مقدمة

أحسَّ الكاتب أنَّه، وقد بلغ الخامسة والثَّمانين من عمره، وانتابته عوامل الضَّعف والمرض، أنَّه قد اقتربت سيرته الثَّقافيَّة من ختامها ممَّا أوحى له بأن يكتب هذا الكتاب؛ ليُقدِّم به إلى قارئه صورة للحياة الثَّقافيَّة كما عاشها أخذًا وعطاءً، وهي حياة طال أمدها حتى بلغ — عند كتابة هذه السطور — ما يزيد قليلًا عن ستين عامًا، بدأت قُبيل سنة ١٩٣٠م، وطالت حتى أوشك الزمن على الدخول في سنة ١٩٩١م، ولقد حرص الكاتب أشد الحرص على أن يصور حياته العلمية والأدبيَّة خلال هذه الفترة الطويلة، في نزاهة يتجرد بها عن الهوى ما كان ذلك في مستطاع البشر، وسوف يرى القارئ أنه إنما يشهد الحياة الثَّقافيَّة المصريَّة العَربيَّة في عمومها، منظورًا إليها بمنظار مواطن مصري عربي، شاءت له فطرته أن يجعل تحصيل العلم وكسب الثَّقَافة، ثم نشر ذلك العلم فيمن تولى تعليمهم في قاعات الدرس، وكذلك نشر ما قد تشربه من ثقافة فيما كتبه لينشر في جمهور القارئين، حتى بلغت صفحات الكتب التي أخرجها ما يقرب من عشرين ألف صفحة، فيها ما هو علم أكاديمي اقتضته الحياة الجامعيَّة، وما هو أدب خالص اقتضته طبيعته التي تميل به آنًا بعد آن إلى تقديم ما يريد تقديمه إلى القارئ، في تشكيل فني يلتزم ما يلزم في عملية الإبداع الأدبي، ثم ما هو أقرب إلى أن يقع بين بين، وذلك حين يعرض أفكارًا تمس حياة النَّاس في الصميم، عرضًا لا هو في صرامة البحوث الأكاديميَّة من جهة، ولا هو في شكل الخيال الأدبي من جهة أخرى، وسيجد القارئ فصول هذا الكتاب في معظمها من هذا الطراز الثالث.

فأول ما يصادفه من الكتاب، عنوان الفصل الأول، وهو «تغريدة البجع» وهو عنوان ينطوي على دلالة غنية بمضموناتها، فأولًا هو عنوان يوحي بأن الكاتب حين هم بكتابة هذا الكتاب، كان يضمر في نفسه أنَّه إنما يكتب آخر ناتج له، ثم يودع القلم، بل وما هو أوسع من هذا القلم وأشمل؛ وذلك لأنَّه قد عرف عن البجعة أنها وهي تلفظ أواخر أنفاسها، تخرج نغمة أجمل ما تكون النغمات وقعًا في آذان البشر، إنَّها على أرجح الظَّن تئن أنين الحيِّ وهو على حافة النِّهَاية التي ينتقل بها من الحياة إلى الموت، ولكن أبناء آدم لا يأبهون بآلام البجعة المحتضرة في أنينها، إذا وقع ذلك الأنين في آذانهم وقع الأغرودة تطربه بحلاوة أنغامها، ومن هذا المعنى الذي تحمله تغريدة البجعة في أواخر أنفاسها، أخذ الكاتب عنوان الفصل الأول من هذا الكتاب.

ولقد كان الكاتب، وهو يكتب أول فصول الكتاب الذي اعتزم أن يكون كتابه الأخير، سبقه على آماد السِّنين نحو خمسين كتابًا، يحس فعلًا بشيء من حشرجة الأنين يتردد بين جوانحه إذ شاء له ربه أن يقع له في حياته من غدر «الأصدقاء» ما اهتز له كيانه البشري اهتزازًا كاد يقتلع شجرة الحياة من جذورها اقتلاعًا، ولكن من يدري؟ فرب ضارة نافعة كما يقولون؛ لأن تلك الصدمة الهادمة إن تكن قد تركت وراءها أنين المتألم فهو الأنين الذي ربما كان له عند القارئ نغمة يطرب لها ويفرح.

ولم يلبث الكاتب عند هذه الذكريات المحزنة طويلًا، ليفرغ إلى رواية حياته الثَّقافيَّة، فقد كانت أولى خطاها تلك الأعوام الأخيرة من عشرينيات القرن ثم استمرارها إبان عقد الثلاثينيات، وهي فترة كان الكاتب فيها مستمعًا لما يقوله الآخرون أكثر منه ناطقًا بما عنده يسمع الآخرون، وها هنا نراه يصف للقارئ كيف ازدحمت حياة النَّاس الثَّقافيَّة في بلادنا، بالأفكار القوية، ينقلها كاتبوها عن الغرب الحديث أو القديم حينًا وعن أسلافنا حينًا آخر، وكان لا بد للقارئ الطموح يومئذ من المقارنة بين تلك الأفكار المعروضة؛ ليأخذ منها ما يراه صالحًا لطبيعته، ويترك ما لا يصلح، وهنا يروي لنا الكاتب عن نفسه أنه قد مال بكل عقله وقلبه نحو فكرة «التَّقدم» من مجموعة الأفكار التي امتلأت بها الصحف والكتب، وفكرة «التَّقدم» هذه هي من الأفكار المركبة التي تحتوي على أبعاد كثيرة، فمنها أن الآخذ بها لا بد له أن يجعل نفسه على اعتقاد راسخ بأن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديدًا تلو جديد مما أنتجته السنون، ومعنى ذلك ألا يكون «العصر الذَّهبي» وراء ظهورنا، بل يكون موضعه الصحيح هو في المستقبل الذي يعمل النَّاس على بلوغه، ومن هنا تكون فكرة «التَّقدم» محتوية على وجوب «التَّغير» مع متغيرات الحضارات المتعاقبة، و«التطور» الذي ينقل صور الحياة نحو ما هو أعلى، ومعنى ذلك وجوب الاهتمام ﺑ «المصير» ولا ينفي ذلك الاهتمام أن تجيء قوائمه مستندة إلى تراثنا الذي تركه لنا السلف على ألا يكون في حياتنا الحاضرة بمثابة النِّهَاية التي نقف عندها، بل يكون بين أيدينا نقطة ابتداء نجاوزها إلى مستلزمات حاضر حي ومستقبل مأمول.

كانت فكرة «التَّقدم» التي أخذ بها الكاتب اختيارًا من كثرة الأفكار المعروضة على أقلام أعلامنا وأعلام الفكر من الغرب، ثروة عقلية تركت أثرها في نفسه، إذ يُصاحبها بالضرورة كتابات طويلة عريضة عميقة عن القيم الكبرى التي بغيرها لا تتقدم حياة الإنسان خطوة واحدة، كالحريَّة والعدالة والمسئولية الخلقية للفرد، بما يجعله كائنًا مستقلًّا لا تُفرض عليه التبعية لأحد سوى ضميره، إلا أن تكون تلك التبعية باختياره الحر، وغير ذلك من «القيم» التي تستوجبها فكرة «التَّقدم»، لكن الكاتب إذ يعترف بفضل أعلامنا فيما كتبوه ونشروه خلال العشرينيات والثلاثينيات مما يجري في هذا السياق، لا يفوته أن يستدرك فيذكر لهؤلاء الأعلام أنفسهم نقيضة تركت بدورها أثرًا عميقًا في نفسه، وتلك هي أن هؤلاء الأعلام — وقد نشروا ما نشروه في سبيل تلك القيم الإنسانية العليا — لم يستطيعوا هم أنفسهم أن يقيموا حياتهم الاجتماعيَّة على أسسها فكأنما أرادوا الحريَّة لأنفسهم دون سائر من يتعاملون معهم من عباد الله، وقُلْ ذلك في جميع القيم التي بشروا بها، وواضح أن صاحب الدعوة إلى التَّقدم إذا لم يُخضِع حياته الشَّخصيَّة لما يدعو إليه جاءت دعوته ضعيفة الأثر في حياة الآخرين.

وجاءت سنوات الأربعينيات مثقلات بما حملت من أحداث وتحولات وكان ذلك على مستويات ثلاثة: حياة الكاتب الصحفية وحياة الوطن المصري والقضيَّة العَربيَّة، ثم العالم كله بجميع أطرافه، فأما حياة هذا الكاتب فقد حدث في مسارها تغير بدا كما لو كان تغيرًا مفاجئًا، لكنه في حقيقة الأمر كان أمرًا متوقع الحدوث، وإن يكن قد تأخر وقوعه عما كان منتظرًا، وهو أن سافر الكاتب في بعثة دراسية للحصول على الدكتوراه في الفلسفة، ولقد تحقق له ذلك والحرب العالمية الثانية مُلتهبة السَّعير، فرأى هناك المسافة البعيدة بين كرامة الإنسان كيف تُصان هناك مهما يكن شأنه من فقر أو غنى، ومن علم أو جهل، ومن ارتفاع في المنزلة أو انخفاض، وبين كرامة الإنسان في بلادنا كيف يُمكن أن تُهان، وأمَّا على مستوى الوطن المصري والأمة العَربيَّة، فقد حدث في الأربعينيات الوسطى أن أُنشئت الجامعة العَربيَّة، وحدث في أواخرها أن صدر قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، ولم يمضِ بعد صدور القرار إلا بضعة أشهر حتَّى أُعلن قيام دولة إسرائيل. في الفترة الفاصلة بين القرار وقيام الدولة الجديدة نشبت حرب بين العرب واليهود كان النصر فيها لليهود، ثم كان بعد ذلك ما كان، وما لا يزال كائنًا من أحداث جسام يعرفها ويعانيها كل عربي، ومعظمها أحداث تصرخ من ثناياها العدالة، وماذا أنت صانع في دول قوية غنية جبارة كأنما أقسمت أمام الله أن تعلي الكلمة الظالمة؟! ونقول ذلك لتذكرة إذا ما شهدنا لتلك الدول نفسها بجبروت العلم وقوة الابتكار، وأما على المستوى الأعم والأشمل، وأعني مستوى العالم كله، وما قد شهده من تغير وقع بالفعل أو تغير في طريقه إلى الحدوث بعد حين، فقد رآه هذا الكاتب تغيرًا من الجذور؛ لأنَّه يتضمَّن انتقالًا من حضارة وهنت وذهب ريحها إلى حضارة جديدة تتأهَّب للظُّهور.

وفي ظنِّ هذا الكاتب أن التَّغير الكبير الذي يسير بكوكب الأرض نحو حضارة جديدة قد تتكامل صورتها في القرن الحادي والعشرين، إنَّما هو تغير سبقته إرهاصات على طول القرن الماضي، ولك أن تُمعن النَّظر في حقائق الحياة الواقعة إبان القرن التَّاسع عشر، لترى فارقًا عجيبًا بين حياة الفكر عند عمالقة المفكرين عندئذ، وبين صور الحياة الفعليَّة كما يعيشها النَّاس، فأما حياة الفكر النَّظري فقد شُحنت بما يدل على انقلاب في وجهات النظر، إذ انتقل المفكرون — فلاسفة وعلماء وأدباء على حدٍّ سواء — انتقل هؤلاء جميعًا بتصورهم للكون في حقيقة أمره، من أن يكون كتلة فيها قصور ذاتي لا يتيح لأي تغير أن يطرأ على أي شيء إلا إذا أحدثه له عامل خارجي عنه، إلى أن يتصوروه كونًا كالكائن الحي، يأتيه التَّغير من ذاته هو، فهكذا خلقه خالقه ليكون التَّغير المتصل سُنَّته.

كان ذلك التصور الدينامي للكون يقطع أشواطًا بعيدة في حياة الفكر النظري إبان القرن الماضي، بينما كانت تجاوره حياة النَّاس العملية التي أخذت على نفسها أن تتحجر فيها التقاليد، بحيث لا يُسمح لشيء فيها بأن يختلف يومه عن أمسه، أو يختلف غده عن يومه، ومثل هذا البون الشاسع من اختلاف الصورة بين رؤية الفكر النظري من جهة، وحقيقة الحياة في واقعها المرئي والمسموع، كان لا بد أن يثير القلق في النفوس، بحيث يصبح من الأرجح أن ينفجر هذا التوتر بين شطرَي الحياة: الفكر النظري والحياة كما هي واقعة، وماذا يكون ذلك التفجر إلا حروبًا وثورات؟ وذلك هو ما حدث، وكان نصيب هذا القرن العشرين هو أن يشهد ذلك الحدوث؛ إذ شهد بالفعل حربين عالميتين: أولى وثانية، كما شهد بين الحربين عددًا كبيرًا من ثورات الشعوب.

وعلى ضوء هذه الرؤية فلننظر إلى الحرب العالمية الثانية (انتهت سنة ١٩٤٥) لنراها — كما رآها هذا الكاتب — مؤذنة بتغيرات عميقة في حياة النَّاس، وهي تغيرات من شأنها حتمًا محتومًا أن تنتهي إلى صورة حضارية جديدة هي الآن في طريق التكوين، وما هذه الفترة الزمنية التي يحياها العالم الآن إلا فترة مخاض، ومن ثم فكل صور الحياة مرتجة متقلبة كأنما هي تبحث عن الوضع الجديد الذي يُراد لها أن تستقر فيه.

ولقد شهدنا بالفعل منذ نهاية تلك الحرب حتى يومنا هذا حريات للشعوب والأفراد والجماعات على نطاق واسع، فكل الشعوب التي كانت مستعمرة استقلت عن مستعمريها، ونهض العمال في صحوة يطالبون فيها بحقوقهم الضائعة، وكذلك فعلت المرأة، وهكذا فعل الشباب، ولقد شهدت أعوام الأربعينيات إعلان الميثاق الذي يحدد حقوق الإنسان (في العاشر من ديسمبر سنة ١٩٤٨) وشهدت قبل ذلك قيام منظمة الأمم المتحدة، وفي مثل هذا المناخ المليء بالتَّغيرات والتوقعات، كان هذا الكاتب، حيث كان، يدرس ويقرأ ويراجع ويتأمل، لإنجاز ما قد سافر من أجله أولًا، ولكنه كذلك لم تأخذه غفوة تلهيه عن اقتناص سويعات يكتب فيها سلسلة من مقالات أدبيَّة (وأعني بكونها أدبيَّة أنها شكلت على نحوٍ ما تبني مبدعات الأدب والفن في جميع أنواعهما) وكان يبني كل مقالة على مضمون يُراد به أن يوقظ القارئ العربي على الكثير الذي فاته في عصر التحولات، وجاءت سنوات الخمسينيات وكان الكاتب قد عاد إلى أرض الوطن وفي ذهنه تصور واضح لما ينبغي أن ندعو إليه في دنيا الثَّقَافة بصفة عامة، وفي مجال الفكر الفلسفي بصفة خاصة والعلاقة قريبة ووثيقة بين الجانبين؛ لأنَّ الفكر الفلسفي لا يحقق ذاته إلا إذا كان مداره آخر الأمر تحليلًا نقديًّا للحياة الثَّقافيَّة القائمة، وهو تحليل من شأنه أن يرد الفروع المختلفة التي منها تتألف الحياة الثَّقافيَّة في بلد معين وفي عصر معين، إلى محاورها العامة المشتركة؛ لأن هذه المحاور إذا تبينت حدودها، تبين معها الطابع المميز لذلك العصر في ذلك البلد، وبالتالي فإن ذلك يلقي الضوء على العصر في العالم أجمع — بدرجات متفاوتة بين أقطار العالم المختلفة — لأن العصر الواحد قمين أن يمد الروابط والصلات بين سكان الأرض جميعًا، بدرجات متفاوتة كذلك.

ومن معالم الرؤية الواضحة التي عاد بها هذا الكاتب معتزمًا أن يجعلها برنامج عمل يهتدي به في نشاطه الفكري، أن ما قد تقدم به الغرب يمكن أن نتقدم به نحن، على مستوى الوطن المصري، وعلى مستوى الأمة العَربيَّة في آن واحد، دون أن تضيع منا الهُوية هُويتنا التي لازمتنا فميزتنا على امتداد عصور التَّاريخ، وما الذي تقدم به الغرب ثم فاتنا نحن فتخلفنا؟ إنه على وجه التحديد العلوم الطبيعيَّة ومناهجها؛ لأنَّ العلوم الطبيعيَّة ومناهجها هما اللذان اسْتُحْدِثا مع النهضة الأوروبيَّة، ولأسباب تاريخيَّة وقف العربي حيث كان ولم يقدم على تلك الخطوة الجديدة، إذ على الرغم من التطور الذي تحقق في العلوم الرياضية خلال العصر الحديث، فقد كان في وسع العربي أن يساير ذلك التطور دون أن يشعر بشيء من الغرابة أو العسر؛ لأنه هو وجميع القوميات الأخرى في العالم كله، قد انتهجوا بصفة أساسية منهج التفكير الرياضي، الذي هو أن يبدأ العقل من مسلمات تُؤخذ مأخذ الصَّواب، ثم يستخرج منها نتائجها، ولا بد لنا في هذا السِّياق من الحديث، أن نذكر التفوق الملحوظ في قدرة العقل العربي على هذا الضرب من الاستدلال الرِّياضي، سواء أكان موضوع البحث رياضة بالمعنى المألوف لنا جميعًا في الرياضيات، من حساب وهندسة إلى جبر كان للعرب فضل إيجاده بعد أن لم يكن موجودًا، أم كان موضوع البحث شيئًا آخر، لكنه ينتهج منهج توليد النتائج من مقدمات مُسلم بصحتها مقدمًا.

أما العلوم الطبيعيَّة فشيء نستطيع أن نقول عنه في غير حرج، إنَّه جديد جِدة شبه كاملة إذ إنه قد وُلد مع النهضة الأوروبيَّة، ولا ينفي هذا التعميم الجارف أن يكون عالم في العلوم الطبيعيَّة قد ظهر هنا أو هناك من أقطار الأرض التي أسهمت في إقامة البنيات الحضاري؛ لأن العصور لا يتميز طابعها الخاص بفرد لم تنشأ قبله ولا نشأت بعده حركة يتكون منها تيار دائم، شأنها في ذلك شأن الربيع، لا نقول عنه إنه قد حل إذا رأينا عصفورًا واحدًا كالتائه الذي ضل السبيل.

وإن الأمر ليزداد وضوحًا إذا تذكرنا أن العلوم الطبيعيَّة في عصرنا هذا قد أخذت صورة لم يكن يحلم بها السابقون، حتى أولئك الذين ظهروا في النهضة الأوروبيَّة، وما بعدها خلال القرنين السَّابع عشر والثَّامن عشر، فهؤلاء لم يكادوا يستخدمون الأجهزة في حياتهم العلمية إلا بصورة بالغة البساطة والندرة بالقياس إلى ما تتميز به تلك العلوم في عصرنا هذا، إذ الأجهزة في عملية البحث العلمي، ثم الأجهزة التي تنتجها البحوث العلمية لتدخل في حياة النَّاس العملية، أصبحت أمرًا جوهريًّا لا يكون العلم علمًا بغيرها.

وليست المسألة هنا هي مجرد المظهر والشكل، بل إن تغيرًا جوهريًّا في طبيعة العلم ذاته قد حدث فميز العلم الطبيعي المعاصر عن سلفه منذ بدأ تاريخ البشر حتى هذا القرن العشرين؛ وذلك لأن أجهزة البحث العلمي تزداد مع الأيام دقة، ومعنى ذلك أن الأرقام القياسية التي تبنيها عن الظواهر الطبيعيَّة الموضوعة تحت البحث، تتغير كلما ازداد الجهاز المعين دقة، فإذا كنا نقيس السرعة، أو الوزن، أو الطول أو غير ذلك، جاءتنا أرقام مختلفة باختلاف درجة الدقة التي يعلنها الجهاز المعين في صورته الجديدة، ويترتب على ذلك أن تكون الحقائق العلمية نسبية مرهونة بظروف زمانها وما قد وصل إليه من أجهزة متطورة.

وبهذه العلوم الطبيعيَّة تفوق الغرب فازداد قوة، وثراء وحرية، نعم إنه ازداد حرية بمقدار ما استطاع أن يكشف عن أسرار الكون بتلك العلوم ومنهاجها التقني (التكنولوجيا)؛ لأنه كلما باحت له الطَّبيعة عن سر من قوانينها، استطاع الإنسان أن يستخدمها كما شاء بعد أن كانت هي التي تتحكم فيه بسلطانها المجهول.

لم يقتحم العربي هذا الميدان، فلم ينعم بثمراته، وترك لأهل الغرب الجمل بما حمل، على أن يمد كفيه بعد ذلك راجيًا من الغرب أن يبيعه كذا وكذا من آلات للسلم وللحرب على السواء، وأما الغرب فيعطيه أو لا يعطيه وفقًا للموقف وما يقتضيه، فما الذي يمنع العربي أن يدخل عصره مقتحمًا ميادينه العلمية وغير العلمية، مما قد ثبت نفعه في عملية التَّقدم الحضاري؟ إن عقيدته الدينيَّة تحضُّه حضًّا أن يتفحص ظواهر الكون المحيطة به تفحص من يريد الكشف عن سرها وليس تفحص من يجلس بين جدران بيته يحملق بناظرته في الخلاء.

على أن اقتحامنا لميادين العلم الطبيعي لن يتم لنا على الصورة الدافعة للمشاركة الإيجابيَّة في البنيات الحضاري إذا اكتفى علماؤنا — كما هم يكتفون الآن — بالأخذ عن الغرب علومه بعد أن تتحقق في كتاب أو في جهاز؟ لأننا في هذه الحالة ملزمون أن ننتظر حتى يفرغ الغرب من إبداع ما يبدعه، ثم نرسل في طلبه، ومعنى ذلك أن نكون دائمًا وراءه بخطوة — على أحسن الفروض — وإذن فالمطلوب منا هو أن يواجه علماؤنا ظواهر الكون المراد بحثها واستخراج قوانينها فيشاركون في إبداع العلم مع مبدعيه، والخطوة الأولى التي يجب أن نخطوها في هذا السَّبيل هي أن نبث في شباب جامعاتنا ومعاهدنا روح «المنهج العلمي» وألا نقنع بالمادة العلمية التي أنتجها منتجوها هناك عن طريق استخدامهم لهذا المنهج؟ وما يُقال عن العلوم الطبيعيَّة يُقال عن غيرها من مقومات الحضارة التي نحيا في ظلها، أي إن الجانب الذي ينقصنا في المقام الأول، هو اكتساب المنهج العلمي خلال سنوات الدراسة فنتوسل بما يتوسل به العلماء المبدعون.

لكن هذا المطلب الصعب لن يتوفر لنا من تلقاء نفسه لمجرد أننا نريده ونتمناه، بل لا بد من عمليات فكرية من القادرين عليها تتناول حياتنا الثَّقافيَّة بالتَّحليل الدقيق الواضح لنرى في جلاء أين نحن وأين نود أن نكون، والتحليل التفصيلي الذي يكشف لنا عن حقيقة حياتنا الثَّقافيَّة على هذه الصُّورة الهادية، هو نفسه ما يؤديه الفكر الفلسفي بمنهج هذا الفكر الذي يمكن تلخيصه بأنه هو الذي يرد فروع الحياة الثَّقافيَّة، على اختلافها وتنوعها، إلى الأصل الواحد الذي منه بُنيت تلك الفروع، إذ قد يكون لكل شعب ينبوع خاص به يؤدي إلى ثقافة ذات طابع خاص، فإذا ما رفعنا الستار عن ينبوعنا فوجدنا في طبيعته ما يعوق دون الوصول إلى الروح العلمية المطلوبة اتجه مسعانا عندئذ إلى تغيير ذلك الينبوع عن طريق التعليم، ولا خوف في هذا التَّغيير على هوية الشعب الأصيلة أن يصيبها ما يفقدها جوهرها المتميز؛ لأن العناصر الأساسية التي يتألف منها هذا الجوهر، لا تتأثر إذا ما أضاف الإنسان نظرة علمية إلى ظواهر الكون بدل أن يكون عالة على أصحاب هذه النظرة من أقوام أخرى.

لم يكن قد بقي من أعوام السِّتينيات إلا عامان حين تلقى الكاتب دعوة من جامعة الكويت أن يكون أستاذًا للفلسفة بها، وكان عندئذ أستاذًا غير متفرغ بكلية الآداب في جامعة القاهرة، وذلك بعد أن بلغ سن التقاعد (كما يسمونها) وهي حالة قد تصدق على مختلف ضروب العمل، ولكنها لا تصدق على رجال العلم، ومن ثم كان من رأي الجامعات أن تستبقي رجالها في الاضطلاع بعملهم العلمي مع تغيير العنوان، فبدل كونه «أستاذًا» يصبح «أستاذًا غير متفرغ» «أستاذًا متفرغًا» التي معناها أن يمضي الأستاذ في واجباته العلمية كما كان لكنه لا يشارك في المناصب الإدارية، فلما جاءته دعوة جامعة الكويت استأذن جامعة القاهرة فأذنت وسافر وقد جعل خطته أن يستغل فراغه هناك في مراجعة متأنية متأملة لعيون التراث العربي مما يمكن أن يندرج تحت العنوان «ثقافة»، وهناك أخذ يجمع النصوص التي يراها دالة على روح الثَّقَافة العَربيَّة إبان ازدهار العقل العربي وأصالة مبدعاته بعد نزول الإسلام، وبهذا النَّشاط الذي لم يفتر، حقق الكاتب ما أراد تحقيقه لنفسه، وهو أن ترتسم له لوحة متماسكة لسيرة الثَّقَافة العَربيَّة بعد أن كانت حصيلته الغزيرة من تلك الثَّقَافة، مفرقة في أشتات لا يرتبط بعضها ببعض ارتباط مكان وزمان وعلاقات تضم جانبًا إلى جانب، وإنه ليتعذر على حامل الأشتات المفرقة — مهما كثرت تفصيلاتها — أن يكوِّن لنفسه «وجهة نظر» يتوحد فيها المشهد، ويُصبح في مقدور المشاهد أن يكون له رأي فيما يرى.

وعلى ضوء هذا الرأي الذي تكون لهذا الكاتب خلال خمس سنوات قضاها مجتهدًا في تهيئة الأسباب التي تمكنه من الحق في أن يكون ذا رأي في التُّراث العربيِّ بعرضه على النَّاس، أقول: إنَّ على ضوء هذا الرأي الَّذي بلغ نُضجه في الأعوام الأولى من السَّبعينيات، أخذ يكتب فيما تصوره من وجوب إيجاد صيغة جديدة للمواطن العربي بصفة عامة، والمُواطن المُثقَّف بصفة خاصَّة، وهي صيغة لا بد لها أن تدمج جانبين في كيان واحد موحد، فمن التُّراث ما لا بد أن يبقى ليضمن للعربي استمرارية تاريخيَّة في حياته الثَّقافيَّة، وهي استمرارية ضروريَّة لتظل للعربي هويته في جوهرها، لكن هذه الصِّلة الحيويَّة بين حاضر العربيِّ وماضيه لا تكفي وحدها لتمكين العربي من اقتحام عصره الذي كُتب له وكُتب عليه أن يعيش فيه، ومن أهم ما يميزه من عصور التَّاريخ السَّابقة كلها توجيه الاهتمام الأكبر نحو العلوم الطَّبيعيَّة التي هي وسيلة الإنسان الوحيدة للكشف عن قوانين الطَّبيعة من مختلف ظواهرها، وإن الإنسان لتكون له السيادة على تلك الظواهر حقًّا، بمقدار ما قد عرفه من قوانينها، وإذا كانت العلوم الطبيعيَّة سمة بارزة من سمات العصر، فكذلك الحال بالنسبة إلى «منهج» البحث العلمي المتبع في الكشف عن تلك القوانين؛ لأنه منهج يبتكر له «الأجهزة» التي تعين على الدقة المطلوبة، بدرجة لم يعهد التَّاريخ أن يرى عُشر معشارها في ساحة العلم حتى أصبحت هذه التقنيات (التكنولوجيا) جزءًا لا يتجزأ من صورة عصرنا، فلئن كانت العصور الماضية قد قصرت نفسها على «الكلمة» أداة لكل جوانب الفكر العلمي وغيره من أوجه الحياة الثَّقافيَّة، فإن «الآلة» هي التي حلت محل «الكلمة» في مجال العلوم، سواء أكانت الآلة جهازًا من أجهزة البحث العلمي، أم كانت هي الناتج الصناعي الذي نتج ليستخدمه النَّاس في حياتهم العلمية، وبهذا المميز أصبح مجال «العلم» مختلفًا كل الاختلاف عن المجال الآخر في نسيج الحياة الثَّقافيَّة الذي هو المجال المعني بحياة الإنسان الداخلية الخاصة، من عقيدة وعاطفة، وغريزة وسائر مكونات التيار الشعوري الباطني، وهو مجال تتساوى أهميته، بل ربما كان أهم للإنسان من جانب العلوم العضلية وما يترتب عليها، لكنه بحكم طبيعته لا يزال وسوف يظل معتمدًا على «الكلمة» وسيلته الوحيدة، ومن هنا أصبح الفارق بين قناتي الإدراك وهما «العقل» و«الوجدان» واضحًا وضوحًا لم يعد لأحد ما يبرر الخلط بينهما، وهما مع هذا الفارق إنما يلتقيان بل يلتحمان التحامًا في كل فرد من أفراد النَّاس.

ومنذ عام السَّبعين، أخذ الكاتب يصدر كتابًا في إثر كتاب، ومقالًا بعد مقال، ليشرح ما يراه من الصِّيغة الثَّقافيَّة المطلوبة، التي نضفر فيها خيطين معًا؛ أولهما: الجانب الذي استبقيناه من ثقافة أصيلة زُرعت في أرضنا العَربيَّة وأثمرت، وثانيهما: جانب متصل بالعلوم في صورتها الجديدة، والمنهج التقني المميز لهذا العصر، وغير ذلك مما هو حيوي لإقامة الحضارة على الصورة التي منها يتألف عصرنا في المقام الأول، فهذا كله يجب استزراعه في أرضنا من شتلات نستوردها من مراكز الحضارة الجديدة في الغرب ومن الجانبين: ما هو أصيل أنتجناه نحن على امتداد تاريخنا، وما هو مجلوب من بناة الحضارة الجديدة، تتألف الصيغة الثَّقافيَّة الجديدة للوطن العربي.

لم يكد هذا الكاتب يعود إلى مصر ليستأنف نشاطه فهو في الجامعة أستاذ متفرغ وهو اللقب الجديد الذي أُضيف في الحياة الجامعيَّة، ثم هو مشارك في الحياة الثَّقافيَّة العامة كدأبه منذ صدر شبابه، حتى حدث أن جاءته دعوة كريمة من جريدة الأهرام ليكون عضوًا في أسرتها الأدبيَّة، فرحب بالدعوة أيما ترحيب؛ لأنها تحقق له منبرًا هو أعلى المنابر المعروفة في الشرق العربي كله، ومن هذا المنبر أخذ الكاتب خلال أعوام السبعينيات والثمانينيات، يكتب ويكتب ثم يكتب، ليلقي الأضواء على جوانب الصيغة الثَّقافيَّة المرجوة للمواطن العربي، والتي هي — بكل بساطة ووضوح — أن يكون عربيًّا وأن يكون في الوقت نفسه قادرًا على مواجهة عصر علمي تقني بلغ به الطموح حدًّا يحاول به اختراق الفضاء الكوني، حتى لقد جاوز في هذا السبيل حدود المجموعة الشمسية بكل كواكبها وأفلاكها … إلى أين علم ذلك هو عند علام الغيوب.

وبالله التوفيق، والحمد لله رب العالمين.

زكي نجيب محمود
يناير ١٩٩١م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤