح المنظمات الدولية استغلال العمال وأن تحمي البيئة، بينما تميل القيادات الوطنية والمصالح التجارية في الدول النامية إلى النظر إلى هذه المخاوف بوصفها مزيَّفة تهدف في الحقيقة إلى فرض قيود على المتاجرة في سلعها. ترفض منظمة التجارة العالمية اتِّخَاذ إجراء ضد شِبَاك صيد التونة التي قد تصطاد الدلافين أيضًا، أو فرض قيود على لحوم الأبقار التي تُضاف الهرمونات إلى غذائها، لكنها عملت على الحد من التعريفات الجمركية والإعانات الحمائية.4 رغم ذلك، تستطيع المصلحة العامة التي تتأتى من إمكانية وصول كل دول العالم للسلع والمعلومات أن تنتصر على الدوافع الحمائية. وممَّا يزيد من إمكانية حدوث ذلك الآن أن دول العالم — بما فيها الهند والصين — باتت تدرك أنها في نفس القارب الذي إمَّا أن يغرق أو يطفو.

التغير البالغ في حياة كل جيل في الصين

الأجيال مهمة في كل مكان، ومهمة في الصين أيضًا على نحو خاص. وعندما تبلغ عصبة من الرجال والنساء سن الرشد، يتشارك أعضاؤها تجارب الكِبَر المشتركة. وهذا أصبح واضحًا في العصر الحديث، بعدما باتت الأعراف والممارسات والتكنولوجيا تتغير بسرعة كافية لأن تفصل بين عالم الآباء وعالم أبنائهم. ولا يعير المؤرخون الكثير من الاهتمام لمسألة الأجيال؛ لأن تواصل ولادة المواليد يجعل من الصعب تحديد وقت ظهور جيل معين في المشهد؛ فهم يميلون لتناول الاختلافات بين فترات زمنية طول كلٍّ منها ثلاثون عامًا، من دون أن يفكروا كثيرًا في المنظور الخاص للشباب الذين يشقون طريقهم في الحياة تحديدًا. وفي الصين، يحمل ظهور كل فوج جديد ثورانًا عنيفًا بداية من عام ١٩٤٩، عندما نجح ماو تسي تونج وقواته الشيوعية في دفع القوميين الصينيين عبر مضيق تايوان، الذي كان يُسمى وقتها مضيق فورموزا. أنهى هذا سنوات من الحرب الأهلية التي شملت الاضطرابات الناجمة عن الغزو الياباني، واحتلاله منشوريا في الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات.

وفي غضون سبع سنوات، كان ماو قد بدأ ما يسمى «القفزة الكبيرة نحو الأمام»، من خلال برنامجه لتحديث الاقتصاد الصيني؛ فقام بتنظيم الريف إلى بلديات تضم كلٌّ منها نحو خمسة آلاف أسرة. وفي غضون سنتين، صار سبعمائة مليون شخص يعيشون في أكثر من ٢٦ ألف بلدية. تجنَّب ماو نهج ستالين الذي شجَّع إقامة قطاع كبير للصناعات الثقيلة، وأراد بدلًا من ذلك أن يبدأ بوحدات صغيرة شأنها شأن البلديات التي نظمها. كان هدفه الرئيسي معقولًا، وهو أن يوفر حوافز تشجع المزارعين على البقاء في الريف وعلى تحسين إنتاجهم بحيث يتمكنون من إطعام المزيد من عمال الصناعة. وكان ماو يدعم المشاريع الصناعية الريفية من خلال مشاريع كهربة ضخمة لتغذية المصانع في المناطق الريفية.5 كان شعار الحكومة يقول: «اترك المزرعة، لكن لا تهجر الريف.» وكان العنصر الأكثر ابتكارًا (والأكثر تعرضًا للاستهزاء) في المخطط الكبير لماو؛ الأفران التي كانت تقام في الأفنية الخلفية للبيوت، والتي كان الناس يجلبون إليها ما يملكونه من أواني طبخ وأدوات معدنية كي يَجري تحويلها إلى صلب. ونتيجة لمزيج من الحظ السيئ، والأحوال الجوية السيئة، وسوء التخطيط، انتهت القفزة الكبيرة نحو الأمام بمجاعات كارثية حصدت أرواح ما يقرب من عشرين مليون نسمة. خلَّف هذا الأمر علامة واضحة في نفوس أبناء الجيل الذي بلغ سن الرشد في منتصف الخمسينيات.

وفي تتابع سريع للأحداث، اندلعت الثورة الثقافية الصينية عام ١٩٦٦، والتي قلبت حياة شباب الصين رأسًا على عقب؛ فقد حشد الحزب الشيوعي الطُّلَّاب ضمن «الحرس الأحمر» للعمل جنبًا إلى جنب مع جيش التحرير الشعبي من أجل اجتثاث العناصر الرجعية الموجودة بين المعلمين والمسئولين السابقين والمفكرين بوجه عام (الذين ربما يكون من بينهم آباء هؤلاء الشباب وأمهاتهم). وانتشر الشباب في جميع أنحاء البلاد، يتهمون أشخاصًا ويقيمون محاكمات صورية؛ ممَّا أدى إلى ارتكاب آلاف من جرائم الانتحار. في الوقت نفسه، جرى إرسال رجال الأعمال السابقين إلى معسكرات العمل الإلزامي. لكن بحلول أواخر عام ١٩٦٨، كان ماو قد انقلب على حرسه الأحمر؛ فأعاد تسميتهم باسم «الشباب المتعلم»، وأرسلهم إلى الريف ليعيشوا وسط أسر الفلاحين كي يعاد تأهيلهم. كان هذا تحولًا لفظيًّا أسفر عن تحول ملايين من الشباب المتحمسين لماو إلى أشخاص منبوذين من الدولة. بقي كثير من الشباب والشابات في الريف لمدة خمس أو ست سنوات. ولا شك أنه من الصعب قياس الأثر النفسي لمثل هذه التجارب، لكن من المؤكد أن قِلَّة قليلة من بين من يعيشون على هذا الكوكب هم الذين قد سبق لهم أن خضعوا لمراقبة صارمة كهذه، وتم التلاعُب بهم وفق الأهواء مثلما حدث للصينيين في عهد ماو.

المصلح الاقتصادي للصين

تُوفِّي ماو عام ١٩٧٦، تاركًا وراءه مجتمعًا متشائمًا وفقيرًا وعالقًا في طبقات من السيطرة الحزبية. كان قد أخضع الاقتصاد لأغراض السياسة من ناحيتين: الرقابة، والضغط من أجل جعل البلاد صناعية مع إقصاء عنصر الاستهلاك بهدف درء النفوذ الأجنبي. لكنه كان مسئولًا أيضًا عن حدوث قفزات كبيرة في متوسط أمد العمر المتوقع ومحو الأمية، وهما الأمران اللذان وضعا البلاد في وضع جيد فيما بعد.6 بعد عامين من وفاة ماو، تولى دنج شياو بينج السلطة، ووضع على الفور برنامجًا لبعث الحياة في الاقتصاد الراكد. عام ١٩٧١، كان الرئيس ريتشارد نيكسون في زيارة للصين على إثر حدوث تقارب دبلوماسي غير معتاد بفضل مباراة في لعبة تنس الطاولة. وبحلول عام ١٩٧٨، كانت الولايات المتحدة قد اعترفت رسميًّا بعدوها في الحرب الباردة. وكانت وزارة الخارجية تؤكد في ذلك الوقت أنها لا تريد مطلقًا أن تصبح العلاقات الثنائية مع أي دولة بالغة السوء؛ ممَّا قد يضطرها مجددًا إلى الاستعانة بلاعبي تنس الطاولة في مد أغصان الزيتون. كان دنج أيضًا مسئولًا وقت وقوع مواجهة شهيرة أثرت في الجيل اللاحق الذي كان في سن الرشد عام ١٩٨٩، ونعني بهذا المواجهة بين الطلبة المحتجين ومسئولي الحزب الشيوعي التي وقعت في ميدان السلام السماوي في بكين.

كان الآلاف من الشباب قد تدفَّقوا على بكين. وقد وصل عددهم إلى قرابة المليون في ميدان السلام السماوي وأقاموا الحواجز، بينما كان مليونان أو ثلاثة ملايين عامل آخرين منتشرين خارج الميدان، ينددون بالحكومة. في الصين، يطلقون على هذا الثوران الداعي للديمقراطية اسم حادث الرابع من يونيو؛ ففي ذلك اليوم تحديدًا تقدمت دبابات الجيش لتُخلي الساحة عنوة. ويذكر أدق التقديرات لعدد الوفيات الناجمة عن هذا الاجتياح أن عدد القتلى كان ٧٠٠ قتيل، لكن الآلاف من الشباب الآخرين أُلقي القبض عليهم، وسُجن العديد من منظمي حركة الطلاب. بعد حملة فرض النظام القمعية، منحت الولايات المتحدة ما لا يقل عن ٤٠ ألف تصريح إقامة، كان معظمها لطلاب صينيين يدرسون بالفعل في أمريكا. ولم تفلح موجة القمع الحكومي قط، وربما لقن ميدان السلام السماوي محتليه من الشباب درسًا مختلفًا: أن الحزب يمكن أن يكون مذعورًا، وتحديدًا من احتمال ارتباط «أفضل وألمع» الطبقات بالساخطين من أبناء الطبقة العاملة.

ومع ذلك، لم يكن ميدان السلام السماوي في حقيقة الأمر أهم ما شكَّل حياة الشباب في الثمانينيات وإنما ما كان يحدث في الاقتصاد، حيث ارتجل الحزب رقصة معقدة؛ إذ أزال السيطرة على القرارات الاقتصادية بدرجة تكفي لتحفيز المشاريع الحرة مع الحفاظ في الوقت نفسه على رقابة كافية للتأكُّد من أن السكان البالغ عددهم مليار وثلث المليار نسمة لن يجوعوا أو يتمردوا. وخطوات الرقصة على النحو التالي: أولًا ارفع قدمك، ثم أنزلها من جديد، ثم كرر العملية مجددًا مع زيادة الضغط قليلًا. وكان من شأن اتخاذ خطوة نحو الجانب أن يتيح الفرصة لاختبار مسار التقدُّم. وأهم ما في الأمر أن الحزب كان عليه أن يحافظ في المقام الأول على إيقاع الرقص المنتظم؛ خوفًا من أن يتحول إلى إيقاع حر خطير.

إن تعبير «معجزة» تعبير ديني، وهو جزء من العقيدة المسيحية. والمعجزة تمنح دليلًا على القدرة والنعمة الإلهيتين. ولا تمجد الكنيسة الكاثوليكية أي شخص لم يقم بمعجزة. لكن المجتمع العلماني صادر الكلمة. ومن المستغرب — بالنظر إلى أصل الكلمة — أن كلمة المعجزة وسيلة مفضَّلة لوصف النجاح الاقتصادي. فحينما شهد الفرنسيون الازدهار المدهش يعم منطقة القنال الإنجليزي في بداية القرن الثامن عشر، أطلقوا عليه: المعجزة الإنجليزية. ووُصف الانبعاث القوي لاقتصادات أوروبا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية بأنه «معجزة»، شأنه في ذلك شأن التحول السريع لليابان ومن بعدها النمور الصغيرة الأربعة إلى النظام الرأسمالي. والآن جاء دور الصين لتقوم بمعجزة، وهي معجزة مذهلة حقًّا.

كان الطريق أمام التنمية الاقتصادية الصينية السريعة حافلًا بالعقبات. العقبة الأولى ثقافية، وتمثلت في إقناع عدد كافٍ من الصينيين بقبول احتمال أن يصبح بعضهم أثرياء في حين يظل آخرون غيرهم على حالهم؛ فقد كانت المساواة قيمة شيوعية متغلغلة، وحقيقة من حقائق الحياة تأكَّدت لديهم من خلال تدابير الإسكان الحكومي والمخصصات الغذائية الحكومية. ومع ذلك، فالسرعة التي تحولت بها الصين من بلد يعتنق فكر المساواة إلى أحد أبرز بلدان العالم من حيث عدم المساواة مذهلة بحق، حتى إنها فاقت في ذلك السويد واليابان وألمانيا والهند وإندونيسيا وكوريا والولايات المتحدة، لكنها لا تزال أدنى من المكسيك وغيرها من دول أمريكا اللاتينية.7 تمثلت العقبة الثانية أمام التقدم الاقتصادي في المخاطرة الهائلة التي تعين على الصينيين العاديين أن يخوضوها حال انتقالهم من العمل بالمناصب الحكومية أو بإدارة المخازن أو المطاعم الحكومية إلى إقامة مشاريعهم الخاصة؛ فقد تَخلَّوا عن أجر مضمون — بصرف النظر عن قلته — الأمر الذي عبرت عنه لغة الشارع بأنه «كسر وعاء الأرز الحديدي». لكن نظرًا لأن مئات الآلاف من الصينيين فعلوا ذلك واستفادوا، تشجع غيرهم — خاصة الشباب — على تقليدهم.
عند هذه النقطة من سردنا، تبدو قصة كيفية قفز بلد آخر إلى طليعة الاقتصاد العالمي متوقعة قليلًا، لكن الصين نجحت في ذلك على الرغم من الصعوبات وبخلاف توقعات الخبراء. إن التنمية الصينية تكاد تبدو كقصة بوليسية، لكن بدلًا من وجود جثة لديك بيانات، رغم إقرارنا بأنها قد لا تكون مفيدة. رفع قادة الحزب أيديهم عن أجزاء من الاقتصاد نتيجة لمقتضيات السوق، في الوقت الذي كانوا فيه يدمجونها تدريجيًّا في المؤسسات الاقتصادية الدولية. وحل اقتصاد السوق تدريجيًّا محل الاقتصاد الموجَّه، ومارس سحره المعهود. ونمَا الاقتصاد الصيني بوجه عام منذ عام ١٩٧٩ بنسبة بلغت ١٠٪ سنويًّا. هناك أوجُه أخرى تعبر عن هذا النمو الاقتصادي غير المسبوق؛ فقد تضاعف الناتج المحلي الإجمالي الصيني سبع مرات خلال خمسة وعشرين عامًا، وارتفعت قوتها الشرائية العالمية في السنوات الخمس عشرة التي تقع بين عامي ١٩٨٩ و٢٠٠٤ من ٥٫٤٪ إلى أكثر من ١٢٪. وانتقلت في غضون عشرين عامًا من زمرة الدول ذات الدخل المنخفض إلى الدول ذات الدخل المتوسط مثل تركيا أو البرازيل، وفي الوقت نفسه كانت تمارس رقابة على أكثر من مليار نسمة من الرجال والنساء.8
كان أول تحركات الحزب نحو السوق أن قام بتصفية الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم المملوكة للدولة. غير أنه أبقى على الشركات الكبيرة لكنَّه غير قواعد تشغيلها. ورغبة في الحفاظ على حقوق المساهمين، أوكل الحزب إدارة هذه الشركات الكبيرة لمديرين كُوفِئُوا مع مرور الوقت على أدائهم. كانت معدات الصناعات الثقيلة المملوكة للدولة تلبي إلى حد كبير الاحتياجات العسكرية. وفي عام ١٩٨٤، سمحت الحكومة لبعض المؤسسات شبه الحكومية بأن تبيع فائض الإنتاج بأسعار متفاوض عليها. لكن بعد أن صارت هذه الشركات الحكومية أكثر استقلالًا، انخفضت عائداتها فعليًّا لأنها استخدمت ما يمكن أن نسميه الأرباح في رفع الأجور وزيادة المنافع. كانت هذه الشركات في وضع بالغ السوء؛ لأنها كانت مثقَلة بوفرة من العمال الزائدين عن الحاجة، وبدفع معاشات تقاعد.9 وهي أيضًا لم تُلبِّ إلى حدٍّ بعيد حاجة البلاد الأكثر إلحاحًا للصناعات الخفيفة والشركات الخدمية. ظلت صناعة السيارات ملكًا للحكومة أو أصبحت مشروعًا مشتركًا مع شركات أجنبية، وهو الترتيب الذي صار شائعًا في حالة الفنادق أيضًا.

المناطق الاقتصادية الصينية

أنشأ دنج أربع مناطق اقتصادية خاصة على الساحل الجنوبي؛ بحيث يستطيع أن يتاجر بحرية ويقبل الاستثمارات الأجنبية. أثبت هذا نجاحًا كبيرًا بدرجة جعلت ١٤ مدينة ساحلية أخرى تحصل على نفس الامتيازات. وتغيَّرت القيم بتغيُّر الممارسات. قبل إنشاء هذه المناطق، كان الحزب يعتبر مقاطعة جوانجتشو الجنوبية مدنَّسة برجال الأعمال الغربيين الهمج بسبب قربها من هونج كونج المزدهرة. لكن بعد أن أعاد البريطانيون هونج كونج إلى الصين عام ١٩٩٧، صارت نموذجًا للتحديث في الصين.

مع انفتاح الحزب على العديد من الجبهات، أرسل مجموعة من القادة الشباب في جولات لأوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة. وعاد هؤلاء الشباب مقتنعين بأن على الصين أن تحاكي البرنامج المكثَّف للإصلاح الذي طبقه ميجي في اليابان منذ قرن سابق من الزمان. ومكَّن انهيار الاتحاد السوفييتي دنج من أن يسود على قادة الحزب الذين ما زالوا يفضلون نظام التخطيط المركزي. كان دنج يمتلك أيضًا المهارات التنظيمية التي تؤهِّله لرئاسة الحزب الذي حكم مساحة شاسعة كهذه؛ لأنه كان يجيد تفويض السلطة وتسوية الخلافات.10 وقد استمر في سياسة ماو من حيث لامركزية صنع القرار، التي كانت تلقى دعمًا من مسئولي الحزب الراسخين في المناطق الريفية، والذين كان ماو يعهد إليهم بمسئولية أكبر من ذلك بكثير. ومن أجل التغلُّب على المعارضة من جانب المحافظين، قام الإصلاحيون بالقليل من الخداع المعجمي، فوصفوا تحركهم بأنه يهدف إلى «اقتصاد سوق اشتراكي» وتعاملوا مع نهجهم السابق للتخطيط المركزي على أنه أسلوب يحتاج إلى تعديل.
قدم الحزب نظامًا مزدوج المسار للأسعار وأسعار الصرف انطبق على كلٍّ من تجارة الجملة وتجارة التجزئة؛ وذلك حتى يتوافق مع المزيج الموجود من الشركات الخاصة وتلك المملوكة للدولة. لكن نظرًا للاختلاف اليسير بين شقي هذا المسار، كان الناس يتسابقون على شراء الأشياء بالسعر الذي حدَّدته الدولة، إلا في الحالات التي كان يوجد فيها فرق واضح في الجودة. شجَّع المسار المزدوج أيضًا الكسب غير المشروع؛ فقد استخدم أشخاص علاقاتهم الحزبية لشراء أشياء بسعر الدولة المنخفض، أو لإعادة بيع المواد الصناعية لمنشآت القطاع الخاص بأسعار أعلى من سعرها الأصلي بكثير. لكن هذا الشكل من أشكال الفساد عرَّض الحزب لانتقادات وزاد سرعة التحرك نحو الإنتاج الخاص. وبحلول عام ١٩٩٣، كان نظام تعويم أسعار الصرف قد حل محل السعر الخاص الذي يطرحه بنك الصين، وقضى على المسار المزدوج. كان الارتشاء والكسب غير المشروع يشكلان عقبةً كئودًا أمام تقدُّم الصين الذي — فيما سواهما — يتسم بالنزاهة. والارتشاء ليس حكرًا على بلدان الشرق بأي حال من الأحوال؛ ففي عام ٢٠٠٨ دفعت شركة سيمنز الألمانية الكبيرة أكبر غرامة في تاريخ الشركات بقيمة ١٫٦ مليار دولار عن تقديمها مبالغ غير مشروعة في جميع أنحاء العالم على مدى ستين عامًا.11
كانت الصين قد بدأت برنامجها للإصلاح عام ١٩٧٨ باقتصاد زراعي ريفي. وكان عدد سكان الريف حينئذٍ يمثلون ٧١٪ من السكان، بعد أن كانوا يمثلون ٨٩٪ عندما تولى الحزب الشيوعي السلطة، لكن كانت هذه النسبة لا تزال غير متجانسة إلى حد كبير. وكانت هناك مشكلتان قديمتان جدًّا تطاردان الاقتصاد الصيني: عدم زراعة ما يكفي من محاصيل المواد الغذائية، إلى جانب زيادة عدد الناس في المناطق الريفية عن عدد فرص العمل المتاحة لهم.12 قبل إصلاحات دنج مباشرة في أواخر العام ١٩٧٨، قامت إحدى المزارع الجماعية بتأجير أرضها سرًّا لأسر فردية عادية وقسمت عليها حصص الشراء الإلزامية. فبيَّن نجاح هذا الإجراء الإصلاحي السري المكاسب التي كان يمكن تحصيلها من خصخصة الزراعة؛ إذ بالرغم من حدوث موجة جفاف، ازدادت إنتاجية هذه المزرعة الجماعية في مقاطعة آنهوي بنسبة ٣٠٪. لذا، استسلم الحزب وتخلى عن فكرة المزارع الجماعية، على الأقل بالنسبة للفقراء وفي المناطق الجبلية. وعندما صارت الحكومة تدرك أن المسئولين المحليين قد ينزعون ملكية المزارع التي كانت جماعية من قبل، عملت على تسريع خصخصة الزراعة بحيث لا يتمكن المسئولون المحليون من بيع الممتلكات الجماعية لأتباعهم بأسعار متدنية. وأصبح النظام الجديد يعرف بنظام المسئولية الأسرية.
في عام ١٩٨٤، أدخلت شركة تاونشيب آند فيلاج إنتربرايز الصينية الصناعة إلى المناطق الريفية؛ الأمر الذي حلَّ جزئيًّا المشكلة القديمة لتوفير فرص عمل لفائض السكان هناك. إذ ولَّد التصنيع الريفي أكثر من ثلثي الوظائف الجديدة الناشئة في الريف والتي بلغ عددها ٣٠ مليون وظيفة. وقد أدى إبقاء الناس في أماكنهم بالريف إلى توفير تكاليف البنية التحتية وإلى استيعاب الأيدي العاملة الزراعية الرخيصة في مواسم ركود الطلب عليها. بدأ البرنامج بنص يشترط أن تتم إعادة ملكية المشروع الخاص للملكية الجماعية بعد مرور خمسة عشر عامًا على قيامه، لكن هذا الشرط تم تمديده ليصل إلى ٣٠ عامًا، وربما يتم إسقاطه تمامًا في المستقبل. ولم يبدأ عدد الناس الذين يعيشون في المناطق الريفية في الانخفاض حتى عام ١٩٩٨. رفعت إصلاحات دنج معدل النمو الاقتصادي إلى ٧٫٤٪ حتى في المناطق الغربية الداخلية النائية، مقارنة بمعدل نمو مذهل بلغ ١٢٫٨٪ في المناطق الواقعة على طول الساحل.13
كانت الأسر الريفية ترغب في تلافي التمييز ضد المشروعات الخاصة؛ فكانت في كثير من الأحيان تسجِّل ممتلكاتها في سجلات الدولة على أنها ملكية جماعية. وكان القرويون يطلقون على هذه المراوغة «ارتداء القبعة الحمراء». فقد كان نظام تسجيل الأسر الأصلي يربط الفلاحين بالأرض، لكن التمييز ضد الملكيات الخاصة تراجع بعد عام ١٩٩٢. ذكر مقال نُشر في صحيفة «ديلي تشاينا» عام ١٩٩٤ أن شركات القطاع الخاص ما عادت تكلِّف نفسها عناء التظاهر بارتداء القبعة الحمراء.14 فقد أصبحت هذه المشاريع المحلية أكثر قدرة على المنافسة مع السوق المتسعة داخل البلاد. ويمكن قياس مساهمتها في قطاع التصدير الصيني إذا علمنا أن إحدى البلديات تنتج وحدها ٣٥٪ من الجوارب التي تباع في جميع أنحاء العالم! ولا تزال وفرة اليد العاملة في الصين تلعب دورًا كبيرًا في تنميتها الاقتصادية.15
أدى تباطؤ الأجور الضعيفة وراء الأسعار في المناطق الريفية إلى هجرة ١٤ مليون صيني من الرجال والنساء إلى المناطق الأكثر ثراءً، واستمر هذا العدد في الازدياد جرَّاء الآثار المترتبة على انتشار الركود الاقتصادي عام ٢٠٠٩. يمثل هذا الاتجاه المتواصل تحديًا خطيرًا للاستقرار الاجتماعي، على الرغم من وجود فوائد تعود على كلٍّ من المناطق المستقبِلة والمرسلة. يستطيع المهاجرون مضاعفة دخلهم، ولو أنهم يكسبون أقل من سكان المدن الأصليين؛ إذ يحصل العمال الصينيون المهاجرون على وظائف هامشية تتسم بساعات عمل طويلة، وظروف سيئة، وأجور متدنية، شأنهم في ذلك شأن العمال غير الشرعيين في أمريكا. صحيح أن الصين تمكنت من تجنب نشوء الأحياء الفقيرة العشوائية حول مدنها الكبيرة، لكن العمال يُضطرون للسكن في مساكن المهاجرين، أو في ملاجئ الإيواء، أو في مواقع العمل؛ ففي مدينة شنغهاي على سبيل المثال، بلغ متوسط المساحة التي تقطنها الأسرة، عام ١٩٩٩: ١٧٫٢٧ ياردة مربعة (ما يقرب من ١٥٠ قدمًا مربعة)، فيما لا يحصل المهاجرون — الذين يتركون أسرهم في الريف ويهاجرون بمفردهم — سوى على نصف هذه المساحة فقط.16
في أواخر عام ٢٠٠٨ — في الذكرى الثلاثين لبدء سياسة الإصلاح والانفتاح لدنج — انتقل زعماء الحزب إلى ما هو أبعد بكثير عن نظام المزارع الجماعية من خلال بند يسمح للمزارعين ببيع حقوق استغلال أراضيهم — التي تمتد لثلاثين سنة — لمزارعين آخرين أو لشركات. ومع تراجع معدل النمو السنوي الصيني من ١٠ إلى ٨٪، بات إحياء الاقتصاد الريفي أمرًا بالغ الضرورة. وبهذا الإصلاح، يستطيع نحو ٨٠٠ مليون فلاح اقتراض المال بضمان مزارعهم، أو من بيع حصتهم في الأراضي والمشاركة في موجة الاستهلاك التي يتمتع بها سكان الحضر في الصين. وهذا من شأنه أن يرفع حجم المبيعات المحلية بعد أن تراجعت الصادرات في العالم الذي بات يعاني الركود. وبينما يمكن تحويل بعض الأراضي الزراعية المباعة من النشاط الزراعي إلى استخدامات أخرى، يمكن أيضًا دمج قطع أرض أخرى بهدف تحقيق كفاءة الإنتاجية التي تتأتى من ازدياد حجم الأرض. ومع انخفاض عدد المزارعين وزيادة الاستثمار في التحسينات الزراعية، سيرتفع عدد القادة الذين يتطلعون لتحقيق زيادة الإنتاجية.17 والفلاحون الصينيون يدخرون أيضًا؛ الأمر الذي يجعل الحكومة تأمل أن تؤدي زيادة أرباحهم إلى الشروع في الاستهلاك وتعويض العجز في الصادرات.
تقترب الصين في المساحة من الولايات المتحدة، لكنها تحوي مناطق جبلية أكثر بكثير. ولا تزال مناطقها الداخلية كثيرة التلال أفقر بكثير من المناطق السهلية الواقعة على الساحل. في نهاية السبعينيات كان عدد سكان أمريكا ٢٠٠ مليون نسمة، بينما كان عدد سكان الصين نحو مليار نسمة. وقد جرى اتخاذ تدابير صارمة للحد من زيادة النمو السكاني في الصين؛ ففي السبعينيات ظهرت حملة «التأخير والإطالة والتقليل»، التي كانت تحث الأزواج على تأخير سن الزواج، وإطالة الفترة الفاصلة بين الولادات، وإنجاب عدد أقل من الأطفال بوجه عام. وفي عام ١٩٧٩، أدخل دنج سياسة الطفل الواحد. وتخطط الحكومة لمواصلة سياسة الطفل الواحد حتى عام ٢٠١٠ على الأقل. وهي لا تطبَّق إلا على الصينيين من سلالة «الهان» الذين يعيشون في المناطق الساحلية كثيفة السكان. لكن على الرغم من حدوث استثناءات كثيرة، انخفض معدل الإنجاب الصيني إلى ١٫٧، وهذا يفوق المعدل البالغ ١٫٤ في أوروبا الغربية، ويقل عن معدل الاستبدال البالغ ٢٫١ في الولايات المتحدة. ويمكن قياس نجاح هذه السياسة بالنظر إلى أن عدد سكان الصين في الخمسينيات كان يمثل ٣٠٪ من سكان العالم، وأصبح الآن يمثل ٢٠٪ فقط.18 إلا أن نتيجة واحدة غير مقصودة ترتبت على ذلك وتمثلت في خلل نسبة الذكور إلى نسبة الإناث؛ لأن الكثير من الأزواج يُسقطون الأجنة الإناث كي يضمنوا أن يكون الطفل الوحيد المسموح لهم بإنجابه صبيًّا.
قبل أن تظهر آثار سياسة الطفل الواحد، انخفض معدل وفَيَات الرُّضَّع في الستينيات؛ مما أسفر عن زيادة كبيرة في عدد الشباب الجاهزين للعمل. ونظرًا لأن فرص العمل المنتجة كانت في انتظارهم، زاد هذا الجيل الذي بلغ سن الرشد في الثمانينيات من ازدهار الصين. أيضًا كان للتحسينات طويلة الأجل في الصحة وأمد العمر المتوقَّع أثر إيجابي على التنمية الاقتصادية. وفي العقود الأخيرة، ازدادت نسبة الإعالة في الصين (أي عدد الأطفال والمسنين الذين يعتمدون على الفئة العاملة في التكفُّل بنفقات الاعتناء بهم). حتى الوقت الحالي، كبِر جيلان ليس لهم أخوات ولا إخوة ولا عمات ولا أعمام، ولا أبناء عم. وانخفض عدد الباحثين عن وظيفة ممَّن يدخلون سوق العمل، بينما ارتفع عدد السكان الذين يتقاعدون من العمل ارتفاعًا كبيرًا. وبحلول عام ٢٠١٠، سيتجاوز ٣٣٢ مليون صيني من الرجال والنساء سن الخمسين. وهذه صيحة تحذير للولايات المتحدة؛ إذ قد تُضطر الحكومة الصينية إلى إسالة بعض سنداتها التي تحتفظ بها في الخزانة الأمريكية بقيمة ١٫٤ تريليون دولار، كي تتمكن من دفع معاش التقاعد لسكانها المسنين.19
غالبًا ما كانت القيادة الشيوعية منقسمة بشأن كيفية المُضي قُدمًا، لكنها اتفقت على أنه من الضروري الحفاظ على سيطرة الحزب على الحياة اليومية لأفراد الشعب. والاتجاه نحو اقتصاد السوق، حتى إذا كان «اقتصاد سوق اشتراكي» يعني تشجيع الرجال والنساء على العمل وفقًا لرغباتهم. لكن في الصين تتعايش المبادرة الفردية مع سيطرة الدولة في مزيج مربِك؛ فقد تبنَّى قادة الإصلاح عقيدة اقتصادية تعرف باسم «قفص الطير»، حيث تُمثِّل الخطة المركزية القفص، ويمثل الاقتصاد الطير. والمغزى من هذا يكمُن في أنه من دون القفص، سيفِرُّ الطير ويحلِّق بعيدًا، لكن الطير لا بد أن يشعر بأن الفضاء متاح أمامه؛ لذا يجب أن يُعدل القفص بحيث يوهم الطير بأن المساحة أكبر كي يظل سعيدًا.20 لكن قد يقول الغربيون إن الحزب بذلك كمن يمسك نمرًا من ذيله. فهو لا يستطيع أن يُبطِّئ مساره أو يغير اتجاهه لأن المكاسب كانت لافتة للانتباه بشدة ومشتركة على نطاق واسع. وقد عبرت عبارة وردت في مقال بجريدة «لوس أنجلوس تايمز» إلى حدٍّ ما عن عالم التنمية الصينية المقلوب رأسًا على عقب؛ إذ قالت: «لقد تحوَّل أفراد الحرس الأحمر السابقون إلى مليونيرات.»21

كان حادث الرابع من يونيو صيحة تنبيهٍ للحزب؛ إذ لا بد من إحداث تقدم مادي قوي لكبح المطالب الداعية لمزيد من الحرية. وفي عام ١٩٩٢، ذهب دنج شياو بينج في جولة لإلقاء الخطب في جنوب الصين. كثيرًا ما وصفت هذه الجولة بأنها «رحلته الشهيرة»؛ إذ إنها هيئت البلاد لجولة جديدة من الإصلاحات التي جرى تقديمها في المؤتمرات اللاحقة للحزب الشيوعي الصيني. بدأ القانون والحزب ينظران للملكية الخاصة على نحو أكثر إيجابية؛ فقد منح تعديل دستوري عام ١٩٩٩ للملكية الخاصة نفس المكانة التي تحظى بها ملكية الدولة. وجرى تنظيم حركة التداول في أسهم الشركات، وسُمح لأرباب العمل بطرد الموظفين الزائدين عن الحاجة. هذا التطور الأخير تحديدًا يذكرنا بما حدث لصناع الثياب في إنجلترا القرن السادس عشر، الذين أقنعوا مجلس شورى الملكة بأن السماح لهم بالاحتفاظ برءوس أموالهم لحين عودة الطلب أكثر حكمة من إنفاقها للإبقاء على النسَّاجين العاملين في المهنة في وظائفهم. وسمح للرأسماليين بأن يصبحوا أعضاء في الحزب الشيوعي؛ فنَمَت عضوية الحزب بنسبة ١٠٪ في السنوات الخمس التي سبقت عام ٢٠٠٧، حيث بلغ عدد الأعضاء ٧٤ مليون عضو.

لا يزال استيراد التكنولوجيا وتعزيز التعليم التكنولوجي جاريًا على قدم وساق، على الرغم من أن الاستثمار الصيني في مجال التعليم يعادل نصف نظيره في البرازيل، ويقل كثيرًا عن نظيره في الهند. وتبعث الصين أذكى شبابها إلى الجامعات الأجنبية لتعلُّم أفضل معارف الهندسة والعلوم من منبعها. لكن هذه السياسة كانت سلاحًا ذا حدين؛ إذ لم يعُد إلى الصين من بين نحو ٣٥ ألف طالب كانوا قد أُرسِلوا للخارج في أواخر التسعينيات، سوى ٩ آلاف فقط.22 لكن معدل العائدين في تحسُّن مستمر. وفي عام ٢٠٠٦، أرسلت الولايات المتحدة أكثر من ١١ ألف طالب إلى الصين. في الواقع، من الصعب أن نفهم لماذا لا تُنفق الحكومة الصينية بعض مدَّخراتها الهائلة في تطوير نظام التعليم بما يليق بثالث أكبر اقتصاد على مستوى العالم.

بعد خمسة عشر عامًا من تراجع سيطرة الحزب على الاقتصاد، بدأ الحزب الشيوعي عام ١٩٩٤ إعادة بناء نفسه من خلال منح حوافز لأعضاء الحزب كي يشاركوا في التنمية الاقتصادية. حتى هذه المرحلة، كانت النتيجة هي تركُّز المزيد من القوة لكن مع فعالية جديدة في الشركات الخاضعة لسيطرة الدولة في مجالات الطاقة، والصُّلب، والنقل، والاتصالات، والكهرباء، والصحة. كان ائتلاف جديد من النخب هو المسئول عن ذلك، فكافأ نفسه لقاء كل المبادرات الناجحة وذلك وصولًا إلى المستوى المحلي. وتزايدت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، لكن الحزب أنفق مبالغ كبيرة على الخدمات الاجتماعية مع إيلاء اهتمام خاص بالمناطق المتخلفة في غرب الصين ووسطها.

الخليط الصيني لرأس المال الاستثماري

النظام المصرفي الصيني عبارة عن خليط من أربعة بنوك ضخمة مملوكة للدولة، والبنوك التجارية المساهمة التي أُنشِئت لأغراض تخدم التنمية عام ١٩٩٤ — كأثر من الآثار الباقية للاقتصاد الاشتراكي — وبنوك المدن. تملك الحكومة حصة الأغلبية في كل بنوك الدولة تقريبًا. والاستثمار الأجنبي المباشر كبير ويتألف بالأساس من التزامات طويلة الأجل. أتاحت هذه الالتزامات — التي تحمل اسم «رأس المال الصبور» — للصين أن تواجه الأزمة المالية الآسيوية التي وقعت في عامي ١٩٩٧ و١٩٩٨ على نحو أفضل بكثير من معظم البلدان في المنطقة. يمتاز الصينيون بأنهم مدَّخِرون جيدون؛ لذا ظلت أسعار الفائدة منخفضة. وقد شكلت المدخرات الخاصة والعامة في الصين حصالة نقود أمريكا الكبيرة التي موَّلت إسراف إنفاقها في القرن الحادي والعشرين. لكن لا يزال أمام الشركات في الصين الكثير لتقوم به كي تكوِّن مؤسسات راسخة؛ فالمصارف الحكومية تعاني المحسوبية من جانب المطَّلِعين على أسرارها الداخلية. لذا سيعتمد أمن الاستثمارات الصينية على إرساء المسئولية المالية وتحسين القوانين والشفافية. وكخطوة في هذا الاتجاه، قام منظمو المصارف الصينية عام ٢٠٠٨ — كان ذلك في جزء منه استجابة للركود الذي حل في جميع أنحاء العالم — بزيادة عدد الامتحانات التأهيلية التي يتعين على المرشحين خوضها لشغل وظائف في مجال التمويل، فضلًا عن توسيع نطاق الموظفين الذين يتعين عليهم خوض هذه الامتحانات.23
تسمح القوانين الجديدة للأجانب بالاستثمار مباشرة بدلًا من الاستثمار من خلال المشاريع المشتركة. وخلافًا لمعظم الدول النامية، تمتعت الصين برعاية الكثير من الصينيين الأثرياء الذين يعيشون خارج البلاد. كان هؤلاء الأغنياء من الوافدين، الذين فَرُّوا إلى هونج كونج في الخمسينيات والستينيات، أو من أبناء المهاجرين الذين غادروا الصين في زمن سابق. ولما صارت الصين تنتهج السياسات التي تتوجه نحو السوق، بات هؤلاء الصينيون الأصليون حريصين على الاستثمار في البلاد، ووجدوا طرقًا للقيام بذلك على نحو رسمي وعلى نحو غير رسمي أيضًا من خلال نوادي المال والمحلات التجارية. وهم يملكون الكثير جدًّا من المال؛ ففي الفلبين يمثل المنحدرون من أصل صيني ١٪ من السكان ويملكون ما يقرب من ٦٠٪ من الثروة. وفي إندونيسيا ثروتهم أكبر من ذلك بحيث يسيطر ١٪ من السكان على ٧٠٪ من اقتصاد القطاع الخاص في البلاد، بما في ذلك أكبر تكتلاتها التجارية. ويخضع الاقتصاد البورمي لهيمنة أكبر من جانب المنحدرين من أصل صيني.24 عزَّزت هذه الثروة تدفق رأس المال الأجنبي والشركات الأجنبية إلى الصين. وحلت ضريبة أرباح جديدة محل نظام استبقاء الأرباح.

وقد وجدت الصين أفضل زبائنها في اليابان والولايات المتحدة، لكنها تعكف حاليًّا على وضع برنامج لجعل مدنها التبتية روابط اتصال تجاري بالهند. كان رئيس مجلس الدولة الصينية وين جيا باو قد قام بزيارة الهند عام ٢٠٠٥؛ فعملت رحلته تلك كعامل مساعد في عملية بناء طرق تجارة برية بين جمهورية الصين الشعبية والهند عن طريق إقليم التبت. وكحال الكثير من التطورات في الصين، لا يجري توجيه هذا التطور لجني المزيد من المال بقدر ما يجري توجيهه لخدمة أغراض اجتماعية وسياسية. كان الجيش الأحمر لجمهورية الصين الشعبية قد غَزَا التبت عام ١٩٥١. وبعد ثماني سنوات فرَّ الدالاي لاما من التبت، وبدأ حملة عالمية لتحقيق مزيد من الاستقلالية لوطنه السابق. وقد شجعت الصين شعبها على الانتقال إلى الإقليم، وتوَد الآن أن تسرع بضم التبت إليها بالكامل، وهي الخطوة التي قوبلت بنضال شرس من جانب سكان التبت الأصليين.

يخدم ضخ الموارد في إقليمها الغربي الفقير أهدافًا اجتماعية واقتصادية أخرى. علاوة على أن الانتهاء من خط سكك حديدية جديد يبدأ من الحدود التبتية سيسهل للغاية من الوصول إلى مدينة كلكتا التي تبعد ٧٥٠ ميلًا عن الحدود الجنوبية الغربية للصين. وفي الوقت نفسه، قامت الصين ببناء قوة بحرية لتجوب دورياتها الممرات البحرية التي تستخدم لنقل النفط الصيني في بحر العرب والمحيط الهندي. وقد عملت النزاعات الحدودية على فتور العلاقات بين الهند وجمهورية الصين الشعبية لمدة نصف قرن، لكن كان البَلدان على استعداد لاستغلال الفرص الاقتصادية الجديدة، وقد ترغبان أيضًا في دفن الأحقاد. ولا شك أن التهديد المتمثِّل في تراجع المبيعات في أوروبا والولايات المتحدة يجعل هذه السياسة أكثر جاذبية. وقد امتدت حماسة التجار إلى حدود كشمير الملتهبة بالعنف وذلك عن طريق شاحنات التفاح والجوز التي تذهب إلى الهند وتعود حاملة الأرز والزبيب.25
تفجرت صادرات الصين في العقد الأخير من القرن العشرين؛ إذ تضاعفت صادراتها إلى الولايات المتحدة وحدها من ١٠٠ مليار دولار إلى ١٩٧ مليار دولار في السنوات الأربع الأولى من القرن الحادي والعشرين. لكن التقلُّص المؤلم للطلب على الصادرات الصينية خلال فترة الانكماش الاقتصادي — أقل بنسبة ١٨٪ في الأشهر الأخيرة من عام ٢٠٠٨ — يشكل اختبارًا لمرونة واضعي سياستها الاقتصادية. في الوقت نفسه، ازداد تعقيد الصادرات الصينية بانضمام ملحقات أجهزة الكمبيوتر والإلكترونيات الاستهلاكية إلى الأحذية ولعب الأطفال. تشمل الصادرات أيضًا قطع غيار السيارات، كما يليق بقطاع الصين النشط لتصنيع السيارات.26 في عام ٢٠٠٤ تجاوزت الصين الولايات المتحدة كأكبر مصدِّر في العالم في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وهذه علامة قوية على نجاحها في تأهيل قوة عمل ماهرة. ويستوعب الإنفاق المحلي ما يزيد قليلًا على نسبة ثلث الإنتاج السنوي للصين، مقارنة بنسبة الثلثين في الولايات المتحدة.

والحكومة الصينية مثل شعبها، تتصرف في ثروتها العظيمة بحرص، وهي تدخر معظمها بعيدًا في سندات خزانة بالولايات المتحدة. وهذه نعمة للاقتصاد الأمريكي، لكنها ليست كذلك بالضرورة للاقتصاد الصيني. لكنها تترك مجالًا كبيرًا لاستمرار النمو الاقتصادي في الصين إذا استطاع الحزب أن يجِد وسيلة لتحويل مدخريه الكثيرين إلى مُنفقِين. والانكماش الاقتصادي الذي حَلَّ عام ٢٠٠٨ يجعل هذا الأمر أكثر إلحاحًا، بيد أن تحقيقه لن يكون سهلًا؛ فالصينيون يدخرون لأنهم ليس لديهم ضمان اجتماعي، ومن ثَمَّ سيتعين على الحكومة توسيع نطاق برامج معاشات التقاعد. وسيكون من الضروري تغيير أولويات التصنيع. وقد يرغب المستهلكون الصينيون في مجموعة سلع تختلف عن أنظمة الهاي فاي الصغيرة والأحذية غالية الثمن التي يعشقها الغربيون. ومع هذا لا تزال الجهود مستمرة في هذا الصدد؛ إذ تشجع الحكومة بنوكها على تقديم المزيد من القروض وعلى خفض مدفوعات الرهن العقاري من نسبة ٢٠٪ الحالية إلى ٣٠٪. إن تعويد الصينيين على إدمان ارتياد المولات التجارية سيكون له تأثير على الاقتصاد العالمي بأسره؛ إذ من المفترض أن يستتبع ذلك زيادة في وارداتها من الخارج.

التنمية الاقتصادية في الصين ماضية في سلاسة، لكن التغيرات الاجتماعية تسير على نحو أبطأ؛ إذ لا بد أن يعبر الرجال والنساء الصينيون نهر الخصخصة تحت رقابة الحزب الصارمة. أو كما يصف التعبير الصيني: «يعبرون النهر بتلمس الحجارة تحت أقدامهم.» أي يحققون التقدم بالخبرة التدريجية والحكمة المكتسبة على مر الزمن. يحافظ الحزب الشيوعي على سيطرة شاملة؛ ومن ثَمَّ يؤثر على تلك القرارات التي من الممكن أن تكون خاصة وفردية في مكان آخر. وهناك لجنة سكان مسئولة عن كل ما يحدث خارج وحدات العمل، التي لها هي الأخرى لجان حزبية خاصة لرصد سلوك الناس في عملهم. ترعى لجنة السكان الأمور المتعلقة بالإسكان، لكنها أيضًا تعقد حلقات دراسية سياسية أسبوعية، وتدير مراكز رعاية نهارية، وتوزع القسائم التموينية على الناس.27 وعلى رأس هذا الهيكل تتربَّع لجنة الانضباط الحزبي، التي تأسست في مطلع الثمانينيات لمنع استغلال أعضاء الحزب للسلطة أو معاقبتهم حال ارتكابهم ذلك. ويعمل في هذه اللجنة أعضاء الحزب المتقاعدون، كما هو الحال بالنسبة للدوريات المتعددة في الشوارع. وهذه السيطرة لا تتوافق على نحو طيب مع الاتصالات المجانية والسهلة التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات. وقد تعيَّن على محركَي البحث الأمريكيَّين جوجل وياهو أن يُناضلا مرارًا وتكرارًا لمكافحة نوبات الرقابة التي تفرضها الحكومة الصينية، والمناهضة لحرية التعبير.
لكن الترابط بين الاقتصاد العالمي والصحافة العالمية التي تغطي أخباره يضمن ألَّا يمر عمل سيئ دون أن يُنشر على الملأ، أو حتى يلقى العقاب؛ فالتغطية الصحفية من نوع تغطية فضيحة الحليب الملوَّث عام ٢٠٠٨ كان من الممكن أن يجري قمعها حينما كان القادة الصينيون يديرون اقتصادًا ذاتي الاكتفاء. لكن أولئك القادة الذين خلَفوا دنج كانوا على استعداد لدفع هذا الثمن، والاعتراف بأنه ليست هناك تنمية من دون ازدياد الاتصال بالعالم أكثر فأكثر، على الرغم من أن الترابط العالمي يعني أنه ليس بمقدور الصين دحض دراسات مثل تلك التي أجراها البنك الدولي عام ١٩٩٧، حينما أشارت التقديرات إلى أن تكاليف تلويث الهواء في الصين تمثل ٨٪ من ناتجها المحلي الإجمالي.28 وقد غطَّت وسائل الإعلام الإخبارية في العالم الزلزال الذي وقع في مايو ٢٠٠٨ في مقاطعة سيتشوان — حيث لقي ٨٨ ألف شخص حتفهم أو فُقدوا وشُرد ٥ ملايين آخرين — تغطية مكثفة. وسرعان ما أصبحت هذه الكارثة الطبيعية مشكلة سياسية عندما بَدَا واضحًا أن مباني المدارس البالية كانت سببًا في المعدل المروع لوَفَيات الأطفال جرَّاء هذا الزلزال.
ستغير هذه الاتصالات شعب الصين وعلاقته بالعالم، رغم أننا لا نستطيع أن نتنبأ كيف سيكون هذا التغيير بالضبط؛ فالمراسلون الصحفيون الأجانب الآن ينشرون أخبارًا عن مدى الفساد في الصين. يأخذ الفساد — الذي يقدر أنه يمتص ما بين ٣ و١٥٪ من اقتصاد الصين الذي تبلغ قيمته ٧ تريليونات دولار — أشكالًا كثيرة من تداول أسهم الشركات باستغلال الاطِّلاع على معلومات سرية، وصفقات المحسوبية بين المسئولين المحليين، إلى الابتزاز والنقود المزيفة في الرواتب. وقد عاقبت الحكومة أكثر من خمسة آلاف مسئول محلي على ارتكابهم ممارسات فساد عام ٢٠٠٨، لكن أعضاء الحزب يشكلون العمود الفقري لإدارة الحكومة. علاوة على أن دفع الرشوة لضمان نجاح العمليات التجارية، أو لإلحاق طفل بمدرسة، أو للحصول على رخصة قيادة أمر شائع. ونتيجة لازدياد تدفُّق الأموال في المجتمع؛ تصاعدت فرص الكسب غير المشروع. يستطيع الضحايا نشر احتجاجاتهم على شبكة الإنترنت، وهم يفعلون ذلك بالفعل، لكنهم يواجهون بذلك خطر مواجهة عقوبة قاسية.29
وكما بيَّنت دورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي عُقدت في بكين عام ٢٠٠٨، ليست الصين على استعداد لأن تكون لاعبًا عالميًّا فقط، بل على استعداد أيضًا لإنفاق مليارات الدولارات لتأدية استعراض عالمي يعرِض موهبتها وانضباطها وإبداعها.30 ويمكن قياس مدى ما وصلت إليه الصين من خلال أمور بسيطة ومهمة أيضًا؛ ففي عام ١٩٨٧، كانت رحلة واحدة تصل إلى بكين كل أربع وعشرين ساعة من مطار ناريتا في طوكيو، رحلة واحدة يوميًّا بين مدينة تحوي ما يقرب من عشرة ملايين نسمة وأخرى تحوي ٢٩ مليون نسمة! (تصوَّر كم الرحلات الجوية التي تذرع المسافة جيئة وذهابًا بين لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو أو بين نيويورك وفيلادلفيا أو بوسطن.) لكن ذلك كان في الماضي؛ فالآن هناك العديد من شركات الطيران وعشرات الرحلات الجوية. ومدينة شنغهاي على سبيل المثال فيها قطار يسير بسرعة ٢٤٠ ميلًا في الساعة حاملًا الركاب إلى مطار شنغهاي. وتقلع من هونج كونج سفن تحمل تلك الحاويات التي أحدثت ثورة في مجال شحن البضائع بمعدل سفينة في كل ثانية، أي ما يعادل أربعين مليون حاوية قياسية كل عام. وقد تباطأت الصين إثر الركود الذي عَمَّ العالم عام ٢٠٠٩، لكن وتيرتها قبل هذا الركود كانت نشطة للغاية.

صدمة بلا علاج في دول أوروبا الشرقية

كان الإصلاح في الصين عميقًا، لكنه تدريجي، على عكس عمليات الإصلاح في دول أوروبا الشرقية، التي كما يذكر أحد المعلِّقين من بولندا، مرَّت «بصدمة لكن دون علاج»31 وفي الثمانينيات، بينما كانت الصين تباشر عملية إصلاحها، تبنَّى الروس سياستي البيرسترويكا: أي إعادة الهيكلة الاقتصادية، والجلاسنوست: أي الشفافية في ممارسة السلطة السياسية. ثم جاء الانهيار السلمي للاتحاد السوفييتي عام ١٩٩١ في خضم هذا الجهد المزدوج لتحويل حزب هيمن على النظام السياسي إلى الديمقراطية وتحويل اقتصاد موجَّه إلى اقتصاد سوق. وفي مطلع التسعينيات، نصح خبراء غربيون — كانوا مشبعين بروح النصر جراء انهيار حائط برلين — الدول الشيوعية السابقة بأن تدخل السوق من خلال تحول زلزالي. أوصى هؤلاء المستشارون — الذين يتحدثون من خلال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي — بتحرير الأسعار فورًا من كل الضوابط، وبيع ممتلكات الدولة لجهات من القطاع الخاص. وكانوا يتوقعون أن تصاب الاقتصادات بالركود لفترة قصيرة، ثم تتعافى سريعًا. لكن الإنتاج دخل مرحلة طويلة من التراجع الشديد، وارتفعت الأسعار إلى معدلات تضخمية.
في روسيا، شرعت الطبقة الحاكمة الجديدة — المسماة بالنومنكلاتورا السوفييتية — في وضع يدها على كل شيء ذي قيمة يمكنها أن تستولي عليه في عملية خصخصة متعجِّلة لممتلكات الدولة. وتشكَّلت المنظمات الإجرامية بوتيرة تفوق قدرة الحكومة على السيطرة عليها. وحدثت عمليات بيع سريعة جدًّا لممتلكات الدولة، بينما اتسعت فجوة كبيرة جدًّا بين الأغنياء الجدد والبقية الفقراء، وكانت هناك علاقة متوترة للغاية بين المجتمع المدني ومنظماته المزعجة من جهة وقادة الدولة الاستبداديين النزقين من جهة أخرى، ناهيك عن الخصومة مع المليارديرات الجدد. من الصعب دومًا تحليل شيء لم يحدث، لكن مقارنة روسيا بالصين والهند تشير إلى أنها لم تكُن تمتلك قادة على دراية بالاقتصاد الحديث، وشعبًا قادرًا على الاندماج بسلاسة في إيقاع العمل كي يتمكن من الإنفاق. أيضًا لم يكُن نظامها القانوني كفئًا لمهمة كبح جماح الغوغاء والمجرمين الروس الذين استفادوا من ضعف الدولة في عهد الحكومة الانتقالية. ثَمَّةَ مشكلة أخرى تعتري روسيا؛ فخلافًا لأكثر البلدان اكتظاظًا بالسكان — الصين والهند والولايات المتحدة — تخسر روسيا من كتلتها السكانية بسرعة مروِّعة بمعدل نصف مليون شخص تقريبًا في كل عام. وفي غضون خمسة عشر عامًا ستتراجع روسيا من مرتبة تاسع أكبر بلد في العالم إلى المرتبة الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، لتقترب من حجم تركيا.32

عند هذه المرحلة يبقى سؤال حول ما إذا كانت تنمية روسيا ستضيف سهمًا جديدًا إلى جعبة الرأسمالية؛ فقد أدَّى استرداد دول الكتلة الشرقية الأوروبية القديمة — والتي تعاني أيضًا انخفاضًا في عدد السكان — لسيادتها إلى ظهور جهود مزدوجة مماثلة تسعى لإضفاء الديمقراطية على النظام السياسي وتفكيك الاقتصاد الموجَّه القديم في نفس الوقت. وقد فعلت بولندا والمجر وجمهورية التشيك هذا بنجاح أكبر إلى حدٍّ ما، بينما حازت جارتهم بلغاريا لقب أكثر الدول فسادًا عام ٢٠٠٨. وتتمتع روسيا بقوة نتيجة لكونها دولة مصدِّرة للنفط؛ الأمر الذي يُبقي يد الاتحاد الأوروبي مغلولة عند مواجهة التعنُّت الروسي في قضايا معيَّنة. لكن الموارد الطبيعية تعمل في العديد من الأماكن على عرقلة التنمية؛ إذ إن إيراداتها تريح القادة من عبء كسب التأييد الشعبي، والرخاء الوقتي الناجم عن ثرواتها السريعة يشجع على تأجيل المهام الأكثر مشقَّة التي ينبغي القيام بها لبناء اقتصاد قوي.

إرث بريطانيا المعقَّد في الهند

تطورت الهند بوتيرة أكثر بطئًا من وتيرة تطور الصين، لكن تطورها كان مبشرًا أكثر من اقتصادات أوروبا الشرقية. وربما يثبت مناخها السياسي والفكري النابض بالحياة أنه أكثر فائدة من النظام الاستبدادي في الصين. على مدى ثلاثمائة سنة قبل أن تحقق الهند استقلالها، كانت خاضعة لاستعمار بريطانيا العظمى — رائدة الرأسمالية — ولم تكن الهند كأي مستعمرة بريطانية أخرى، بل مستعمرة فريدة الأهمية بالنظر إلى ثقافتها وعدد سكانها وحجمها وصناعة النسيج فيها وموقعها الاستراتيجي. وفي أواخر القرن السابع عشر، بدأت شركة الهند الشرقية الإنجليزية تجلب لإنجلترا أقمشة الكاليكوس المطبوع والجنهام المقلَّم من الهند. وسرعان ما أثارت هذه الأقطان الملونة اهتمام الإنجليز، الذين باتوا يستطيعون تزيين أجسادهم ونوافذ منازلهم أو قاعاتهم بأقمشة زاهية ومشرقة. وفي ذروة صرعة الكاليكوس، حملت الشركة أنماط التصاميم المفضَّلة لدى الإنجليز كالصوف المزركش إلى النساجين الهنود كي يقلدوها. وبسرعة كبيرة، استجمع صناع الثياب الإنجليز نفوذهم السياسي وحصلوا على قوانين صدرت بهدف الحد من هذه الواردات إلى أدنى مستوى. وهكذا بدأ التراجع البريطاني عن التصنيع في الهند، التي اشتهرت أقمشتها منذ عصر المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت. وتوقَّفت شركة الهند الشرقية عن شراء الملبوسات الجاهزة، واستوردت بدلًا من ذلك المواد الخام اللازمة لصناع الثياب الإنجليز كي يواصلوا العمل. وصار صناع القماش الهنود يقصرون نشاطهم على الأسواق القريبة التي لم تكن تثير اهتمام الإنجليز.

ترتبط هذه القصة ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ الاستعماري للهند؛ فبعد أن انضمت الهند للعملاق الاقتصادي البريطاني، صارت تتلقى ملايين الجنيهات الإسترلينية الإنجليزية في شكل إنفاق على الأعمال العامة، لكن هذه الملايين كانت موجَّهة لجلب النفع على الإمبراطورية البريطانية، لا للهند. وبعد عام ١٨٣٠، بدأ المسئولون البريطانيون يشجعون الإنتاج أكثر ممَّا يشجعون التجارة. وفي منتصف القرن بدءوا بناء مكاتب ومساكن لموظفيهم الكثيرين، بالإضافة إلى قنوات وطرق ومنارات، وإقامة الخدمات البريدية، وخطوط التلغراف، ومشاريع الري. وأصبح مد خطوط السكك الحديدية في مختلف أنحاء الهند ضروريًّا لترسيخ الهيمنة البريطانية السياسية والعسكرية. وعلى مدى الستين سنة بين عامي ١٨٦٠ و١٩٢٠، عمَّر المهندسون البريطانيون ما يقرب من ٦٠٠ ميل عامًا بعد عام. وبحلول عام ١٩٠٠، صارت الهند تحوي رابع أطول نظام سكك حديدية على مستوى العالم.33
كانت بريطانيا العظمى تعتبر هذا الاستثمار جهدًا حضاريًّا عظيمًا ينبغي أن يَشكر الهنود بريطانيا عليه؛ فقد قالت الملكة فيكتوريا عبارة لا تُنسى عندما أعلنت رغبة مملكتها في تحفيز الصناعة السلمية في الهند: «سيكون رضاؤهم أمنًا لنا، وامتنانهم أفضل مكافأة يمكن أن نحظى بها.» لكن الفقر البائس الذي كان يعانيه الشعب الهندي ومنظر ثمار كدِّه وهي تُكدَّس على ظهور سفن الشحن المتجهة إلى بريطانيا حرك نواة من النقاد والناشطين. وأصبح أحدهم، داداباي ناوروجي، أول هندي يفوز بمقعد في البرلمان البريطاني، وحاول من موقعه هذا أن يبيِّن للإنجليز نظامهم القمعي. وقال: إن الحكم البريطاني يستنزف الهند لمصلحة «اقتصاد استعماري وحشي يأكل لحوم البشر». ولما كان ناوروجي عالم رياضيات موهوب، فقد وضع إحصاءات تؤكد قضيته، وقدر أن إنجلترا تأخذ ٢٠٠ مليون جنيه إسترليني من الهند، حيث يبلغ دخل الفرد مقاسًا بالروبية ٢٠ روبية، بينما يبلغ دخل الفرد البريطاني ٤٥٠ روبية. كان رد الفعل البريطاني إزاء هذه الإحصاءات تشكيل لجنة لدراسة هذه القضية، وهو تكتيك إرجائي كلاسيكي ومألوف. وفي عام ١٨٨٥، شارك ناوروجي في تشكيل المؤتمر الوطني الهندي. وأصبح أيضًا مرشدًا ومعلمًا لأحد معجبيه الشبان؛ المهاتما غاندي. في بادئ الأمر كان حزب المؤتمر الوطني الهندي يعمل ضمن نظام الإصلاحات البريطاني، لكنه في وقت لاحق قاد الحركة المناهضة للاستعمار التي حقَّقت استقلال الهند عام ١٩٤٧. 34

من منظور تاريخ الرأسمالية، يُحمل نقاد الرأسمالية الهنود أهمية كبيرة، وذلك لسببين؛ فقد أدركوا بذكاء أن المسئولين البريطانيين يتعاملون مع الاقتصاد كما لو كان نظامًا طبيعيًّا كالفيزياء، لا نظامًا اجتماعيًّا أنشأه البشر لتحقيق أغراضهم. والاعتقاد بأن الاقتصاد نظام طبيعي اعتقاد مفيدٌ من الناحية السياسية؛ فهو يقلل الاحتجاجات التي تعارض أفعال الاقتصاد ويجعله في مستوى لَعن غيوم المطر مثلًا. بينما لو كانت السوق تُرى على أنها مجموعة من الممارسات والمؤسسات الاجتماعية، لاستطاع الإصلاحيون الوطنيون الهنود أن يحرضوا على إجراء التغيير على نحو معقول؛ لذا صار كشف النقاب عن الأساس الأيديولوجي للرواية المريحة التي تقول إن قوانين الطبيعية هي التي تحكم العلاقات الاقتصادية ضروريًّا بالنسبة للهنود إذا كانوا يريدون الخروج من عباءة عقلية حكامهم البريطانيين. لقد كانوا بحاجة لفهم السبب في أن دمج الهند في الاقتصاد العالمي كمنتِج للمواد الخام أدى إلى إفقارها.

والأهم أن النقد الهندي للرأسمالية جعل القادة الهنود — بعد نيل الاستقلال — يميلون للانسحاب قدر الإمكان من التجارة العالمية التي كانت متمركزة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وشجعوا بدلًا من ذلك الصناعات المنزلية والحرف اليدوية والبنوك التعاونية وجمعيات التسليف التي من شأنها أن تؤصِّل اقتصادهم في تقاليد المجتمعات الريفية، حيث يعيش معظم الهنود. وحتى في الوقت الحالي، لا توظِّف الشركات ذات العلاقات العالمية سوى ٧٪ فقط من عمال الهند.35 في أواخر الأربعينيات، حينما كان العالم الغربي على أعتاب أزهى عصور ازدهاره الاقتصادي، صنع قادة كُلٍّ من الهند والصين اقتصادًا ذاتيَّ الاكتفاء ليتلاءم مع استقلالهما السياسي حديث العهد. كان الاقتصاد الهندي اشتراكيًّا وديمقراطيًّا، وكان الاقتصاد الصيني شيوعيًّا واستبداديًّا. ولعل الأمر البالغ الأهمية أن الهند احتفظت بالاتصال الفكري بالعالم الغربي، بينما أصبحت الصين معزولةً عن التأثيرات الغربية؛ فقد واصل معظم الهنود المتعلِّمين التحدث باللغة الإنجليزية، بينما كان الصينيون المتحدثون باللغة الإنجليزية يشيخون عامًا بعد عام بتقدُّم نخبة عصر ما قبل الثورة في العمر.

إن إسهام الصين والهند عام ١٨٢٠ بما يقرب من نصف الناتج العالمي تذكير جيد بأنهما كانتا مزدهرتين في الماضي. وعلى عكس العديد من الأسواق الناشئة في المشهد المعاصر، كانت لديهما جذور تاريخية أعمق بكثير من الجذور التاريخية للغرب؛ ما منح شعوبهما شعورًا قويًّا بالهوية كهنود أو كصينيين. ولم تكن تقاليدهما الثقافية متغيرة وإنما كانت راسخة. وقد حملوا معهم أيضًا عبئًا ثقيلًا من الماضي؛ فأحد أهم المعالم المميِّزة للمجتمع الهندي هو طبقاته؛ أي تلك المكانات الموروثة التي طالما حددت الامتيازات وفرضت على الأشخاص سلوكهم ومهنهم.

هناك مئات الطوائف فعليًّا في الهند، مرتَّبة في تسلسل هرمي يقبع في الجزء السفلي منه المنبوذون، الذين يشكلون ١٦٪ من سكان الهند. وقد مَنحت أعلى الطوائف — البراهمة — اسمَها إلى مفردة إنجليزية تعني «شخص مثقف جدًّا أو مفكر» كأن نقول مثلا: «براهمة بوسطن». في عام ١٩٧٣، حوصرت حافلة كانت تقل ٨٦ شخصًا بمياه الفيضان جنوب غرب نيو دلهي؛ فقام أحد المارة بخوض المياه بصعوبة بالغة إلى مكان الحافلة حاملًا حبلًا كان قد ربطه بشاحنة، وطلب من الركاب أن يسحبهم إلى بر الأمان. لكن لأن الركاب كانوا ينتمون إلى طائفتين مختلفتين، رفضوا أن يتشاركوا الحبل نفسه، مفضلين البقاء في الحافلة بينما كان الفيضان يجرفها بعيدًا.36 إن إحدى السمات التي قليلًا ما تَلقى التقدير للرأسمالية هي عدم تسامحها إزاء تمييز كهذا. على سبيل المثال، كان استمرار الركود الاقتصادي في الجنوب الأمريكي بعد الحرب الأهلية يُعزى جزئيًّا إلى النظام القانوني الذي كان يمارِس التمييز ضد الأمريكيين الأفارقة في الأماكن العامة.
يحظر الدستور الهندي الآن التمييز الطائفي، وقد اختفى هذا التمييز إلى حد كبير في المدن. لكن في عام ٢٠٠٨، قام أقارب فتاة تلقَّت رسالة حب من صبي يبلغ ١٥ عامًا من طائفة مختلفة بإلقاء الفتى المراهق أمام قطار بعد إذلاله على الملأ. ومن المستغرب بما فيه الكفاية أن آثارًا دائمة للطائفية لا تزال باقية في السياسة، حيث تعمل الطوائف كجماعات مصالح. لكن عام ٢٠٠٨، أدهشت ولاية أوتار براديش — أكبر ولايات الهند — البلاد بأسرها حينما انتخبت امرأة من طبقة المنبوذين رئيسةً لها؛ فقد جمعت كوماري ماياواتي ائتلافًا اجتذب الناخبين من جميع الطبقات في النظام الطائفي الهندوسي.37 يذهب أحد المبادئ التنظيمية المتعارَف عليها إلى أن السياسة القائمة على أساس طائفي تشجِّع ممارسات المحسوبية ولا تجعل الجدارة أساسًا للارتقاء في مجالي السياسة والاقتصاد.

رغم البدايات الديمقراطية للهند المستقلة، فقد مرت عام ١٩٤٧ بانفصال دموي بين سكانها الهندوس والمسلمين. وقد صاحب عنف بالغ نُزُوحَ السكان المسلمين من الهند إلى باكستان ثم إلى بنجلاديش في وقت لاحق. لكن لم يكُن الفصل تامًّا؛ إذ لا تزال الهند إلى اليوم تحوي ثالث أكبر كتلة سكانية مسلِمة في العالم، الأمر الذي يشكِّل مصدرًا متكررًا للصراع العنيف، كما بيَّن الهجوم الإرهابي الذي وقع في مدينة مومباي عام ٢٠٠٨ للأسف. وبالنظر إلى التنمية الاقتصادية الرائعة للصين، يقفز بعض الخبراء إلى استنتاج مفادُه أن الاستبداد والرأسمالية يمكنهما أن يتعايشَا جنبًا إلى جنب على نحو جيد. ويقولون إن القبضة الحديدية للحزب الشيوعي ربما كانت ضرورية من أجل الانتقال المتوازن من الاقتصاد الموجَّه إلى اقتصاد السوق، وهو الأمر الذي لم يكن له لزوم في الهند، حيث تثير السياسة الحزبية الإزعاجَ من دون أن تزعزع الاستقرار. ويسارع آخرون بالإشارة إلى المناخ الممتاز الذي توفره الديمقراطيات، على الرغم من أن السياسة في الهند لا تزال غير جديرة بالإعجاب؛ فمن بين ٥٢٢ عضوًا في البرلمان الهندي عام ٢٠٠٨، كان ١٢٠ يواجهون تهمًا جنائية.

يتعين على حزب المؤتمر الهندي القوي — الذي حكم الهند منذ نيل الاستقلال — أن يجمع الائتلافات الهشة كي يسود سيادة مطلقة؛ فقد بات تحمُّل المصاعب من أجل تنفيذ الإصلاحات المطلوبة على وجه السرعة يزدادُ صعوبة أكثر فأكثر؛ لأن الجلسات البرلمانية الهندية صارت صاخبة وعاصفة.38 ولعل السؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو ما إذا كانت عناصر في النظام الرأسمالي — كصنع القرار الخاص، وسهولة الاتصال من خلال السوق، وتشجيع الابتكار، وتلبية أذواق المستهلكين — تخلق موجة من شأنها أن تسحب البلدان النامية نحو المزيد من السياسة الديمقراطية؛ فقد انتقلت كلٌّ من تايوان وكوريا الجنوبية من الاستبداد السياسي إلى الديمقراطية. وتشكل سنغافورة اختبارًا ممتازًا لهذه الفرضية نظرًا لأن قوانينها صارمة وتقدُّمها الاقتصادي رائع.

مُجدِّد الهند

مهندس الازدهار الجديد في الهند هو مانموهان سينج، الذي بدأ توجيه الاقتصاد الهندي في اتجاه جديد عندما أصبح وزيرًا للمالية عام ١٩٩١. وقد استفاد سينج — المنتمي لطائفة السيخ — من وقوع أزمة مالية حادة كي يفكك العناصر الاشتراكية في اقتصاد الهند؛ فخصخص الشركات الحكومية، وشجَّع الاستثمارات الأجنبية، وحفز الصادرات والواردات على حد سواء. والأهم من كل ذلك أنه تخلص من ترخيص راج، وهو نظام معقَّد من القواعد التي كانت إجراءاتها الروتينية تخنق العمل الحر لعقود طويلة. كان نهرو قد وضع عام ١٩٤٧ ترخيص راج الذي ترتَّب عليه تأسيس لجنة التخطيط التي كانت تدير الاقتصاد من خلال الخطط الخمسية على غرار الأسلوب السوفييتي. أصبح سينج رئيسًا للوزراء عام ٢٠٠٤. وعلى الرغم من كونه مثقفًا ومعتدلًا، فقد بنى لنفسه قاعدة سياسية في صفوف الطبقة العاملة، والمختلفة عن طبقة الفقراء العاطلين عن العمل الذين لا يزالون يشكِّلون أغلبية في مناطق الريف.

أصبح معظم الأمريكيين على وعي بالوجود الهندي في السوق العالمية، حينما بدءوا يتصلون هاتفيًّا بشركات صيانة أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم للحصول على الدعم الفني فيجدون أنفسهم يتحدثون إلى شخصٍ ما يتحدث الإنجليزية بلكنة هندية؛ ففي التسعينيات، انتهزت الشركات الأمريكية الفرصة للاستعانة بشركات خارجية من الهند لأداء خدمات عملائها، حيث كانت هناك قوة عاملة ضخمة، وذات تعليم جيدٍ إلى حدٍّ ما، وناطقة باللغة الإنجليزية، وتتقاضى أجورًا متدنية. تعهد البنوك الأمريكية والبريطانية أيضًا بالأعمال المكتبية لجهات خارجية. وقد بدأ تعهيد الخدمات — الذي يختلف عن نقل المصانع إلى مواقع تمتاز بالعمالة الرخيصة — قبل عقدين من الزمن، عندما كانت بنوك مدينة نيويورك ترسِل سجلات معاملاتها اليومية بالبريد الجوي إلى أيرلندا، حيث كانت مجموعة أخرى من الموظَّفين المتعلمين تعليمًا جيدًا، والمتحدثين بالإنجليزية من ذوي الأجور المتدنية، يعالجون هذه البيانات كي يعيدوا إرسالها سريعًا في أول رحلة جوية عائدة إلى نيويورك. ومثلما تعهد الشركات الأمريكية بأعمال «مكاتبها الداخلية» إلى الهند، تلجأ الشركات الأوروبية إلى بلدان أوروبا الشرقية في الأعمال المحسابية ومسك الدفاتر. وفي تطوُّر جديد، بدأ متخصصو الهند في الخارج يوظفون آلاف الأمريكيين لمساعدتهم في التنافُس على أعمال أكثر تعقيدًا في مجال الخدمات التكنولوجية. إن الهنود يريدون ارتقاء سُلَّم العاملين من ذوي الياقات البيضاء.

ويمكن إدراك أهمية مراكز الاتصال هذه بالنسبة إلى الهند من واقع هيمنة العمل في قطاع الخدمات في الاقتصاد؛ ففي حين انخفض العدد الفعلي للمزارعين على نحو مطَّرد إلى ٢٤٪ من عدد السكان، نمَت نسبة العاملين في الوظائف الخدمية إلى ٥٠٪. وعلى سبيل المقارنة، أصبحت الصين مثلًا أكبر مصنِّع في العالم لأن ما يقرب من ٥٠٪ من العاملين فيها يعملون في مجال الصناعة. لقد وجد كل بلد من هذين البلدين ميزته النسبية في السوق العالمية. ويعكس استثمار كلٍّ منهما في التعليم العالي هذا الاختلاف؛ ففي الصين لا تتجاوز نسبة مَن نالوا أيَّ شكل من أشكال التعليم الجامعي ١٪، بينما تبلغ النسبة في الهند ٣٪، وهما نسبتان منخفضتان للغاية بالنسبة لبلدين يتطلعان لأن يكونا من قادة العالم.39 وقد عانى كِلَا البلدين من هجرة الأدمغة لأن بعض أمهر شبابهما الموهوبين يسعى للحصول على فرص عمل أفضل في الخارج؛ فقد أنتجت الهند جيشًا من مهندسي البرمجيات هاجر كثير منهم إلى الولايات المتحدة. ومع عودة الرخاء والتقدم بوضوح مرة أخرى إلى الوطن، عاد بعض هؤلاء الأشخاص للمشاركة في الجهود الوطنية الكبيرة لبناء اقتصادات تُضارِع تاريخ بلادهم المميز. وهم يجلبون معهم في كثير من الأحيان مهارات جديدة ورءوس أموال جديدة.

يعيش ثلثا عدد سكان الهند البالغ ١٫١ مليار نسمة في الريف، لكنَّ بعضًا منهم يعمل في مصانع المناطق الريفية كما هو الحال في الصين. ويعيش ربع هذه الفئة السكانية — أي حوالي ٢١٥ مليون نسمة — في فقر مدقع على الرغم من التغيرات الهائلة التي شهدها مجال الزراعة الآسيوية في السبعينيات والثمانينيات. وإذا نظرنا للأمر على نحو مختلف قليلًا، فسنرى أن ٦٥٪ من الهنود يعيشون على الزراعة، التي تمثل أقل من ١٨٪ من الناتج المحلي الإجمالي. ومع نيل الاستقلال، تسارع معدل نمو السكان في الهند وكثير من دول العالم الثالث. كان البريطانيون قد استثمروا القليل في التحسينات الزراعية في الهند، على الرغم من أن قطاعهم الزراعي في بريطانيا كان يعمل على نحو رائع. وأدَّى اختفاء أمراض الكوليرا والجدري والملاريا في الستينيات إلى زيادة أمد العمر في الهند قبل أن تبدأ معدَّلات الخصوبة في الانخفاض؛ مما قضى على أي مكاسب اقتصادية تحقَّقت في الخمسينيات. ولمواجهة هذه الأزمة المالتوسية الجديدة المتمثلة في زيادة الأفواه نسبة إلى العدد القليل جدًّا من أطباق الأرز أو أرغفة الخبز، شرعت جماعات الإغاثة الغربية في برنامج مكثف لتلافي المجاعات.

أقنع هنري والاس — وزير الزراعة الأسبق إبان حقبة الصفقة الجديدة — مؤسستي روكفلر وفورد بالتطوع لنجدة الجوعى، بدءًا من أمريكا اللاتينية. وبمجرد اضطلاع مؤسسة روكفلر بالمساعدة أنشأت المركز الدولي لتحسين الذرة والقمح في المكسيك، والمعهد الدولي لبحوث الأرز في الفلبين. وهناك استغلَّت مهارات علماء الوراثة لتطوير سلالات جديدة من الأرز والقمح والذرة التي يمكن أن تستجيب للأسمدة الجديدة وتنمو سيقانها قصيرة وقوية بحيث تحمل سنابل أثقل وزنًا من الحبوب. توصَّل رجل آخر — هو نورمان بورلوج الذي نشأ مثل والاس في مزارع ولاية أيوا — لاكتشاف أو اثنين يتعلقان بزراعة القمح والذرة، وفاز بجائزة نوبل عن سلالاته المعدَّلة من القمح والأرز. وبدءًا من عام ١٩٦٣، حملت مؤسسات فورد وروكفلر ووكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية هذه البذور إلى حزام أراضي زراعة القمح في جنوب غرب البلاد والذي يمتد من إقليم البنجاب الهندي إلى تركيا. وصفت هذه البدائل مرتفعة الغلة بأنها الثورة الخضراء، وسرعان ما أدَّت لتضاعُف إنتاج الحبوب في آسيا عام ١٩٩٥. وقد تضاعف نصيب الفرد من الدخل الحقيقي في المناطق الريفية، رغم أن الأرض المزروعة زادت بنسبة ٤٪ فقط. وتحسَّن النظام الغذائي؛ ما أدى إلى زيادة ملموسة في أمد العمر المتوقع.40

لم تتحقق هذه التطورات الزراعية في العالم الثالث بلا ثمن، فقد أفرط العديد من المزارعين في استخدام المياه والأسمدة؛ الأمر الذي زاد من تدهور البيئة. وازداد عدم المساواة في المناطق الريفية لأن الكثيرين من أفقر المزارعين تجاهلوا البذور والتقنيات الجديدة لاستخدام الأسمدة. وقد أدَّت زيادة المحاصيل جرَّاء استخدام المحسنات إلى تراجُع أسعار المواد الغذائية؛ ومن ثَمَّ ازداد الفقراء فقرًا، كما حدث خلال الثورة الزراعية في إنجلترا قبل ثلاثة قرون من ذلك الوقت. لكن بعد البداية المبشرة، بدأ تقدُّم الثورة الخضراء يتوقَّف في التسعينيات؛ فقد توقفت الحكومات عن تمويل مشاريع ري جديدة، وفشلت في إقراض المزارعين المال، ولم تبنِ طرق النقل اللازمة لنقل المحاصيل إلى أسواق المدينة، بالإضافة إلى أنها توقَّفت عن رعاية مجال البحوث كذلك.

يُعَانِي نصف أطفال الهند اليوم سوء التغذية، على الرغم من تزايُد معدل النمو الاقتصادي الذي وصل إلى خانة العشرات؛ فالحاجة إلى برامج في مجالي الصحة العامة والصرف الصحي أمر بالغ الضرورة. ومع ذلك، نجد أن متوسط أمد العمر المتوقَّع ومعدلات معرفة القراءة والكتابة في ولاية كيرالا — الأكثر شهرة في الطرف الجنوبي الغربي من الهند — تطابق المعدلات الأمريكية. وتعد كيرالا نموذجًا مختلطًا؛ فحكومة الولاية اليسارية تستثمر بكثافة في مجالي الصحة والتعليم — وهذا نتائجه واضحة — لكن ندرة فرص العمل تؤدي إلى هجرة ما يقرب من مليوني شاب وفتاة من شبابها سنويًّا. ويرسل هؤلاء العاملون من الدول التي استقروا بها — في دبي أو المناطق المحيطة بها — تحويلات مالية تمثل ربع دخل سكان كيرالا السنوي. ويبلغ إجمالي جميع التحويلات التي جاءت من دبي إلى باكستان وأوزبكستان وبنجلاديش، بالإضافة إلى الهند، ٦٥ مليار دولار سنويًّا!

تملك الهند — بعد الولايات المتحدة مباشرة — أكبر مساحة من الفدادين المزروعة على مستوى العالم. وبالنظر إلى تنوع أراضيها الواسع من حيث التربة والمناخ، تستطيع الهند أيضًا أن تُنتج وفرة هائلة ومتنوعة من الفواكه والخضراوات لشعبها ولبقية العالم.41 لكن الكثير من هذه الأرض تقع في مناطق شبه قاحلة، حيث يعوق نقص المياه زراعة البذور عالية الغلة واستخدام الأسمدة المُحسِّنَة. وتوجد أراضٍ أخرى تحظى بأكثر من اللازم من مياه الفيضانات الموسمية. وستواجه كلٌّ من الهند والصين نقصًا في المياه في المستقبل. كانت الهند قد اضطُرَّت إلى استيراد الأرز والحبوب؛ الأمر الذي شكَّل مزيدًا من الضغط على أسعار الغذاء العالمية. وقد دفعت هذه الواردات الحكومة إلى رفع أسعار الحبوب التي تشتريها من المزارعين باعتبار ذلك وسيلة لتشجيعهم على زيادة الإنتاج. لكن الأمارات الأكثر سوداوية على شيوع البؤس في الريف تمثَّلت في إقدام ١٠٠ ألف مزارع يائس على الانتحار خلال العقدين الماضيين. وقد تعهَّد رئيس الوزراء سينج أن تعمل الحكومة على تخفيف حدة البؤس في المناطق الريفية.

وعلى الرغم من أن الهند قد يبدو أنها تملك ما يكفي من الفدادين لاستيعاب كلٍّ من التصنيع والزراعة، يخوض المزارعون والمصنعون في الواقع صدامات عنيفة ومتكررة بعضهم ضد بعض بسبب النزاع على استغلال الأراضي. فمثلًا، كانت شركة تاتا الهندية لصناعة السيارات قد وضعت خططًا لإقامة مصنع لها في سهول دلتا نهر الجانج، حيث التربة خصبة بدرجة تتيح للمزارعين زراعة محصول الأرز مرتين سنويًّا إلى جانب زراعة خضراوات الحديقة، التي يمكن نقلها بسهولة إلى نيودلهي بواسطة طريق سريع أهلي جديد. كان موقع كهذا مثاليًّا بالنسبة لشركة تاتا، لكن المتظاهرين نجحوا في وقف بناء المصنع. ألقى هذا الصراع الضوءَ على عدوانية مزارعي الهند، وأشار أيضًا إلى تحرك جديد وقوي لتطوير التصنيع. لقد اختلفت الهند عن منافسيها في آسيا والدول المجاورة بالتركيز أولًا على سوقها المحلية بدلًا من أن تلجأ للصادرات، كما فعلت الصين وتايوان وكوريا الجنوبية. لكن هذا يتغير الآن.

بنَت شركات جون دير، وإل جي للإلكترونيات، ومجموعة إيسار، وهوندا، وتويوتا، ونيسان، وموتورولا، وجنرال موتورز، وويرلبول، في الهند مصانع تكلفت مئات ملايين الدولارات لخدمة زبائنها الكثيرين إضافة إلى سوق التصدير الواسعة. وتتوقع الحكومة أن تتجاوز الاستثمارات الأجنبية ثلاثين مليار دولار سنويًّا؛ فقد ألهب الزبائن الجدد في الهند سوقها للسيارات التي تحتل الآن المرتبة الرابعة في آسيا. وتحقق شركتا فورد وجنرال موتورز وأكبر ثلاث شركات صناعة سيارات يابانية مبيعاتٍ كبيرة في كل عام. إن أكثر من ثلث المشترين يشترون سيارتهم الأولى، وأكثر من ٩٠٪ من المشترين يُنفقون أقل من خمسة عشر ألف دولار لشراء سياراتهم. وتعتزم شركة تاتا موتورز الهندية تخفيض هذه التكلِفة من خلال إنتاج سيارة تَسعُ خمسة ركاب بسعر ٢٢٠٠ دولار! وهناك شركة سيارات هندية أخرى، هي شركة ريفا، تقدم للهنود سيارة هاتشباك تَسَع راكبين اثنين وتعمل بالكهرباء؛ فقد وسعت المخاوف البيئية والاقتصادية للقرن الحادي والعشرين آفاق صانعي السيارات الهنود، الذين كانوا يركزون على صنع السيارات الرخيصة الموفِّرة للطاقة. وتخطط شركة ريفا لتسويق سياراتها الكهربائية في أوروبا، وحصلت بالفعل على تصديق من الجماعة الاقتصادية الأوروبية.42

إن القوى السكانية في الهند تجعلها قادرة على التنافس مع الصين، حيث تُقلص سياسة الطفل الواحد حجم الجيل المقبِل من العمال في الصين. لكن الهند لن تزيح الصين من المركز الأول في عدد السكان على مستوى العالم قبل حلول عام ٢٠٣٠. وستبلغ ثروتُها من الرجال والنساء الذين تتراوح أعمارهم بين ٢٠ و٢٤ عامًا — والذين سيدخلون سوق العمل — ١١٦ مليون رجل وامرأة عام ٢٠١٣، بينما سيبلغ العدد ٩٨ مليون رجل وامرأة في الصين. نصف سكان الهند دون سن الخامسة والعشرين، و٤٠٪ دون سن الثامنة عشرة. في عام ١٩٥٠، كانت نسبة ٢٩٪ من سكان العالم يعيشون في المدن، وفي عام ٢٠٠٨، باتت النسبة ٦٠٪، وتأتي الهند في طليعة الدول التي ترتفع فيها نسبة المقيمين في المدن. وقد خصص سينج المليارات لتجديد ٦٣ مدينة هندية. تهدف هذه الخطط لاجتذاب الفقراء من الضواحي الموحِشة حول المناطق الحضرية ذات مستوى العيش الكريم. حتى الآن، اكتمل تجديد مدينة حيدر آباد الحضري، ودخلت مدينتا كلكتا وبنجالور ضمن الخطة. وما يجعل هذه البرامج الطموحة ممكنة أن الهند حافظت على معدل النمو الذي بلغ ٨٫٨٪ لسنوات عدة. وإذا استمرت على ذلك — وهذه مهمة عسيرة — سيتضاعف حجم اقتصادها البالغ الآن تريليون دولار بحلول منتصف عام ٢٠١٦.

فئة شابة من المستهلكين الهنود

تُواصِل الهند اقترابها من الولايات المتحدة من حيث احتواؤها على أعلى مستويات إنفاق في العالم؛ فالاستهلاك المحلي يمثل ٦٤٪ من الناتج المحلي الإجمالي الهندي، مقارنة بالنسب التالية: ٧٠٪ في الولايات المتحدة، و٥٧٪ في اليابان، و٥٤٪ في أوروبا، و٣٨٪ في الصين. ويشكل الإقراض بالتجزئة حاليًّا نسبة الربع من جميع القروض التي تقدمها البنوك؛ فالصين دولة مدَّخِرين، بينما الهند دولة منفقين. وفيما يعد لمسةً فولكلورية لطيفة لهذه الظاهرة المعاصرة، تعين البنوك طبالين لتأدية أغانٍ لطيفة لتذكير المَدِينين الذين يتأخرون عن سداد أقساطهم. لا بد أن هؤلاء الطبالين يعملون لساعات عمل إضافية الآن؛ إذ إن المدينين في الهند متورطون في أزمة ديون. في الوقت نفسه، الهنود يدخرون أيضًا؛ فقد زاد معدل ادِّخَارهم من ٢٨ إلى ٣٥٪ خلال العام الماضي. والسياسات المحافِظَة للبنوك الهندية تجعل إنفاق المدَّخِرين تحت السيطرة. وقد ظهرت حكمتهم عندما انهار المركز المالي العالمي في الغرب عام ٢٠٠٨؛ فبمقارنة الهند مع الغرب، شدَّد مديرو البنوك الهندية قيودَهم فقلَّلوا قروض شراء المنازل، وأوقفوا استثمارات الرهن العقاري في الأوراق المالية، وأوقفوا الرهون العقارية عالية المخاطر. لم يفلس أيٌّ من البنوك الهندية أو يتلقَّ أموال إنقاذ من الحكومة، لكن حتى الأقوياء يمكن أن ينهاروا إذا اعتقدوا اعتقادًا جازمًا أن الآخرين أقل حكمة.43

لعلَّ صناعة السينما والاستهلاك يسيران جنبًا إلى جنب؛ فقد حازت الهند تقدير العالم لأفلامها، التي يُطلق على صناعتها بوليوود. حتى الرياضة أيضًا خضعت لتأثير الرأسمالية. وما من رياضة أكثر شعبية في الهند من لعبة الكريكيت، التي انتقل مقرها الرئيسي في العالم من ساحة اللورد للكريكيت في لندن إلى مدينة مومباي، التي ما من شك في أنها تخدم الجماهير الغفيرة للعبة في الهند وباكستان وسريلانكا على نحو أفضل. وفي ظل حصول مجموعة كبيرة ممَّن هم في سن العشرينيات على دخل جيد، يشترى الهنود الملابس ومشغِّلات أقراص الدي في دي والأقراص المدمجة والتليفزيونات الملوَّنة ومكيِّفات الهواء ومعدات المطابخ بمعدل سريع. أما ذوو الثراء الشديد فيُقبلون على شراء عطور شانيل وساعات بياجيه وحقائب لوي فويتون وأحذية روسيتي المتاحة الآن في المتاجر الهندية.

وقد أحدثت شعبية الهواتف النقالة تحولًا في تجارة التجزئة؛ فالهنود باعتبارهم منفقين متحمسين، يرغبون في الحصول على أفضل صفقة شراء مقابل روبياتهم ويبحثون على شبكة الإنترنت عن أسعار جيدة. شجعت هذه السوق الواعدة شركة نوكيا الفنلندية على بناء مصنع في الهند، في حين بنَت شركة موتورولا الأمريكية — التي تحولت إلى شركة متعددة الجنسيات — المقر العالمي الأول في الهند. وفي عام ١٩٩٦، شملت لائحة فوربس للمليارديرات ثلاثةَ هنود، وفي عام ٢٠٠٦، شملت نفس اللائحة ٢٣ هنديًّا. وهؤلاء في الأغلب اكتسبوا ملياراتهم من مجالات الاتصالات، وطاقة الرياح، ومزيج من تكنولوجيا المعلومات والمواد التركيبية والمنسوجات إلى جانب عمليات التنقيب عن النفط والغاز وتكرير البترول.

أكبر هؤلاء المليارديرات هو الملياردير موكيش أمباني، الذي كان لشركة والده— ريلاينس إندَستريز — يد في كل عملية اقتصادية هندية. وأمباني ليس فقط أغنى رجل في الهند، فهو أيضًا داع للعلمانية وشبيه لبيل جيتس في أفعاله. وهو يحلم بالقضاء على الفقر في الهند في غضون خمسة عشر عامًا، وقد اقترح أن تبني شركة ريلاينس مدينة جديدة أكثر ملاءمة للعيش فيها تشرف على الميناء الموجود في مدينة مومباي محل إقامته. ويذكر أن تغيير اسم بومباي إلى مومباي كان متعمدًا لإزالة ارتباط معجمي مع بريطانيا. وأمباني — الذي انحدرت عائلته من طبقة التجار — يجسد هذه الروح. فعلى عكس المثقفين القدامى الذين ذهبوا إلى أكسفورد واقتبسوا الأذواق الإنجليزية، يفضل أمباني أن يتكلم لغته الهندية الأم في المنزل، ويحب أنواع الطعام الهندي الذي يباع على العربات الواقفة على جانبي الشارع، ويقضي وقت راحته في مشاهدة فيلم أو اثنين من أفلام بوليوود أسبوعيًّا.44 إن مبادرة أمباني التجارية الرامية لتسريع الوتيرة البليدة للإصلاح الاجتماعي في الهند تجسد روح الهند الجديدة، التي هجرت ماضيها الاشتراكي هجرة نهائية.

المهاتما غاندي وماو تسي تونج: رجلان أثَّرَا تأثيرًا كبيرًا في الهند والصين

نظرًا لأن الرأسمالية تؤثِّر على المواقف والقيم والعادات — أي جوهر الثقافة — على نحو بالغ؛ فمن الجدير أن نقارن بين الصين والهند من أحد الأوجه الأخرى أيضًا؛ فقد وجد كلٌّ من البلدين تقاليدَه الموقرة تتعرض للتحدي من جانب زعيم يتمتع بكاريزما في أواخر أربعينيات القرن العشرين. وربما يمكن أن نعزو بعض استجاباتهما للرأسمالية إلى أثر هذين العملاقين؛ المهاتما غاندي وماو تسي تونج. ترأس غاندي الحركة الداعية لاستقلال الهند عن بريطانيا العظمى من عام ١٩١٣حتى عام ١٩٤٨، حينما قام متطرِّف هندوسي باغتياله بعد ستة أشهر من نيل الهند استقلالها. كان غاندي قد تلقَّى تعليمه ليصبح محاميًا في لندن، وفي سن الرابعة والعشرين بدأ فترة تكليف دامت ٢٠ عامًا في جنوب أفريقيا، التي كانت تحوي جالية هندية ضخمة عام ١٨٩٣. شعر غاندي بالغضب من معاملة الأشخاص الملوَّنين هناك، وكرَّس جهده للدفاع عن العدل، وأدى به شغفه في هذا المضمار إلى السجن في عدة مناسبات. وكان يعتقد أن العصيان المدني والمقاومة السلبية أفضل وسيلتين يمكن أن يلجأ إليهما من يعانون القمع لبناء التضامن والشجاعة اللازمَين للإطاحة بمضطهِديهم.

لم يكن غاندي يحلم برؤية الهند متحررةً من بريطانيا فحسب، بل متحررة أيضًا من الفوضى الكريهة والاستغلال المدمر للروح في المجتمعات الصناعية مثل ذلك المجتمع الصناعي الذي فرضته بريطانيا على الهند. وقد ألهم غاندي من خلال عاداته المتقشفة مزيجًا قويًّا من الحب والاستحسان والإصرار على الغلبة. ثم نجح خليفته جواهرلال نهرو في تضمين دستور الهند الحديث ضمانات لحقوق الإنسان تعكس المُثُل العليا لغاندي. صحيح أن الدستور أقر الهويات الطبقية والتمييز بين الهندوس والمسلمين، لكنه صحَّح العديد من القوانين الجائرة لاستغلال الأرض ورفع مكانة المرأة. كان غاندي — الذي تبنى هو الآخر التقاليد الهندية العريقة — يؤكد على الوسائل السلمية للاحتجاج، وهو موقف لا يزال حيًّا في الهند. وشجَّع أيضًا تسامحًا إزاء التنوُّع الموجود في الهند، والذي ينعكس في أداء الأحزاب الهندية التي يزيد عددها على العشرين حزبًا وتتنافس على السلطة في الوقت الحالي.

في الصين، تولى ماو السلطة بوصفه المنتصر في حرب دفاعية ضد المحتلين اليابانيين وفي صراع مدني طويل مع القوميين الصينيين. بدأ الصراع الداخلي في أواخر العشرينيات، حينما كان ماو في الثلاثينات من عمره، واستمر حتى عام ١٩٤٩ بتأسيس جمهورية الصين الشعبية. وقد نضج ماو كجنرال ذكي وقاسٍ، كان التزامُه بالمبادئ الشيوعية هو الذي فرض المسار الذي سلَكَه عندما انتصر. وقد كان ماو مهندسَ إحداث التحول العنيف للمجتمع الصيني التقليدي والسقيم جدًّا من بعض النواحي. بمجرد حلول السلام، نجح الحزب الشيوعي في القضاء على الدَّعَارة، واستغلال الأطفال، وأوكار الأفيون، والتقليد الصيني القديم لربط أقدام الإناث لمنعها من النمو. ولما كان الحزب يمارس سلطة شمولية، فقد أعاد توزيع الأراضي ومارس قمعًا دمويًّا ضد «أعداء الثورة». أسس ماو ورفاقه هيكلًا هرميًّا للحزب، تئول قيادته إليه، يبدأ من أقل قروي مرورًا بمستويات من القيادة التي تؤدي إلى الرئيس ماو.

رغم أن كلًّا من الهند والصين كانَتَا تسعيان للتخفيف من حدة الفقر داخل البلاد من خلال الانسحاب من التجارة الدولية التي بدا أنها أفقرت الشعب، اختلفت تجربة كل منهما عن الأخرى على نحو مثير؛ فقد بدأ الناس في الهند يَتلقَّون تثقيفًا في المشاركة المدنية بعد الاستقلال، مسترشِدين بفلسفة غاندي الشخصية الداعية إلى التواضع، بينما أصبح أفراد الشعب الصيني — الذي كان يتلقَّى العديد من الفوائد من الدولة في مجالَي الرعاية الصحية والتعليم — خاضعين للسيطرة. وبينما كان غاندي مصدر إلهام، كان ماو منظِّمًا. ورغم المرارة الباقية التي كان يستشعرها الرجال والنساء الهنود بسبب وضعهم إبان الاستعمار، فقد ظلوا أقرب إلى العالم الغربي، واستطاعوا أن يصبحوا مستهلكين راقين على نحو أسهل بكثير من الصينيين، الذين سيحتاجون عقدًا آخر أو اثنين للتخلص من التشوهات والعزلة الشديدة المضجرة التي فرضها نظامهم الشمولي عليهم. وما يعد تحولًا قدريًّا مثيرًا للاهتمام إلى حَدٍّ ما أن الهنود استفادوا من نظامهم الطائفي؛ فقد كانت طائفة الفايشيا — وهي طائفة التجار — تمتاز بخبرة تمتد لأجيال في مجال الأعمال التجارية. وفي ظل وجود حكومة مقيدة بفعل تيارات النفوذ المتضاربة وطبقة تشق الطريق برشاقة نحو الزعامة العالمية، لا عجب أن يفضل الهنود أن يقولوا: «إنَّ اقتصادنا ينمو في الليل بينما الحكومة نائمة.»45
لكل بلد التزاماته، والتزامات الهند جسيمة؛ فعلى الرغم من أن قوانين العمل في الهند تمنع الاستغلال، تعاني البلاد تفشي الفساد، وخطورة الطرق، وتكرر الاحتجاجات، والاعتداءات العنيفة على الأقليات الدينية، وتردي حالة الصرف الصحي، ونقص الطاقة المزمن. ونظام الهند المالي أقوى من بنوك الصين التي تملكها الدولة؛ ما وضعها في وضع جيد إبان الأزمة المالية عام ٢٠٠٨. 46 لكن الحكومة الصينية تستطيع التحرُّك لحل المشكلات الاجتماعية بأسرع من تحرك نظام الهند الديمقراطي المكبل، الذي ازدادت قيوده نتيجة لتنوع الأديان والأعراق في الهند. وتشترك الصين مع الهند في الكثير من المشاكل: الفقر الشديد، والفساد المستشري، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وفي حين تحول غاندي إلى بطل في جميع أنحاء العالم الغربي، بات ماو منبوذًا في جميع أنحاء العالم. والتخلص من هذا الإرث سيستغرق بعض الوقت.

ثَمَّةَ مشكلة أصعب تستوجب الحل تواجه الطبقة الراقية في الهند والصين وتتمثل في الاحتقار المتأصل الذي تُبديه هذه الطبقة للبسطاء في مجتمعيهما، لا سيما الفلاحين. وهذا الموقف يفوق إدراك معظم الغربيين؛ فهو أعمق من أن يكون مجرَّد انحياز عنصري، ويولِّد الكثير من المرارة إلى درجة جعلت القادة في كلا البلدين يتناولونه على وجه الخصوص في خطبهم. كان تحرير السياسة قد بدأ يخفف حدة أعراف أرستقراطية مماثلة في أوروبا في القرن الثامن عشر. إن سمات على غرار العداء الديني أو النظام الطبقي الرسمي وغير الرسمي تتعارض مع اتجاهات الرأسمالية التي تعمل على تجانُس البشر. والمجتمعات المنفتحة المزدهرة التي يبدو أن الجميع في الصين والهند يتمنى بلوغها سوف تعمل جزئيًّا على القضاء على الإساءات التي تنهال على فقراء البلاد.

قبل فشل محادثات منظمة التجارة العالمية في الدوحة عام ٢٠٠٨، دُعيَت الهند والصين للانضمام إلى مجموعة جديدة كمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، سوف تشمل الولايات المتحدة والدول السبع والعشرين للاتحاد الأوروبي، والبرازيل وأستراليا واليابان. وفي لغة مستثمري وول ستريت، تعد دول البريك — أي الأسواق الناشئة في البرازيل وروسيا والهند والصين — أسواقًا ساخنة. ففي عام ٢٠٠٧، أنتجت الهند والصين والبرازيل معظم أصحاب الملايين في العالم؛ مما يدل على ازدهارها، وكذلك يدل على تفاوت مكافآت النظام الرأسمالي.47 لكن الجانب السلبي لهذه السخونة التي تتسم بها الأسواق الناشئة برز عام ٢٠٠٨، عندما بدأ المستثمرون الأجانب — الذين كانوا يعانون نقصًا في أموالهم — يسحبون أموالهم لتغطية ديونهم الكبيرة في الوطن؛ فخسرت الهند وحدها ١١ مليار دولار، وتلقت جميع الأسواق الناشئة ضربة مزدوجة تمثلت في تقلص الطلب على الصادرات التي كانت تغذي نموها الاقتصادي مصحوبًا بتقلص في الاستثمارات الأجنبية.48 لكن هذه الأسواق كانت على الأقل في نفس المركب مع عملائها.
حتى الآن، لم يستوعب الأوروبيون والأمريكيون بالكامل معنى ظهور آسيا على الساحة الاقتصادية العالمية؛ فهي لم تحول فقط مركز الثقل التجاري نحو الشرق، بل الأكثر إثارة للاهتمام والفضول أنها برهنت على قدرة الرأسمالية المتلوِّنة على تكييف نفسها في مواقع بعيدة كل البعد عن أوطانها الأولى. ولا يبدو المبتدئون الآسيويون بدورهم على وعي بقوتهم تلك. إن توجه الصين والهند البطيء نحو الولايات المتحدة يظهر من واقع امتلاكهما سندات حكومية أمريكية بقيمة تريليوني دولار. ونظرًا لأن هذا المبلغ لا يعود فعليًّا بأي نفع، فقد حث الاقتصادي لورَنس سامرز القادة الآسيويين على وضع هذه الأموال في صندوق إقليمي لتمويل مشاريع البنية التحتية بدلًا من ادِّخَارها في السندات الأمريكية. وربما حان الوقت المناسب لهذه الخطوة؛ لأن الهند والصين — مثل أسلافهما الغربيين — لوَّثتا طريقهما إلى التنمية الاقتصادية. وحث سامرز أيضًا اتحاد جنوب شرق آسيا للتجارة الحرة على دراسة سبل يمكن للتعاون من خلالها أن يعزز المنافسة الموجودة حاليًّا بالفعل.49 لقد دخلت الهند والصين بوضوحٍ الساحة الاقتصادية العالمية خلال العقدين الماضيين. ومن شأن التفكير في الكيفية التي ستتكيف بها الدول الرأسمالية الأصلية في الغرب مع وجودهما، وقوتهما، ونهجيهما السياسيين المختلفين أن يضفي مزيدًا من الإثارة على تفكيرنا في المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤