الفصل الثاني

التجارة في اتجاهات جديدة

بينما كان الإسبان يربطون العالم الجديد بالعالم القديم عقب رحلة كولومبوس إلى البحر الكاريبي، كان البرتغاليون يجمعون بين تجارتي المحيطين الأطلنطي والهندي القديمتين. كانت حركة التجارة في المحيط الهندي عقب فتوحات العرب والمغول قد ربطت بالفعل بين المساحات الشاسعة لقارة آسيا والهند وشمال أفريقيا وبين أجزاء من أوروبا بحلول نهاية القرن الثالث عشر. وقتئذٍ كانت أراضي الشرق على اتصال بشمال غرب أوروبا ومع المستعمرات الأوروبية في العالم الجديد. وتداولت شبكة التجارة الهندية الواسعة — التي أدارتها الخلافة في القسطنطينية — التوابل والأقمشة الفاخرة والأخشاب الثمينة. وأرسل الإسبان الذهب والفضة وأطعمة السكان الأصليين من العالم الجديد إلى وطنهم. وأضحت شعوب الأرض أخيرًا على اتصال بعضها ببعض بعد انفصال دام لآلاف السنين، أو على نحو أكثر دقة، بات الأوروبيون المحبون للاكتشاف والاستثمار والمغامرة على اتصال بشعوب الأرض.

وبينما كان التجار المسلمون يشقون طريقهم أبعد وأبعد نحو الشرق، كانت ديانتهم قد انتشرت في الصين والهند وأرخبيل الملايو والفلبين؛ ومن ثَمَّ أضحت الرغبة في وقف انتشار الإسلام دافعًا دينيًّا للبرتغاليين دفَعهم إلى مَدِّ رحلاتهم إلى ما وراء رأس الرجاء الصالح. فعندما سأل التجار التونسيون على ساحل مالابار أفراد طاقم الرحلة الرائدة لفاسكو دا جاما عام ١٤٩٨ عمَّا أتى بهم إلى هذه الأرض القاصية، كان الرد: «المسيحيون والتوابل.» وقد تجسدت بحقٍّ روحُهم الإنجيلية في قلة من اليابانيين الذين اعتنقوا المسيحية، وشرعوا في إنتاج قطع فنية دينية بارعة الصنع للبيع. لقد أظهرت كل هذه المنتجات — فضلًا عن أوعية البلَّور المزركش المصنوعة في الهند والملاعق العاجية التي زيَّنها الفنانون الأفارقة بنقوش على شكل حيوانات — كيف تحولت الحرف التقليدية تحولًا سريعًا إلى جزء من التجارة العالمية.1

حفزت التوابل والأقمشة الفاخرة والأخشاب العطرية من جزر الهند الشرقية خيال الأوروبيين وحواسهم، ناهيك عن ولعهم بالتجوال؛ إذ تحولت الأطعمة عديمة الطعم إلى وجبات لذيذة بإضافة القرفة والقرنفل وجوز الطيب والفلفل على وجه الخصوص. كان على معظم الناس أن يقنعوا بوجبات لا طعم لها نتيجة لنُدرة الملح والسكر وارتفاع سعرهما. ودفعت متعة الطعام الشركات التجارية الهولندية والفرنسية والإنجليزية إلى تأسيس قواعد تجارية في أنحاء الجزر الهندية، وكان نقل الشحنات الضخمة بحرًا أيسر بكثير من نقلها برًّا.

منذ عهد الامبراطورية الرومانية، كان للأوروبيين قدر من الاتصال بالشرق عن طريق البر، لكن المجاعات والأوبئة ما برحت تقطع الاتصالات التجارية لعقود. كذلك كان التجار العرب غالبًا ما ينجحون في قطع طرق التجارة الأوروبية، وتطلب الاستمرار في هذه التجارة المحفوفة بالمخاطر تجارًا محنكين مثل تجار عائلة ماركو بولو الفينيسية. ثم منحت السفن الشراعية — فضلًا عن الطرق البحرية المكتشفة في وقت لاحق — الأوروبيين وسيلة أرخص وأكثر أمنًا لتأسيس ما تَبيَّن بعد ذلك أنه اتصال دائم عن طريق البحر.

بعد أن شق المستكشف البرتغالي بارتولوميو دياز طريقه نحو الشرق بأربع سنوات، شجع الطريق الجديد الذي اكتشفه كولومبوس إلى العالم الجديد على بدء جولة أخرى من الاستكشافات؛ فقد حملت هذه الرحلات الأوروبيين إلى جزر نصف الكرة الأرضية الغربي وقاراته وإلى اكتشاف مدى اتساع رقعة الكرة الأرضية على وجه الحقيقة. ورغم أن المتعلمين كانوا يدركون منذ وقت طويل أن الأرض كروية، فلم تكن لديهم أي فكرة عن محيطها. علاوة على ذلك، مكَّن احتلال المكسيك وبيرو الإسبان من الوصول إلى مناجم الأزتك والإنكا؛ فبدأت كميات الذهب والفضة المستخرَجة من هذه المناجم تنهال على أوروبا. والأهم من ذلك أن السفن العابرة للمحيط الأطلنطي جلبت حيوانات ومزروعات غيرت طبيعة المجتمعات على جانبي الأطلنطي تغييرًا جذريًّا؛ ومن ثَمَّ أكمل ما كان يطلق عليه «التبادل الكولومبي» التجانس البيولوجي والنباتي لكوكبنا.2

لكن مع الأسف، كان نقل الجراثيم الفتاكة إلى سكان العالم الجديد جزءًا من ذلك التبادل. تسبب وصول وافدين جدد إلى نصف الكرة الأرضية الغربي في إبادة تامة غير مقصودة؛ إذ حمل الأوروبيون معهم أنواعًا من الجراثيم الفتاكة التي لم يكُن لدى السكان الأصليين أي مناعة ضدها. وقد فني شعب الأراواك الذي كان يعيش في سان دومينجو عن بكرة أبيهم؛ نظرًا لتعرضهم لهذه الأمراض من العالم القديم دون أن تكون لديهم مناعة ضدها. وتكررت هذه الظاهرة القاتلة مرارًا وتكرارًا كلما حدث لقاء جديد بين شعوب العالم الجديد والأوروبيين، بدءًا من الأراواك في القرن السادس عشر، إلى الشاموريين، الذين عاشوا في جزر ماريانا في القرن السابع عشر، إلى الألوتيين الذين عاشوا في جزر بريبلوف في القرن الثامن عشر.

اخترقت السفن العديدة بقيادة التجار والقراصنة وقادة البحرية عزلة شعوب الأمريكتين الشمالية والجنوبية للأبد، وفي الوقت ذاته شحذت فضولَ آلاف الأوروبيين. وسرعان ما طبعت عشرات النقوشات لإشباع فضول جمهور القراء الصغير في أوروبا. في البدء، عرضت لوحات حجرية قديمة تصور جنة عدن وأعيد طبعها، لكن شيئًا فشيئًا بدأت رسوم أكثر دقة تصور الشعوب والحيوانات والنباتات المكتشفة في العالم الجديد في الانتشار. وبدأ فصل جديد كليًّا في فصول تاريخ الفضول البشري.

لاءمت التجارة البحرية التي أعقبت الاكتشافات العظيمة لكل الطرق المائية إلى جزر الهند الشرقية والغربية المجتمعَ الأوروبي التقليدي تمام الملائمة؛ فقد كانت مناقب الأوروبيين السامية التي تمثلت في القيادة والسيادة والحماسة والجسارة والتفوق العسكري تامة الوضوح وبالغة الفعالية في ترويع الشعوب والسيطرة عليها، تلك الشعوب التي كانت مفتونة هي الأخرى بالأعمال البطولية الشجاعة. وقد راقت البطولات البرتغالية — شأنها في ذلك شأن الإسبانية — للروح الأرستقراطية النبيلة بحبها المغامرات العسكرية. وكان ألفونسو دي ألبوكيرك مثالًا للمغامر الأيبيري النبيل. كان سليلًا غير شرعي للأسرة البرتغالية الملكية، وبدأ حياته بمحاربة المسلمين في شمال أفريقيا، وفي عمر الثالثة والخمسين عام ١٥٠٦ أبحر على رأس أسطول من السفن حول رأس الرجاء الصالح، وحاز السماح ببناء قلاع هناك لقاء مساعدة الحكام المحليين على تأمين سلطتهم. وفي عام ١٥١١، استولى على ملقا — التي كانت أحد المراكز التجارية الضخمة — لمصلحة ملك البرتغال.

وفي معترك التجارة والغزو والاستعمار، سجن ألبوكيرك أو تحطمت سفينته أكثر من مرة. ونزولًا على إصرار حكومته، ضرب على مدينة عدن حصارًا باءَ بالفشل عام ١٥١٣؛ ليصبح بذلك أول أوروبي يذرع مياه البحر الأحمر. ودفعه حنقه من المصريين إلى التفكير في جلب الخراب على البلاد بتحويل مجرى نهر النيل. توفي ألبوكيرك عام ١٥١٥ خلال رحلة عودته للوطن بعد الاستيلاء على مضيق هرمز. وكما يوحي لقبه الشهير «مارس البرتغالي» — نسبة إلى إله الحرب لدى الرومان — كان ألبوكيرك وأمثاله من القادة البحريين أشبه بصليبيِّي العصور الوسطى من تجار العصور الحديثة.

اتسمت الفتوحات الإسبانية بطابع أرستقراطي وعسكري على حد سواء؛ فقد رفع مغامرون شجعان متحمسون مثل كريستوفر كولومبوس، وهرناندو كورتيز، وفرانسيسكو بيزارو، وخوان بونس دي ليون، وفرديناند ماجلان علمَ إسبانيا من جزر كناري إلى الفلبين. وبعد فشل جهود الإسبان في الوصول إلى ثروات الشرق الرائعة عن طريق الاتجاه غربًا، بدءوا في استكشاف الأراضي الجديدة التي اكتشفوها. وشرع التاج الإسباني سريعًا عقب رحلات كولومبوس الاستكشافية في تأسيس مستعمرات على امتداد البحر الكاريبي. وبعد احتلال الأزتك والإنكا في المكسيك وبيرو، وضع الإسبان أيديهم على منجم ذهب، بل العديد من مناجم الذهب والفضة. ولأن قدرتهم على إكراه الآخرين على العمل أفضل من قدرتهم على تنظيم العمل فقد استخدموا السكان الأصليين للعمل في خدمتهم. وحين تبين أن هؤلاء لا تلين مقاومتهم، لجأ الإسبان لاستيراد العبيد الأفارقة من تجار الرقيق البرتغاليين. وعبرت الأساطيل الإسبانية التي تحمل النفائس المحيط الأطلنطي مرتين في السنة من مدينتهم المحصنة هافانا في كوبا، موجِّهة نحو أوروبا المتعطشة للتوابل سيلًا مستمرًّا من المعادن الثمينة. وفي وقت لاحق، أقام الإسبان تبادلًا تجاريًّا بين أكابولكو على الساحل الغربي للمكسيك ومانيلا في الفلبين، حاملين الفضة غربًا وعائدين بالحرير لنقله إلى أوروبا. وكانت عشرة في المائة من هذه الحصيلة الوافرة لخيرات العالم الجديد تذهب مباشرة إلى الخزائن الملكية.

دفعت الاستكشافات الإسبانية والبرتغالية المدهشة البابا عام ١٤٩٤ إلى وأد أيِّ صراع ناشئ بين المملكتين الكاثوليكيتين في شبه جزيرة أيبيريا؛ فقسَّم العالم بينهما! أقر البابا حق إسبانيا في نصف الكرة الأرضية الغربي، عدا البرازيل التي توجهت إليها بالخطأ حملة برتغالية كانت متجهة في الأساس نحو الهند. وحصلت البرتغال على ساحل أفريقيا الغربي وبضع مواقع شرقًا على امتداد الطريق إلى المحيط الهندي، حيث أقامت عدة محطات تموين لسفنها، وحصلت إسبانيا على الباقي. لكن حتى البابا نفسه لم يستطع وأد هذا الصراع. فبعد اكتشاف ماجلان جزر الفلبين في ستينيات القرن السادس عشر، بدأ الإسبان يستعمرون مانيلا مُبيِّنين أنه نظرًا لأن الأرض كروية، فهناك حاجة لتعيين خطوط حدودية بين مستعمرات المملكتين. وأخيرًا، تمكن البرتغاليون من إحباط غزو إسبانيا لاحقًا لجزر الهند الشرقية. كان الإسبان يركزون في الأساس على تأسيس نظام وصاية على الشعوب الأصلية في العالم الجديد بغرض استغلال عمالة السكان الأصليين، بينما كان البرتغاليون يعملون على تنمية التجارة في الجزر الهندية. وبتأسيس مزارع قصب السكر في البرازيل في أواخر القرن السادس عشر، باتت الإمبراطوريتان متشابهتين، وانضمتا تحت حكم ملك واحد من عام ١٥٨٠ إلى عام ١٦٤٠. 3

كانت الدولتان الواقعتان في شبه جزيرة أيبيريا هما رائدتا أوروبا؛ فقد أسست كلٌّ منهما مستعمرات حصينة في ممتلكاتهما الجديدة وفرضتا هيمنتهما على حركة التجارة. تمتع الإسبان باحتكار تجاري دام قرنًا كاملًا قبل أن يبدأ الأوروبيون الآخرون في تحدي هيمنتهم تلك، وفرض البرتغاليون احتكارات حيثما استطاعوا فعل ذلك. في بادئ الأمر، لم تكن هذه الأحداث تمثل إلا تجعدات جديدة ظهرت على النسيج التقليدي القديم للمجتمع الأوروبي، لكن نجاحها أحدث تأثيرات عميقة؛ فقد غير الوصول إلى الشرق عن طريق المحيط وجه أوروبا الجيوسياسي، ونقل مركز ثقل التجارة العالمية من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلنطي الذي يشرف على شمال غرب أوروبا. وبين القرنين السادس عشر والثامن عشر، انتقل زخم التجارة والفتوحات من إسبانيا والبرتغال إلى بلدان أخرى تطل على المحيط الأطلنطي، مثل هولندا وفرنسا وإنجلترا والدنمارك والسويد.

حدود التجارة

كان لحركة التبادلات التي شكلت صميم التجارة أصداء دينية وعملية ورومانسية وسياسية. ففي حفلات «البوتلاتش» التي كانت تقام في شمال غرب قارة أمريكا الشمالية، كان توزيع الممتلكات يتم من خلال تبادل الهدايا، وكان الملوك يؤمِّنون السلع والخدمات اللازمة من خلال الضرائب والرسوم، وكان الفاتحون يفرضون الجزية، لكن التبادلات التجارية — باعتمادها على الأموال والسماسرة وإدارة الحسابات — كان لها التأثير الأدوم.

كان تبادل السلع من خلال المقايضة قائمًا منذ نشأة أولى المستوطنات البشرية في دلتا بلاد ما بين النهرين في الألفية الرابعة قبل الميلاد. إلا أن التجني المتأصل على التجار قصر النشاط التجاري على مساحة اجتماعية ضيقة قبل القرن الثامن عشر. فقد ارتبط التجار بجني الأموال أكثر ممَّا ارتبطوا بتقلُّد مناصب النبلاء — كالقضاء وقيادة الجيوش وترأُّس البعثات الدبلوماسية وكتابة الشعر — أو بإطعام الناس كما كان يفعل الفلاحون. وهكذا، كان العمل التجاري مهمًّا لكنه وصم من كانوا يمارسونه وصمة سوء.

لم يكتفِ الأرستقراطيون بازدراء من يعملون بالتجارة فحسب، بل شجعوا أيضًا صفات تتعارض تعارضًا مطلقًا مع السمات الحافزة للتنمية الاقتصادية؛ فقد أَولَوا عناية فائقة لوقت الفراغ والدعة، بالإضافة إلى أنهم احتقروا أولئك الذين كانوا يعملون لكسب العيش، وتعيَّشوا على الإيجارات وعلى غيرها من الامتيازات الأخرى التي كانوا يتمتعون بها، وكانوا ينفقون هذه الأموال في شراء أشياء تضفي الفخامة على مظاهرهم وموائدهم وممتلكاتهم. وغالبًا ما كانت نفقاتهم تفوق دخولهم من الإيجارات وغيرها من المستحقات؛ مما كان يجعلهم مدينين على الدوام بفواتير كانت تورث في بعض الأحيان نتيجة لعدم سداد الصكوك. لكنهم كانوا يفلتون بتبذيرهم هذا لأن ما من تاجر كان يرغب في استنزال غضب زبائنه الرئيسيين، عدا قلة من أصحاب المتاجر أو الحرفيين.

كانت عائلات النبلاء والأشراف تضم مشاهير المجتمع في العالم في الفترة التي سبقت العصر الحديث؛ إذ كانوا يشاركون بمعرفتهم وذوقهم وطراز ملبسهم وحضورهم الأخاذ في الاحتفالات الجماهيرية الهامة، وكانوا المرشحين الوحيدين لأي مناصب رفيعة في البلاط أو الجيش أو الكنيسة، وكانوا أصحاب الحق الأول في أي فائض اقتصادي. ولم يكن التجار يستطيعون حماية مصالحهم حماية فعالة لأنهم لم يملكوا السلطة التي تمكنهم من ذلك، وكثيرًا ما كانوا يذوقون الأمَرَّين جراء عدم تأمين حقوق ملكيتهم، أو الضرائب المرهقة المفروضة عليهم، أو حتى استباحة بضاعتهم والاستيلاء عليها مباشرة. علاوة على أن أولئك الذين كان الحاكم يأخذ بمشورتهم لم يُلقوا بالًا لعواقب كل هذه الأعباء. ومع ذلك، كانت التجارة تعد قوة تعمل على تحضُّر البشر؛ نظرًا لأنها قدمت للإنسان طريقة للحصول على ما يرغب بديلًا عن اغتصابه بالقوة.

كان الأشخاص الذين يشغلون أعلى المراتب الاجتماعية في حوالي القرن السادس عشر يورثون مناصبهم لأبنائهم، مما كان يعطي العائلات وزنًا وأهمية؛ إذ لم تكن ثمة أهمية لما «يفعله» الإنسان بل كانت الأهمية لمكانته الاجتماعية. لم يكن الرجال والنساء ذوو الحسب يستحيون أبدًا من مكانتهم الموروثة، بل كانوا يفخرون بنسبهم باعتباره أمارة على النظام الذي قدَّره الرب؛ ومن ثَمَّ كانت السيطرة بمنزلة حق طبيعي لهم. وحتى في النماذج الإيطالية للدولة المدنية في القرن السادس عشر، كالبندقية وفلورنسا وجنوة، أو حتى أمستردام — حيث سيطرت قلة من الصفوة على زمام الأمور — كانت القيم الأرستقراطية تحظى باحترام كبير. وعرف المجتمع ثلاث فئات: رجال الدين، والأرستقراطيين، والعامة. عندئذٍ، كان الناس مؤمنين بالتفاوت الطبيعي في المكانة في عالم مقسَّم بين القلة الخاصة والكثرة العادية، ووجدوا دليلًا على التراتب في الطبيعة حين تأملوا عالم الحيوان بأسوده وجرذانه. ونتيجة لأن الشعور القوي بأن ذلك هو الترتيب الصحيح كان يُغرَس في نفوس الأطفال منذ نعومة أظفارهم وأثناء تنشئتهم، فقد كان إيمانهم بذلك يضارع إيماننا بدياناتنا اليوم.

إن الغاية من الفصل بين الممارسة القديمة للتجارة وبين الممارسة الجديدة للإنتاج الصناعي في أي محاولة لرصد تاريخ الرأسمالية هي أن نركز انتباهنا على التغيرات التي تسببت دون غيرها في ظهور الرأسمالية. والتجارة في حد ذاتها ليست أحد هذه التغيرات. اغتنى التجار — كلما تأتَّى لهم ذلك — من خلال بيع البضائع بأسعار تفوق أسعار شرائها، وفي بعض الأحيان، حالفهم الحظ وحققوا أرباحًا غير متوقعة، أو تمكنوا من استغلال تصادُف نقص بعض السلع. لكن ثروات الرأسمالية جاءت من طريق أخرى؛ من الأرباح الناجمة عن إنتاج الأشياء. تطلَّب إدخال الماكينات في عمليات الإنتاج رأس مال ضخم، لكن هذه الماكينات ولدت أرباحًا أكثر ضخامة عن طريق إنتاج الأشياء على نحو أكثر كفاءة؛ إذ عاد رأس المال المستثمَر في الماكينات بالثراء على المستثمِرِين لأن الماكينات زادت من إنتاجية العمال المستخدَمين، وهكذا ميَّز خلق الثروات الضخمة النظام الرأسمالي عن غيره من الأنظمة الاقتصادية التي سبقته، لكن هذا حدث أيضًا نتيجة لإعادة تنظيم العمل وتوسيع نطاق الزبائن ليشتروا منتجات جديدة. وقد عملت الشبكات التجارية — التي بدأ الأوروبيون تأسيسها على امتداد الكرة الأرضية في القرن السادس عشر — على ازدياد البقاع التي أمكن للرأسماليين إرسال بضاعتهم إليها ازديادًا هائلًا. وحالما اكتسبت الرأسمالية زخمها القوي، لم يكتفِ المستثمرون بالبقاء في أوروبا، بل تبعوا مسار الإمبراطوريات التجارية الأوروبية.

لعلنا لا نكون مغالين عندما نتحدث عن أهمية اتساع نطاقي الطرق التجارية والشركاء التجاريين. لكن النقطة الجوهرية التي ينبغي أخذها في الاعتبار بشأن التجارة في تاريخ الرأسمالية هي أنها مورست لقرون طويلة قبل ظهور الرأسمالية وكان من شأنها أن تستمر في الازدهار حتى في ظل غيابها. ونتيجة لأننا نلاحظ الصلات الواضحة بين رحلات القرن السادس عشر إلى الشرق وإلى العالم الجديد؛ فإن ذلك يغرينا بأن نربط هذه الرحلات مباشرة بحدثي القرن الثامن عشر: اختراع المحرك البخاري وظهور الرأسمالية الكاملة، كما لو أن وقوع أحد الحدثين عقب الآخر كان حتميًّا، لكن ما من أمر حتمي الحدوث في هذه الحياة، وما من حس يقينِيٍّ لدينا بشأن ما يحمله المستقبل لنا. ففي منتصف القرن السابع عشر، حينما كانت الممارسات التجارية الجديدة لا تزال في طور التفتح، لم يكن ثمة سبب يجعل الناس يتوقعون أن يترتب على ذلك ظهور ماكينات مدهشة ستغير أسلوب العمل الذي ساد لآلاف السنين، أو أن توصيفًا حديثًا للبشر وطبيعتهم الاجتماعية سيحل سريعًا محل الحكمة التقليدية التي وجهت الناس لحقب طوال.

الهيمنة الأوروبية

قبل وصول البرتغاليين، كان مختلف المشاركين في تجارة شرق آسيا — على تباين أعراقهم ودياناتهم — يتشاركون معتقدًا عامًّا مفادُه أن البحر ليس ملكًا لأحد. لكن هذا تغيَّر بعد وصول الوافدين الجدد. كان الملك البرتغالي قد أغدق على قائده البحري ألبوكيرك الألقاب بعد أن أحكم الأخير السيطرة على ساحل المالابار وسيلان وملقا وهرمز، وحققت البرتغال سيادة بحرية في المحيط الهندي بعد هزيمتها الأسطول المصري عام ١٥٠٩. وعندما انسحبت الصين — صاحبة القوة البحرية الأخرى الوحيدة في المنطقة — من ميدان المنافسة، سيطر البرتغاليون على معظم مناطق التجارة إلى أن لحق بهم — بعد مرور نحو مائة عام — الهولنديون والفرنسيون والإنجليز الذين كانوا عازمين بالقدر نفسه على احتكار كل ما يمكنهم السيطرة عليه.

كانت الإمبراطورية العثمانية تفوق البرتغال تقدمًا من نواحٍ عديدة، لكن البرتغال امتازت بسفنها التي فاقت السفن العثمانية سرعة وقدرة على المناورة. وعندما لم يجد البرتغاليون الترحيب الذي لقوه في ملقا من قبل، خلال سعيهم وراء التوابل، تحوَّلوا إلى القوة، مستغلين تفوقهم العسكري ومستفيدين من التنافس الفوضوي بين الحكام في أرخبيل الملايو. من منظور كل مهتم بالحروب البحرية، بدت أساليب البرتغاليين مبهرة، فقد كانت السفن فيما قبلُ ناقلات جنود وحسب، وكانت تطلق نيرانها أثناء القتال، لكنها كانت بالأساس تناوِرُ كي يتمكن طاقمها من اقتحام سفن الأعداء. إلا أن البرتغاليين تجنبوا هذه الطريقة، وحولوا سفنهم إلى منصات مدفعية بحرية تدك العدو بالقذائف، دون خوف من أي هجوم مباشر، بفضل قدرة سفنهم على الإبحار عكس اتجاه الريح.4
تطلبت السيطرة على تجارة التوابل تضافر الذهب والفضة والقوة. وقد نجح البرتغاليون في ذلك، واضعين قانونًا جديدًا لبحار الشرق، رغم أنهم لم يحتكروا تجاراتها المربحة احتكارًا تامًّا.5 ونجحت البرتغال — التي بلغ عدد سكانها وقتئذٍ مليون نسمة — في فرض إرادتها على الصينيين والعرب والبنادقة الذين طالما ذرعوا هذه البحار، فحملت الآلات والأسلحة الأوروبية إلى أفريقيا، والذهب والفضة إلى الصين، وحملت البضائع الصينية إلى اليابان، وحملت التوابل والمنسوجات الحريرية إلى أوروبا. وأسس البرتغاليون على ساحلي أفريقيا الشرقي والغربي مدنًا محصنة استغلوها في تخزين البضائع وإعادة تجهيز سفنهم، مثل موزمبيق ومومباسا شرقًا، وألمينا ولواندا غربًا. ومارسوا تجارات متنوعة، من تجارة التوابل إلى تجارة العبيد، على امتداد ما يقرب من خمسين مستعمرة حول العالم، دافعوا عنها ضد جميع الوافدين.

نادرًا ما سقطت ثروات هائلة كهذه في حجور الحكام لقاء جهد بسيط للغاية من جانبهم. وقد شجعت تجارتا التوابل والفضة — اللتان كانتا تدران ربحًا هائلًا — سلوكيات ملكية متطرفة؛ فكانت الضرائب باهظة في كلٍّ من إسبانيا والبرتغال، وكان توزيع الثروة يجري وفق النمط التقليدي الذي يضمن أن تنعم قلة من الناس بالرخاء، بينما يكافح السواد الأعظم من الفقراء والفلاحين والعمال لسد رمقهم. لكن لم يعرف كيفية استغلال هذا النهر الفياض من الملايين سوى ملكين قويين هما شارل الخامس، حفيد فرديناند وإيزابيلا، وابنه فيليب الثاني اللذين حكما إسبانيا من عام ١٥٥٦ إلى عام ١٥٩٨. كانا على استعداد لشن الحرب على الأتراك والفرنسيين والإيطاليين والبروتستانت وحتى الباباوات في سبيل ترسيخ هيمنتهما في أوروبا وحماية سيادة المذهب الكاثوليكي الذي كان حينئذٍ يواجه تحديًا في الشرق من جانب الأتراك، وفي أوروبا من جانب البروتستانتيين. كانا كذلك بحاجة للمال من أجل قمع التمرد داخل مملكتهما؛ إذ كان الهولنديون قد بدءوا في خمسينيات القرن السادس عشر تمردًا طويل الأمد سعيًا وراء الاستقلال، بالإضافة إلى اعتلاء ملكة هرطقية عرش إنجلترا. لاحقًا، عزَّز اتحاد التاجَين الإسباني والبرتغالي في عام ١٥٨٠ قوة إسبانيا السياسية، على الرغم من ركودها الاقتصادي آنذاك.

ورغم أن أحوال بناة السفن الإسبان انتعشت مع ظهور الطلب الجديد على الحاويات عابرة المحيطات، وازدهرت أيضًا صناعة الصوف الإسبانية في ظل رعاية ملكية، لكن البيروقراطية الملكية اعترضت سبيل معظم التجار والصناع والفلاحين من خلال نظام صارم للرسوم الجمركية والضرائب. وأدى خوف الملوك الإسبان المتأصل من الهرطقة إلى لجوئهم إلى تقليص رحلات رعاياهم إلى خارج البلاد خلال معظم القرن السادس عشر، وعرقل حظر استيراد الكتب الانتشار الحر للأفكار والأفكار التجارية أيضًا، وناهض الأرستقراطيون الإسبان حركة التغيير، ووأد القصر الصناعات الجديدة عن طريق قوانين وضرائب مجحفة. بلغت الصناعة الإسبانية أوج ازدهارها عام ١٥٦٠، لكن بعد ذلك زاد الطلب على بضائع الحرفيين والتجار الإنجليز والفرنسيين والهولنديين الذين كانوا يزودون الزبائن الإسبان بما يحتاجونه، فيما باتت مدن إسبانيا جدباء كأراضيها.

لم تتمكن جاذبية العمل التجاري الحر من التغلب على ازدراء الأرستقراطيين للتجارة الذي تغلغل في المجتمع؛ إذ سعى النبلاء الإسبان إلى الحفاظ على أسلوب معيشتهم، مستغلين نفوذهم السياسي الكبير؛ فوضعوا سقوفًا للأسعار المحلية ممَّا قلص الأرباح المحلية، وفي الوقت نفسه شجع زيادة الواردات الرخيصة من الخارج. وهذا بالطبع أضر بالحرفيين الإسبان. وكان القصر الملكي — كالنبلاء — لا يعبأ بهموم الفلاحين الذين كانت مزروعاتهم تواجه الخطر كل شتاء، حينما كانت قطعان خراف المارينو — التي تشكل أهمية كبيرة بالنسبة للنبلاء — تنتقل من الجبال الشمالية إلى الجنوب الأكثر دفئًا. صحيح أنه كانت هناك مسارات حددتها الدولة خصيصًا لانتقال تلك القطعان منعًا لاقتحامها حقول المزارعين، لكن «الميستا» أو طائفة الرعاة الذين كانوا يقودون تلك القطعان لم ينفذوا القوانين، وكانوا يتجاهلون شكاوى الفلاحين وقرارات الملك الذي كان أحد المستفيدين الكبار من الضرائب التي تأتي من وراء تجارة صوف هذه الخراف.

عند النظر إلى تاريخ هذا العصر عمومًا، لا ريب أن إسبانيا والبرتغال ستحوزان قدرًا كبيرًا من الاهتمام، لكن هذا ملخص لتاريخ الرأسمالية، التي لم تسهم فيها إسبانيا والبرتغال إلا قليلًا. فهاتان الدولتان لم تتحركا — لا في الداخل ولا في مستعمراتهما — لأبعد من عالم المفاهيم المقتصر على النبلاء، والشرف، والأعمال البطولية. وتجسد رواية دون كيشوت — التي ألفها الإسباني ميجيل دي سيرفانتس عام ١٦٠٥ — الصفات التي تفسر الفشل الاقتصادي للإسبان. ولعل اختلاط الأمر على دون كيشوت حينما تهيَّأ له أن طاحونة هوائية ليست سوى خصمه القوي كانت طريقة سيرفانتس للقول بأن النبلاء الإسبان الغارقين في الماضي، لا يمكنهم حتى إدراك أهمية هذا المصدر الحميد للطاقة للعمل المنتج.

إننا معتادون للغاية على سماع القصة المتفائلة للتقدم إلى درجة لا تجعلنا نتصور — إلا بصعوبة بالغة — سيناريو مغايرًا؛ سيناريو أكثر انطباقًا على الماضي من المستقبل. فما حدث لإسبانيا والبرتغال لم يكن مختلفًا عمَّا حدث قبل ذلك من تراجع الازدهار في الإمبراطوريات الرومانية والآسيوية والإسلامية؛ فقد كانت هذه هي سنة الحياة: بزوغ ومضات قصيرة من الطاقة والهِمَّة، يتبعها تدهور حتمي يقع حين تفشل القوة السائدة في التغلب على القيود التي تفرضها مواردها وقوانينها وتناقضاتها الداخلية. ولا شك أن حكايات صعود الإمبراطوريات وهبوطها أفرزت شعورًا قويًّا بأن التاريخ كان حلقيًّا، مؤلَّفًا من دورات متعاقبة، وبأن التغير من حال إلى حال كان في أغلب الأحوال يجلب النكبات أكثر مما يدعم استمرار الإنجازات.

لم يفشل الإسبان والبرتغاليون في إنجاز الأمور التي كانت مهمة بالنسبة لهم، ودامت سيطرتهم لفترة أطول من فترات سيطرة القوى الضخمة التي سبقتهم. لكن المدهش حقًّا هو أن مآثرهم وإنجازاتهم في المجال البحري والاستكشافي والتجاري لم تفلح في تغيير مجتمعاتهم داخل الوطن إلا بقدر ضئيل. وعلى الرغم من نجاح الإسبان في صد التوسع الإسلامي بعد الهزيمة البحرية التي أنزلوها بالأتراك في المعركة التي دارت عند مدينة ليبانتو اليونانية عام ١٥٧١ (وشارك فيها سيرفانتس)، فإنهم لم يسمحوا بإعادة تنظيم مجتمعاتهم، أو لم يرغبوا في ذلك.

غدت الحرب الرسمية وغير الرسمية في مياه المحيط الأطلنطي مكثفة ووحشية. ومنذ عام ١٥٦٤ بدأت إسبانيا ترافق ذهبها وفضتها بأساطيل الحماية والتأمين أثناء الرحلات من العالم الجديد إلى «بيت التجارة» في إشبيلية. واستمرت قوافل الحماية هذه — التي كانت تبحر من الأمريكتين في شهري أبريل وأغسطس — على مدى قرن من الزمان. وفعلت ذلك إنجلترا أيضًا بمجرد أن صار التبغ — المزروع في مستعمراتها بمنطقة شيسابيك في أمريكا الشمالية — ثمينًا إلى درجة تحرك الأطماع في نفوس القراصنة، فمنحت الحرب المزمنة في أوروبا بعض الشرعية لهجمات القراصنة في أعالي البحار؛ لأن كل الدول أصدرت ما كان يطلق عليها «خطابات تكليف» — أو تراخيص — لملاك السفن من أجل تسليح سفنهم بغرض الاستيلاء على السفن التجارية للأعداء. وكلما دخل بَلَدانِ في حرب أحدهما ضد الآخر — وهذا كان شائعًا آنذاك — كان القراصنة جزءًا من القوات الحربية لأيٍّ من البلدين؛ فكان القراصنة الإنجليز والفرنسيون والهولنديون يُغِيرُونَ على المستعمرات الإسبانية مرارًا، وكانوا يترقبون أي سفينة جانحة من الأساطيل الإسبانية التي تحمل الفضة، وحدث أن استولوا مرتين على الأسطول بأكمله.

كان أشهر القراصنة الإنجليز سير فرانسيس دريك، الذي أغار مرارًا على المستعمرات والسفن الإسبانية في البحر الكاريبي. وفي إحدى المرات استولى على سان دومينجو، فأطلق سراح العبيد، وأضرم النار في المدينة، ودمر السفن الراسية في الميناء، ثم تلقى مبلغًا سخيًّا من المال عندما أعاد المدينة إلى الإسبان. علاوة على أن جرأته في الإبحار عبر المحيط الهادي والدوران حول «كيب هورن» عام ١٥٧٢ كي يهاجم أسطول الفضة الإسباني الأعزل الذي كان مسافرًا إلى الفلبين أثارت الجمهور الإنجليزي الذي طالما كانت ملكته إليزابيث البروتستانتية هدفًا للملك الإسباني. وعندما اندلعت الحرب بين الإسبان والإنجليز، عاد دريك لعمله مجددًا كقرصان، وخلال قيادته أساطيل ضمَّت سفنًا بالعشرات، أغار على المستعمرات الواقعة على طول الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، التي كانت تعرف بالمستعمرات الإسبانية الرئيسة. كان هناك قرصان آخر يُدعى هنري مورجان نجح في قيادة عشرات السفن وآلاف اللصوص أثناء هجماته على الممتلكات الإسبانية في البحر الكاريبي. ورغم اعتقاله بتهمة خرق السلم فيما بعد، حظي بوقف تنفيذ الحكم، ثم نال لقب الفروسية وحكَم المستعمرة الإنجليزية الجديدة في جامايكا في أعقاب حرب جديدة.

في بعض الحالات — كهذه — عندما كانت قوى أوروبا المتصارعة توقِّع معاهدات سلام، كان العديد من القراصنة المرخصين — مثل مورجان — يتحولون إلى قراصنة لصوص، ويُغِيرُون على سفن التجارة من دون الغطاء الذي كانت توفِّره التراخيص الملكية بذلك. وكان بحار مثل دريك يعبر عن النظام القديم أكثر ممَّا يعبر عن النظام الجديد، كحال غيره من البحارة البرتغاليين الذين كانوا يمارسون القرصنة على التجارة في المحيط الهندي. وقد استفاد قراصنة القرن السادس عشر من مميزات الرحلات التجارية الجديدة إلى الشرق وإلى العالم الجديد، واستخدموا تصميمات حديثة متفوِّقة لبناء السفن، وكان هؤلاء المغامرون أشبه بالفينيقيين الذين ذرعوا البحر المتوسط في العصور القديمة. كانت رحلات تجارة الحرير والتوابل من جزر الهند الشرقية تشكل إغراء للقراصنة لأنها كانت تؤتي الثروة التي تعوض عن تكلفة الرحلة برمتها، وكان القراصنة الأتراك يتعيَّشون على السفن التجارية المبحرة في البحر المتوسط، لكن تبين لباشاوات طرابلس فيما بعد أن تحصيل الجزية وفقًا لمعاهدات رسمية يعود بربح أكبر من الربح الذي تجلبه القرصنة. انتعشت القرصنة أيضًا في البحر الأحمر، والمحيط الهندي ومضيق ملقا وبحر الصين الجنوبي، وخاصة في البحر الكاريبي نتيجة لما كانت تشكله السفن الإسبانية العائدة بالذهب والفضة من إغراء قوي للقراصنة.

إذا استبقنا الأحداث لوهلة، فسنرى أن الجانب المعتدل للتجارة — والمرتبط بالطبقة الوسطى بقوة — فرض نفسه نتيجة لازدياد حجم التجارة الشرعية. فقد كان التجار قد أُنهكوا من خسارة الشحنات الثمينة بسبب غارات القراصنة، ومن اضطرارهم لدفع أقساط تأمين باهظة حتى في حال عدم خسارتهم سفنهم؛ فبدأت الشركات التجارية الكبرى تحشد التأييد للمطالبة بالحصول على الحماية من الهجمات المتتالية على بضائعهم. كانت فعلة «كابتن كيد» الشهيرة مثالًا على ذلك؛ فقد كان ويليام كيد مكلفًا مأجورًا لحماية السفن الإنجليزية المبحرة إلى الهند الشرقية أثناء عبورها في البحر الأحمر عام ١٦٩٦، لكن تراءى للكابتن — الذي كان يعمل من نيويورك — أنه يستطيع أن يكسب المزيد من الأموال إذا تحول إلى قرصان؛ فتعمد خرق سفينته، واستولى على أخرى ترفع علمًا فرنسيًّا، وبدأ يستولى على بضائع السفن التي كان منوطًا بحمايتها في الأساس. وفي نهاية الأمر، وصلت شكاوى التجار إلى مسامع الحكومة، وبعد أربع سنوات، اعتقل الكابتن فور عودته إلى نيويورك وحوكم وأدين وجرى ترحيله إلى لندن تمهيدًا لإعدامه علنًا دلالة على عدم تهاون الحكومة إزاء القرصنة.6 وباتت الحكومات منذ ذلك الحين مسئولةً عن تأمين البحار للتجارة الشرعية. وعندما تاب القرصان إدوارد تيتش — الذي أثار الذعر في البحر الكاريبي، وعرف بالقرصان «ذو اللحية السوداء» — وهجر القرصنة، كافأه حاكم مستعمرة نورث كارولاينا بتزويجه من زوجته الرابعة عشرة!

كان أهم ما فعلته إسبانيا والبرتغال أنهما فتحتا الأبواب لجاراتهما. فقد عبرت شعلة التنمية الاقتصادية — إن جاز لنا أن نقول ذلك — منهما إلى فرنسا وهولندا وإنجلترا، فدخلت هذه الدول حلبة التجارة في بادئ الأمر دخولًا غيرَ رسمي، أي كقراصنة ومهربين؛ لأن الأرباح التي تعود بها بضائع جزر الهند الشرقية والغربية جعلت هذه الممارسات المحفوفة بالمخاطر جديرة بالاستمرار فيها. ومع بداية القرن السابع عشر، أجازت حكومات فرنسا وهولندا وإنجلترا نشاط شركات التجارة الشرعية بغرض تحدي المملكة الإسبانية التي باتت في ذلك الوقت تحكم كلتا الإمبراطوريتين الأيبيريتين. كانت المخاطر كبيرة، وكما قال القرصان المشهور سير والتر رالي — وهو رجل إنجليزي آخر فُتن بالعالم الجديد — في تعليق ذكي: «من يسيطر على البحر يسيطر على التجارة العالمية، ومن يسيطر على التجارة يمتلك ثروات العالم؛ ومن ثَمَّ، يمتلك العالم أجمع.»

أصبح المحيط الأطلنطي الطريق الحر الرئيسي في دنيا التجارة، التي بات نطاقها يقترب من العالمية أكثر فأكثر. في البدء، لم يستفد منه سوى إسبانيا والبرتغال، ثم استفادت هولندا وفرنسا وإنجلترا من سهولة الوصول إلى المياه التي حملت التجار الأوروبيين إلى مختلف الاتجاهات. لكن أهم الخاسرين جراء عملية إعادة الترتيب هذه شمل المدن الدول الإيطالية، والأتراك، والمسلمين الآخرين الذين كانوا يعملون في الشبكة التجارية المتشعبة في المحيط الهندي. كانت البندقية ترسل من قبل أسطولًا من التجار ليتاجروا مع إنجلترا، التي لم تكن تمتلك أسطولًا بحريًّا ولا تجارًا ملاحين حتى النصف الأول من القرن السادس عشر. لكن كل هذا تغير حالَمَا أسس الإنجليز شركاتهم التجارية الخاصة وأرسلوا السفن إلى شتى بقاع الأرض. وأقامت شركة الهند الشرقية الإنجليزية — التي تأسست عام ١٦٠٠ — مستعمرات في المدن الهندية: سورات وبومباي وكالكتا ومدراس، بعد أن أغلق الهولنديون أمامها تجارة التوابل التي كانت متمركزة في إندونيسيا. وبحلول القرن الثامن عشر، نجحت إنجلترا في السيطرة على معظم أراضي الهند، وضاق نطاق الرابحين جراء هذا التدخل الأوروبي في أراضي الشرق الأقصى فاقتصر على إنجلترا وهولندا فحسب.

تأثير الحرب الأهلية

إن النجاح الإنجليزي والهولندي يدعونا لإلقاء نظرة على ما كان يجري في هذين البلدين على الصعيد السياسي. لم يبدُ أمرًا محمودًا في ذلك الوقت أن تخوض إنجلترا وهولندا حروبًا في سبيل الفوز بنصيب أكبر من حق تقرير المصير القومي في نفس الوقت الذي كانتا تتحديان فيه الهيمنة الإسبانية والبرتغالية في العالم الجديد وفي الهند الشرقية. فقد حارب الهولنديون لفترة امتدت ثمانين عامًا لأجل الاستقلال عن إمبراطورية هابسبورج الإسبانية. وبعد أن نالت هولندا حريتها من إسبانيا رسميًّا عام ١٦٤٨ باتت تحوي ثروات تفوق ثروات أي مكان آخر في أوروبا، لكن تلك الثروة لم تترجم فيما بعدُ إلى التغيرات التنظيمية والتقنية التي تميز الرأسمالية باعتبارها نظامًا اقتصاديًّا؛ بل ركن الهولنديون للراحة وابتهجوا وارتضوا بما تحقق دون أن يتبعوا الطريق الإنجليزي نحو الإصلاحات المتوالية، حتى إن جارتهم بلجيكا — التي تأخرت عنهم في الاستقلال وظلت تابعة لإمبراطورية هابسبورج حتى القرن التاسع عشر — بدأت ثورتها الصناعية قبلهم. وهكذا لم تكن الثروات كافية وحدها — في تلك العقود الأولى من التطور الرأسمالي — كي تفتح أبواب المجتمع المغلق في إسبانيا والبرتغال، ولم يترجم الرخاء الهولندي إلى تطور مستمر.

كان الحكم الإنجليزي يمر بثوران واضطراب بين العقدين الثالث والتاسع من القرن السابع عشر؛ فقد أُعدم الملك، وحُل البرلمان، ثم استعاد ملك آخر المُلك مجددًا، وأُلغي توريث الحكم، حتى انتهت جميع هذه الأحداث بما يطلق عليها ثورة عام ١٦٨٨ المجيدة. وعلى الرغم من أن هذه كانت صراعات سياسية في المقام الأول، ساعدت المسائل الاقتصادية في تحديد الجوانب المتعارضة. كان الملك هو أكبر مالك للأرض في إنجلترا؛ لذا كان من الممكن أن يتفاوت دخله تبعًا لأوقات الشدة والرخاء، شأنه في ذلك شأن جميع العائلات الأخرى التي تمتلك الأراضي، لكن بفضل امتيازات الملك الاستثنائية، كان يملك موارد أخرى للدخل، مثل المبالغ التي كان يحصل عليها لقاء منح الاحتكارات، وصكوك براءات الاختراع، وعقود تأسيس الشركات. وكانت تراخيص التحكم الحصري فيما يتعلق بمنتج أو تجارة أو حتى خدمة حكومية — مثل التفتيش على التبغ أو جباية الجمارك — هي أكثر «الهدايا» التي يستطيع الملك بيعها ربحية بالنسبة له.

تبين للملك جيمس الأول أن منح الاحتكارات وسيلة بالغة السهولة لزيادة دخله، حتى إن أحد العلماء الذين عاشوا في أوائل القرن السابع عشر حكى أن رجلًا إنجليزيًّا عاديًّا كان يعيش «في بيت مبني من قوالب خاضعة للاحتكار … وكان يستخدم فحمًا خاضعًا للاحتكار، وكان يربط ملابسه بأحزمة خاضعة للاحتكار وأزرار خاضعة للاحتكار ودبابيس خاضعة للاحتكار … وكان يأكل زبدةً خاضعةً للاحتكار، وزبيبًا خاضعًا للاحتكار، ورنجةً حمراءَ خاضعةً للاحتكار، وسلمون خاضعًا للاحتكار، وكركند خاضعًا للاحتكار.»7 كان لأصحاب الاحتكارات الحق الحصري في بيع هذه المواد وتسعيرها بالسعر الذي سيشتريها الناس به.
لا شك أن هذا التوزيع الباذخ للامتيازات كان ليُعد عبئًا في أي زمن، لكن في ظل تنامي الأسواق الداخلية والخارجية، شوهت الاحتكارات نموذج التجارة برمته. وحتى النبلاء صاروا منجذبين إلى المشاريع التجارية، خاصة إذا تضمنت استغلال مستعمرات من شأنها تعزيز مكانة إنجلترا وهيبتها.8 وكلما كثرت محاولات الحكام الإنجليز لجمع الأموال من خلال وسائل غير تقليدية كالضرائب والمنح وبراءات الاختراع، ازداد طرح القضايا الاقتصادية في النقاشات البرلمانية. كان المدافعون عن الامتيازات الملكية يدافعون عن التقليد التجاري القديم بكل ثقة، وكانوا يخاطبون المشاعر أكثر مما يراعون المنطق الاقتصادي. وظل الرجال القريبون من السلطة ينادون بالنموذج القديم لإخضاع الأنشطة الاقتصادية للتضامن الاجتماعي. لكن بدأ المعارضون الجدد يجدون لأنفسهم مكانًا، ويؤسسون مفردات جديدة للحديث عن الحصاد والإيجارات والتجارة والضرائب باعتبارها جزءًا من نظام اقتصادي حديث.

كان الملك في إنجلترا يمثل الالتزام بالتقاليد واستخدام القوة التعسفية، وكانت الاحتكارات والمؤسسات التجارية الخاصة (المغلقة) وكل ما يمت للملكية بصلة يبوء بالاحتقار والكراهية. ومن خلال النزاع بشأن الاحتكارات وغيرها من العلل الاقتصادية، اكتشف قطاع عريض من النخبة الإنجليزية التي حازت مقاعد بالبرلمان — أصحاب أراضٍ مصلحين وأعضاء في شركات تجارية وتجار أقمشة — أن مصالحهم واحدة؛ فتحولت الهموم الاقتصادية إلى قضايا سياسية. بمنتهى البساطة. يمكننا أن نقول إنه حتى لو لم تتسبب القوى الكامنة وراء التنمية الاقتصادية في اندلاع الحرب الأهلية الإنجليزية، كان من الحتمي أن يؤدي الصراع إلى انتصار هذه القوى في نهاية المطاف.

ونظرا لأن الاضطراب المدني في القرن السابع عشر استمر طويلًا، فقد أدَّى إلى إضعاف السلطة السياسية اللازمة للحفاظ على القيود الاقتصادية. فهناك فارق بين القانون المنصوص عليه في الكتب — حتى لو كان قانونًا يحظى بالاحترام — وبين القانون الذي يمكنك إنفاذه لمواجهة الدوافع القوية للمراوغة والتهرب. وفي ظل تشتت قادة المؤسسات الإنجليزية السياسية والدينية نتيجة للاضطرابات الأهلية طويلة الأمد، طوَّر رواد الأعمال نظم النقل الداخلية، وسوَّقوا منتجات المستعمرات، وحوَّلوا لندن إلى مركز تجاري ضخم. وبعد مرور هذه الفترة التي امتدت ثلاثين عامًا، والتي كانت السلطات منشغلة فيها عن كل الأمور، دافع الكثيرون عن تحدي القيود باعتبار ذلك مفيدًا للبلاد. وفي ظل تراجع التوجُّه الرسمي، شاع نظام غير رسمي للتعاون. وما إن أزيلت بعض القيود، حتى اكتسب التحرير التجاري الناجم عن ذلك عددًا أكبر من المؤيدين لتحرير الحياة الاقتصادية. وانتهي الأمر في إنجلترا وهولندا بحصول التجار والحرفيين على نصيب وافر من السلطة السياسية وعلى صوت جماهيري أعلى من صوتهم قبل ذلك الحين.

بعدما نال الهولنديون استقلالهم، أسسوا اتحادًا كونفدراليا حرًّا تحظى فيه كل مقاطعة بحاكم منتدب غالبًا ما يكون أحد التجار الكبار. وقد أدى هذا المزيج اللامركزي من السلطة السياسية والاقتصادية إلى وضع الدولة وراء منزلة المصالح التجارية في هولندا. لم تحظ بالاستقلال سوى المقاطعات الشمالية لهولندا وجاراتها، التي كانت غالبيتها بروتستانتية. لكن القادة الهولنديين لم يكتفوا بتقديم الحماية للتجار والحرفيين، بل ابتكروا أشكالَ دعمٍ جديدةً لتشجيع الاقتصاد من خلال إقامة الموانئ الحرة وتأمين ملكية الأراضي، وتفعيل تسوية الدعاوى القضائية، وتدريس أصول إدارة الحسابات ومسك الدفاتر في المدارس، ومنح الوكلاء تراخيص لبيع التأمين البحري.

النموذج الاقتصادي الهولندي

خلال النضال للإبقاء على هولندا الإسبانية، دمرت القوات الإسبانية مدينة أنتويرب البلجيكية؛ ممَّا دفع مصرفييها المرموقين للانتقال شمالًا إلى أمستردام، فأصبحت هولندا مركزَ أوروبا المالي مثلما صارت نقطة جذب للأرصدة وللسلع أيضًا. كان بنك أمستردام — الذي تأسس عام ١٦٠٩ — يمنح معدل فائدة يتجاوز ضعف المعدل في أي مكان آخر. وانتصرت المرونة مرة أخرى حين طوَّر المصرفيون الهولنديون أنظمة ائتمان تناسب كل الظروف وكل العملاء. حتى الملوك الإسبان الذين كانوا يحملون الازدراء لهولندا، لجئوا إلى مصرفيي مستعمرتهم السابقة (هولندا) لاقتراض المال. وبمرور الوقت أصبحت المملكة الإسبانية مدينَةً بمبالغ كبيرة للممولين الهولنديين إلى حد جعل أسطول الفضة الشهير — الذي كان يأتي عابرًا المحيط الأطلنطي — يبحر مباشرةً إلى أمستردام لسداد الديون الإسبانية. وفي وقت لاحق، توحدت المقاطعات ذات الغالبية الكاثوليكية التي بقيت ضمن إمبراطورية هابسبورج وشكلت بلجيكا المستقلة.

أثار ازدهار هولندا تعجب الجميع؛ إذ كيف تأتَّى لمليوني مواطن مكدسين في مدن وبلدات على طول الشريط الساحلي لبحر الشمال أن يتحدَّوْا كل الصعاب ويصبحوا أغنياء؟ كان سمك الرنجة المتواضع هو العمود الفقري لتجارتهم؛ فالرنجة سمكة يسهل تجفيفها، ويمكن اعتبارها مصدرًا بروتينيًّا يصلح لكل المواسم في عالم يعاني نقص البروتين، مما جعل الطلب عليها ضخمًا. وقد خلص أحد التقديرات المعاصرة إلى أن صناعات صيد الأسماك تضمنت مئات السفن التي عمل على متنها نصف مليون هولندي من الرجال والنساء، وهذا يساوي ضعف عدد العاملين بالزراعة، ويكاد يتساوى مع عدد الذين يشتغلون بالحرف وتجارة التجزئة والقطاع المالي. كانت النقابات المهنية تراقب صناعات صيد الأسماك عن كثب، للتأكد من التزام الصيادين بمعايير الجودة التي وضعتها الحكومة الهولندية. وأثناء النصف الأول من القرن السابع عشر، كانت سفن هولندية، تجاوز عددها الألف، تجلب الحبوب من دول البلطيق بمقدار يتجاوز ما تجلبه إنجلترا بنسبة بلغت ثلاثة عشر إلى واحد.9 وفي إنجلترا، تسبب النجاح الهولندي في ظهور صناعة صغيرة تمثلت في كتابة الكتيبات التي تفسر أسباب النجاح الهولندي.
انتعشت صناعة السفن أيضًا في المقاطعات الهولندية المتحدة؛ فأنتج بناة السفن القوارب السريعة والصنادل البحرية المسطحة التي يناسب تصميمها نقل الشحنات الثقيلة كشحنات الرنجة والأخشاب والحبوب. وأبحر الهولنديون من أرضهم المطلَّة على بحر الشمال عابرين المحيط الأطلنطي نحو مستعمرات العالم الجديد، وكذلك اتجهوا غربًا نحو ساحل أفريقيا الغربي، ونحو البحر المتوسط وحول رأس الرجاء الصالح إلى الهند الشرقية. في بادئ الأمر، نقل الهولنديون إلى هذه المناطق عددًا قليلًا من السلع الأساسية، كالرنجة والحديد والأخشاب والحبوب والملح؛ تمهيدًا لشحنها إلى مناطق أخرى أبعد. ثم توسع نشاطهم وشمل نقل كل ما يمكن لسكان الأرض بيعه وشراؤه. وأنشئوا أسطولًا أكبر من الأساطيل البرتغالية والإسبانية والإنجليزية والفرنسية والأسترالية التي تمخر البحر مجتمعة.10
يصف الكاتب دانييل ديفو — مؤلف رواية روبنسون كروزو — الهولنديين وصفًا ذكيًّا بأنهم: «الوسطاء التجاريون؛ أي وكلاء وسماسرة أوروبا … فهم يشترون كي يبيعوا، ويستوردون كي يصدروا، ويأتي أعظم أجزاء تجارتهم المترامية الأطراف من كونهم يجلبون البضائع من شتى أنحاء العالم؛ مما يجعلهم قادرين أيضًا على تزويد شتى أنحاء العالم بما يحتاجه ثانية.»11 لكن الهولنديين لم يكونوا تجارًا فحسب، بل كانوا حرفيين بارعين أيضًا؛ فقد كانوا ينهون تصنيع المنتجات التي كانت البلدان الأخرى تزرعها أو التي تستخرجها من المناجم، واستفادوا استفادة وافرة من القيمة التي كانوا يضيفونها للسلع؛ فقد أخذوا الصوف الخام وحولوه إلى أقمشة صوفية مصبوغة، وحوَّلوا الأخشاب إلى ألواح أنيقة لكسوة غرف تناول الطعام في بيوت الأثرياء، وصنعوا الورق المصقول المخصص للطباعة الذي شاع في بلادهم، وحوَّلوا التبغ إلى لفائف السيجار الفاخر، علاوة على أنهم أقاموا شبكة قنوات من أجل نقل البضائع والمسافرين؛ ممَّا أبرز قدرتهم على تمويل المشاريع المعقدة وتنظيمها. وبدت السفن التي كانت ترسو عند مرافئهم كأنها غابات عديدة متحركة، وعجت أرصفة الموانئ وواجهات مستودعات التخزين بالأقفاص والبراميل والأحواض والطرود، وكثرت الرافعات المتحركة جيئةً وذهابًا لتفريغ ما يأتي من الحرير من الصين، والحبوب من البلطيق، والفحم من نيو كاسل، والنحاس والحديد من مناجم السويد، والملح من إسبانيا، والنبيذ من فرنسا، والتوابل من الهند، والسكر والتبغ من مستعمرات العالم الجديد، والأخشاب من الدول الإسكندنافية، لكنهم لم يجلبوا لموطنهم قَطُّ أولئك العبيدَ الذين كانوا ينقلونهم من أفريقيا الغربية بغرض بيعهم في العالم الجديد.12

ومن نافلة القول أن الأرستقراطيين في المجتمعات المتاخمة لهولندا كانوا يتحدثون بازدراء عن ذلك الشعب الذي كرَّس نفسه لكسب الأموال؛ فقد كانوا يعتبرون الهولنديين ليسوا سوى أناس قساة طماعين سيئي الطباع، وشاع عن الرجال والنساء الهولنديين أنهم بخلاء، يكرسون أنفسهم لبيوتهم؛ فقد كانوا ينفقون على مئات الفنانين والحرفيين الذين نحتوا عناصر فنية وصمموها وصنعوها لهم ولبيوتهم. وقد ابتدع الفنانون الهولنديون نمطًا جديدًا تمامًا للرسم الذي يصور الناس العاديين أثناء مهامهم العادية. وفي ظل عدم وجود الزبائن النبلاء، وجد الفن من بين من ينتمون إلى الطبقة الوسطى الميسورة — التي كانت تتزايد أكثر فأكثر — رعاة جددًا دعموا النحاتين ومصممي الكتب والموسيقيين. ولا شك أن هولندا التي قدمت فنانين مثل رامبرانت وفيرمير لديها ما تفخر به من الناحية الثقافية.

شعر البرتغاليون أيضًا بالحنق من تفوق الهولنديين التجاري؛ فقد كانوا يزعمون أنهم سادة «الفتوحات والإبحار والتجارة في إثيوبيا والهند وفارس وأرض العرب» لكنَّ البحارة الهولنديين الذين خدموا على متن السفن البرتغالية عادوا إلى وطنهم بحكايات تصف هذه الإمبراطورية التجارية الشاسعة، وقالوا إن الحكم البرتغالي لم يكن بروعة الصفات التي أطلقوها على أنفسهم،13 وتصاعدت المهانة حينما غزَا الهولنديون أكثر أجزاء البرازيل ثراءً من عام ١٦٣٥ إلى عام ١٦٤٤، وهو الغزو الذي دفعت هولندا كلفتَه من مصادرة أسطول الفضة الإسباني.

ومثل معظم المشاريع التجارية التي خاضتها هولندا، جاء تمويل أول مشاريعها في جزيرة جاوة من التعاون بين مجموعة من المستثمرين المتعددين. وبرغم أن الرحلة الهولندية كانت الأولى، عاد الأسطول المتواضع ذي الثلاث سفن فقط حاملًا من الفلفل ما يكفي لرش كافة سواحل هولندا. وشجع التنافس بين التجار الهولنديين عشر مغامرات تجارية أخرى خلال العقد التالي؛ وهذا دفع الحكومة الاتحادية لأن تؤسس شركة الهند الشرقية الهولندية عام ١٦٠٢ بامتيازات تجارية احتكارية في منطقتي غرب مضيق ماجلان وشرق رأس الرجاء الصالح. امتلكت هذه الشركة أيضًا الحق في ممارسة السلطة السيادية باسم الجمهورية الهولندية، ورغم أن هذه الامتيازات تبدو رائعة، لم يكن هذا العقد في حقيقة الأمر سوى ترخيصًا بالصيد، وتعيَّن على الهولنديين إثبات حقوقهم في جزر الهند الشرقية ومياهها. وبعد عشرين عامًا، تأسست شركة الهند الغربية الهولندية باحتكار تجاري في منطقتي غرب أفريقيا والعالم الجديد، ومنحت الشركة — مثل سالفتها شركة الهند الشرقية الهولندية — سلطات شبه حكومية تمنحها الحق في الاحتفاظ بجيش وقوات بحرية، وفي شن الحرب ضمن نطاق سيادتها، وممارسة المهام القضائية والإدارية فيها.

وفي غضون جيل واحد أثبت الهولنديون وجودهم كقوة مسيطرة في أرخبيل الملايو، ونجحوا بفضل براعتهم منقطعة النظير في أن يحلوا محل البرتغاليين، ويجبروهم على التراجع إلى بعض نقاطهم الحصينة التي كانوا قد أقاموها خلال القرون التي سبقت القرن العشرين. وكان على شركة الهند الشرقية الهولندية أن تتغلب على سيادة الإنجليز في جزيرة أمبونيا، فأعدمت عشرة من التجار الإنجليز في لفتة درامية أشارت إلى عزم الهولنديين الأكيد على أن يصبحوا القوة الأوروبية الوحيدة في المنطقة. وقايض الهولنديون سلعهم المحلية بالفلفل؛ كي يشحن إلى الصين واليابان مقابل السلع الفاخرة والذهب والفضة، التي كان الكثير منها يشحن إلى هولندا بغرض تمويل رحلات خارجية إلى مناطق جديدة.14 وعلى الرغم من أن المناطق الآسيوية والدول الأوروبية عانت من تكرار المجاعات، ساهم النمو السكاني الكبير في الصين وغيرها من الدول في توسع هذه التجارة.
بات الهولنديون يسيطرون على مركز جزر إنتاج التوابل؛ مما أكسبهم ولاءَ معظم الحكام المحليين الذين تقاتلوا فيما بينهم بمنتهى الشراسة. وأسست الشركة مركزها الرئيسي في جزيرة جاوة عام ١٦١٩، وأطلقوا على المدينة الجاوية التي دمروها أثناء الاستيلاء عليها اسمًا من أسماء القبائل الجرمانية القديمة: «باتافيا». كان الأرخبيل يشمل عشرات الدول ذات السيادة التي كثيرًا ما كانت تتدخل في السيطرة التي رغب الهولنديون في ممارستها؛ وهكذا تحولت ما كانت في بادئ الأمر سياسة تجارية عدائية إلى برنامج فتوحات منظم. وبحلول عام ١٦٧٠ أنجزت مهمة إخضاع الحكام المحليين. لكن أرباح تجارة التوابل كانت مرتفعة للغاية إلى درجة جعلت الصينيين والأوروبيين نادرًا ما يكفُّون عن محاولة نيل نصيب من السوق، واقتحام تجارة الفلفل والسكر والقهوة والشاي والحرير والمنسوجات. إلا أن شركة الهند الشرقية الهولندية ظلت تتمتع باحتكار التجارة مع اليابان — في الفترة ما بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن التاسع عشر — في سلع أخرى مثل جوز الطيب وقشوره وفي القرنفل والقرفة.15

أشرفت صفوة حضرية ذاتية التجدد على التجارتين المحلية والخارجية لهولندا. وبمجرد تأمين الاستقلال، نجح الحكام في عزل الأرستقراطيين الكاثوليكيين الباقين من زمن هابسبورج في قصورهم الباقية من القرون الوسطى. وكان الحكام يديرون — من خلال تجار تابعين لهم — نحو عشر مدن مزدهرة. وكان كل من لديهم مصالح تجارية في هولندا يرغبون أيضًا في عزل الزعماء الدينيين الذين كان يعنيهم نشر المعتقدات الدينية القويمة أكثر ممَّا تعنيهم الفوائد التجارية للتسامح، وقد نجحوا في عزلهم بالفعل. وغمر ترحيب الحكام كل الوافدين؛ مراعاة للطبيعة متعددة اللغات للتجارة، ولم يجعلوا من الحدود العرقية والدينية مانعًا يعوق التجارة.

أصبحت هولندا مركزًا ثقافيًّا يقدم ملجأً للمُنشقِّين والمفكرين الأحرار، ومجموعة كبيرة من المشاكسين. وازدهرت تجارة الكتب، مدفوعة بارتفاع معدل معرفة القراءة والكتابة بين سكان هولندا، فضلًا عن حرية نشر الكتابات المحظورة في البلدان المجاورة. ومن بين سكان أمستردام البالغ عددهم نحو مائة ألف شخص، كان ثلث هذا العدد من الأجانب: برتغاليون ويهود وبلجيكيون ولاجئون من مختلف أنحاء أوروبا؛ مما جعل الحرفيين الساعين إلى الحرية الدينية يضيفون براعتهم إلى الرصيد الثري للحرف الهولندية التي كانت موجودة من قبل. لقد كان أبناء القرن السابع عشر يحبون الصورة المجازية لخلية النحل التي تمثلت بجدارة في هولندا، والتي جذبت الفنانين والكتاب والفلاسفة والحرفيين المهرة الذين أثروا جميعًا بفضل التلاقح المتبادل بين الأمم في الأفكار والمواهب. لكن منحل العسل الهولندي هذا لم يعانِ الفوضى أبدًا؛ فقد كان حِرص حكام هولندا على النظام يضارع حرصهم على الربح.

التجارة والمجتمع

خلقت تجارة القرن السادس عشر ثروة جديدة، ووصلت بتبادلاتها النقدية إلى أعماق الريف، مُحدِثةً تأثيرًا أكثر انتشارًا من تأثير المشاريع التجارية القديمة. وتسبب مَعين الفضة الذي استولى عليه الغزاة من أبناء الإنكا والأزتك في اندلاع تضخمٍ استمر لقرن كامل في أوروبا. لكن هذا التضخم لم يسقط على كل الناس كالمطر الذي وصفته بورشيا في مسرحية تاجر البندقية لشكسبير؛ بل أضرَّ بذوي الدخول الثابتة، كملاك الأراضي المرتبطين بأسعار الإيجارات القديمة. زادت الأسعار زيادة كبيرة عن الدخول، لكن التضخم أعطى دفعة قوية للمستثمرين وأصحاب المشاريع. وازدادت أرباح التجار الذين تاجروا في بضائع الهند الشرقية. فقد كان هؤلاء التجار يبحرون من إنجلترا وفرنسا وهولندا جيئة وإيابًا في رحلتهم التي كانت تمتد لعام حاملين البضائع والعملات اللازمة لدفع ثمنها، وعندما يعودون، كانوا يكتشفون أن شحناتهم من الحرير والأحجار الكريمة والتوابل والأخشاب العطرية ستباع بأسعار تزيد زيادة كبيرة عن الأسعار التي كانت سائدة قبل سفرهم.

ازدهرت التجارة في إنجلترا داخل مجتمع أرستقراطي تقوده عائلة مالكة. وعلى عكس الحال في إسبانيا التي كان نبلاؤها يزدرون كل من يمت بصلة للتجارة، ويستغلون نفوذهم لكبت طموح التجار ووضعهم في موضعهم الذي يستحقونه، كان كثير من النبلاء الإنجليز منجذبين إلى المشاريع المربحة. فقد كان النظام القائم في إنجلترا هرميًّا ومنفتحًا في الوقت نفسه، وكانت ثمة مرونة مجتمعية لا توجد في أي مجتمع آخر. هناك ملمح استثنائي آخر ميَّز النبلاء الإنجليز، حيث لم يكن يَرِث لقب العائلة سوى الابن البكر فقط، سواء أكان ذلك اللقب هو: الدوق أو الكونت أو الماركيز أو البارون.

وبينما كان مفهوم أرستقراطية الدم موجودًا في إسبانيا والبرتغال وفرنسا، اقتصرت طبقة النبلاء الإنجليز على نسل أحد الذكور فقط؛ فالابن الأكبر وحده هو من كان يحظى بلقب العائلة، أما باقي الأبناء فكانوا يُعَدون من العوام، علاوة على أن الخطوط الفاصلة بين من يحملون الألقاب من النبلاء وبين أبناء النخبة الآخرين لم تكن صارمة. فعلى سبيل المثال، كان ونستون تشرشل حفيدًا لدوق مارلبورو، ومع ذلك عُدَّ من عامة الشعب. ويكمن تباين صارخ آخر بين إنجلترا وفرنسا في مفهوم انتقاص المكانة الذي كان أي نبيل في فرنسا معرضًا بموجبه لخسارة لقبه إذا انخرط في أي نشاط تجاري، على عكس الحال في إنجلترا، حيث كان قطاع عريض من الطبقة الأرستقراطية يولي اهتمامًا بالمجالات الاقتصادية الاستثمارية دون مواجهة خطورة فقدان المكانة.

كانت الشركات التجارية المساهمة شيئًا غير مألوف يروق لمجموعة متنوعة من الناس الذين يملكون أموالًا، ولم يكن هذا النوع من المشاريع المشتركة معروفًا في إسبانيا والبرتغال، بل كان مقتبسًا من نماذج مشروعات الإيطاليين. فخلافًا للشركات التجارية التي كانت مؤلَّفة من تجار نشطين، كان أعضاء الشركات المساهمة يكتتبون على عدد معين من أسهم الشركة، وهذا منح الرجل الإنجليزي والمرأة الإنجليزية فرصة لأن يُصبحا جزءًا من مشروع مربح دون الحاجة للقيام بدور فعال فيه. وعملت عشرات من هذه الشركات المساهمة، والممنوحة تراخيص ملكية، على توسيع حدود التجارة الدولية.

أبدت الطبقة الأرستقراطية تفضيلها للشركات التي أسست مستعمراتٍ أو استحدثت أنواعًا من التجارة من شأنها تعزيز مكانة إنجلترا في العالم. وصار للتجارة مناصرين من أرفع أوساط المجتمع، حتى إن مجلس العموم كان يضم تجارًا بين أعضائه. ونتيجة لذلك، تغيَّر القانون الإنجليزي بأسرع ممَّا تغير في أي مكان آخر، وباتت حماية الملكية الخاصة — التي كانت مكفولة في إنجلترا منذ قرون — من المرونة بحيث تشمل أشكالًا جديدة من الملكية الفكرية، مثل الاختراعات. فقد أقر قانون الاحتكارات لعام ١٦٢٤ منح براءات الاختراعات للأجهزة الحديثة لمدة أربعة عشر عامًا، بما يشكل توازنًا مذهلًا بين مكافأة المخترع من ناحية، واستفادة الجمهور من الأجهزة النافعة من ناحية أخرى. وأقر القانون أشكالًا جديدة من الملكية كأسهم الشركات؛ بغرض تشجيع المستثمرين على المجازفة بأموالهم.

تبدَّى الحراك الاستثنائي للتجارة العالمية الناشئة في أروع صوره في أولى مستعمرات إنجلترا، في تلك البؤرة الاستيطانية الهشة للحياة الأوروبية التي أقامتها شركة فيرجينيا على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي. توقع المستثمرون — الذين يداعب خيالهم نموذج النجاح الإسباني — تحقيقَ أرباح ضخمة من الذهب والفضة، أو على الأقل، من التوابل وأخشاب الصندل واللؤلؤ. وكان لكل مساهم الحق في التصويت في اجتماع الشركة السنوي في لندن، وكانوا يدفعون ثمن أسهمهم على أقساط. لكن اتضح فيما بعدُ أن الاستثمار المبدئي في الرجال والمعدات التي أُرسلت استنفد قدرته على الربح سريعًا، ولم يجد المستعمرون في جيمس تاون سوى القليل من القيمة ليرسلوها إلى الوطن. ومع توالي الفشل تلو الآخر، صار معدل الوَفَيات مروعًا، وتوقف المساهمون عن دفع أنصبتهم؛ فتحولت الشركة إلى اليانصيب كي تتمكن من جمع المزيد من الأموال، وبدأت توزع الأرض باعتبارها الأصل الوحيد الذي كانت تملكه. وعند هذا المنعطف، نجح أحد المستوطنين، جون رولف، الذي اشتهر كشاب إنجليزي مجتهد تزوج من الأميرة الهندية (الحمراء) بوكاهونتاس — في تهجين سلالة تبغ أطلق عليها اسم أورينوكو، وكان تبغ الأورينوكو من الجودة بحيث نافس التبغ الإسباني الذي كان يحظى بسمعة ممتازة.

أحدث هجين رولف الجديد ازدهارًا مدويًا. فعلى مدار ستينيات القرن السابع عشر كان التبغ يباع بسعر يتراوح بين ٢ إلى ٣ شلن للرطل الواحد، وكان هذا سعرًا مرتفعًا إلى درجة شجعت مساهمي شركة فيرجينيا على ضخ الأموال والرجال (بالإضافة إلى قلة من النساء) في مزارع التبغ. وتهافت الوافدون والمستعمرون الناجون على زراعة المزيد من التبغ؛ فارتفع حجم الصادرات من خمسين ألف جنيه عام ١٦١٨ إلى ما يزيد على ثلاثمائة ألف جنيه بعد ثماني سنوات فقط. وانتشرت الزراعة على امتداد الأنهار المدِّيَّة التي تصب في خليج تشيسابك. وعندما استتبع ذلك التوسع المدفوع بالطلب ارتفاعٌ حتميٌّ في المعروض؛ انخفضت الأسعار إلى ١ على ٢٤ من سعر تبغ فيرجينيا في عشرينيات القرن السابع عشر. وكانت موجات الكساد — الناجمة عن لامركزية القرارات الشخصية لمستثمرين نهمين للأرباح — على وشك أن تصبح سمة دائمة للرأسمالية، لكن ارتفاعًا آخرَ أعقب هذا الانخفاض.

وفي ظل انخفاض السعر، تمكن حشد جديد من المستهلكين من شراء التبغ. وهذا مثال مدهش على العواقب غير المقصودة للمشاريع الرائدة. وأحدث ازدياد الطلب على التبغ بغية تدخينِه أو مضغه دافعًا لخفض تكاليف الإنتاج بهدف الاستفادة من هذا الازدياد في نطاق المستهلِكين الذين سيكونون على استعداد للشراء إذا كان السعر مغريًا بذلك، وفي غضون سنوات قليلة وجد المزارعون وسيلة لتحقيق ذلك.

لم يقف الفرنسيون دون حراك أمام تفوق البرتغاليين والهولنديين والإنجليز. فقد تمكن رجل جريء وعنيد هو الفرنسي جان دي لا روك — بدعم من شركة الهند الشرقية الفرنسية — من الاستحواذ بمفرده على تجارة البن الآتية من الشرق الأوسط؛ حيث كانت أشجار البن تنمو هناك حصريًّا لعدة قرون على المنحدرات الجبلية في إثيوبيا واليمن. استغرق دي لا روك أكثر من عامين لاستكمال رحلته من البحر الأحمر حتى رأس الرجاء الصالح. وعلى الرغم من هذه المدة، والسفر عن طريق البحر، نجح في خفض تكاليف النقل بدرجة كبيرة. كانت القهوة في القرن السابع عشر تعد ترفًا نتيجة لارتفاع سعرها، لكنها كانت متعة يتوق الأوروبيون للانغماس فيها والتلذُّذ بها. وفي غضون العقد التالي، كانت أشجار البن تُرسل إلى جزيرة المارتينيك وجويانا الفرنسيتين. ثم زرعها الهولنديون في جزيرة جاوة، وزرعها الإسبان في كولومبيا، وزرعها البرتغاليون في البرازيل التي أصبحت تصدِّر اليوم ما يقرب من ثلث إنتاج العالم من البن. لكن سعر البن انخفض انخفاضًا حادًّا بعد أن نجحت زراعته في جميع هذه المناطق. وتكرر ما حدث في حالة التبغ السابقة؛ إذ تمكن العديد من الأوروبيين من الاستمتاع بالقهوة ذات الرائحة العطرية والتي تحتوي على مادة الكافيين، مع بداية يومهم كل صباح.16

عندما تشارك عامة الناس مع أفراد الطبقات الاجتماعية العليا في السعي وراء متعة الاستهلاك؛ أدت زيادة أعداد المستهلكين إلى تغير طبيعة المشاريع التجارية. وبالنظر للماضي، يمكننا أن نلاحظ أن دورة الانتعاش والركود هذه وسِعت السوق دون قصد بحيث صار يشمل سلعًا جديدة؛ فقد تجاوب المستثمرون مع أرباح مرحلة الانتعاش، وانتهز عامة الناس الفرصة التي أسفرت عن الركود. إن الزيادة في عدد السلع — نتيجة لانضمام عامة الناس إلى فئة المستهلكين — شكلت تعزيزات ضخمة لثروة الدول والأشخاص الذين شاركوا بنجاح في تلبية الأذواق الجديدة، وسببًا في زيادة قوتهم. تعين على المجتمع أيضًا أن يتعلم كيفية استيعاب أي دفعة نحو الأمام. ولأن الرأسمالية تعدو كونها نظامًا اقتصاديًّا، فقد واصلت تغيير العادات والقيم الأوروبية مهما كانت متأصلة في الأعماق من قبلُ. وكانت قابلية التكيف هذه عاملًا حاسمًا في انتشار الرأسمالية إلى ما يتجاوز حدود أوطانها في الغرب.

أحداث عارضة وغير متوقعة

خلال القرن السادس عشر ومطلع القرن السابع عشر، عندما كانت أوروبا تمر بعصر النهضة، كان الحكم المغولي مزدهرًا في الهند، شأنه في ذلك شأن أسرة مينج الحاكمة في الصين، وكانت الخلافة العثمانية لا تزال تأمل في السيطرة على عالم التجارة إلى جانب الدول الأوروبية، كما دل على ذلك تهديد الجيش العثماني فيينا. وكان نموذج كل طرف من الطرفين — الأوروبيين المسيحيين مقابل المسلمين العثمانيين — يبدو غامضًا وجذابًا بالنسبة للطرف الآخر؛ إذ يمكن العثور على مشغولات الزجاج والمزهريات الإيطالية المزركشة والعلب المطلية بطلاء «اللاكيه» ضمن مقتنيات الطبقة الأرستقراطية الفارسية. وحتى تقنيات المشغولات الفنية وقطع السيراميك كانت مستمدة في الأصل من سورية والعراق. أيضًا حاكى الفن الإسلامي الأسلوب الطبيعي واللوحات الزيتية التي رآها المسلمون في لوحات القصور الملكية الأوروبية، وظهرت أنماط التزيين الإسلامية التقليدية من زهور وطيور في الكتب والعلب والصناديق الأوروبية لقرون في أعقاب بدء الاتصال بين الحضارتين. وفي بعض الأحيان، كان المبعوثون الثقافيون مبشِّرين، وفي أحيان أخرى تجارًا.17 وبينما كانت أوروبا تتجه نحو العلمانية أكثر فأكثر، كان الدين يزيد إحكام قبضته على العالم الإسلامي؛ لذا كان لهذا التبادل في التقنيات والانطباعات تأثير مختلف تمامًا على كلٍّ من العالمين.

ثمة نتيجة أخرى غير مقصودة أثرت على بواكير تاريخ فيرجينيا والرأسمالية معًا؛ فبعد أن تعرضت شركة فيرجينيا للإفلاس، وحول الملك فيرجينيا إلى مستعمرة ملكية، ظل كثير من المساهمين الأصليين يملكون تراخيص امتياز لاستغلال الأراضي التي كانت قد وُزعت عليهم بدلًا من الأرباح بعد إفلاس الشركة. وعندما استقرت فيرجينيا في العقود الوسطى من القرن السابع عشر باعتبارها ولاية ذاتية الاكتفاء تحقِّق أرباحًا ثابتة من محصول التبغ سنويًّا، تقدَّم هؤلاء المساهمون بتلك التراخيص التي في حوزتهم، والتي طالما احتفظوا بها في صناديق ثيابهم، وطالبوا بموجبها بالحصول على منح من الأراضي. وفي كثير من الأحيان كانوا يرسلون أحد أقربائهم الشبان ببعض المال كي يستصلح مزرعة هناك؛ فحظيت فيرجينيا بدفعة جديدة من رأس المال بينما كانت تبدأ التحول من الاعتماد على استخدام العمال بعقود ذات أجل إلى شراء العبيد وامتلاكهم.

استفادت فرنسا — شأنها شأن إنجلترا وهولندا — من تبذير إسبانيا والبرتغال؛ إذ كان الحرفيون الفرنسيون يزودون زبائنهم من شبه الجزيرة الأيبيرية بأفخر الأقمشة والجلود والمطبوعات والأثاث والنبيذ. وكما فعلت إنجلترا وهولندا، سرعان ما أرسلت فرنسا بدورها المستكشفين والمستوطنين إلى العالم الجديد في أعقاب الفتوحات الإسبانية. في ذلك الوقت، كانت فرنسا تمتلك أكبر جيش أوروبي وأعظم ديوان ملكي؛ فاعتبرها معظم المعاصرين أكبر قوة في العالم، إلا أن أمجاد فرنسا المرتبطة بملك الشمس، لويس الرابع عشر، تحولت في نهاية القرن السابع عشر إلى نقاط ضعف تحت حكم ورثته.

شكل الحِفَاظ على المؤسسات الملكية المهيبة عبئًا كبيرًا على موارد فرنسا؛ فقد كانت فرنسا قوية، علاوة على أنها تقع في موقع متاخم لمنافسيها؛ مما دفع ملوكها لخوض الحروب في سبيل طموحات ملكية ودينية، بينما استفادت إنجلترا من جغرافيتها الجزرية، واكتسبت خلال القرن السابع عشر قوة بحرية كبرى دعمت التجارة دعمًا يفوق أي دعم يمكن أن يقدمه أي جيش مهما كان ممتازًا. وخلال القرن التالي، باتت أحواض بناء السفن في بورتسموث الإنجليزية أكبر مكان عمل في البلاد، ومستهلكًا هامًّا للفحم والمواد الحديدية.18 وقيل إن لويس الرابع عشر كان لينفق المزيد على إنشاء قوات بحرية، فقط لو أمكنه استعراضها والتفاخر بها أمام سيدات البلاط مثلما تفاخر من قبلُ بجيشه العظيم. لقد ظهرت فوائد اقتصادية واختفت أخرى نتيجة لهذه العوامل التي تبدو غير مترابطة.

كان الحكام والنبلاء الفرنسيون يعيشون على الضرائب والإيجارات المفروضة على المزارعين — الذين لم يكن معظمهم يتمكن من إنتاج ما يكفي لإطعام أسرهم في السنوات العجاف — بالإضافة إلى جزء ضئيل يأتي من الاستثمار في تقنيات زراعية جديدة. وفي ظل ازدياد عبء إعالة المزيد من الأبناء والبنات أثناء الطفرة السكانية في القرن السادس عشر، قسمت أسر ريفية عديدة ممتلكاتها إلى أقسام أصغر فأصغر من الأرض. وتقسيم الملكية هذا جعل تدهور الزراعة أمرًا يكاد يكون حتميًّا في غالبية أراضي فرنسا، ولم ينقذ البلاد من عدة مجاعات حادة سوى التدخل من جانب الحكومة.

ألقى التدهور الزراعي في فرنسا بظلاله على اقتصادها برُمته. كان الملوك يمنحون أحباءهم امتيازات خاصة، كالحق في فرض رسوم على عبور جسر متهالك، كذلك الجسرِ الذي ورد ذكره في حكاية العنزات الثلاث. وكان المتمتعون بهذه الامتيازات يملكون الحق في توريثها لورثتهم. وبمرور الوقت، تراكمت المكوس المفروضة على الطرق والجسور والقنوات وقضبان عربات السحب؛ مما جعل نقل المواد الغذائية من منطقة إلى أخرى عملية بطيئة ومكلِّفة. وفي بلد كبير ومتنوع المناخ مثل فرنسا، لم تكن خسارة الحصاد تحدث في كل المناطق، ومع ذلك لم يكن وجود طعام في مناطق دون غيرها يشكل عونًا للجياع؛ نظرًا لما تشكله هذه الامتيازات السيادية المجحِفة من عقبات على طريق توزيع المواد الغذائية على جميع أنحاء البلاد. لقد أصبح نقل الحبوب من منطقة إلى أخرى مهمة شاقة، عدا في الحالات التي كانت الحكومة تتدخل فيها بقوة لإنقاذ الأرواح من الموت جوعًا. ولم يكن في فرنسا ثمة ما يشبه سوقًا داخلية موحدة كما هو الحال في إنجلترا، حيث كانت السلع تمر بحرِّية بعد أن ألغيت التراخيص الملكية بالاحتكارات أثناء الحرب الأهلية. ولم تقتصر صعوبات النقل التي كانت معقدة بحق في فرنسا على شحن الأغذية فحسب، بل عانى القطاع الصناعي أيضًا نتيجة لخسائر الحصاد التي ألهبت أسعار الأغذية، تاركة الناس دون نقود لشراء الملبس أو تأثيث المنازل.

قام رونق البلاط الفرنسي على كاهل الفلاحين الفقراء، وأثر الخوف من غضب هذا الشعب المُعدم على قرارات البلاط، لكن وزراء الملك اعتبروا تنفيذ أي إصلاحات في قطاع الزراعة مخاطرة كبيرة. وفي المرة الوحيدة التي حاول فيها وزير فعل ذلك، ألقى خصومه مسئولية سوء محاصيل الحصاد التي أعقبت تنفيذ تلك الإصلاحات على تجديده هذا. وفي ظل هذه القيود المؤسسية، استمرَّ النظام القديم حتى نهاية القرن الثامن عشر، إلى أن تعثر ثُمَّ انهار باندلاع الثورة الفرنسية. لكن فرنسا ظلت قوية اقتصاديًّا وسياسيًّا بسبب ما تملكه من مشاريع صناعية مثيرة للإعجاب في مجالات المنسوجات والمفروشات والنبيذ والجلود والطباعة، لكن هذا القطاع لم يتمكن من أن يشكل أكثر من ٢٠٪ من الاقتصاد؛ لأن إنتاج الطعام اللازم لإطعام الشعب كله استحوذ على تشغيل ما لا يقل عن ٨٠٪ من العمال الفرنسيين.

كان الاقتصاد الهولندي الأكثر نجاحًا يعتمد على السلام. فعندما كان القتال دائرًا في سبيل نيل الاستقلال خلال القرن السادس عشر، أظهرت القوات البحرية الهولندية شراسة في هجماتها على الإسبان. لكن بعدما تم نَيل الاستقلال أخيرًا، صمَّم المواطنون الهولنديون قواربهم واضعين نصب أعينهم السرعة وسعة الشحن، ولم يجهزوها سوى بالسلاح الخفيف للغاية. ولم تغب هذه الحقيقة عن الفرنسيين والإنجليز؛ فكانت الزوارق الهولندية السريعة أكثر الأهداف جاذبية بالنسبة لهما. وشنت كلتا الجارتين الحرب على هولندا — الإنجليز ثلاث مرات، والفرنسيون مرة واحدة بالتحالف مع الإنجليز — خلال العقود الوسطى من القرن السابع عشر. كذلك احتجزتا سفن شركة الهند الشرقية الهولندية، وحطمتا أساطيل صيد أسماك الرنجة التي كانت تشكل العمود الفقري للإمبراطورية التجارية الهولندية، قبالة سواحل اسكتلندا وإنجلترا. ردت هولندا بمهارة وشراسة، لكن تفوُّق حجم فرنسا وإنجلترا مجتمعتين جعل الربح حليفهما. وخلال الحرب الأخيرة، منع الهولنديون فرنسا من غزو أمستردام، فقط عن طريق فتح السدود التي كانت تحبس وراءها مياه بحر الشمال. وحينما هاجمت إنجلترا وفرنسا المقاطعات المتحدة، حاولتا استغلال قوة الإكراه في الحصول على تنازلات هولندية عن امتيازات تجارية، على غرار ما فعله البرتغاليون في المحيط الهندي؛ فقد تأكد في أذهان المتنافسين الأوروبيين أن ما لا يمكن اكتسابه بالمنافسة قد يُكتسب باللجوء إلى العنف. ورغم أن الهولنديين لم يكونوا بأي حال من الأحوال عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم، فإنهم خرجوا من هذه الحرب وقد أنهكتهم مواطن ضعفهم.

فعلى الرغم من أن هولندا كانت متفوِّقة على إنجلترا في الثروة وفي مدى البراعة التجارية خلال معظم سنوات القرن السابع عشر، لم تحرز تنميتها الاقتصادية تقدمًا خلال القرن الثامن عشر. وبدلًا من أن يَمضي الهولنديون قُدمًا إلى مستويات جديدة من التنمية، أصبحوا ممولين كبارًا لمشاريع الدول الأخرى وحماقاتها. فقد لجأ المستعمرون الأمريكيون إلى الاقتراض منهم عندما احتاجوا المال من أجل حربهم لنيل الاستقلال. ورغم أن الهولنديين بلغوا منتهى البراعة في الحِرَف اليدوية والتجارة، فإنهم لم يحوزوا الريادة في المجالات التكنولوجية. بل ظلوا قرنًا كاملًا قبل أن يتبعوا خطوات مَن سبقوهم في ميدان الثورة الصناعية. حتى جيرانهم البلجيكيين — الذين لم يفلحوا في نيل استقلالهم حتى عام ١٨٣٠ — سبقوهم في هذا المضمار. لكن الثروة الوافرة التي امتلكها البلجيكيون من الحديد والفحم لعبت دورًا حاسمًا في مرحلة الثورة الصناعية؛ مما يبرز أهمية دور الموارد الطبيعية في التنمية الرأسمالية.

إن نجاح الهولنديين في الشحن وصقل المنتجات والتمويل قد يساعد في تفسير تخلُّفهم الصناعي. فقد وجد العديد من الرجال والنساء الهولنديين طُرقهم للاستمتاع بالحياة الرغدة من خلال حصولهم على دخل جيد. وكما هي الحال مع كثير من التجار الناجحين، تحول اهتمام الكثيرين في هولندا إلى اكتساب المكانة اللائقة والاستمتاع بحياة طيبة بالاستثمار في الأراضي أو بالعمل في القطاع المصرفي أو بكلا الأمرين.19 وكان توسيع حدود الأرباح المتأتية من التجارة هو ما نجح فيه الهولنديون باقتدار. لكن بعد أجيال عديدة من تنامي هذا الازدهار، بدأت الطبقة الحاكمة تتحول إلى الصرامة بعد أن أبهر الهولنديون كافة الناس في بقية أنحاء أوروبا بالثروات التي لم تأتِ إلا ثمرةً للعمل الجاد والابتكار. ولم تصبح هولندا ومقاطعاتها الشقيقة فقيرة، لكنها انحدرت إلى مستوًى قريب من مستوى جيرانها. وعلى الرغم من استمرار الازدهار الهولندي خلال القرن الثامن عشر، كان الهولنديون في تراجعهم يبحثون بحثًا مستمرًّا ولا هوادة فيه عن التطورات الجديدة التي ميَّزت تاريخ الرأسمالية.

إن تفسير الأمور التي لم تحدث — لكنها كان من الممكن أن تحدث — دائمًا ما يشكل تحديًا. لماذا توقفت حركة والابتكار والتغيير في أسلوب الاستثمار؟ هل كان الهولنديون — كما يدعي منتقدوهم — مواطنين متعجرفين قانعين ولا يهتمون كثيرًا باقتحام اتجاهات جديدة طالما وصلوا إلى وضع مريح؟ أم كانت هناك مثبطات أخرى للتنمية الاقتصادية؟ ثمة حقيقة واحدة تبدو ذات صلة بهذا الموضوع تتمثل في أن الهولنديين لم يحرروا أنفسهم قط من أقدم قيودهم على الإطلاق؛ إنه نقص الغذاء والخوف ممَّا يصاحب ذلك من مجاعات. لقد كان المزارعون الهولنديون متفوقين في تقنيات الزراعة لكنهم لم ينتجوا من أراضيهم سوى ثلثي الكمية اللازمة لإطعام شعبهم في كل عام. وهذا العجز جعل الهولنديين يعتمدون اعتمادًا حيويًّا على آخرين. المثير للاهتمام أن موطن الضعف هذا يبدو أنه لم يبلُهم بالمجاعات بقدر ما كبح خيالهم؛ إذ ظلوا أكثر تعلُّقًا بعقلية التوفير التي رفعت قيمة الأمان فوق قيمة المجازفة.

بدأتُ هذا الفصل بالإشارة إلى أن التجارة كانت موجودة منذ قرون قبل ظهور الممارسات الرأسمالية، وأنها كانت ستزدهر حتى من دون الرأسمالية؛ لأنني أردت أن أكسِرَ الارتباط الموجود في أذهان معظم الناس بين اكتشاف العالم الجديد وظهور الرأسمالية، لأن الرأسمالية ليست امتدادًا للتجارة، بل إنها تطلبت مجموعة مختلفة من المواقف والمهارات. وعلى الرغم من شيوع مصطلح «الرأسمالية التجارية»؛ فإن هذا المصطلح يضلل من يسمعه لأنه يعطي الانطباع بأن الرأسمالية التجارية تطورت حتى وصلت إلى الرأسمالية الكاملة، لكن هذا لم يحدث في كثير من البلدان، كما يتضح من تجربة كلٍّ من إسبانيا والبرتغال. وحتى حالتي فرنسا وهولندا تشهدان على صحة ذلك؛ إذ ليس ثمة ارتباط بين الأمرين.

أحد أسباب عدم نجاح التجارة — مقابل التأثير — في تغيير اقتصادات العالم، هو أنها لم تستعنْ إلا بجزء صغير للغاية من السكان العاملين؛ فقد امتصت الزراعة ما يزيد على ٨٠٪ من العمال، سنة بعد أخرى، في أي بلد في العالم. ولا شك أن من شأن تغيير هذه النسبة إحداث ثورة اقتصادية، أو على الأقل جعْل ذلك ممكن الحدوث. لكن الاستكشافات والتجارة التي بدأت في نهاية القرن الخامس عشر فعلت شيئًا رائعًا؛ إذ ربطت بين آسيا وأوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية برباط وثيق. والآن لا يستطيع أيٌّ من بلدان العالم أن يفلت تمامًا من تأثير الأحداث التي تقع على بُعد آلاف الأميال منه. وخير مثال على ذلك هو تحويل النظم النقدية الصينية إلى الاعتماد على قاعدة عيار الفضة في مطلع القرن السادس عشر؛ ممَّا ضاعف قيمة الفضة في جميع أنحاء العالم في ذلك الوقت. ونتيجة لهذا التحول، حدثت طفرة في إنتاج الفضة التي كانت تذهب رأسًا إلى الصين، وجلبت سفن مانيلا الشراعية الأطعمة الجديدة من العالم الجديد؛ مما ساعد على تغذية المزيد من الصينيين. ومع نمو عدد سكان الصين، نما الطلب على الفضة التي حلت محل المال في جميع القارات المترابطة.20

شجعت المستجدات الناجمة عن التجارة الأوروبية في جزر الهند الشرقية والعالم الجديد ظهور مؤسسات تجارية جديدة، وخلقت طبقة جديدة من أصحاب المشاريع، وحفزت مخيلة المعاصرين، وأسفر هذا عن نقاشات عامة حللت هذه المستجدات الاقتصادية. وأصبحت الاهتمامات الفكرية الجديدة — التي عززتها المفردات الجديدة — حاسمة في التحول الحديث للبلدان التقليدية. وأصبح أصحاب المشاريع يستفيدون من العديد من الأجهزة الميكانيكية والإجراءات المؤسسية دون أن تكون تلك سببًا في ظهور الرأسمالية. وأدى اختراع النوع المتنقل من آلات الطباعة إلى انخفاض كلفة الطبع؛ ممَّا شجع رواج تجارة الكتب التي حملت أنباء الاستكشافات في جميع أنحاء أوروبا. وشكل الاختراعان اليونانيان — الإسطرلاب والبوصلة — عونًا كبيرًا خلال الإبحار في مياه المحيطات الثلاثة. وعملت الطريقة الإيطالية للقيد المزدوج للحسابات على تمكين التجار من البقاء على علم أفضل بأرباحهم. لقد ساهمت جميع هذه التحسينات في المشاريع الصناعية، لكنها لم تتسبب في ظهور الرأسمالية، بل كانت فقط عوامل مواتية لتطورها؛ إذ تطلبت الرأسمالية حراكًا اجتماعيًّا مختلفًا وابتكارات أخرى غيرت كيفية زرع المواد الغذائية وكيفية إنتاجها أيضًا.

لم تختفِ العادات التقليدية فجأة نظرًا لأنها كانت جزءًا لا يتجزأ من الأدب والقوانين والشعائر الدينية وطقوس العمل وعادات الناس، بل توارت ببطء. وظلت الحكومات تنظم العديد من المهن خارج مجال الزراعة؛ فحددت القوانين والمراسيم الملكية ماهية الإجراءات المناسبة لإنتاج المنسوجات الصوفية وبيعها، باعتبارها القطاع المركزي للتصنيع الأوروبي. وفي المدن، حددت النقابات عدد العمال في مشاريع تجارية مثل صناعة الورق وطباعة الكتب والمصنوعات الجلدية والأدوات الحرفية. وبينما كان التجار في الخارج يخضعون لعقود تقييدية، كفلت كلٌّ من إنجلترا وهولندا أنظمة سياسية أكثر انفتاحًا على المصالح التجارية خلال القرن السابع عشر. ورغم أن الحكومة الإنجليزية ظلت شديدة الأرستقراطية، اقتحم جانب كبير من الطبقة الأرستقراطية مشروعات جديدة بحماس. والأهم من ذلك، تكفلت الحكومة بالعديد من التحسينات الزراعية التي كان من شأنها تحديد عدد العمال ومبلغ المال الذي سوف يتوفر للمشاريع الاقتصادية الأخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤