الفصل الرابع

النبوة المحمدية

أوائل النبوات

ندع الآن هذه الوحدة ريثما نعود إليها في الكلام على الكعبة المكية، ونرجع بتاريخنا إلى أوائل النبوات لنمضي بها إلى ختامها بالرسالة المحمدية، فإنَّ تاريخ النبوة من أوائلها أصلح المقدمات لبيان فضل النبوة كما بُعِث بها خاتمُ الأنبياء.

من قديم الزمن وجدت الرغبة في العلم بالغيب واستطلاع المجهول، ووجدت لذلك علامات كثيرة يتفق عليها الناس عامة من قبيل زجر الطير، والتفاؤل بالكلام المسموع، والمناظر التي تبشر بالخير والنجاح، أو تنذر بالشر والخيبة.

هذه العلامات العامة كانت معروفةً شائعةً بين الناس لا يختص بها أحدهم دون غيره، فكل ما عرفه الناس قديمًا من علامات التفاؤل أو علامات التشاؤم، فهو ميراث الجماعة يتناقلونه على وتيرة واحدة من الآباء إلى الأبناء.

لكن الرغبة في استطلاع الغيب ومواجهة المجهول لم تكن كلها من هذا القبيل، ولا سيما المجهول الذي يعرفه الآلهة وحدهم، ولا يكشفونه لغير المقربين من عبادهم، وهم خدام معابدهم والأمناء على مشيئتهم، والمترقبون لوحيهم في ليلهم ونهارهم، فربما عرض للقبيلة عارض جسيم لا تعرف وجهتها فيه، ولا يدلها على هذه الوجهة طير يراه فرد من أفرادها على صورة من الصور، أو كلمة يسمعها من عابر طريق يستوحي منها البشارة أو الإنذار، فإنَّ شئون الفرد غير شئون القبيلة، وليس لفردٍ من عامة أفرادها أن يدعي لنفسه القدرة على سؤال أربابها، والفهم عنهم في معابدهم ومحاريبهم، مع وجود الكاهن الذي انقطع لخدمة الأرباب، وورث هذه الخدمة من آبائه وأجداده في أكثر الأحوال، ولا مع وجود الكاهن الذي تربَّى من صباه في مهد العبادة ليقترب من الأرباب المعبودين، ويفقه عنهم من إشاراتهم ومضامين وحيهم ما يخفى على سواه.

ومن قديم الزمن أيضًا وُجِد الكاهن «المختص»، وَوُجِد «الرائي» الملهم الذي يختاره الإله للنطق بلسانه، والجهر بوعده ووعيده، ولم يكن بين عمل الكاهن وعمل الرائي تناقض في مبدأ الأمر؛ لأن كلام الرائي كان يحتاج إلى تفسير الكاهن، وحلِّ رموزه، ونفي «النفاية» من خلطه واضطرابه؛ إذ كان الغالب على الرائين أنهم قوم تملكهم حالة «الوجد» أو «الجذبة» أو «الصرع»، فيتدفقون بالوعد والوعيد، وينذرون الناس بالويل والثبور، ويقولون كلامًا لا يذكرونه وهم مفيقون، فيحسب السامعون أنَّ الوثن المعبودَ يُجري هذا الكلام على ألسنتهم للموعظة والتبصرة، وسُمِّي الصرع من أجل هذا بالمرض الإلهي في الطب القديم.

وكان اليونان يسمون الرائي مانتي Mantis، ويسمون المعبر عنه أو المفسر لكلامه بروفيت Prophet، أي المتكلم بالنيابة عن غيره، قبل أن تطلق هذه الكلمة على النبي بمعناها المأثور في الأديان الكتابية، ولكن الفرق بين الرائي والكاهن لم يزل ملحوظًا في الأزمنة المتأخرة، كما كان ملحوظًا في الأزمنة الغابرة؛ فالكهانة وظيفة، والرؤية طبيعة، والكاهن يقصد ما يقوله والرائي يساق إليه. وقد تشترك الكهانة والرؤية في شخص واحد، ويظل العملان مختلفين، فما يقوله الكاهن قصدًا غير ما يقوله وهو «راء» ينطق لسانه بما يعيه وما لا يعيه.

ويصطدم العملان كثيرًا بعد ارتقاء الديانة وامتزاجها بالفضائل الأخلاقية والفرائض الأدبية، فإنَّ الكهان في هذه الحالة يجمدون أحيانًا على المراسم والشعائر، ويحافظون على مناصبهم بالتماس الحظوة عند ذوي السلطان في بلادهم، ويومئذ يختلف عمل الكاهن المرسوم وعمل الرائي المتطوع، فيثور الرائي على الكاهن، ويتهمه في أمانته وإيمانه، ويحدث بينهما ما حدث بين «أمصيا»، كاهن بيت إيل، وعاموس الرائي؛ إذ يحذره الكاهن على رزقه وحياته فيقول له: «أيها الرائي، اذهب … اهرب إلى أرض يهودا، وكُلْ هناك خبزًا، وكُنْ هناك نبيًّا. وأما بيت إيل فلا تعد تتنبَّأ فيها بعدُ؛ لأنها مقدس الملك وبيت الملك.»

•••

وقد وجدت الكهانة والرؤية بين العبرانيين من أقدم عصورهم، كما وُجِدَت في سائر الأمم، ولم يسموا الرائي عندهم باسم النبي إلا بعد اتصالهم بالعرب في شمال الجزيرة؛ إذ وجدت كلمة النبوة في اللغة العربية كما قلنا في كتاب أبي الأنبياء: «غير مستعارة من معنًى آخر؛ لأن اللغة العربية غنية جدًّا بكلمات العرافة والعيافة والكهانة، وما إليها من الكلمات التي لا تلتبس في اللسان العربي بمعنى النبوة كما تلتبس في الألسنة الأخرى.

والعبريون قد استعاروها من العرب في شمال الجزيرة بعد اتصالهم بها؛ لأنهم كانوا يسمون الأنبياء الأقدمين بالآباء، وكانوا يسمون المطلع على الغيب بعد ذلك باسم الرائي والناظر، ولم يفهموا من كلمة النبوة في مبدأ الأمر إلا معنى الإنذار … وقد أشارت التوراة إلى ثلاثة أنبياء من العرب غير (ملكي صادق)، الذي لقيه الخليل عند بيت المقدس؛ وهم: يثرون وبلعام وأيوب، ومنهم من يقال: إنه ظهر قبل اثنين وأربعين قرنًا، وهو أيوب.»

ويعزز هذا الرأي ما جاء في موسوعة الكلمات اللاهوتية١ في التوراة عن عالمين من أكبر علماء التاريخ العبري؛ وهما: هولشر Holscher وشميدت Schmidt، فإنهما يرجحان أنَّ كلمة النبوة مما استفاده العبريون من أهل كنعان بعد وفودهم على فلسطين.

النبوة والجنون

عرف الأقدمون من العرب والعبريين كلمة النبوة قبل بعثة موسى — عليه السلام — ولكنها لم ترتفع بينهم إلى مكانتها الجليلة التي نعهدها اليوم دفعة واحدة، وغبر عليهم دهر طويل وهم يخلطون بينها وبين كل علاقة بالغيب، وينتظرون منها الكذب كما ينتظرون منها الصدق، شأنها في ذلك كشأن غيرها من الدلالات على المجهول.

فخلطوا بينها وبين الجنون، كما خلطوا بينها وبين السحر والكهانة والتنجيم والشعر، وأضعف من شأن النبوة عند بني إسرائيل خاصة أنَّ الأنبياء بينهم كثروا، وتعددت نبوءاتهم في وقت واحد فتناقضوا، وأشار بعضهم بما ينهي عنه الآخرون، فأصبح الأنبياء عندهم فريقين يتشابهون في المسلك والمظهر، ويختلفون بالصدق والكذب، ولا سبيل إلى معرفة الصادق والكاذب بغير امتحان الحوادث التي تأتي أحيانًا بعد نسيان ما تقدم من النبوءات.

وغلبت عليهم في مبدأ الأمر عقيدة شائعة بذهول النبي وغيابه عن الوعي في جميع أيامه، وفي الأيام التي يملكه فيها الوجد الإلهي على الخصوص، كأنهم يرون أنَّ الغيبوبة والاتصال بالغيب شيء واحد، وكأنهم يحسبون أنَّ الانقطاع عن شواغل الدنيا آية على صدق النبي، وإقباله بجملته على الله.

ويؤخذ من سفر صمويل الأول أن المتنبئين كانوا يظهرون جماعات جماعات؛ «إذ أرسل شاول رسلًا لأخذ داود، فرأوا جماعة الأنبياء يتنبئون وشاول واقف بينهم رئيسًا عليهم، فهبط روح الله على رسل شاول، فتنبئوا هم أيضًا، وأرسل غيرهم فتنبَّأ هؤلاء، فخلع هو أيضًا ثيابه، وتنبأ هو أيضًا أمام صمويل، وانطرح عاريًا ذلك النهار كله وكل الليل».

ومن لم تملكه حالة الوجد برياضة النفس على الخشونة والشظف وتعريض جسده لحرارة الشمس وبرد الليل، فقد يستعين على اكتسابها بالسماع والجولان، وينتقل بهذه الوسيلة إلى النشوة أو الغيبوبة، فينطلق لسانه بالنبوءات والرموز، ويستخلص منها السامعون تفسيرها بما جرت عليه عادتهم من التأويل والتخريج.

وفي سفر صمويل قبل ذلك «أنه يكون عند مجيئك إلى المدينة أنك تصادف زمرة من الأنبياء نازلين من الأكمة، وأمامهم رباب ودف وناي وعود وهم يتنبئون، فيحلُّ عليك روح الرَّب فتتنبأ معهم وتتحول إلى رجل آخر».

وفي سفر الأيام الأول أنَّ داود ورؤساء الجيش «أفرزوا للخدمة بني للخدمة بني آساف وهيمان، ويدوثون المتنبئين بالعيدان والرباب والصنوج».

وقد ينعزل بنو الأنبياء كأنهم يرشحون أنفسهم للنبوة بعد آبائهم، حتى يضيق بهم مكانهم كما جاء في سفر الملوك الثاني: «وقال بنو الأنبياء لأليشع: هو ذا الموضع الذي نحن مقيمون فيه أمامك قد ضاق علينا؛ فلنذهب إلى الأردن.»

وعلى هذه الحيرة التي كانت تنتاب القوم بين النبوءات الكثيرة، لم يكن بهم غنًى عن النبي الصادق الذي يحذرهم غضب الله، ويبلغهم مشيئته، ويملي عليهم فرائضه وأحكامه، فلم يعرضوا عن الأنبياء كل الإعراض، ولم يُقْبِلوا عليهم كلَّ الإقبال، ورجعوا إلى التجربة في التفرقة بين النبوءات، وعقيدتهم في ذلك ما جاء في سفر التثنية خطابًا لموسى — عليه السلام:

وأقيم لهم نبيًّا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أنَّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه. وأما النبي الذي يفرض عليكم باسمي كلامًا لم أوصه أن يتكلم به، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى، فيموت ذلك النبي، وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرَّب، فما تكلم به النبي باسم الرَّب ولم يحدث ولم يصر؛ فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرَّب، بل بطغيان تكلم به النبي؛ فلا تخف منه.

وعلى هذا انقسم المتنبئون أقسامًا ثلاثة: نبيٌّ يتكلم باسم الرب، ونبيٌّ يتكلم باسم آلهة أخرى، ونبيٌّ يتكلم باسم ربِّ إسرائيل، ولكنه يطغى بما في قلبه على وحي ربه، فيخلط بين ما يقوله هو بلسانه، وبين ما يجريه الله على لسانه ليبلغه إلى قومه.

والمرجع في التفرقة بين الأنبياء إلى صدق النبوءة، فإذا امتد الأجل بالنبي حتى يشهد القوم صدقه في نبوءة بعد أخرى، فذاك هو النبي المختار الذي يطاع، وتكتب عنه النبوءات، وربما قضى صدر حياته مهانًا منبوذًا بين قومه كما حدث للنبي أرميا، الذي أصبح عند كتابة العهد القديم في زمرة كبار الأنبياء، وقد حكى ذلك فقال في الإصحاح العشرين: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت، وألححت عليَّ فقبلت … صرت للضحك كل النهار … وكلهم قد استهزأ بي؛ لأني كلما تكلمت صرخت … ناديت: ظلم واغتصاب … فقلت: لا أذكره ولا أنطق بعدُ باسمه، فكان في قلبي كَنَارٍ محرقة محصورة في عظامي …»

نبوءة الأحلام والرُّؤى

ومن الحق أن نذكر أنَّ المتنبئين لم يتطلعوا جميعًا إلى مكان النبوة العليا — نبوة القيادة والتعليم والتشريع — ولم تكن نبوة الكثيرين منهم مستمدة من شيء غير الأحلام والرؤى، وجيشان الشعور وإلحاحه على صورة واحدة يعجز المتنبئ عن صرفها، فيجهر بها صارخًا كما فعل أرميا، كأنه يستغيث من لاعج في نفسه لا يقوى على كتمانه. ومنهم من كان يرى الرؤى ثم تتكرر في منامه، فيفضى بها إلى قومه مخافة الكتمان، وحذرًا من أن يكون هذا الكتمان نكوصًا عن الدعوة، وممالأة على العصيان والفساد.

وقل منهم من أبلغ قومه أنه تلقى الوحي من هاتف مسموع، أو شخص منظور في حالة اليقظة، ومن هؤلاء القليلين صمويل الذي «سمع قبل أن ينطفئ سراج الله وهو مضطجع في تابوت الرَّب صوتًا يدعوه»، ويعود إلى دعوته لتوكيدها، ومنهم دانيال الذي قال: إنَّ «الرجل جبريل الذي رآه في الرؤيا ابتدأ يلمسه عند تقدمة الماء، ويتكلم معه ويقول له: إنه خرج ليعلمه الفهم ويرشده»، ومنهم من كان يستعظم الدعوة حين يحسها في صدره، فيقول كما قال أشعيا: «إني هلكت؛ لأني إنسان نجس الشفتين أسكن بين شعب نجس الشفتين»، إلى أن قال: «إنَّ عيني قد رأتا الملك رب الجنود، فطار إلى واحد من السرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط من على المذبح، ومسَّ بها فمي، وقال: إنَّ هذه قدست شفتيك، فانتزعت إثمك، وكفَّرت عن خطيئتك.»

وجاشت نفس أرميا وهو صبي بخواطر النبوة، ثم ألقي إليه أنَّ الرَّب يقول له: «قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك، جعلتك نبيًّا للشعوب.» فاستكثر النبوة على سنه وقال في صلاته: «آه يا سيد الرَّب! من أين لي أن أعرف الكلام وأنا ولد. فمد الرَّب يده ولمس فمه وقال: ها قد جعلت كلامي في فمك؛ فانظر، لقد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك؛ لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس.»

ولقد خشي الأنبياء الكبار على الشعب خطر المعجزات والآيات التي يدعيها المتنبئون؛ لأنهم عرفوا عجائب السحر في مصر وبابل، وأشفقوا من فتنتها على عقول السواد، فلم ينكروا المعجزة الصادقة، ولكنهم حسبوا حساب المعجزة الكاذبة التي يقتدر عليها السحرة وأتباع الأرباب المحرمين، فكان من وصايا سفر التثنية التي تنسب إلى موسى — عليه السلام — «أنه إذا قام في وسطك نبي أو حالمٌ حلمًا وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلًا: لتذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها؛ فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم؛ لأن الرَّب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرَّب إلهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم، وذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم يُقتَل؛ لأنه تكلم بالزيغ من وراء الرَّب …»

إلا أنَّ الحيرة بين أصحاب الآيات والمعجزات لم تبطل في عهد أنبياء بني إسرائيل، ولا بعد ظهور السيد المسيح، فكان الرسل يستدلون بالعجائب والآيات العظيمة على صدقهم، وكانت العجائب الكثيرة تجري على أيدي الرسل كما جاء في سفر الأعمال، وكان بولس الرسول يبكت أهل كورنثوس وينعى عليهم سوء معتقدهم بعد العلامات التي صنعها بينهم، وصبر عليها بآيات وعجائب وقوات … وكان إلى جانب هذا يحذر الشعب ممن يقتدرون بقوة الشيطان على الآيات والعجائب الكاذبة «بكل خديعة الإثم في الهالكين».

وجاء في الرؤيا أنَّ الأنبياء الكذبة يقتدرون على ذلك إلى آخر الزمان: «ومن فم النبي الكذاب ثلاثة أرواح نجسة تشبه الضفادع، فإنهم أرواح شياطين صانعة للآيات، تخرج على ملوك العالم وعلى كل المسكونة لتجمعهم لقتال ذلك اليوم العظيم.»

ومنذ عُرِفَ اسم النبوة بين قبائل إسرائيل ظهر فيهم مئات وألوف من هؤلاء المتنبئين، لم يكن شأن الأكثرين منهم ليزيد على شان الدراويش الذين يلوذون بأماكن العبادة، أو أماكن الزيارة في جميع الأديان، ولم تكن قبائل البادية ولا أهل القرى ليضيقوا بتكاليف معاشهم؛ لأنهم كانوا يقنعون بالقليل من الخبز والأدم، وبالخشن الرخيص من ملابس الشعر والصوف، وربما استراح إليهم الدهماء؛ لأنهم يفرجون عن صدورهم بالاجتراء على كبرائهم وسرواتهم الذين يستسلمون للطمع والكبرياء.

أو ربما حمد لهم الأمهات والآباء أنهم يباركون أطفالهم، ويشفون مرضاهم، ويفوهون أمامهم بأطراف من الأقاويل يفسرون رموزها بما يطيب لهم، ولا يشعرون منها برهق شديد؛ لأنهم لا يحملون مُؤْنتها إذا أخذت مأخذ الجدِّ والجسامة، بل ترتفع إلى أيدي ولاة الأمر ورؤساء الدِّين والكُهَّان والحكماء، فيُوفِّقون بين نقائضها، أو يستخدمونها في تلقين الشعب ما يحبون أن يقولوه بلسان المتنبئين ولا يقولونه بألسنتهم؛ خوفًا من تبعاته، أو من قبيل الحيطة للتراجع إذا حسن لديهم أن يرجعوا عمَّا فرضوه وأثبتوه.

كان خطب المتنبئين من هذا القبيل ميسورًا للقبائل ورؤسائها، حتى إذا ظهر الأنبياء الكبار ظهرت معهم حالة كُبرى لا تعرض للقبائل كل يوم؛ لأنهم لا يظهرون إلا إذا احتاجت القبائل إلى تغيير شامل في معيشتها وأخلاقها ومعاملاتها، وقد يتقاضاهم الأمر هجرة إلى بلد ناءٍ أو قتالًا مع أهل البلد الذي هم فيه، أو مع أهل جواره، وليست خطتهم مع المتنبئين الصغار بمجدية مع هؤلاء الأنبياء الكبار دعاة التغيير الشامل، وأصحاب الحقِّ في القيادة المطاعة، وإنما الخطة المجدية هنا هي الانقياد للدعوة التي يُخْشى على من يعصيها أن يهلك بغضب من الله، ولو عمَّ الهلاك قومه أجمعين، فلا يلبث النبي الكبير أن ينزل في منزلته بين القوم، وأن يتولَّى بينهم مكان القيادة والتشريع والتعليم، وهو أرفع مكان يسمو إليه عندهم صاحب حقٍّ أو صاحب سلطان.

دليل الأمان

إنَّ مهمة النبوة كما قام بها هؤلاء الأنبياء الكبار هي أعلى ما ارتفع إليه نظر الأقدمين من بني إسرائيل وغيرهم إلى مقام النبوة، فقد كانوا يلقون عليهم كل معولهم، ويطلبون منهم ما لم يطلبوه قط من ذي ثقة أو مقدرة بينهم، فانتهت هذه المطالب كافةً إلى غاية واحدة، وهي أنَّ النبيَّ «دليلُ أمان».

يقبلون منه التعليم والهداية، ولكنهم يقبلون تعليمه وهدايته لأنه دليلهم إلى الطريق الأمين.

ويستمعون له فيما يبلغهم من أوامر الله ونواهيه، ولكنهم يستمعون له لأنه يزحزحهم عن طريق الغضب والنكال.

ويجب عليه قبل كل شيء أن يعرف الغيب؛ ليعرف الخطر المتوقع عليهم وعلى أعدائهم الذين يبغضونهم، ولا يقدرون على قتالهم، وربما طلبوا منه أن يكشف لهم الغيب لما هو أهون من ذلك بكثير، وهو تعريفهم بمكان المال الضائع، والحيوان الضَّال.

ولبثت مهمة النبي عندهم معلقة على دلالة الأمانة في المكان المجهول والزمان المجهول، ولكنها دلالة الأمان من أخطار محسوسة تشبه تلك الأخطار التي تحذرنا منها المراصد ومكاتب التأمين، فمنها أخطار الخراب، وأخطار الوباء، وأخطار المصائب في الأقارب والأعزاء.

ولم يبلغ أحد من أنبياء بني إسرائيل مكانةً أعلى من مكانة يعقوب، الذي ينسب إليه بنو إسرائيل، أو موسى الذي يدينون له بالشريعة، ثم صمويل وحزقيال وأرميا من أصحاب النبوءات غير المشترعين.

وكل هؤلاء كانت مهمة النبوة فيهم مقترنة بالمهمة الأخرى التي لا فكاك منها، وهي دلالة الأمان بالمعنى المتقدم، أو دلالة الأمان كما يترقبها المرء من المراصد ومكاتب التأمين، وإن تكن قائمة على الهداية والتعليم.

فمن نبوءات يعقوب يُفْهم أنهم كانوا يعولون عليه في رصد النجوم، وأنَّ كلَّ اسمٍ من أسماء الأبناء يشير إلى برج من بروج السماء، ولا نستقصي الأسماء هنا، بل نشير منها إلى مثلين يغنيان عن غيرهما، وهما مثل يهودا وشمعون ولاوي: «فيهودا جرو أسد جثا وربض كأسد ولبؤة … لا يزول قضيب من يهودا ومشترع من بين رجليه حتى يأتي شيلون، وله يكون خضوع شعوب.»

وهذه إشارة إلى برج الأسد، وكان عند البابليين برجان، أحدهما برج الأسد أرجولا، والآخر أرماح، أحد نجوم الدب الأكبر، وأمام الأسد في البروج برج يشير إلى علامة الملك Seonis Rogulus الذي تخضع له الملوك.

أمَّا مثل شمعون ولاوى «فأخوان» سيوفهما آلات ظلم في مجلسهما لا تدخل نفسي؛ لأنهما في غضبهما قتلًا إنسانًا، وفي رضاهما عرقبا ثورًا …

وهذه إشارة إلى برج التوءمين، وهو برج إله الحرب «زجال» عند البابليين، ويصورون أحدهما وفي يديه خنجر، والآخر في يديه سلاح شبيه بالمنجل. وتشير عرقبة الثور إلى برج الثور الذي يتعقبه التوءمان.٢

وسواء صحت هذه الإشارات إلى الأبراج والنجوم، أو كان فيها مظنة للخطأ والتجوز من المفسرين، فالنبوءات عن مصائر الأبناء بأسمائهم واضحة لا تحتمل التكذيب.

وموسى الكليم طالبه القوم من إسرائيل وغير إسرائيل في مصر بقدرة على السحر أعظم من قدرة السحرة وأصحاب الكهانة والتنجيم، ثم جاوزوا تكليف الدلالة معه إلى تكليفه أن يهيئ لهم الطعام الذي يشتهونه صنوفًا بعد صنوف وهم في وادي التيه، بمأمن من جند فرعون.

واحتاج القوم إلى علم الغيب في عهد صمويل ليسألوه عن الماشية الضالة، ويأجروه على ردها: «خذ معك واحدًا من الغلمان، وقم اذهب فتش عن الأتن، فقال شاول للغلام: فماذا نقدم للرجل؟ لأن الخبز قد نفد من أوعيتنا، وليس من هدية نقدمها لرجل الله. ماذا معنا؟ فعاد الغلام يقول: هو ذا يوجد بيدي ربع شاقل فضة.»

ولم يحفل بنو إسرائيل بالنبوءات بعد صمويل، كما حفلوا بنبوءات أرميا وحزقيل، وكلها نبوءات عن أخطار الحوادث التي تصيب قومهم، وتصيب غيرهم من الأقوام أصحاب الدول في وادي النيل وبين النهرين، وكان الإنباء بالغيب على هذا المثال هو المهمة الأولى من مهام كبار الأنبياء، وربما تحدث عن الغيب أنبياء من غير هذه الطبقة ليذكروا مصائر أفراد معلومين إلى جانب مصير الأمة، كما قال النبي عاموس في بيت إيل: «أنت تقول: لا تتنبأ على إسرائيل، ولا تتكلم على بيت إسحاق؛ ولذلك قال الرَّبُّ: إنَّ امرأتك تزني في المدينة، وبنيك وبناتك يسقطون بالسيف، وأرضك تقسم بالحبل، وأنت تموت في أرض نجسة، وإسرائيل يُسبى سبيًا عن أرضه …»

نبوة الهداية

خُتمت أيام هذه النبوءات جميعًا في بني إسرائيل قبل البَعْثة الإسلامية بنحو تسعة قرون، لم تتغير خلالها نظرة الناس عامة وبني إسرائيل خاصة إلى النبوة الدينية، ولم يفهموا النبوءات الأولى وما لحق بها غير الفهم الذي عهدوه، فلمَّا ظهرت النبوة الإسلامية لم تكن تكرارًا لتلك النبوءات ولا تطورًا فيها، بل كانت «تنقية» لها من كل ما لصق بها من بقايا الكهانات والدعوات، وجاءت بمعنى النبوة كما ينبغي أن تكون، ونفت عنها ما ليس ينبغي لها من شوائب الأوهام، وأولها أنها مرصد للحوادث يحمي الطريق، أو مكتب للتأمين يقارض القوم على الأمان من الأخطار.

ليست مهمة النبي أن يعلم الغيب «إنما الغيب لله».

وليس أصدق من نبيٍّ يُعلِّم الناسَ الصدقَ، فيعلمهم مرَّة بعد مرَّة أنَّ الغيب من علمِ الله، يكشف عنه ما يشاء لمن يشاء: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [الأعراف: ١٨٧]. قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ١٨٨]. قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ ۚ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ [الأنعام: ٥٠]. وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: ٥٩].

وآية الآيات مسألة «المعجزات» في الدعوة المحمدية، فليست المعجزة ممتنعة إذا أرادها خالق الكون كله وخالق السنن التي يجريه عليها، ولكن المعجزة لا تنفع من لا ينفعه عقله، ولا تقنع المكابر المبطل إذا أصر على اللجاجة في باطله: وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ [الحجر: ١٤، ١٥]. وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۖ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ [يونس: ٢٠].

وقد كان الناس ينظرون على حوادث الفلك فيحسبونها من الآيات، فينهاهم أن يخلطوا بين حوادث الفلك وحوادث الحياة والموت، وكذلك كسفت الشمس عند موت إبراهيم ابنه — عليه السلام — فقال الناس: إنها كسفت لموته. فلم يمهلهم أن يسترسلوا في ظنهم وهو محزون الفؤاد على أحب أبنائه إليه، بل أنكر عليهم ذلك الظن، ورآها فرصة للتعليم، ولم يرها فرصة للدعوة، فقال: «إنما الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تكسفان لموت أحد …»

وخلصت النبوة كلها لمهمتها الكبرى، وهي هداية الضمير الإنساني في تمام وعيه وإدراكه، فانقطع ما بينها وبين كل صناعة أو حيلة، كان يستعان بها قديمًا على التأثير في العقول من طريق الحس المخدوع.

فليس في النبوة سحر ولا كهانة، ولا هي شعر يزخرفه قائله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: ٤٠–٤٢].

ولا بدَّ للمؤرخ أنْ يتريثَ عند كل وصف من أوصاف الأنبياء الذين كذب بهم أقوامهم؛ لأنها جمعت كل ما قِيلَ عن الأنبياء بين أولئك الأقوام في العصور المتطاولة، فإذا صحَّ أنَّ جزيرة العرب لم تعرف الأنبياء كما عرفهم بنو إسرائيل، وأنَّ النبوءات كانت وقفًا على بني إسرائيل والمتنبئين غيرهم من الأمم، فمن أين عرفت أحوال الأنبياء والمتنبئين التي وصفهم بها المكذبون وقد وردت جميعًا في القرآن الكريم؟

فمنهم من كان من المعلمين ويرميه مكذبوه بالجنون! أَنَّىٰ لَهُمُ الذِّكْرَىٰ وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ [الدخان: ١٣، ١٤].

ومنهم من كان يرمي بالسحر أو الجنون: كَذَٰلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات: ٥٢].

ومنهم من كانوا يلحقونه بزمرة الشعراء ويرمونه بالجنون: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ [الصافات: ٣٥، ٣٦].

وإذا رموه بالسحر وحده قالوا: إنه السحر الكاذب. تمييزًا له عن السحر الذي كانوا يعترفون به لكُهَّان معابدهم: وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص: ٤].

فالتعليم والشعر والسحر والكهانة والغيبوبة كانت كلها سوابق واقعة موصوفة على ألسنة المكذبين من أقوام الرسل الأقدمين، ومن وصفها مخترعًا فهذا هو العجب العجاب، ومن وصفها مطلعًا فقد استقصاها وزاد عليها ما لم يكن منها، وهو النبوءة الخالصة لهداية الضمير.

•••

إن المتنبئين من الأقدمين لم يفصلوا النبوة بفاصل حاسم، وإنَّ من المتنبئين في بني إسرائيل لمن جمع بين الكهانة واستطلاع الغيب بالاقتراع في المحراب، وعاش القوم بعد أنبيائهم بأزمنة طوال، وهم لا يذكرون لهم رسالة أكبر من رسالة الإنذار بالحوادث والأخطار، فإذا كانت النبوة لم تخلص لمهمتها الكبرى قبل محمد — عليه السلام — فأين هي الكرامة التي تعلو على هذه الكرامة بين مراتب الأنبياء؟

إنَّ الرسالة المحمدية قد علَّمت الناس أن يعجبوا للنبوءات إذا لم تكن نبوءة للهداية وللإنذار والبشارة: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ [يونس: ٢].

وهذه هي النبوة المحمدية.

وهذه هي النتيجة التي لم تأتِ من مقدمتها، أو هذه هي النتيجة التي لم تأتِ من جميع مقدماتها.

وهذه هي آية العمل الإلهي بين أعمال الناس.

١  Theological Word Book of the Bible, edited by Richardson.
٢  The oracles of Jacob Eric Burrows.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤